الإبصار: نافذة على الوعي(*)
في بحوثهم حول العقل يركِّز العلماء على الإدراك
الإبصاري من خلال طريقة تأويلنا لما نرى.
<K .N. لوگوثيتيس>
حينما تنظر للوهلة الأولى إلى الصورة الكائنة في مركز اللوحة التي رسمها الفنان <سلڤادور دالي> وتقع في الصفحة المقابلة، ماذا ترى؟ إن معظم الناس يلاحظون على الفور وجه إنسان عيناه تحدقان في السماء وشفتاه تختبئان تحت شارب كثيف. ولكنك إذا نظرت إليها مرة أخرى فإن الصورة تعيد تشكيلها في مشهد أكثر تعقيدا، إذ يصبح أنف الرجل وشاربه الأبيض على هيئة غطاء للرأس ورداء للكتفين لسيدة جالسة. أما الومضتان الباديتان في عيني الرجل فتظهران كنورين في نافذتين أو كبريقين على سطحي كوخين يقبعان في سفح جبل مظلم. وأما الظلال البادية على خدّي الرجل فتبدو وكأنها طفل يلبس سروالا قصيرا ويقف إلى جانب المرأة الجالسة؛ ويتضح الآن أن كليهما ينظر إلى الكوخين الواقعين قبالة إحدى البحيرات من ثقب في جدار من الآجر، ثقب يشكل ما سبق أن حسبناه رسما إجماليا لوجه الرجل.
في عام 1940، حينما رسم <دالي> لوحة الشيخوخة والمراهقة والطفولة (الأعمار الثلاثة) التي تحتوي على ثلاثة «وجوه»، إنما كان يلعب بمقدرة عقل الناظر إليها على تخيل صورتين مختلفتين للمجموعة نفسها من ضربات الفرشاة. وبعد ما يزيد على خمسين عاما، يقوم اليوم باحثون ـ بمن فيهم كاتب المقالة وزملاؤه ـ باستخدام منبِّهات (مثيرات) stimuliإبصارية غامضة في محاولتهم تحديد النشاط الدماغي الذي يرتكز عليه الوعي. وعلى وجه التخصيص، فإننا نرغب في معرفة ما يحدث في الدماغ في اللحظة التي يفهم فيها الملاحظ (على سبيل المثال) كون الوجوه الثلاثة في لوحة دالي ليست في الحقيقة وجوها على الإطلاق.
إن تعريف مفهوم الوعي يعد أصعب من دراسته. وقد حقق المختصون بعلوم الأعصاب في السنوات الأخيرة تقدما مثيرا للإعجاب نحو فهم الأنماط المعقدة للفعالية التي تحدث في الخلايا العصبية (العصبونات) داخل الدماغ. وعلى الرغم من ذلك، فإن معظم الناس، بما في ذلك العديد من العلماء، لايزالون يجدون أن قبول نظرية التدفق الكهركيميائي أساسا لتفسير العقل وبخاصة الوعي أمر فيه الكثير من التحدي.
ولكن، كما حاجّ أخيرا كل من <F. كريك> [الحاصل على جائزة نوبل، والذي يعمل في معهد سولك للدراسات البيولوجية في سان دييگو] و<Ch. كوخ> [من معهد كاليفورنيا للتقانة]، فإن مشكلة الوعي يمكن تجزئتها إلى بضعة أسئلة منفصلة يمكن إخضاع بعضها للبحث العلمي، [انظر: «مشكلة الوعي»، مجلة العلوم، العددان 2/3(1999)، ص 12]. فمثلا، عوضا عن إرهاق المرء نفسه في البحث عن ماهية الوعي، يمكنه أن يطرح السؤال التالي: ما الفرق بين السيرورات العصبية التي تلازم خبرة واعية معينة وبين تلك التي لا تلازمها؟
والآن سوف تدرك ذلك
هنا يأتي دور المنبهات الغامضة. فالغموض الإدراكي ليس سلوكا متقلبا خاصا يرتبط بتنظيم (تعضّي) organization الجهاز الإبصاري، بل إنه يعرّفنا شيئا ما عن تنظيم الدماغ بمجمله وعن طريقته في جعلنا ندرك جميع المعلومات الحسية. فإذا أخذنا على سبيل المثال صف الكلمات الفرنسية العديم المعنى والذي ذكره عالم النفس <W. جيمس> في عام 1890 “pas de lieu Rhône que nous”، فإننا نقرأه مرات ومرات من دون أن نتعرف أنه يعني بالضبط عبارة: «تولّ شأن نفسك بنفسك». فما التغيرات التي تحدث في النشاط (الفعالية) activation العصبي حينما تصل الجملة ذات المعنى إلى الوعي فجأة؟
في أبحاثنا التي نستعمل فيها المنبهات الإبصارية الغامضة، نستخدم صورًا لا تبعث إدراكين مستقلين فحسب، بل تثير كذلك تناوبا مستمرا بين هذين الإدراكين. ويشكّل مكعب نيكر Necker cube مثالا مألوفا على ذلك (انظر الشكل في الصفحة 66). فهذا الشكل يُشاهَد مكعّبا ثلاثي الأبعاد، ولكن المنظور الظاهري لهذا المكعب يظهر متغيرا كل بضع ثوان. فلا بد أن يقابل هذا التناوب شيء ما يحدث في الدماغ.
