أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاءفلك وعلم الكونيات

البحث عن الحياة في منظومات شمسية أخرى

البحث عن الحياة في منظومات شمسية أخرى(*)

مازالت الحياة ظاهرة غير معروفة إلا على الأرض،

وقد يؤدي ابتكار مقراب فضائي جديد إلى تبديل هذه المقولة

ويقيم الدليل على وجود حياة في كواكب تدور حول شموس أخرى.

<R. أنجل> ـ <J .N. وولف>

 

يمكن اليوم توسيع البحث عن الحياة خارج نطاق الأرض ليشمل كواكب واقعة خارج منظومتنا الشمسية. وبعد سنين طويلة من البحث والتحري استطاع الفلكيون إقامة الدليل على وجود كواكب عملاقة تدور حول نجوم بعيدة تشبه شمسنا. وربما تكون هناك كواكب أصغر، تدور حول تلك النجوم أو حول نجوم أخرى غيرها، قد طورت كائنات حية فيها. ومع أن البحث عن الحياة خارج الأرض قد يبدو مهمة شاقة؛ فإن بعثة «اكتشاف الكواكب الأرضية(1)»، التي تخطط إدارة الفضاء والطيران الأمريكية (ناسا) للبدء بها في عام 2005، تهدف إلى تحديد مواقع هذه الكواكب، والبحث عن دليل على وجود أي شكل من أشكال الحياة فيها مشابه للأشكال البدائية الموجودة على الأرض.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N7_8_H03_001231.jpg

اقترح أحد مؤلفي هذه المقالة نصب منظومة مقرابية فضائية space-based telescope system يمكنها البحث عن كواكب يُرجح وجود حياة عليها. وهذه المنظومة هي ضرب من مقاييس التداخل interferometer يمكن تجميعها في المحطة الفضائية الدولية المقترحة (أسفل اليمين). ومن ثمّ، فإن الدفع الكهربائي سيضع هذه المنظومة، التي يتراوح طولها ما بين 50 و75 مترا، على مدار حول الشمس، كمدار كوكب المشتري تقريبا. وتنصبُّ خطط «ناسا» على مثل هذه البعثة لدراسة المنظومات الكوكبية المجاورة.

 

إن أقوى وأضخم مقراب telescope موجود الآن في الفضاء هو المقراب الفضائي هَبْل Hubble الذي يستطيع فقط أن يظهر الجبال على سطح المريخ كما تبدو لو أنها تبعد 30 كيلومترا عن عين راصدها. ولكي نحصل على صور ذات درجة من الوضوح تكفي لإظهار المعالم الجيولوجية للكواكب التي تدور حول نجوم أخرى لا بد من الاستعانة بشبكة من المقاريب الفضائية تغطي مساحة تعادل مساحة الولايات المتحدة الأمريكية. إن الصور المأخوذة للأرض لا تظهر وجود الحياة فيها ما لم تكن مأخوذة بدرجة عالية جدا من الميز resolution. ويمكن الحصول على صور مفصلة من سفينة فضائية غير مأهولة ترسل إلى منظومات شمسية أخرى، غير أن المسافة الهائلة التي تفصل الأرض عن أي كوكب آخر تشكل العقبة الكبرى التي تقف في وجه نجاح مثل هذا المشروع.

 

ومع ذلك فإن الحصول على الصور ليس الاتجاه الأفضل في دراسة الكواكب البعيدة. فالمطيافية spectroscopy، وهي تقنية يستخدمها الفلكيون للحصول على معلومات تتعلق بالنجوم، قادرة أيضا على كشف الكثير من أسرار الكواكب. ففي المطيافية يحلل الضوء الصادر عن جُرم سماوي للحصول على علامات مميزة فريدة تساعد الباحثين على تجميع نتف المعلومات للوصول إلى صفات مميزة مثل درجة الجرم السماوي وضغطه الجوي وتكوينه الكيميائي.

