حَمَلات استكشافية
حَمَلات استكشافية
تعقُّب ڤيروس(*)
اجتاح الريف الماليزي ڤيروس لم يكن معروفا من قبل،
مسببًا وفاة أكثر من 110 أشخاص وكذلك الإبادة القسرية
لنحو مليون خنزير. وقد كشف هذا الاجتياح عدم حصانة العالم تجاه
أمراض جديدة قد تعجز أحيانا أقصى جهود صفوة العلماء عن مكافحتها.
<W .W. گِبس>
تحمّل <K .Ch. بِنگ> 18 ساعة طيران من كوالالمپور إلى لوس أنجلوس على مضض، فقد كان يمقت الرحلات الطويلة. ومنذ أن تخلى عن دراسة الجائحات الڤيروسية كنشاط خاص بالمشاركة مع <S .L. كِت> [وهو خبير ذو شهرة عالمية بهذا الموضوع، ورئيس قسم المكروبيولوجيا (الأحياء الدقيقة) الطبية في جامعة الملايو]، بدا أن الطبيب الشاب دائم الطيران. وكان الشعار الذي كتبه <كِت> على لوحه الأبيض: «ليس ثمة مشكلات فردية في صراعنا ضد الأمراض المستجدة، فهي مشكلات عالمية ليس إلا.» في صراعنا ضد الأمراض المستجدة». وقد قرن القول بالفعل عندما سارع في الشهر 2/1999 إلى إرسال <بِنگ> لأستراليا طلبا لمساعدتهم في التأكد من سبب جائحة أدت إلى تورم مؤلم في مفاصل سبعة وعشرين فردا محمومين في پورت كلانگ. وفي غضون أقل من شهر، شرع بِنگ باقتفاء مسار وباء جديد، ولكنه توجه هذه المرة إلى مختبرات مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) في كولورادو. لقد كان يعَوِّل على تجهيزاتهم ذات التقانة العالية لتعرف ما لم يستطع هو تعرفه: ڤيروس غامض مميت، عُبِّئ بعناية داخل حقيبته اليدوية.
وبينما كانت طائرة <بِنگ> تبتعد عن مطار كوالالمپور الجديد باتجاه تايپيه، كان بإمكان المسافرين الجالسين على يسار الطائرة أن يلمحوا إسطبلات الخيول وحظائر الخنازير قرب إيپُوه، حيث بدأ هذا المرض الغريب في الشهر 9/1998. لقد بدا مخيفا حتى قبل انتشاره؛ إذ بلغ عدد ضحاياه ستة وعشرين، وقيل إنه أكبر جائحة من التهاب الدماغ الياباني Japanese encephalitis حدثت في ماليزيا خلال أكثر من خمسة وعشرين عاما.
ثم «قفز» الڤيروس إلى ولاية نيگري سيمبيلان المغطاة بالنخيل، البعيدة الآن عن الجانب الأيمن للطائرة، وهي قلب منطقة تربية الخنازير الماليزية. ومما لا ريب فيه أن أحد المزارعين اليائسين عثر، في جنح الظلام، على ثغرة في سور الحَجْر الصحي، وأرسل خنازيره إلى الجنوب من إيپوه إما لبيعها أو لذبحها. ولكن من أين لمزارع بسيط أن يدرك حجم الكارثة البيولوجية والاقتصادية التي سيتسبب بها؟ كيف يمكن له أن يتنبأ بإصابة مئات الأفراد، معظمهم رجال أقوياء، تسفعهم الحمى وينتابهم الهذيان ويدخلون في سبات (غيبوبة)، وبأن قرى بكاملها يهجرها أهلوها الهلعون، ذلك أن أسرة من بين ثلاث طالها الوباء؛ وبأن جنودا مكممين بالأقنعة المضادة للغازات يطلقون النار على قطعان الخنازير في مزرعة بعد مزرعة ليدمروا صناعة تصديرية هائلة، وبأن مزارعين آخرين أمثاله يهربون الخنازير (عبر دروب جانبية) إلى ولايات أخرى، في تفاعل متسلسل لا نهاية واضحة له؟
وكان العلماء الحكوميون يقولون إن المرض لا يعدو كونه التهاب الدماغ الياباني، وأنه يمكن إيقافه بسهولة بوساطة لقاح. زد على ذلك، أن الخنازير قد تشكل عائلا (ثويا) يتكاثر فيه ڤيروس التهاب الدماغ الياباني، ولكنها لا تنقله مباشرة إلى الإنسان، في حين أن البعوض يفعل ذلك. إن التضبيب foggingبمبيدات البعوض، والتلقيح الجماعي كانا يقمعان دائما جوائح التهاب الدماغ الياباني السابقة، وقد باشرت الحكومة فعلا هذين الإجراءين.