وقد يجادل متشكِّك بأننا ندرك في بعض الأحيان منبها ما من دون أن نعيه حقيقة، على غرار، مثلا، توقفنا عند الضوء الأحمر لإشارة المرور على نحو تلقائي، ولكن المنبهات والمواقف التي استعملتها في تحرياتي هي من النوع المصمّم في الواقع لبلوغ الوعي.
إننا نعرف أن منبهاتنا تبلغ إدراك الناس ماداموا يستطيعون إخبارنا عن استيعابهم إياها. ولكن ليس بالإمكان عادة دراسة فعالية العصبونات الفرادى لدى الإنسان المستيقظawake، الأمر الذي جعلنا نُجري تجاربنا على نسانيس يقظة alert سبق لها أن دربت على التعبير عما تدركه وذلك بضغطها روافع معينة أو النظر إلى جهة محددة. ونشير هنا إلى أن أدمغة النسانيس تشبه في تنظيمها (تعضيها) أدمغة البشر وأنها تستجيب لمثل هذه المنبهات بما يشبه استجابة البشر إلى حد كبير. ونتيجة لذلك فإننا نعتقد بأن وعي هذه الحيوانات يشبه إلى حد ما وعي البشر.
إننا ندرس الغوامض (الالتباسات) التي تنتج حينما يعرض أمام العينين نموذجان إبصاريان مختلفان في آن واحد، وتعرف هذه الظاهرة باسم التنافس بين العينين binocularrivalry. فعندما يوضع الناس في هذا الموقف تعي أدمغتهم أحد النموذجين الإبصاريين، ومن ثم النموذج الآخر في تناوب بطيء (انظر ما هو مؤطر في الصفحة 7).
وفي المختبر نستعمل المِجْسام stereoscope لخلق هذا التأثير. وتبين النسانيس المدربة، حينما تتعرض لمثل هذا التنبيه الإبصاري، أنها هي أيضا ينتابها إدراك يتغير كل بضع ثوان. وقد مكنتنا تجاربنا من تقصي النشاط العصبي الذي يقابل هذه الإشعارات المتغيرة.
إن المنبهات (المثيرات) الغامضة، على غرار ما جاء في هذه اللوحة للفنان <سلڤادور دالي> بعنوان: «الشيخوخة والمراهقة والطفولة (الأعمار الثلاثة)» تقدّم العون للعلماء الذين يستعملون الإدراك الإبصاري في دراسة ظاهرة الوعي. |
في عين العقل
لقد أثبتت الدراسات التي أُجريت على النشاط العصبي للحيوانات طوال عقود من الزمن أن المعلومة الإبصارية حين تغادر العينين تصعد عبر مراحل متتابعة من منظومة عصبية تقوم بمعالجة البيانات. وهناك مَساقات modules مختلفة تقوم بتحليل الخواص المميزة المتنوعة للمجال الإبصاري. وبشكل عام يزداد تخصص نمط المعالجة processing كلما ازداد ابتعاد المعلومة على طول المسار الإبصاري (انظر الشكل في الصفحة 88).
ففي بداية هذا المسار تتوجه الصور الخارجة من الشبكية (الواقعة في مؤخرة كل عين) نحو بِنْيَتَيْن صغيرتين في أعماق الدماغ تدعيان النواتين الرُّكْبِيّتَيْن الجانبيتين (الوحشيتين)lateral geniculate nuclei. ويستطيع التنبيه الإبصاري الوارد من هذه العين أو تلك ولكن ليس منهما معا، أن ينشِّط عصبونات فُرادى في النواتين الركبيتين الجانبيتين. وتستجيب هذه العصبونات لأي تغير في السطوع (اللمعان) أو اللون ضمن منطقة محددة داخل مساحة من المنظور (المشهد) تعرف باسم المجال (الحقل) الاستقبالي receptive field الذي يختلف من عصبون لآخر.