 

تدل السجلات الأحفورية (المستحاثية) fossil للأرض على أنه خلال البليون الأول من السنين الذي انقضى على تشكلها، وحالما توقف القصف الشديد بالكويكبات السيارة asteroids، تطورت كائنات حية بدائية مثل البكتيريا والطحالب (الأشنيات) algae وعمت جميع أرجاء الأرض. وقد مثلت هذه الكائنات الحية، الحياة على الأرض بكاملها في البليونين التاليين من السنين. وهكذا قد تكون الحياة، إذا وجدت على كواكب أخرى، في مثل ذلك الشكل غير القادر على الاتصال.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N7_8_H03_001232.jpg

صورة لكواكب بعيدة، أعدت بمحاكاة إشارات مقياس التداخل، وتبين إلى حد معقول ما يتوقع أن يراه الفلكيون بوساطة مقراب فضائي. وتُظهر الدراسة منظومة على بعد 30 سنة ضوئية تشمل أربعة كواكب لها إنارة تكافئ إنارة الأرض (يظهر كل كوكب مرتين مرصودا عبر النجم). ويتوقع المؤلفان أنه بمثل هذه الحساسية سيتمكن المقراب الفضائي بسهولة من تفحص الكوكب المكتشف في عام 1996 والذي يدور حول أورسي ماجوريس 47.

 

إن طحالب الأرض الزرقاء الخضراء المتواضعة غير قادرة على تشغيل أجهزة الإرسال الراديوية؛ ولكنها مُهندِسة كيميائية رفيعة المستوى، يشحذها التطور على العمل على نطاق واسع. وقد أخذت الطحالب بعد أن اتسع انتشارها تمد الجو بكميات كبيرة من الأكسجين. وتعد عملية إنتاج الأكسجين التي تستمد طاقتها من أشعة الشمس، أمرًا أساسيا للحياة ذات الأساس الكربوني. فأبسط الكائنات الحية تتغذى بالماء والنتروجين وثنائي أكسيد الكربون وتطرح الأكسجين في الجو كنفاية. والأكسجين هو غاز نشيط كيميائيا، ولولا قيام الطحالب ثم النباتات في مرحلة لاحقة من تطور الأرض، بتعويضه باستمرار لهبط تركيزه إلى قيمة صغرى. وهكذا يعد وجود كميات كبيرة من الأكسجين في جو أحد الكواكب مشعرا جيدا بوجود شكل من أشكال الحياة ذات الأساس الكربوني على سطحه.

 

وفي عام 1993، سجل المجس probe الفضائي گاليليو الطيف المُمَيِّز للأكسجين في منطقة الأحمر من الضوء المرئي الصادر عن الأرض. إن هذه المعلومة تبين بوضوح أن الدليل على وجود الحياة على الأرض كان يبث إلى الفضاء منذ بليون سنة، أي منذ ازدهار الحياة النباتية والحيوانية على الأرض. إن ما يقرر بشكل حاسم حدوث العمليات الحياتية على الأرض هو ما يظهره طيف الكوكب من وجود للأكسجين والميثان في آن واحد. ولا يكون الميثان مستقرا بوجود الأكسجين إلا أنه مركب تقوم الحياة بتعويضه باستمرار.

 

كيف نقوم بالتحري عن الحياة البعيدة؟ يتمسك بعض العلماء بالقول إنه مادام احتمال وجود حياة في مكان آخر غير الأرض ضعيفا، لذلك فإن البرهان على وجودها يتطلب حجة مقنعة. ومع ذلك، يبدو من المحتمل أن تكون الحياة على الكواكب الأخرى ذات أساس كيميائي كربوني مشابه لما هو موجود على أرضنا. ويعد الكربون مناسبا بصورة خاصة للقيام بدور لبنة بناء الحياة، وهو متوافر بكثرة في أرجاء الكون. كما لا يعرف أي عنصر آخر يستطيع مثله أن يشكل عددا لا يحصى من الجزيئات المعقدة الثابتة الضرورية للحياة في الشكل الذي نعرفه. ونعتقد أن كوكبا يشبه الأرض ويحتوي مثله على الماء والأكسجين (بنفس وضوح الأوزون) يمتلك دليلا قويا على احتمال وجود الحياة عليه. وإذا ما عُثر على مثل هذا الكوكب، فإن التحريات اللاحقة يمكنها أن تدعم الحالة بالبحث عن الأطياف الأصعب تحديدا والخاصة بالميثان.