ولكن إذا كان هنالك من دَرْس على العالم أن يفيد منه بسبب البلوى التي ألمت في ربيع 1999 بمربي الخنازير الماليزيين، فلعله يتمثل في أن مرضا جديدا قد يبدو ـ حتى لأمهر الأطباء ـ وكأنه مرض مألوف. وبحدوث هذا اللَّبْس، يتوافر للعامل الممرض وقت كاف للانتشار. وإذا كان الداء ينتقل بوساطة سلعة ذات قيمة كالخنزير بدلا من آفة ضارة كالبعوض، فإن أفضل جهود تبذلها الحكومة للتخلص كليا من حوامل carriers الڤيروس لن تحقق إطلاقا النجاح الكامل.
وبينما كان <بينگ> يجلس في الطائرة ويستمع إلى هدير محركاتها، لم يكن لديه شيء مهم يفعله سوى استعراض الأحداث المروعة في الأسبوعين المنقضيين. كان <بِنگ> مقتنعا تماما حينذاك (في أواسط الشهر 3/1999) بأن الجائحة ليست سوى وباء التهاب الدماغ الياباني. لقد نمّى مؤخرا الڤيروس الذي كان موجودا في الدم والسائل النخاعي لثلاثة مرضى، وعثر على المُمْرِض المسبِّب الذي كان بكل وضوح شيئا لم يره هو أو <كِت> من قبل.
لقد تسلم مختبر <بِنگ> التابع لمستشفى جامعة كوالالمپور في الأول من الشهر 3/1999 هذه العينات الثلاث الأولى لسوائل الجسم ولنسيج الدماغ ـ واحدة من سائق شاحنة في صنگاي نيپاه، واثنتين من ضحيتين في بوكيت پيلاندوك ـ في الوقت الذي أخذ قاطنو هاتين البلدتين ينهارون في غرفة الطوارئ التابعة للمستشفى. وقد كان هذا أول تأكيد من الأطباء بأن المرض قد حلَّ في نيكري سيمبيلان. ويذكر <K .G. جِن> [طبيب أعصاب في المستشفى] «أن تدفق مرضى جدد يوميا كان يبعث على القلق».
ولم يكن حجم الجائحة هو الباعث الوحيد على قلق الأطباء؛ إذ إن الأعراض تماثل الصورة المرضية لالتهاب الدماغ الياباني، ولكن نوعية الضحايا لم تكن كذلك. ولأن التهاب الدماغ الياباني ينتشر عن طريق الحشرات كما يوضح <جِن>، «فإنه يصيب عادة الأطفال والمسنين، ويضرب ضربته على نحو عشوائي تقريبا، ولكننا لاحظنا أن معظم المرضى هم من البالغين الذكور ولم نلاحظ بينهم أطفالا. وفي بعض الأسر يمرض أربعة أفراد، في حين ينجو الخامس. أضف إلى ذلك أن نحو ثلاثة أرباع المرضى كانوا قد لقحوا مرة واحدة على الأقل ضد التهاب الدماغ الياباني. لذا شرعنا في طرح مزيد من الأسئلة، واكتشفنا أن المرضى كلهم تقريبا كانوا يملكون حظائر للخنازير، أو أنهم عملوا في إحداها».
وبدأ الاحتمال يتضاءل بأننا أمام مرض ينتقل بوساطة الحشرات؛ إذ إن كل من أصيب به كان قد لامس جسم خنزير ـ وكثرة منهم أصيبوا أثناء عنايتهم بهذه الحيوانات التي كانت تسعل أو تحدث أزيزا wheezing أثناء تنفسها نتيجة الإصابة بداءٍ غير مألوف. وكان هذا غريبا أيضا، لأن ڤيروس التهاب الدماغ الياباني لا يؤذي الخنزير الذي هو عائله الطبيعي.
وطُلب إلى <بِنگ> و<كِت> أن يؤكدا فقط أن عيناتهما تحوي فعلا أضدادا ضد التهاب الدماغ الياباني، الأمر الذي يدل على أن هؤلاء المرضى قد أُعدوا (أخمجوا) بڤيروس التهاب الدماغ الياباني، أو أنهم لقحوا ضده. بيد أن الطبيبين قررا أن يخطوا خطوة أبعد. فإذا استطاعا تنمية كمية كافية من الڤيروس، فإنه سيغدو بمقدورهما دراسته. ويقول <كِت> «اعتقدنا أنه قد يكون ذرية طافرة، لا يوفر اللقاح حماية ضدها».