ومن ثم تنتقل المعلومة الإبصارية من النواتين الركبيتين الجانبيتين إلى القشرة المخية الإبصارية الأولية الواقعة في مؤخر الرأس والتي نرمز لها (V1). ونشير هنا إلى أن سلوك العصبونات في الباحة V1 area يختلف عن سلوك العصبونات في النواتين الركبيتين الجانبيتين؛ إذ يمكن لأي من العينين أن ينشّط هذه القشرة في العادة، ولكنها تكون حسّاسة أيضا لصفات نوعية مثل اتجاه حركة المنبه الواقع ضمن مجالها الاستقبالي. هذا وتُبَثُّ المعلومات الإبصارية من الباحة V1 إلى ما ينوف على عشرين منطقة قشرية مخية متميزة أخرى.
يمكن مشاهدة مكعب نيكر بطريقتين مختلفتين، استنادا إلى كون المرء يرى الحرف (X) على الحافة الأمامية العلوية للمكعب أو على وجهه الخلفي. فأحيانا يظهر المكعب مُرَكّبا على الدوائر، وأحيانا أخرى تظهر الدوائر على شكل ثقوب وأن المكعب يسبح خلف الصفحة. |
يمكن تتبع بعض المعلومات الصادرة عن الباحة V1 أثناء انتقالها عبر باحتيْن تعرفان باسمي V2 وV4 قبل أن تنتهي إلى مناطق regions تعرف باسم القشرة المخية الصدغية السفلية inferior temporal cortex، (أو ITC اختصارا)، وهي ذات تناظر جانبي. ويوحي عدد كبير من البحوث، وبضمنها دراسات عصبية أجريت على أناس عانوا أذيات دماغية، بأن القشرة ITC مهمة لإدراك الشكل form وتعرّف الأشياء. ويعرف عن العصبونات الموجودة في الباحة V4 أنها تستجيب انتقائيا لنواح من المنبهات الإبصارية تعد حاسمة لإدراك الأشكال وتمييزها. صحيح إن بعض العصبونات في القشرة ITC تسلك سلوكا على غرار سلوك خلايا الباحة V4، ولكن عصبونات أخرى في القشرة ITC لا تستجيب إلا حينما توضع أشياء مكتملة (مثل الوجوه) ضمن مجالاتها الاستقبالية الواسعة جدا.
وتمر إشارات أخرى من الباحة V1 عبر المنطقتين V2 وV3 وعبر باحة تسمى MT/V5 قبل أن تصل أخيرا إلى جزء من الدماغ يدعى الفص الجداري. ويستجيب معظم العصبونات الموجودة في الباحة MT/V5 بشدة للأشياء التي تتحرك باتجاه معين. وهناك عصبونات موجودة في باحات أخرى من الفص الجداري تستجيب حينما يعير الحيوان انتباهه لمنبه ما أو يهم بالتحرك نحوه.
لقد استرعت انتباهنا في التجارب المبكرة ملاحظة لافتة للنظر تتمثل في أن عدة عصبونات في المسارات الإبصارية هذه، سواء في الباحة V1 أو في المستويات العليا لمراتب (هرمية) hierarchy المعالجة، تظل تستجيب بانتقائيتها المميزة للمنبهات الإبصارية، حتى عند الحيوانات التي تعرضت للتخدير التام. ومن الواضح أن الحيوان (أو الإنسان) لا يدرك جميع النشاط العصبي.
وهنا تثير هذه الملاحظة سؤالا عما إذا كان الإدراك يأتي نتيجة لتفعيل مناطق دماغية خاصة أو تجمعات عصبونية معينة. ودراسة ظاهرة التنافس بين العينين binocular rivalryلدى النسانيس المدربة اليقظة تتيح لنا إمكانية تناول هذا السؤال، ولو إلى حد ما على الأقل. ففي مثل هذه التجارب، يعرض الباحث أمام كل حيوان تشكيلة متنوعة من المنبهات الإبصارية تتمثل في العادة بنماذج أو أشكال تُعرض على الشاشة. ويمكن تدريب النسانيس بسهولة على أن تشعرنا بدقة بنمط المنبه الذي تدركه عن طريق إثابتها بمكافآت من عصير الفواكه. (انظر ما هو مؤطر في الصفحتين 10 و11).
يستعمل العالِمُ أثناء التجربة إلكترودات (مساري) تسجل نشاط العصبونات الواقعة في مسار المعالجة الإبصارية. وتتباين استجابية responsiveness هذه العصبونات إلى حد كبير حينما تعرض أمام العينين كلتيهما منبهات متماثلة في آن واحد. فقد يثير نموذج المنبه (أ) الفعالية في أحد العصبونات (على سبيل المثال)، في حين لا يثير النموذج (ب) تلك الفعالية.