 

ويمكن، طبعا، أن يوجد على الكوكب بعض مصادر الأكسجين غير البيولوجية من دون أن توجد الحياة عليه، لذا يجب دائما أن نأخذ مثل هذا الاحتمال بالحسبان. إضافة إلى ذلك، فقد تكون الحياة قائمة على أساس كيميائي من نوع آخر لا ينتج الأكسجين، ومع ذلك يجب أن نكون قادرين حتى في مثل هذه الحالات على تحري أي فعاليات حيوية ناجمة عن المخلفات الكيميائية.

 

البحث عن أرض أخرى

إن الكواكب المشابهة للأرض في الحجم والبعد عن شموسها ـ والمحتمل احتواؤها على محيطات من المياه ـ تمثل المواطن الأكثر ملاءمة للحياة ذات الأساس الكربوني في المنظومات الشمسية الأخرى. فالماء يوفر المذيب اللازم لحدوث تفاعلات الحياة البيوكيميائية (الكيمياحيوية)، وهو المصدر الذي يمدنا بالهدروجين الضروري للحياة. وعندما يكون لنجمٍ كواكب تدور حوله في مدارات تختلف في بعدها عنه، كما هي الحال في منظومتنا الشمسية، فإن واحدا فقط من هذه الكواكب يحتمل أن يدور في فلك يبعد مسافة مناسبة للاحتفاظ بالماء السائل على سطحه، حتى ولو كان النجم يسطع بنور أشد من نور الشمس أو أخف منه.

 

بناء مقياس تداخل على الأرض

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N7_8_H03_001233.jpg

مرآة عملاقة ستركب في المقراب الكبير ذي العينيتين المُقام في جامعة أريزونا.

تقوم حاليا مجموعة من الفلكيين الأمريكيين والإيطاليين والألمان ببناء مقياس تداخل على جبل گراهام في أريزونا، ولقد صنع التقنيون في مختبر المرايا الواقع في جامعة أريزونا، حيث يعمل أحدنا (أنجل)، إحدى المرآتين لهذا المقياس. ويبلغ قطر هذه المرآة 8.4 متر (في اليمين)، وتعد أكبر ما صُنع في العالم حتى الآن. وعند تركيب هاتين المرآتين جنبا إلى جنب ضمن مقراب كبير ذي عينِيتيْن binocular فإنهما ستقومان بدور مقياس تداخل بريسويل، وذلك من حيث قياس الحرارة المنتشرة حول النجوم القريبة التي يحتمل أن يكون لها كواكب تشبه الأرض.

وتقوم المرايا الثانوية القابلة للتعديل بتصحيح ما يتعلق بعدم الوضوح الناجم عن الجو atmospheric blurring. وللمنظومة المقترحة حساسية تكفي لتحري الكواكب العملاقة وسحب الغبار حول النجوم، ولكنها لا تكفي لرؤية كوكب شبيه بالأرض. وتصميم مقياس تداخل فضائي متفوق يعتمد على قياسات حرجة للغبار. فعندما تكون سحب الغبار حول النجوم الأخرى أكثف بكثير من سحابة الغبار حول الشمس يصبح وضع جهاز كاشف الكواكب الأرضية بعيدا عن الشمس (لتجنب الحرارة الموضعية الناجمة عن الغبار ما بين الكواكب) غير ذي جدوى. وتستدعي الحاجة عندئذ اللجوء إلى استعمال مقياس تداخل ذي مرايا أكبر وأقرب إلى الأرض.