يشير <K .Ch. بينگ> (في الأسفل) بإصبعه إلى الڤيروس الجديد الذي يلتهم جدران الأوعية الدموية (الصورة المؤطرة). |
عمد <بِنگ> إلى صرف الفنيين العاملين معه، وأغلق على نفسه مع مساعد واحد فقط مختبر الأخطار البيولوجية (الحيوية) biohazard، وشرع بوضع قطيرات من السائل المُعدي في مزارع من خلايا كلى الخنازير والقرود. وكما يقول <كِت>: «قام <بِنگ> أيضا بحقن (زرق) قطيرات السائل المُعدي في يرقات البعوض وفي فئران رضيعة». ويضيف <كِت> «لم نكن في حقيقة الأمر نعلم عما نبحث. كنا نحاول فقط أن ندرس الاحتمالات كلها».
كان <بِنگ> يتفحص الخلايا في الحاضنة مرتين أو ثلاث مرات يوميا بحثا عن علامات العدوى. إن كثرة من المُمْرضات تنمو فقط في درجة حرارة معينة أو رقم هدروجيني (pH) محدد. وكان <بِنگ> قد عزل قبل سنتين ڤيروسا معويا أمرض الآلاف في ماليزيا. وكما يذكر «استغرق الأمر عشرة أيام للتوصل إلى معرفة الشروط الملائمة للنمو».
يواجه أطباء الأعصاب (في الأعلى) الشكل الجديد من التهاب الدماغ، ويدرك كلهم الآلام المبرحة التي يسببها للمرضى (في اليسار).
|
إن هذا الممرِض بالتأكيد أكثر عدوانية، «فهو يكاد ينمو تلقائيا، وبسرعة كبيرة»، كما يقول <بِنگ>. وبعد انقضاء ثلاثة أيام بدأت خلايا القرود تموت. وفي اليوم الخامس اندمج عدد كبير من الخلايا الباقية، مثلما تفعل قطيرات الماء، لتكون لُطَخًا خلوية عملاقة عديدة النوى. أما يرقات البعوض وهي العائل الأكثر قابلية للتأثر بڤيروس التهاب الدماغ الياباني، فبقيت صحيحة معافاة.
وأمضى <بِنگ> أسبوعا كاملا يُجري مجموعة تلو أخرى من اختبارات الأضداد على الڤيروسات المعزولة. وجاء اختبار التهاب الدماغ الياباني سلبيا، وكذلك الحصبة. وأجريت اختبارات للبحث عن أضداد الحلأ البسيط herpessimplex وڤيروس الضنَگ dengue والڤيروسات المعوية الشاملة panenterovirusوالڤيروس المضخم للخلايا cytomegalovirus والڤيروس المخلوي التنفسيrespiratory syncytial virus. وبمعنى آخر، لقد جرى البحث عن أي شيء يحتمل أن يسبب التهاب الدماغ؛ يقول <بِنگ> «لقد أتت كلها سلبية»، ثم يذكر <كِت> «بدت الجسيمات الڤيروسية بالمجهر الإلكتروني ضخمة جدا. كان ذلك إشارة مهمة إلى أن الڤيروس قد يكون الڤيروس المخاطاني paramyxovirus»، ولعله قريب جدا من الممرِضات التي تسبب الحصبة والنُّكاف، وبعض الأمراض الأخرى الشديدة العدوى.
يقول <جِن> «أذكر ذلك اليوم الذي نزلتُ فيه إلى مختبر <بِنگ>، الذي قال لي انظُر، لقد حصلنا على ڤيروس جديد. لقد شعرتُ بهلع شديد، لأننا كنا نلمس هؤلاء المرضى ونسهر على نظافتهم. فضلا عن أن الدكتور <بِنگ> وآخرين غيره في المختبر كانوا ينمون كميات كبيرة جدا من الڤيروس من دون اتخاذ أي إجراء وقائي. ولكن على الرغم من ذلك، كان الاكتشاف من الناحية العلمية مثيرا جدا.»