فإذا ما حدد الباحث المنبه الفعال والمنبه غير الفعال لعصبون ما (عن طريق عرض المنبه ذاته أمام العينين كلتيهما وفي وقت واحد)، فإنه يستطيع عرض المنبهين على نحو ترى فيه إحدى العينين واحدا من المنبهين في حين ترى العين الأخرى المنبه الآخر. وإننا نتوقع أن النسناس، مثله مثل الإنسان في هذا الموقف، سيدرك المنبهين في تتال متناوب. وفي الواقع فإن هذا هو نفس ما توحي لنا به النسانيس عبر استجاباتها حينما تُعرَض عليها مثل هذه الأزواج المتنافسة من المنبهات. وعن طريق قيام الباحث بتسجيل نشاط العصبونات أثناء العرض المتتابع لهذه الأزواج المتنافسة من المنبهات، فإنه يستطيع أن يخمن أي العصبونات لا يغير نشاطه إلا حينما تتغير المنبهات، وأيها يغير معدل إضرامه firing حينما يُخبِر الحيوان عن تغير في الإدراك غير مصحوب بتغير في المنبهات.
أجريتُ مع <D .J. شال> [الموجود حاليا في جامعة ڤاندربلت] تعديلا على هذه التجربة بحيث ترى إحدى العينين حاجزا مُشَبّكا grating يتحرك ببطء نحو الأعلى في حين ترى العين الأخرى حاجزا مشبكا يتحرك نحو الأسفل. وقمنا بتسجيل الفعالية الصادرة عن الباحةMT/V5، حيث تميل الخلايا للاستجابة للحركة، فوجدنا أن ما يقرب من 43 في المئة من الخلايا الموجودة في هذه الباحة تغيرت مستويات فعاليتها حينما دل النسناس على أن إدراكه تغير من الأعلى إلى الأسفل، والعكس بالعكس. وتقع معظم هذه الخلايا في أعمق طبقات الباحةMT/V5.
لقد كانت النسبة المئوية التي قسناها أقل في الواقع مما كان يقدره معظم العلماء، لأن جميع عصبونات الباحة MT/V5 تقريبا هي من النوع الحساس لاتجاه الحركة. وبالفعل فقد سَلَكَتْ أغلبية عصبونات الباحة MT/V5 إلى حد ما سلوكا يشبه سلوك عصبونات الباحة V1بحيث بقيتْ ناشطة مادام منبهها المفضل على مرأى من هذه العين أو تلك، سواء تم إدراك المنِّبه أو لم يتم.
كيف يمكن اختبار تنافس بين العينين?
إذا أردت محاكاة تنافس بين العينين في البيت، استعمل يدك اليمنى لمسك أسطوانة ورق مقوى (أو أي قطعة من الورق ملفوفة على شكل أنبوب) واضعا إياها أمام عينك اليمنى، وارفع يدك اليسرى (مع وضع راحتها في مواجهتك) على بعد نحو أربع بوصات أمام عينك اليسرى شريطة أن تكون حافة راحة اليد ملامسة للأنبوب.
في البداية سيظهر كما لو كان في يدك ثقب مادام دماغك يركز على المنبه انطلاقا من العين اليمنى. ولكن بعد ثوان سيمتلئ «الثقب» بإدراكٍ مشوّش لجميع راحة اليد واردٍ من عينك اليسرى. وإذا واصلت المشاهدة ستتناوب الصورتان لكون دماغك ينتقي أولا المنبه الإبصاري الذي تشاهده إحدى العينين ومن ثم المنبه الإبصاري الذي تشاهده العين الأخرى. ولكن هذا التناوب يبدي بعض الانحياز، فربما تدرك المنبه الإبصاري الذي تراه عبر الأسطوانة بتكرار أكبر من رؤيتك راحة يدك. يحدث الانحياز لسببين: أحدهما، أن راحة يدك تكون خارج التركيز لأنها أكثر قربا إلى وجهك، الأمر الذي تميل معه المنبهات الإبصارية غير الواضحة لأن تكون أضعف منافسة (أثناء حدوث التنافس بين العينين) من النماذج الواضحة مثل عناصر البيئة المحيطة التي تشاهدها عبر الأنبوب. والآخر، أن راحة يدك سطح أملس نسبيا يقل فيه التباين والخطوط الكنتورية (الكفافية) مقارنة بعناصر البيئة الغنية التي تشاهدها عبر الأنبوب. أما في المختبر فإننا ننتقي النماذج التي يشاهدها الأشخاص محل التجربة بعناية تؤمِّن إزالة هذا الانحياز. |
وكانت هناك مفاجآت أخرى. فنحو 11 في المئة من العصبونات التي جرى فحصها استثيرت، حينما كان النسناس يعبر عن إدراكه المنبه الأقوى مفعولا في العصبون المعني من بين المنبهين المتحركين نحو الأعلى أو نحو الأسفل. ولكن، على نحو مناقض، فإن نسبة مشابهة من العصبونات أبدت أقصى استثارة حين لم يُدْرَك المنبه الأقوى مفعولا، مع كون هذا الأخير على مرأى واضح من إحدى العينين. وهناك عصبونات أخرى غيرها لم يكن من الممكن تصنيفها على أساس أنها تفضّل أحد المنبهين على الآخر.