 

وكذلك فالحرارة على كوكب لا تعني إلا القليل إذا لم يكن الجذب التثاقلي للكوكب قادرا على الاحتفاظ بالجو وبالمحيطات. فلو كان البعد عن النجم هو العامل الوحيد الذي يجب أن يؤخذ بالحسبان لوجد الماء السائل على قمر الأرض. ولكن الثقالة تتعلق بحجم الجسم وكثافته، ولما كان القمر أصغر من الأرض وأقل كثافة منها فإن الجذب الذي تولده الثقالة على القمر أضعف بكثير، لذا فأي ماء أو أي طبقة من جو قد تتطور عليه أو حوله، ستفقد بسرعة وتضيع في الفضاء.

 

من الواضح أننا بحاجة إلى تقنية لمعرفة صفات محددة مثل نوع الكيماويات التي يمكن وجودها في أحد الكواكب. لقد ذكرنا فيما سبق أن الإشعاع المرئي الصادر عن كوكب يمكن أن يثبت وجود بعض الجزيئات، وبخاصة الأكسجين الذي هو إحدى دعامات الحياة. ولكنّ تعرّف إشارات الأكسجين الضعيفة في الضوء المنعكس عن كوكب صغير يدور حول نجم قريب إلى حد ما، أمر صعب للغاية.

 

قد يمكن لنسخة أكبر من مقراب هَبْل الفضائي، مزودة بشكل خاص بكل ما يتطلبه التصحيح البصري الدقيق، أن تعثر على الكواكب الشبيهة بالأرض والتي تدور حول النجوم الثلاثة الأقرب إلينا والمشابهة لشمسنا، كما يمكنها أن تبحث مطيافيا عن دليل على وجود الأكسجين في تلك الكواكب. وفي واقع الأمر نحن بحاجة إلى طريقة جيدة لأخذ عينات من عشرات النجوم.

 

وللخروج من هذا المأزق، بيَّنا في عام 1986، كما فعل <A. تشينك> [الذي يعمل حاليا في جامعة هونگ كونگ] أن الأطوال الموجية الموافقة لمنتصف منطقة تحت الأحمر، تعد المنطقة الطيفية الفضلى لاكتشاف الكواكب وللبحث عن الحياة خارج الأرض. يمتلك هذا النمط من الإشعاع ـ وهو يمثل في واقع الأمر الحرارة التي يشعها الكوكب ـ طول موجة تفوق بمقدار 10 إلى 20 مرة طول موجة الضوء المرئي. وهكذا يصدر الكوكب عند هذه الأطوال الموجية عددا من الفوتونات ـ جسيمات الضوء ـ أكبر بأربعين مرة مما يصدره عند أطوال موجية أقصر. لذا فإن تألق نجم قريب قد يفوق تألق كوكب يدور حوله بعشرة ملايين مرة «فقط»، فالموجات الراديوية هي أفضل بألف مرة من تلك في حالة الضوء الأحمر المرئي.

 

يضاف إلى ما سبق أن ثمة ثلاثة مُركَّبات رئيسية يتوقع وجودها في الكواكب المأهولة ـ وهي الأوزون (أحد أشكال الأكسجين ويوجد عادة في أعالي الجو) وثنائي أكسيد الكربون والماء ـ وتترك هذه المركبات علامات واضحة في الطيف تحت الأحمر للكوكب. ونجد هنا مرة أخرى أن منظومتنا الشمسية تقدم دعما واعدا لهذه التقنية: فقد بينت دراسة الأطياف تحت الأحمر للأشعة الصادرة عن الكواكب المحلية أن الأرض فقط هي التي توفر علامات من هذا القبيل على وجود الحياة عليها. ومع أن للأرض والمريخ والزهرة أجواء تحتوي على ثنائي أكسيد الكربون، فإن الأرض وحدها هي التي أظهرت علامات تدل على وجود كميات وفيرة من الأوزون والماء عليها. ولو أتيحت لنا وسيلة حساسة جدا لتمييز الأكسجين لوجدنا أن الأوزون كان سيظهر في جو الأرض قبل بليون سنة من اكتمال السمات الطيفية تحت الحمراء للأكسجين إلى الشكل الذي يجعلها ممكنة الكشف.