يبحث <M. بوننگ> [من مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC)] بدقة بين أنقاض حظائر الخنازير المدمرة في بوكيت پيلاندوك (في الأعلى) عن جرذان مصابة ليقوم بتشريحها لاحقا (في اليسار) |
فإذا كان سبب التهاب الدماغ فعلا ڤيروسا مخاطانيا (نظير المخاطي)، فإن <كِت> على يقين بأن انتقاله لا يتم بوساطة الحشرات، ومن ثم فإن التضبيب (الرش) بالمبيد الحشري والتلقيح ضد التهاب الدماغ الياباني لن يجديا نفعا. ولكن التجهيزات التي تسمح له بالتحقق من ذلك لم تكن متوافرة، وكان عامل الزمن حاسما مع استمرار توافد المرضى إلى المستشفى. لذا قرر <كِت> أن يقبل مساعدة كان عرضها عليه صديق قديم في المراكز CDC بفورت كولينز. ويقول <لام>: «عندما حاولنا إرسال الڤيروس إلى الولايات المتحدة، فإن شركة بعد أخرى رفضت طلبنا.» ولكن في اليوم التالي لاكتشافه أن الأمر يتعلق بڤيروس جديد، رزم <بِنگ> بحذر شديد المواد المُعْداة (المخموجة) من الدم والسائل النخاعي وقطع من دماغ إنسان في كبسولة (محفظة) معدنية لا تسمح بنفاذ الهواء ووضعها في ثلج جاف واتجه إلى المطار.
وبعد انقضاء اثنتين وسبعين ساعة، وبتوجيه من <بِنگ>، حصل علماء المراكز CDC على النتائج نفسها، ولكنهم أخفقوا في تعرف هوية (نوع) الڤيروس. ويقول <كِت>: «لقد توقعنا ذلك، ولذا أرسلنا عينات إلى المقر الرئيسي لمراكز CDC في أطلنطا». وبعد رحلة طيران أخرى طويلة ومتعبة، وصل <بِنگ> إلى أطلنطا، ليُبلَّغ فورا بأن لدى اختصاصيي الڤيروسات هناك بعض الأنباء المقلقة؛ إذ إن الڤيروس الذي أسماه <كِت> و<بِنگ> بڤيروس نيپاه Nipah، أي باسم القرية التي يقطن فيها الشخص الذي استُفردت منه العينة ونمِّيت، كان ڤيروسا جديدا تماما على الطب. ولكنه كان يتشارك في نحو 82 في المئة من تسلسل الدنا DNA الخاص به مع ڤيروس معروف باسم هندرا Hendra كان قد قتل أربعة عشر حصانا من خيول السباق، وكذلك مدربها، عام 19944 في كوينزلاند بأستراليا. وينتشر ڤيروس هندرا بوساطة خفافيش الفاكهة. ولقد اتفق أن خفافيش الفاكهة تعيش في جميع أصقاع ماليزيا تقريبا، ولا يعرف عنها أن طيرانها يبقى محصورا ضمن الحدود الدولية الماليزية.
بعث <B. ماهي> [رئيس قسم الأمراض الڤيروسية في المراكز CDC] إلى <كِت> رسالة بالبريد الإلكتروني يبلِّغه فيها النبأ ويعرض عليه إرسال فريق عمل من عشرة خبراء، منهم طبيبان بيطريان أستراليان، للمساعدة على إجراء التحريات. ويتذكر <كِت> قائلا: «لقد حملت الرسالة إلى المدير العام في وزارة الصحة، فقبِل العرض فورا.»
ويذكر <P. تان> [الذي كان يساعد في إدارة وحدة العناية المركزة (المشددة) في المستشفى]: «بحلول الأسبوع الثاني من الشهر3/1999، امتلأت قاعات المستشفى بمرضى التهاب الدماغ، كان التدفق مستمرا، بمعدل مريض واحد في المتوسط يوميا. إن هذا يعني أن هناك مستودعا (مصدرا) كبيرا للمرض، ولكن لم يكن بوسعنا تصور مبلغ ضخامته. وكان توافد المرضى يتجاوز يوميا أسوأ توقعاتنا».
كان معدل الوفيات عاليا جدا؛ فكنت ترى ابنًا يموت في الصباح ويموت والده ظهرا.
وبتزايد اعتلال مرضى التهاب الدماغ وبتضخم أعدادهم، كافح <تان> أكثر فأكثر للحصول على أعداد أكبر من أجهزة التنفس الصناعي والممرضات، وتم تأجيل جميع العمليات الجراحية غير العاجلة. «في ذروة المرض، كنا نعمل في ظروف قريبة جدا من أدنى معايير الرعاية الطبية»، اعترف <تان> بهذا بنبرة إنكليزية خفيضة وبشفتين مزموتين بإحكام فوق رباط عنق (پاپيون) أنيق. ولأن عائلات عديدة هجرت منازلها، فإن أفرادها زحموا ممرات المستشفى وانهارت المعنويات. ويوضح <تان>: «كان معدل الوفيات عاليا جدا؛ أحيانا ثلاث وفيات يوميا. يمكن أن ترى ابنا يموت في السابعة صباحا، في حين يموت والده ظهرا. كنا نتعامل بوضوح مع شيء غامض مفزع جدا».
تجاوز التهديد الجوانب الطبية. كان الطلب على لحم الخنزير (الذي لا يكاد يقبل عليه سوى الأقلية العرقية الصينية) قد هبط بمقدار تسعين في المئة، مما تسبب في انهيار إحدى الدعائم القليلة الثابتة لاقتصادٍ كان يترنح تحت وطأة أزمة مالية مر بها في العام 1998. وكما يقول <كِت>: «إذا أخذنا بعين الاعتبار المزارعين والجزارين وبائعي اللحوم وسائقي الشاحنات، فإن نحو عشرة في المئة من المواطنين الصينيين هناك قد تأثرت بالجائحة». ومع أن المجموعات الكبيرة من الهنود (الهندوسيين والمسلمين) الذين ترجع أصولهم إلى جزر الملايو في ماليزيا لم يدخلوا حتى الآن في نزاعات عرقية مع الأقلية الصينية، كما حدث في أندونيسيا المجاورة، فإن بعض المراقبين الغربيين كانوا يخشون أن تتسبب أنباء المرض المميت الذي تحمله وتنقله الخنازير في إذكاء نار عنف طائفي ديني.
كان العلماء يأملون أن تعرّف الڤيروس سيوحي بطرائق لإيقاف انتشاره. لقد أكدت المراكز CDC حدس <كِت> بأن المُمْرِض يرجع إلى فصيلة الڤيروسات المخاطانية Paramyxoviridae. ويقول <كِت>: «إن هذا يعني لنا أنه ڤيروس رناويRNA وأنه محاط بغلاف ليپيدي (دهني)، ولذا يسهل إبطال فعله بالحرارة أو بالمنظفات». وهكذا، فإن الشائعة سرت بأن لحم الخنزير المطهو طعام آمن، ومع ذلك فإن أحدا لم يرغب في شرائه. كما أن ترويج حقيقة أنه بالإمكان تطهير مزارع الخنازير برذاذ صابوني لم يمنع الجيش (ومعظم أفراده من المسلمين) من تدمير مزارع الخنازير بالجرافات ليحيلها إلى أنقاض.
بيد أن التعامل مع عدو في مقدرة الڤيروس المخاطاني كان مدعاة للقلق الشديد؛ إذ لا تؤثر فيه إلا قلة من الأدوية. وليس أمام اختصاصيي المكروبيولوجيا سوى اقتراح دواء واحد هو الريباڤيرين. يقول <تان>: «إنه باهظ الثمن، ولكن ليس لدينا غيره نعطيه لهؤلاء المرضى، لهذا جربناه».
إن العديد من الڤيروسات المخاطانية يسبب عداوى واعتلالات تنفسية، تنتشر على شكل رذاذ يجعلها شديدة الخطورة. ويقول <كِت> موضحا: «لقد رأينا أن الڤيروس يستثير في الخنزير سعالا رهيبا، أُطلق عليه اسم «سعال الميل»، لأنه يُسمع على بعد ميل، ويحتمل أن تكون تلك هي طريقة انتشار الڤيروس بين الخنازير. ولقد بيّنّا في ما يتعلق بالإنسان أن الڤيروس موجود في البول والغرغرة (غسول الحلق). ولكننا لا نعرف بالتحديد إلى أي مدى تكون هذه السوائل معدية. فالحالة تشبه الإصابة بڤيروس عوز المناعة البشري (HIV)، الذي يمكن أن يكون موجودا في اللعاب ولكن ليس بالكمية الكافية لنقل العدوى.»
وحتى عندما وصلت الجائحة ذروتها في أواخر الشهر 3/1999، فإن ڤيروس نيپاه لم يُصِب ولو طبيبا واحدا أو ممرضة واحدة. وهذه الحقيقة توحي بأنه ليس من السهل على الڤيروس الانتقال من إنسان إلى آخر. ولكن من باب الاحتياط، فإن المراكز CDC أدرجت هذا الڤيروس مؤقتا في مستوى الأمان البيولوجي (الحيوي) الرابع biosafety level 4، الذي يحوي مجموعة من المُمْرضات الأشد فتكا وإعداء، مثل ڤيروسات إيبولا وماربورگ ولاسا، وجميعها لا يمكن التعامل معها بأمان إلا في مختبرات «المنطقة الساخنة» hot zone. وتوجد في العالم قلة من هذه المختبرات، ولا يوجد أي منها بالقرب من ماليزيا.
ولإيقاف الجائحة وإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح، كان من المهم جدا الإجابة فورا عن الأسئلة الثلاثة التالية: ما الذي يفعله ڤيروس نيپاه في الجسم؟ وأيّ الحيوانات يمكن أن ينقله؟ وما عائله الطبيعي؟ وأي نوع ذلك الذي يترعرع فيه الڤيروس من دون أن يقتله؟
فعلى المستوى التشريحي الظاهري (العياني)، كان طيف الأذى الذي يلحقه ڤيروس نيپاه بجسم الإنسان يُصادَف في أجنحة التهاب الدماغ للمستشفى الجامعي، عندما يقوم أطباء الأعصاب بجولاتهم الصباحية. وبعد انقضاء أسبوعين على وصول الجائحة ذروتها، ظل الجناح مكتظا بستة عشر مريضا. وكثرة منهم لاتزال في حال من عدم التأثر أو التأثير vegetative state، كذلك المزارع الذي تدور مقلتاه من دون استجابة عندما يرفع <T .C. تان> [رئيس أطباء الأعصاب] الجفنين، ويصيح بالصينية: «انظر هنا، انظر هنا».
بقع سوداء مُبْهَمة على دماغ إحدى ضحايا ڤيروس نيپاه تستثير واحدا من أسئلة عديدة عن المرض لم يتوصل العلماء إلى إجابة عنها. |
ويسير <جِن> باتجاه رجل صيني آخر يرقد ساكنا في سريره، نائما على ما يبدو، مع أن جهاز مراقبة قلبه يسجل سرعة نبض قدرها 130، وكانت تقف بجانب الرجل امرأة شابة، وتربت على كتفيه. ويبادر <تان> قائلا: «مرحبا يا سيد تشينگ»، ثم يكرر: «مرحبا»، ولكن لا استجابة، إلا تكشيرة خفيفة عندما يضرب أحد الأطباء المناوبين ركبةَ الرجل ضربا خفيفا بمطرقة مطاطية. تقبض المرأة بشدة يديها المغطاتين بقفاز مطاطي، وتنظر إلى الطبيب والخوف يملأ عينيها، ولكن الطبيب ومساعديه ينتقلون إلى السرير التالي.
ويعقب <جن> لدى اقترابنا من مريضة في أواسط العمر: «هذه تمنحني أملا كبيرا. فمنذ أسبوعين كانت في غيبوبة وتعاني رعاشا tremors ونوبات صرعseizures. أما الآن فبوسعها التحدث قليلا، وتكاد تمشي من دون مساعدة». ولكن بعد أن أمسك <تان> بذراعها، وسار معها خطوات قليلة عرجاء، توقفت وترنحت، ثم تدلت أجفانها وانغلقت. ولا يستطيع <جن> أن يتنبأ بالمدى الذي ستصل إليه في شفائها.
كما لم يكن بوسع أحدنا التكهن في هذه المرحلة بما إذا كان أولئك الذين يصارعون لاسترداد عافيتهم سيحققون ذلك. وكان يستلقي في السرير التالي فلاح في الحادية والثلاثين من بوكيت پيلاندوك، يختلج بهدوء والممرّضات يعتنين به. ويذكر <جن>: «لقد عالجنا هذا الرجل بالريباڤيرين، وتحسنت حالته بعد أسبوع إلى درجة تسمح له بالعودة إلى منزله. ولكنه عاد بعد ذلك بأعراض جديدة.» كان يتماثل للشفاء من هذه الأعراض أيضا عندما انفجر وعاء دموي في دماغه، واصطبغت وسادته وملاءاته بالأحمر والبني. ويهمس الطبيب المناوب وهو يخفض رأسه «لا بد من توخي الحذر الشديد عند التكهن بما ستؤول إليه حالته».
هذا النكس يقلق <جن>، لأن مدرب خيولٍ أستراليًّا ثانيا أصيب عام 1994 بڤيروس الهِنْدرا، وتحسنت حالته مدة 13 شهرا، ولكنه أُصيب بعد ذلك بالتهاب الدماغ وتوفي خلال أيام. ويحتمل أن يظل المئات الذين شفوا من العدوى بڤيروس نيپاه في حالة خطر. وكما يقول <جن>: «إن هؤلاء يحتاجون عدة سنوات لمتابعة حالاتهم».
وفي أحد الطوابق التي تقع تحت جناح المرضى، كان <K .W. ثونگ> [اختصاصي المَرَضِيّات العصبية] يرتدي قناعا ومئزرا (مريلة)، ويسير باتجاه دلاء ملونة بألوان ناصعة، تصطف على رفوف ثُبتت بجدار غرفة المشرحة. ويقول وهو يخرج قلبا من دلو أصفر: «يجب أن نتأكد من أننا لاحظنا جميع التغيرات المحتملة التي يسببها المرض». وبعد تشريحه طبقة سميكة من الدهن، يقطع شريحة رقيقة من الأبهر ويناولها إلى مساعده لترقيمها. وكانت رائحة الفورمالين (الفورمول) تخز أنوفنا.
يقول <ثونگ> «لا توجد إلا فرصة عشوائية ضئيلة للعثور في مقطع ما على ظاهرة مهمة، ولذا علينا أن نتفحص عددا كبيرا جدا من الشرائح المجهرية». ثم ينتقل إلى دراسة مَعِدة إحدى ضحايا ڤيروس نيپاه. لقد حُفظت أعضاء أخذت مما يزيد على عشر من الضحايا للدراسة. ويتابع <ثونگ>: «لا يوجد شيء مثير هنا. إننا نمضي ساعات وساعات نتفحص العينات بالمجهر ثم نعيد فحصها. إنه عمل يبعث على الملل، كمعظم الأمور العلمية».
ومع هذا، فإن الأمر لا يخلو من اكتشافات صغيرة عديدة. لقد أوضحت شرائح <ثونگ> أن ڤيروس نيپاه يهاجم الخلايا التي تبطن الأوعية الدموية في الأعضاء كافة تقريبا، من الدماغ إلى الرئتين فالكليتين. وهذه هي إحدى الاستراتيجيات التي يعتمدها الڤيروس في إضعاف ضحيته، فهو يلهب الدماغ ويفسد زاده الدموي. ولكن بوسع الڤيروس أن يعدي (يخمج) العصبونات أيضا إعداء مباشرا، فيحشوها بجسيماته الڤيروسية حتى تنفجر. ومما لا ريب فيه أن هنالك أمورا كثيرة تنتظر الاكتشاف.
«تعال وانظر إلى هذا»، قال <ثونگ> حالما انتهى من مقاطعه. ويخرج من دلو أزرق جسمًا ضخما معلقا بخيط ومغموسا في الفورمالين. كان الدماغ في يديه ملطخا ببقع وبخطوط بنية. ويقول ملاحظا: «يوجد الكثير من الأنزفة التي لا شكل لها». ولكن ما أثار انتباه <ثونگ> كان شيئا آخر. لقد وضع إصبعه وهو يرتدي القفاز على بقع سوداء عديدة، إنها دوائر صغيرة الحجم كرأس الدبوس، تلطخ أجزاء عديدة من سطح الدماغ. «لم أر شيئا كهذه من قبل».
ويقول <G. پول> [إخصائي المرضيات الشرعية بالمستشفى] متأملا «إنها أكبر من أن تكون نتيجة قصور failure الشُّعيرات، ترى ما سبب وجودها، وهل يوجد منها عدد أكبر في الداخل؟ علينا أن نأخذ صورا لها».
ويومئ <ثونگ> برأسه موافقا، «لو كان بإمكاننا أن نُشرِّح جثة ثانية الآن، سيكون بوسعنا دراسة أوعية الدماغ الدموية وعصبوناته بالمجهر الإلكتروني. وسيكون رائعا جدا مشاهدة الڤيروس فيها وهو يحدث أذيته. إننا لانزال نجهل الزمن الذي يستمر فيه الڤيروس عَيوشا viable بعد موت المريض».
في اليوم التالي كان <بِنگ> يعمل في مختبر الأخطار البيولوجية، في تحضير عينات المصل للاختبار. ومع أنه لا يوجد حتى الآن اختبار نوعي (محدد) للدم يكشف عن عدوى ڤيروس نيپاه، فإن مسح المصل للوقوف على أضداد ڤيروس هِنْدرا يفي بالغرض بما فيه الكفاية. ولكن مازال هذا الاختبار لا ينبئ <بِنگ> بما يرغب في معرفته فعلا: وهو ما إذا كان الجهاز المناعي يصارع ڤيروس نيپاه أيضا بخلاياه التائية وهي أمضى أسلحته، وما إذا كان بوسع هذا الجهاز تخليص الجسم كليا من العدوى، أو أنه وكما هي الحال في الڤيروس HIV لا يفعل سوى أن يبقيه في هدأة مؤقتة.
ويُقرع جرس باب المختبر.. إنه <ثونگ>. ينادي <بِنگ> ويتحدث إليه بسرعة. «لدينا إحدى حالات التهاب الدماغ، وتشريحها ممكن جدا. لقد توفي للتو أحد المرضى ـ الفلاح الذي يبلغ الحادية والثلاثين. أرى أنه من المهم جدا الحصول على الڤيروس حيا من الدماغ إذا كان ذلك ممكنا. ولكني لا أرغب في تعريض نفسي، فكيف يمكنني أن أحضر لك الدماغ؟». ها هي الفرصة التي كان ينتظرها كل منهما: إنها المصادفة التي تمكن من معاينة الدماغ وفحصه في إثر قيام الجهاز المناعي للمريض بمنازلة العدو. ومع أن الجهاز ربح معركة، فإنه خسر الحرب فيما بعد.