وبينما كنتُ أعمل مع <A .D. ليوپولد> في كلية طب جامعة بيلور، قمنا بدراسة عصبونات في أجزاء من الدماغ تعرف بأهميتها في تَعَرُّف الأشياء. (يرافقني ليوپولد الآن في معهد ماكس پلانك للسيبرنيتيكا البيولوجية في تونبيگن بألمانيا). لقد سجلنا الفعالية (النشاط العصبي) في الباحة V4 وكذلك في الباحتين V1 وV2، حينما كانت الحيوانات تُشاهد منبهات تتألف من خطوط مائلة باتجاه اليسار أو باتجاه اليمين. ففي الباحة V4 كانت نسبة الخلايا التي عكست فعاليتها ظاهرة الإدراك تشبه النسبة التي كنتُ مع شال قد وجدناها في الباحةMT/V5 والتي بلغت نحو 400 في المئة. ولكن مرة أخرى، فإن نسبة مهمة من الخلايا اضطرمتْ اضطراما أفضل حين لم تدرك منبهها المفضل. وعلى النقيض من ذلك، فإن ما يقل عن واحدة من كل عشر خلايا في الباحتين V1 وV2 اضطرمت حصرا حينما أدركت منبهها الأقوى مفعولا، ولم يضطرم أي منها حين لم يحدث إدراك لذلك المنبه.
لقد كان نموذج الفعالية مختلفا تماما في القشرة ITC، إذ قمتُ مع <L .D. شاينبرگ> [الذي انتقل معي من بيلور إلى معهد ماكس پلانك] بتسجيل الفعالية الصادرة عن هذه الباحة بعد تدريب النسانيس على الإشارة إلى إدراكها أثناء التنافس بين نماذج إبصارية معقدة (مثل صور لبشر أو حيوانات أو أشياء أخرى من صنع الإنسان). فوجدنا أن جميع العصبونات تقريبا (نحو 90 في المئة) قد استجاب بقوة حين أدركت النموذج المفضل لمنبهها، ولكن نشاطها هذا تثبط تثبيطا عميقا حين لم يتم إدراك هذا النموذج.
يبدأ المسار الإبصاري البشري بالعينين ويمتد عبر عدة بنى دماغية داخلية قبل أن يصعد إلى المناطق المختلفة من القشرة المخية الإبصارية (الباحة V1، وهلم جرا). وعند التصالب البصري يتقاطع العصبان البصريان جزئيا بحيث يستقبل كل واحد من نصفي الكرة المخية مُدْخَلا input واردا من كلتا العينين. ويجري تصفية المعلومات بوساطة النواة الركبية الجانبية (الوحشية) (LGN)، التي تتألف من طبقات من الخلايا العصبية لا تستجيب الواحدة منها إلا لمنبهات واردة من عين واحدة. وأما القشرة المخية الصدغية السفلية (ITC) فهي مهمة لرؤية الأشكال. وقد وجد الباحثون أن بعض الخلايا لدى كل باحة area لا تنشط إلا حينما يعي الشخص أو الحيوان المعني المنبه المُعطى. |
وهكذا يبدو أنه في الوقت الذي تصل الإشارات الإبصارية إلى القشرة ITC تستجيب الأغلبية العظمى من العصبونات بطريقة مرتبطة بالإدراك. وقد استعمل <F. تونگ> و<K. ناكاياما> و<N. كانويشر> [من جامعة هارڤارد] تقانة تدعى التصوير الوظيفي بالرنين (التجاوب) المغنطيسي functional magnetic resonance imaging (أو fMRI اختصارا)، وهي تعطي صورا عن نشاط الدماغ تستند إلى قياس زيادة تدفق الدم في باحات معينة من الدماغ، بقصد دراسة البشر أثناء خضوعهم لاختبار ظاهرة التنافس بين العينين. فوجدوا أن القشرة المخية ITC تكون ناشطة حينما يذكر الأشخاص الخاضعون للاختبار أنهم يرون صورا للوجوه في ذلك الوقت.
باختصار، كان معظم العصبونات في المواقع (المراحل) الأولى من المسار الإبصاري يستجيب أساسا إلى وقوع، أو عدم وقوع، منبهها الإبصاري المفضل في مرآها على الرغم من أن قلة من هذه العصبونات أبدت سلوكا يمكن أن يُردّ إلى تغيرات في إدراك الحيوان؛ أما المواقع (المراحل) اللاحقة من مسار المعالجة processing pathway فقد ازدادت فيها نسبة العصبونات التي عكس نشاطها إدراك الحيوان حتى بلغت 900 في المئة.