 

ما نوع المقراب الذي نحتاج إليه لتعيين الكواكب الشبيهة بالأرض والتقاط إصداراتها تحت الحمراء. إن بعض المقاريب الأرضية المعروفة اليوم تستطيع تمييز الأشعة تحت الحمراء القوية الصادرة عن النجوم، إلا أن حرارة المقراب المستعمل، إضافة إلى القدرة الامتصاصية لجو الأرض ستطمس تماما أي دليل على وجود كوكب. وهكذا يتضح أن علينا نقل المقراب إلى الفضاء.

 

حتى ولو قمنا بذلك، فإنه لتمييز الإشعاع الصادر عن الكوكب من الإشعاع الصادر عن النجم الذي يتبع له ذلك الكوكب، يلزم في حال الاستعانة بمقراب تقليدي أن يكون أكبر من أي مقراب أرضي أو مداري بُني حتى الآن. ولما كان من غير الممكن تبئير focus الضوء في بقعة أصغر من طول موجته، فلا يمكن حتى لمقراب مهما بلغت درجة كماله أن يشكل صورا مثالية. وفي أحسن الأحوال، سيتركز الضوء في قلب غير واضح تحيط به هالة باهتة. أما إذا كانت الهالة التي تحيط بالنجم تمتد لتشمل مدار الكوكب، فلن نتمكن عندئذ من رؤية جسم الكوكب الموجود ضمنها والأقل إنارة منها بكثير جدا. ويمكن من حيث المبدأ، جعل صورة النجم بالوضوح المطلوب إذا كانت مرآة المقراب والصورة الناتجة كبيرتين جدا.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N7_8_H03_001234.jpg

إن التخلص من ضوء نجم يُمكِّن الفلكيين من رؤية الكواكب المعتمة التي يحجبها عادة إشعاعه. يستطيع المقرابان الموجهان نحو النجم نفسه (في الأعلى) حذف معظم الضوء الصادر عنه. يقوم المقراب الأول بقلب الضوء، حيث يجعل القمم وهادا والوهاد قمما (في اليمين). وعندما يجمع ضوء النجم المقلوب مع الضوء غير المقلوب الوارد من المقراب الآخر (في اليسار) تتداخل الموجات الضوئية مع بعضها، وعندئذ تختفي صورة النجم (في الوسط).

 

ولما كان من الممكن التنبؤ بأداء المقراب، لذلك نعلم مسبقا نوعية الصورة التي نتوقع الحصول عليها. فمثلا من أجل تسجيل الطيف تحت الأحمر لكوكب شبيه بالأرض يدور حول نجم يبعد مقدار 30 سنة ضوئية، نحتاج إلى مقراب فضائي هائل يقارب قطره 60 مترا. لقد خطونا حديثا في اتجاه الوصول إلى تقانة لمثل هذه المقاريب إلاّ أن تحقيق 60 مترا أمر صعب المنال.

 

إعادة النظر في المقراب

لقد عرفنا أن عملية تطوير مقراب ذي حجم مقبول لتعيين مواقع الكواكب الصغيرة، التي قد تكون مأهولة، تتطلب اللجوء إلى بعض الحيل. وقبل ثلاث وعشرين سنة اقترح <R. بريسويلّ> [من جامعة ستانفورد] استراتيجية جيدة عندما بيَّن كيف يمكن لمقرابين صغيرين مجتمعين البحث عن كواكب كبيرة باردة مثل المشتري. يتألف الجهاز الذي اقترحه بريسويل من مقرابين قطر كل منهما متر واحد ويبعد أحدهما عن الآخر 20 مترا. يعطي كل مقراب وحده صورا غير واضحة، لكنه استطاع ترتيب المقرابين بحيث يحققان معا إمكانية مراقبة عوالم نائية.