إن البيانات التي وفرها تشريح الجثة تُعدّ مجرد خطوة إضافية في الطريق إلى حل اللغز. فبالكثير من حسن الحظ، وربما بعمل جاد يدوم سنوات، قد يتمكن <كِت> وزملاؤه في أنحاء العالم كافة من إيجاد لقاح لهذا الالتهاب الدماغي الماليزي الجديد. وفي غضون ذلك، سيظل الأطباء البيطريون يبحثون عن العائل الطبيعي لڤيروس نيپاه، ومعرفة مدى الرقعة التي انتشر فيها.
وربما أدى الحل الذي لجأت إليه الحكومة الماليزية (الذي تمثل بإرسال وحدات من الجيش تستعمل عتاد الحرب الكيميائية لتقتل الخنازير في دائرة قطرها خمسة كيلومترات تحيط بالمزرعة المصابة) إلى إدخال الرعب في قلوب بعض الناس. وقد عمد المزارعون المجاورون لبوكيت پيلاندوك (الذين لم يشاؤوا انتظار وصول الجيش، أو تملكهم الخوف من أن تدمر مبانيهم كليا) إلى حَفر حُفر كبيرة جمعوا فيها خنازيرهم، ودفنوها حية، في حين أن بعضهم الآخر ضرب الخنازير بالهراوات الثقيلة حتى الموت، وكان هذا الإجراء فعالا. وفي خلال ثلاثة أسابيع فقط، تم القضاء على
000 900 رأس من الخنازير، وبدأت حالات التهاب الدماغ تتناقص.
ومع هذا فبعد عدة أسابيع ظلت منازل سونگيه نيپاه وبوكيت پيلاندوك مغلقة. وظلت الملابس معلقة على حبال الغسيل في بعضها، والدمى مبعثرة في ساحاتها. واحتلت بعض الكلاب الضالة الشوارع، ولكنها كانت تُعدم فور مشاهدتها. وظل الطلب على لحم الخنزير أقل بثمانين في المئة عما كان عليه من قبل. وتشير التقارير إلى أن رئيس اتحاد مربي المواشي تنبأ بأن هذه الصناعة التي كانت تدر سنويا 1.5 بليون رينگيت ringgit ماليزي (3955 مليون دولار أمريكي) تحتاج إلى أكثر من خمس سنوات كي تتعافى.
وقد يبدو أن هذا التقدير متفائل. ففي الشهر 5/1999، أظهر برنامج اختبار غطى ولايات الدولة كافة أن ڤيروس نيپاه انتشر في مزارع للخنازير بولايات أخرى، مثل سيلانگور وجوهور ومالاكا وپينَنْگ، أي إنه انتشر عمليا في النصف الغربي كله من البلاد. وأعلن مؤخرا أحد الخبراء البيطريين الأستراليين أن ربعَ أنواعٍ معينة من خفافيش الفاكهة التي جمعت من بعض المناطق يحمل أضدادا للڤيروس. ولكن لا أحد يعرف حتى الآن ما إذا كانت الخفافيش هي العائل الطبيعي للڤيروس. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يعني هذا بالنسبة إلى تربية الخنازير في جنوب شرق آسيا؟
يقول <كِتْ>: «إن كل ما نأمله هو أن يكون المرض دوريا، وأن تفصل سنوات عديدة الدورة عن الأخرى»، أي زمن يكفي لتطوير لقاح أو لإيجاد معالجة فعالة. ويضيف <P. تان> قائلا «دعونا نرجو، ونحن نتلمس الأمل، ألا تكون هناك ڤيروسات أشد إيذاء من ڤيروس نيپاه توشك أن تفلت من نظامها البيئي وتجتاح بيئتنا». ويستطرد قائلا: «إن هذه التجربة ستجعلنا في موقف جيد إذا ما واجهنا جائحة جديدة. كما أنها علمتنا أن الأزمة تؤدي إلى توحيد الغاية. كان الناس مستعدين للتعامل مع الجائحة كأولوية تأتي قبل مصالحهم الشخصية».
ومع هذا، فإن جهود فريق علميّ عالي التدريب وحزم حكومة تمتلك إمكانات كبيرة ورغبة صادقة في استعمال هذه الإمكانات، قد بددتها مقدرة العدو الجديد على التملص. ويقول <تان> محذرا: «لا يحق لنا أن نتباهى كثيرا. فقد يكون الڤيروس في المرة القادمة أشد فتكا.»
Scientific American, August 1999
(*) Trailing a Virus