وقد يعترض أحد النقاد مدعيا أن المدركات المتغيرة التي تعبر عنها النسانيس أثناء تنافس بين العينين يمكن أن تنجم عن قيام الدماغ عند بداية المسار الإبصاري بكبت المعلومة الإبصارية الواردة من إحدى العينين أولا ثم من العين الأخرى تاليا، بحيث يدرك الدماغ صورة واحدة في أي لحظة معينة. فإذا كان هذا هو ما يحدث، فإن الفعالية العصبية والمدرَكات المتغيرة لن تمثِّل ببساطة إلا المدخلات inputs المحوّلة من إحدى العينين إلى الأخرى، ولن يكون لها علاقة بالوعي الإبصاري في مواقف أخرى. ولكن الأدلة التجريبية تبين على نحو حاسم أن المدخلات الواردة من كلتا العينين تخضع لمعالجة متواصلة في الجهاز الإبصاري أثناء التنافس.
إننا نعرف ذلك لأنه قد اتضح أن التنافس بين العينين لدى البشر يُحدِث بطأَه العادي لتناوب المدركات حتى لو جرى تبديل switching المنبهات المتنافسة تبديلا سريعا (عدة مرات في الثانية) بين العينين. فإذا كان التنافس يتعلق فقط بتحديد أي من العينين يوجه الدماغُ الانتباهَ إليها، فإن ظاهرة التنافس ستختفي حين تبديل المنبهات سريعا بهذا الأسلوب (فالمشاهد سيرى عوضا عن ذلك تناوبا سريعا للمنبهات). وتوحي الاستمرارية الملحوظة للمدرَكات التنافسية المتغيرة ببطء (حينما تُبدل المنبهات بقوة) بأن التنافس إنما يحدث بسبب تسابق تمثيلات representations المنبه المتناوبة في المسار الإبصاري. وهكذا يقدم تنافس بين العينين فرصة مناسبة لدراسة الكيفية التي يقرر بها الجهاز الإبصاري ماذا نرى، حتى لو شاهدتْ كلتا العينين الشيء نفسه (تقريبا).
أُحجية إدراكية
ما الذي تكشفه هذه النتائج بشأن الإدراك الإبصاري؟ في المقام الأول تبين هذه النتائج أننا غافلون عن قدر كبير من فعالية (نشاط) أدمغتنا. فلطالما عرفنا أننا في الأغلب لا ندرك فعالية الدماغ التي تُبقي الجسم في حالة استقرار والتي تُعَدُّ إحدى أهم مهمات الدماغ من الناحية التطورية. وتبين تجاربنا أننا لا ندرك كذلك كثيرا من الفعاليات العصبية التي تولِّد، جزئيا على الأقل، خبراتنا الواعية.
نستطيع أن نقول ذلك لأن العديد من العصبونات في أدمغتنا تستجيب لمنبهات لا نكون واعين لها. ويبدو أن نسبة ضئيلة فقط من العصبونات قد تكون مرشحة معقولة لما يطلق عليه الفيزيولوجيون اسم «الملازم العصبي» neural correlate للإدراك الواعي، بمعنى أنها تستجيب بطريقة تعكس الإدراك على نحو موثوق.
هذه صور للنشاط الدماغي تخص نسناسا مخدرا عرض عليه منبه إبصاري دوّار شديد التباين rotating high-contrast (في أسفل اليسار). وتُظهر هذه المشاهد المأخوذة باستعمال التصوير الوظيفي بالرنين (التجاوب) المغنطيسي (fMRI) أن النسناس على الرغم من أنه غير واع، تكون باحات المعالجة الإبصارية لديه [والتي تتضمن النواتين الركبيتين الجانبيتين والقشرة المخية الإبصارية الأولية (V1) والقشرة المخية الصدغية الوسطى (الأنسية) (MT/V5)] جميعها مشغولة. |
ولعلنا نستطيع أن نقول المزيد. فالعدد القليل من العصبونات التي يعكس سلوكها الإدراك إنما يتوزع على مجمل المسار الإبصاري بدلا من أن يشكل جزءا من باحة واحدة في الدماغ. وعلى الرغم من أن القشرة المخية ITC تمتلك عددا من العصبونات التي تسلك هذا السلوك يفوق كثيرا ما تمتلكه المناطق الأخرى، فإن مثل هذه العصبونات قد يتم العثور عليها في أماكن أخرى في تجارب قادمة. وعلاوة على ذلك، فقد تكون مناطق دماغية أخرى مسؤولة عن أية قرارات ناجمة عن أي منبه يصل إلى مستوى الوعي. وقد درس <D .E. لومر> وزملاؤه [في الكلية الجامعية بجامعة لندن] ذلك الاحتمال باستعمال التصوير fMRI، فبينوا أن الفص الصدغي لدى البشر يتفعّل أثناء المعايشة الواعية لمنبه ما، على غرار ما وجدنا لدى النسانيس. ولكن مناطق أخرى مثل الباحات القشرية المخية الجدارية والجبهية الأمامية (مقدم الجبهة) تُنشّط بالضبط في الوقت الذي يذكر الشخص موضعُ التجربة أن المنبه أخذ يتغير.