 

لقد تصور بريسويل أنه لو سلط كلا المقرابين على النجم نفسه، فسيتمكن من قلب الموجات الضوئية الخارجية من أحد المقرابين (محولا القمم peaks إلى وهادtroughs)، ومن ثم دمج الضوء المقلوب في الضوء الصادر عن المقراب الآخر. ولما كانت الصورتان تتراكبان بدقة تامة فسيختفي ضوء النجم ـ الضوء الصادر عن قلبه (لبّه) والهالة المحيطة به. أما إشارة الكوكب التي تنبعث من اتجاه مختلف بعض الاختلاف فتبقى من دون تغيير. لقد أطلق العلماء على مثل هذا النوع من الأجهزة اسم مقياس التداخل interferometer؛ لأنه يكشف تفاصيل المصدر الضوئي بوساطة تداخل الموجات الضوئية.

 

وستكون للمقراب الذي تصوَّره بريسويل حساسية تكفي لتعيين مواقع كواكب لها حجم المشتري، لكن الكواكب المماثلة في الحجم للأرض تبقى باهتة بحيث لا يمكن رصدها. ولكي نستطيع رؤية كواكب لها حجم الأرض لا بد لمقياس التداخل من حذف ضوء النجم بفعالية أتم وأكمل. وقد بين أحدنا (أنجل) في عام 1990 أنه يمكن الوصول إلى الدرجة المطلوبة من الدقة إذا ما تألف الجهاز من أكثر من مقرابين.

 

وهناك مشكلة أخرى ـ حتى ولو تمكنا من حذف ضوء النجم حذفا تاما ـ تنجم عن حرارة الخلفية background heat التي تشعها سحابة دقائق الغبار الخاصة بمنظومتنا الشمسية، وتدعى هذه الظاهرة عادة باسم الوهج البروجيzodiacal glow. وقد تبين لبريسويل أن هذا الوهج قد يطمس كليا إلى حد ما، الإشارة الصادرة عن كوكب ضخم، ناهيك عما يحصل في حال كوكب ذي حجم قريب من حجم الأرض. وبعد ذلك تقدم <A. ليجيه> Léger ومساعدوه في جامعة باريس بحل عملي يقترح وضع الجهاز في مدار حول الشمس على مسافة تعادل بُعْد مدار المشتري، حيث يكون الغبار باردا إلى درجة تجعل الإشعاع الحراري للخلفية مهملا. وقد بين ليجيه أن مقياس تداخل يتألف من مقرابين صغيرين يبلغ قطر كل منهما مترا واحدا وموضوع في مثل المدار السابق سيكون حساسا بدرجة كافية لرؤية كوكب في مثل حجم الأرض، إلاّ أن هذه الرؤية ستُحجب إذا كان للنجم المدروس سحابة غبار كثيفة خاصة به، وهذه المشكلة يمكن تقديرها بوساطة المراصد الأرضية [انظر ما هو مؤطر في الصفحة 20].

 

مقياس التداخل الفضائي

في عام 1995، اختارت (ناسا) ثلاث فرق للبحث في مختلف طرق اكتشاف الكواكب التي تدور حول النجوم الأخرى. وقمنا بتشكيل فريق دولي ضم بريسويل وليجيه وزميلته <M .J. ماريوتي> [من مرصد باريس] إضافة إلى نحو عشرين عالما ومهندسا. وكنا نحن الاثنان في جامعة أريزونا مسؤولين بصورة خاصة عن دراسة الإمكانية المحتملة لاتجاه جديد يتضمن استعمال مقياس تداخل ذي أربعة أزواج من المرايا مرتبة جميعها على استقامة واحدة.