ولسوف تمدنا معرفة المزيد عن مواقع واتصالات العصبونات التي ترتبط بالخبرة الواعية بالكثير عن الكيفية التي يولِّد الدماغ بها الإدراك. ولكن النتائج المتوافرة حتى الآن توحي بقوة بأن الإدراك الإبصاري لا يمكن اعتباره الحصيلة النهائية لمثل هذه المراحل التسلسلية (الهرمية) للمعالجة. بل إنها عوضا عن ذلك تشمل مجمل المسار الإبصاري إلى جانب الباحات الصدغية الجبهية التي تدخل في المعالجة الاستعرافية العليا higher cognitive processing. ويعكس نشاط أقلية متميزة من العصبونات ما يُرى بصورة واعية حتى في أدنى المستويات التي أنعمنا النظر فيها وفحصناها، وهما الباحتان V1 وV2؛ فنسبة العصبونات النشيطة هي وحدها التي تزداد في المستويات العليا من هذا المسار.
وليس من الواضح في الوقت الحالي ما إذا كانت فعالية العصبونات في الباحات الأولى (المبكرة) جدا تقررها اتصالات هذه العصبونات بعصبونات أخرى في تلك الباحات، أو أنها تأتي نتيجة لارتباطات التغذية الراجعة feedback واتصالاتها نحو الأعلى والأسفل، التي تنطلق من الفصين الصدغي والجداري. فالمعلومات الإبصارية تتدفق من المستويات العليا نزولا باتجاه المستويات الدنيا مثلما تتدفق في الاتجاه المعاكس. وتشير الدراسات النظرية إلى أن المنظومات المزوّدة بهذا النوع من التغذية الراجعة تستطيع إبداء نماذج معقدة من السلوك، بما في ذلك حالات استقرار متعددة. فحالات الاستقرار المختلفة التي تصونها التغذية نحو الأعلى والأسفل يمكن أن تتطابق مع حالات مختلفة من الوعي الإبصاري.
وهناك سؤال مهم يتمثل فيما إذا كانت فعالية أي من العصبونات التي حددناها تحقق بصدق إدراكا واعيا لدى الحيوان. ويمكن أن نتصور بعد كل ذلك، أن هذه العصبونات إنما تخضع فقط لإشراف جزء آخر من الدماغ غير معروف يحقق من جانبه بالفعل الخبرة (المعاناة) الواعية.
ضمان أمانة النسانيس
يتمثل أحد الاعتراضات الممكنة على التجارب الموصوفة في المقالة الرئيسية في أن النسانيس ربما كانت تميل إلى الغش وصولا إلى مكافآتها من العصير. وعلى الرغم من كل شيء فإننا لسنا قادرين مباشرة على معرفة ما يفكر به النسناس (أو الإنسان) أو يدركه في لحظة ما. ولما كانت هذه النسانيس مهتمة أساسا بشرب العصير وليس بفهم كيفية نشوء الوعي انطلاقا من فعالية العصبونات ونشاطها، فمن الممكن أن تكون هذه النسانيس قد أوجدت استراتيجية للاستجابة بدت لنا وكأنها تعكس مدركات حقيقية، مع أنها في الحقيقة لا تعكس مثل ذلك.
ففي جلسة التدريب الموضحة أدناه بالرسم، على سبيل المثال، كان النسناس يدرب على أن يجذب الرافعة اليسرى حينما يرى إشراقة الشمس وأن يجذب الرافعة اليمنى حينما يرى راعي البقر. لقد استطعنا ضمان أن النسناس يواصل التعبير على نحو صادق وذلك عن طريق إقحام حالات لا يُعَرّض النسناس خلالها لأي منبهات تنافسية (في الأسفل). فأثناء هذه الفترات ظهر جواب صحيح حول ما تم إدراكه، وفي حال عدم إجابة النسناس إجابة صحيحة كانت التجربة (ومعها فرصة النسناس لنيل مكافآت من العصير أكثر) تُنهى على الفور. وعلى نحو مماثل، إذا جذب النسناس أيا من الرافعتين حين تُعرض عليه صورة مختلطة (تتراكب فيها صورتا إشراقة الشمس وراعي البقر) فإننا نعرف أن النسناس يكذب في محاولة منه للحصول على العصير (الصورة الأخيرة). تشير نتائجنا إلى أن النسانيس تفصح عما تدركه بدقة. وما هو أكثر إقناعا يتمثل في ملاحظتنا أن النسانيس والبشر الذين يخضعون للاختبار بنفس الجهاز يظهرون مستوى الأداء نفسه في مختلف المهام. |
هذا وتوحي تجارب حاذقة أجراها <T .W. نيوسوم> وزملاؤه [في جامعة ستانفورد] بأن الفعالية العصبونية في الباحة MT/V5 على الأقل تستطيع بالفعل تقرير وتحديد ما يدركه النسناس على نحو مباشر. ففي بادئ الأمر حدد نيوسوم العصبونات التي تستجيب انتقائيا لمنبه يتحرك في اتجاه معين؛ ثم قام بتنشيطها اصطناعيا بوساطة تيارات كهربائية صغيرة، وهنا عبرت النسانيس عن إدراكها حركة تتوافق مع تنشيطها الاصطناعي، حتى حين لم تكن المنبهات تتحرك في الاتجاه المرسوم.
سيكون من الممتع أن نرى ما إذا كانت هناك عصبونات من أنماط مختلفة في القشرة المخية ITC (وربما في المستويات الأدنى منها) تضطلع أيضا مباشرة في تحقيق الوعي. فإذا وُجِدَتْ مثل هذه العصبونات، فإننا سنتوقع أن يؤدي تفعيلها أو تثبيطها مؤقتا إلى تغيير في إدراك الحيوان أثناء تنافس بين العينين.
إن التفسير الأكمل للإدراك الإبصاري ينبغي أن يأخذ بالحسبان كذلك نتائج التجارب التي تُجرى على السيرورات الاستعرافية (المعرفية) الأخرى مثل الانتباه attention (أو ما يسمى الذاكرة العاملة working memory)؛ إذ تكشف تجارب <R. ديسيمون> وزملائه [في المعهد الوطني للصحة العقلية] عن تشابه لافت للنظر بين ما يلاحظ من تآثرات (تفاعلات) تسابقية أثناء تنافس بين العينين وبين السيرورات المشاركة في الانتباه. ونشير إلى أن ديسيمون وزملاءه دربوا النسانيس على التعبير عن إدراكها لدى رؤيتها منبهات سبق أن أُعطيتْ دالاّتcues عنها مقدما. وهنا أيضا، تستجيب عدة عصبونات استجابة تعتمد على المنبه الذي يتوقع الحيوان رؤيته أو على الموضع (المكان) الذي يتوقع الحيوان رؤيته فيه. وإنه لمن الأهمية الواضحة أن نعرف ما إذا كانت تلك العصبونات هي نفس العصبونات التي لا تضطرم إلا حينما يبلُغ نموذج ما مستوى الوعي أثناء تنافس بين العينين.
إن صورة الدماغ التي بدأت تتكشف انطلاقا من هذه الدراسات هي صورة لمنظومة تخلق سيروراتها حالات الوعي ليس فقط استجابة لمدخلات حسية، بل أيضا لإشارات داخلية تمثل توقعات مبنية على خبرات سابقة. ومن حيث المبدأ ينبغي أن يتمكن العلماء من تقصي وتتبع الشبكات التي تدعم هذه التآثرات. صحيح إن المهمة ضخمة، ولكن نجاحنا في تحديد العصبونات التي تعكس الوعي يعد بداية جيدة.
المؤلف
Nikos K. Logothetis
هو رئيس قسم فيزيولوجية السيرورات الاستعرافية (المعرفية) في معهد ماكس پلانك للسيبيرنيتيكا البيولوجية في توبينگن بألمانيا، حاز الدكتوراه في البيولوجيا العصبية البشرية عام 1984 من جامعة لودفيك ماكسيميليان بميونيخ. وفي عام 1985 انتقل إلى قسم علوم الدماغ والعلوم الاستعرافية في معهد ماساتشوستس للتقانة، حيث كان باحثا وزميلا لما بعد الدكتوراه. وفي عام 1990 التحق بالهيئة التدريسية لقسم العلوم العصبية في كلية بايلور للطب، حيث أجرى معظم البحوث الموصوفة في هذه المقالة. وقد عاد إلى ألمانيا في عام 1997.
مراجع للاستزادة
A VISION OF THE BRAIN. Semir Zeki. Blackwell Scientific Publications, 1993.
THE ASTONISHING HYPOTHESIS: THE SCIENTIFIC SEARCH FOR THE SOUL. Francis Crick. Scribner’s, 1994.
EYE, BRAIN AND VISION. David H. Hubel. Scientific t American Library, 1995.
THE VISUAL BRAIN IN ACTION. A. David Milner and Melvyn A. Goodale. Oxford University Press, 1996.
Scientific American, November 1999
(*) Vision: A Window on Consciousness