 

ولما كان مقياس التداخل هذا يحذف ضوء النجم بصورة فعالة جدا، لذا يمكن جعل طوله نحو 15 مترا. ويحقق حجم هذه الآلة ميزة مهمة؛ فهو يسمح للفلكيين بإعادة تشكيل الصور الحقيقية للكواكب التي تدور حول النجوم، كما يسمح بمراقبة النجوم التي تقع ضمن مجال شاسع البعد من دون تصغير الآلة أو تكبيرها. ويمكن أن نوجه مقياس التداخل الفضائي الذي نتصوره نحو نجم مختلف كل يوم مع إمكانية العودة إلى المنظومات المهمة لإجراء مراقبات أشمل.

 

ويستطيع مقياس التداخل إذا ما وجه من نجم قريب نحو منظومتنا الشمسية أن يلتقط صور الزهرة والأرض والمريخ والمشتري وزحل. ويمكن تحليل البيانات لتعيين التكوين الكيميائي لجو كل كوكب. ويستطيع الجهاز أن يدرس بسهولة الكوكب المكتشف حديثا والذي يدور حول أورسي ماجوريس 47. والأهم من ذلك أن مقياس التداخل هذا يستطيع تمييز الكواكب الشبيهة بالأرض والتي من دونه تبقى خفية علينا، كما يستطيع أن يختبر احتمال وجود ثنائي أكسيد الكربون والماء والأوزون وربما الميثان أيضا، في أجواء جميع هذه الكواكب.

 

وبفضل المرايا الجديدة البالغة الخفة التي طورتها ناسا للجيل القادم من المقاريب الفضائية، فإن فكرة صنع مقياس تداخل فضائي مكون من مقاريب يبلغ قطر الواحد منها ستة أمتار، تبدو ممكنة التنفيذ. وإن مثل مقياس التداخل هذا لن يتأثر كثيرا بحرارة الخلفية وسيعمل بفعالية جديدة عند وضعه في مدار قريب من الأرض، إضافة إلى أنه سيتعامل بصورة أفضل مع الإصدارات القادمة من سحب الغبار الموجودة حول النجوم القريبة المرشحة للدراسة، إذا ما ثبت أن هذه السحب أكثف من السحب الواقعة حول الشمس.

 

إن بناء مقياس التداخل هذا إنجاز في غاية الأهمية. وربما يعد مشروعا دوليا، وهناك الكثير من التفاصيل التي لا بد من إيجاد الحلول لها. وقد طلبت ناسا إلى مصممي جهاز اكتشاف الكواكب الأرضية جعل كلفة بنائه وإطلاقه أقل من 500 مليون دولار. وقد أظهر تحليل اقتصادي أولي أن مثل هذه الكلفة المقدرة ليست بعيدة عن الواقع.

 

ويمكن القول إن اكتشاف الحياة على كوكب آخر قد يتوج الإنجازات المتحققة في استكشاف الفضاء، وليس أدل على ذلك من قول مدير إدارة ناسا «إن اكتشاف الحياة في مكان آخر سيغير كل شيء، ولن ينجو فكر أو مسعى بشري من التأثر بهذا الاكتشاف.»

 

 المؤلفان

Roger Angel – Neville J. Woolf

منذ 15 عاما تعاونا على طرائق لصنع مقاريب أفضل. واتخذا مرصد ستيوارد بجامعة أريزونا مقرا لهما. أنجل زميل الجمعية الملكية ويدير مختبر المرايا في مرصد ستيوارد. أما وولف فهو الذي اكتشف التقنيات التي خفضت إلى الحد الأدنى تشوه الصور الذي يسببه الجو. ويعتقد المؤلفان أن البحث عن الكواكب البعيدة هو الاختبار الحقيقي لبنَّائي المقاريب، ويواجهان هذا التحدي بتوسيع حدود تقانة رصد الفضاء البعيد.

 

(*) Searching for Life in Other Solar Systems، وهذه نسخة معدلة من مقالة نشرت بعنوان «البحث عن الحياة على كواكب أخرى» في العدد11 (1997) من مجلة العلوم.

 

(1) “Terrestrial Planet Finder” والكواكب الأرضية هي الكواكب التي تكون على شاكلة أرضنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى