البحث عن الحياة في نظامنا الشمسي
البحث عن الحياة في نظامنا الشمسي(*)
لو أن الحياة نشأت على الكواكب أو الأقمار المجاورة لنا نشوءا مستقلا، فأي
من هذه الأجرام الخارجة عن أرضنا يكون احتمال وجود كائنات حية عليه أكبر ما يمكن؟
<M .B. جاكوسكي>
منذ قديم الزمان والإنسان يتصور انتشار الحياة على نطاق واسع في بقاع بعيدة من الكون. ولم يتناول العلم هذا الموضوع إلا منذ عهد قريب بعد أن أصبحنا ندرك طبيعة الحياة على الأرض وإمكان وجود الحياة في أمكنة أخرى. هذا وإن المكتشفات الحديثة لكواكِب تدور حول نجوم أخرى غير الشمس، ولأدلةٍ على احتمال وجود أحافير (مستحاثات) في شُهبٍ أتتنا من كوكب المريخ، استحوذت على اهتمام كبير من قِبَل عامة الناس. وقد صار الجدل العلمي حول وجود الحياة في أمكنة أخرى أقوى كثيرا في العقد الماضي ممّا كان عليه في أي وقت مضى. ويسود حاليا شعور بأننا قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف وجود حياة على كواكب أخرى.
وللبحث عن حياةٍ في نظامنا الشمسي، يلزمنا البدء بهذا البحث من أرضنا، إذ إنه لمّا كانت الكرة الأرضية هي مثالنا الوحيد على كوكب تزدهر عليه الحياة، فمن الممكن الاستعانة بها على فهم الشروط الضرورية لترعرع الحياة في مكان آخر. ومع ذلك، فإذا ما حددنا هذه الشروط، فلا بد من النظر فيما إذا كانت خاصةً بالحياة على الأرض فقط، أو عامةً بحيث يمكن تطبيقها على الحياة في أي مكان آخر.
ويخبرنا سجلّنا الجيولوجيّ أن الحياة على الأرض انطلقت بعد زمن قصير من الوقت الذي صار فيه وجود الحياة ممكنا ـ وذلك بعد أن توقفت الكواكب الأولية (البدائية) protoplanets (وهي أجرام صغيرة شبيهة بالكواكب) عن قصف كوكبنا في أواخر مراحل تكوّنه. ومن المحتمل أن تكون آخر صدمة هائلة ضربت الأرض حدثت منذ ما بين 4 و4.4 بليون سنة. وتوحي خلايا الأحافير (المستحاثات) المكروية (المجهرية)، والأدلة المستمدة من نظائر الكربون، بأن الحياة كانت واسعة الانتشار منذ قرابة 3.5 بليون سنة، وبأنها ربما وُجِدَتْ قبل 3.85 بليون سنة.
وديان متفرعة على كوكب المريخ تشبه نظم شبكات تصريف مياه الأنهار على الأرض، عرض كل منها كيلومتر واحد تقريبا وعمقه عدة مئات من الأمتار. وهذه الأودية التي توجد أساسا على تضاريس قديمة مملوءة بالفوهات البركانية، ربما كانت نتيجة هطول جوي (أمطار) أو ماء انساب من تحت الأرض إلى السطح. إن الأودية المريخية، خلافًا لنظم تصريف الأنهار على الأرض، تتميز بكثافة أقل للقنوات (أي إن عدد القنوات في الكيلومتر المربع أقل)، وهذا يوحي بأن الماء على المريخ في مراحله المبكرة كان أقل غزارة ممّا هو على الأرض. |
وما إن أصبحت الأرضُ مهيّأة لوجود حياة عليها، لم يمض أكثر من نصف بليون عام ـ وربما مدة لا تتجاوز 100 أو 200 مليون عام فقط ـ حتى صار للحياة جذور راسخة على أرضنا. وتشير هذه الحقبة الزمنية القصيرة إلى أن أصل الحياة سلك نهجا واضح المعالم نسبيا، إذ كانت الحياة نتيجة طبيعية لتفاعلات كيميائية في بيئة نشيطة جيولوجيا. وتنبئنا هذه الملاحظة بأمر مهم أيضا، وهو أن الحياة ربما تنشأ على نحو مماثل في أي مكان تكون فيه الشروط الكيميائية والبيئية شبيهة بالشروط الموجودة على الأرض.
لقد كان الرأي السائد في الأربعين سنة الماضية يقول بأن الجزيئات العضوية قبل البيولوجية prebiological تكوّنت فيما يسمى الغلاف الجوي المختزِلreducing atmosphere الذي كانت مصادر الطاقة فيه، كالبرق مثلا، تحرّض حدوث تفاعلات كيميائية لدمج الجزيئات الغازية. بيد أن ثمة نظريةً أحدث تقدّم بديلا محيرا. فعندما ينتشر الماء عبر النظم البركانية في قيعان المحيطات، ترتفع حرارته إلى ما فوق 400 درجة سيلزية (720 درجة فرنهيتية). وحين يعود هذا الماء ذو السخونة المفرطة إلى المحيط، يمكنه اختزال العوامل كيميائيا ممّا يسهّل تكوّن الجزيئات العضوية. وتقوم أيضا البيئة المختزلة بتوفير مصدر للطاقة لمساعدة الجزيئات العضوية على الاندماج في بُنى أكبر، ولتعزيز التفاعلات الأيضية (الاستقلابية) البدائية.
أين نشأت الحياة؟
إن أهمية النظم الحرّمائية hydrothermal في تاريخ الحياة تبرز في «شجرة الحياة» التي رُسمت منذ عهد قريب من المتتاليات الجينية في جزيئات الرنا (الحمض الريبي النووي) RNA التي تُرحِّل المعلومات الجينية. وتنشأ هذه الشجرة عن الفروق في متتاليات الرنا المشتركة بين جميع الكائنات الحية الأرضية. إن الكائنات التي لم تتطور إلا قليلا منذ انفصالها عن آخر سلف مشترك لها تملك متتاليات رنا أساسية متشابهة. وهذه الكائنات التي هي أقرب ما يمكن من «الجذر» ـ أو آخر سلف مشترك لجميع الكائنات الحية ـ هي أليفات حرارة مفرطة hyperthermophiles تعيش في المياه الساخنة التي قد تبلغ حرارتها 115 درجة سيلزية (مئوية). وتشير هذه العلاقة إلى أن الحياة الأرضية إما أن تكون قد «اجتازت» نظما حرمائية في زمن مبكر معيّن، وإما أن تكون نشأة الحياة حدثت في هذه النظم. وفي كلتا الحالتين يكشف أقدم تاريخٍ للحياة عن صلة وثيقة بالنظم الحرمائية.
وحينما ننظر في احتمالات حدوث حياة في بقاع أخرى من النظام الشمسي، يمكننا تعميم الشروط البيئية اللازمة لنشوء الحياة وازدهارها. ونحن نرى أن وجود الماء السائل أمر ضروري ـ وهو وسط تتمكن الكائنات البدائية فيه من الحصول على مغذياتها والتخلص من فضلاتها. ومع أن ثمة سوائل أخرى، كالميثان والأمونيا، تصلح لتأدية الوظيفة ذاتها، فمن المحتمل أن الماء كان متوافرا بمقادير أكبر، كما أنه أفضل كيميائيا لتعجيل التفاعلات اللازمة لقدح زناد النشاط البيولوجي.
ولتوليد المكوّنات الأساسية التي يمكن أن تجمع منها الحياةُ أجزاءَها، لا بد من إمكان الوصول إلى العناصر اللازمة لنشوء الحياة biogenic. وتشمل هذه العناصر، على كرتنا الأرضية، الكربون والهدروجين والأكسجين والنيتروجين والكبريت والفوسفور، إضافة إلى نحو عشرين عنصرا من العناصر الأخرى التي تؤدي دورا حاسما في الحياة. ومع أنه ليس من الضروري أن تستعمل الحياة في بقاع أخرى جميع هذه العناصر نفسها، فإننا نتوقع أن تستعمل كثيرا منها. وتستفيد الحياة على الأرض من الكربون (أكثر من السيليكون مثلا) بسبب تعدد استعمالاته في تكوين الروابط الكيميائية chemical bonds فضلا عن وجوده بوفرة. والكربون موجود أيضا في ثنائي أكسيد الكربون، إما في حالة غازية وإمّا محلولا (ذائبا) في الماء. وبالمقابل، فإن ثنائي أكسيد السيليكون الموجود بمقادير كبيرة ليس متوافرا في أي من الحالتين السابقتين، ومن ثم فإنه أقل تيسّرا. وبسبب وجود الجزيئات العضوية المحتوية على الكربون في أي مكان من الكون، فإننا نتوقع أن يؤدي الكربون دورا في الحياة في أي مكان.
وبالطبع، فإنه يتعين على أي مصدر للطاقة أن يُحْدِثَ خللا في التوازن الكيميائي من شأنه تعزيز التفاعلات الضرورية لنشوء نظم حيّة. وفي أيامنا هذه فإن معظم الطاقة اللازمة للحياة على الأرض تأتي من الشمس عن طريق البناء الضوئي photosynthesis. بيد أن مصادر الطاقة الكيميائية كافية ـ كما أنها كانت أكثر تيسّرا للحياة في حداثة عهدها. وتحتوي هذه المصادر على طاقة جيوكيميائية ناجمة عن النظم الحرمائية القريبة من البراكين، أو طاقة كيميائية ناشئة عن تجوية المعادن على سطح الكوكب أو قريبا منه.
احتمالات وجود حياة على المريخ
إذا نظرنا خارج نطاق الأرض، رأينا كوكبين يبديان أدلة قوية على أنهما حظيا بظروف بيئية ملائمة لنشوء الحياة عليهما في حقبة ما من تاريخهما ـ وهذان الكوكبان هما المريخ ويوروپا Europa. (هذا وسنعتبر يوروپا جسما كوكبيا مع أنه قمر للمشتري.) إن المشتري في أيامنا هذه ليس مضيافا جدا، فنادرا ما يتجاوز متوسط درجات حرارته في النهار 220 درجة كلڤن، وهذه تقل عن حرارة تجمد الماء بنحو 53 درجة كلڤن. وعلى الرغم من هذه المشكلة، ثمة شواهد عديدة توحي بأن الماء السائل كان موجودا على سطح المريخ في الماضي، بل ربما لايزال موجودا داخل قشرته في أيامنا هذه.
هذا وثمة شبكة من الأودية المتفرعة على أقدم سطوح المريخ شبيهة بتلك الأودية التي شقتها المياه الجارية على كرتنا الأرضية. وقد يكون الماء ناجما عن الهطول الجوي atmospheric precipitation، أو عن النَّز (النُّسْغ) المنطلق من مكمن مائي قشري. وبغض النظر عن المكان الذي أتى منه الماء، فلا ريب في أن الماء السائل قام بدور ما. وتشير البنية المتفرعة للأودية إلى أنها تكوّنت تدريجيا، وهذا يعني أن الماء ربما جرى على سطح المريخ في وقت من الأوقات، على الرغم من أننا لا نشاهد مثل هذه الإشارات حاليا.
إضافة إلى ذلك، فإن سطوح الفوهات القديمة الناتجة من صدم الكوكب بأجرام أخرى، والتي تتجاوز أقطارها نحو 15 كيلومترا (تسعة أميال)، تآكلت وتعرّت بشدة، ولم تعد تُبدي آثارا تدل على المقذوفات التي ضربت الكوكب، كالحواف المرتفعة أو القمم المركزية للفوهات الحديثة. هذا وإن جدران بعض الفوهات التي تآكلت جزئيا تحوي أخاديد تبدو وكأنها محفورة بفعل الماء. أما الفوهات التي تقل أقطارها عن 15 كيلومترا فقد تآكلت (درست) تماما وانمحت كليا. وأبسط تفسير لهذا كله هو أن الماء السطحي حتّ هذه الفوهات.
وعلى الرغم من أن تاريخ الغلاف الجوي للمريخ مبهم، فمن المحتمل أنه كان أكثف في عهوده المبكرة منذ ما بين 3.5 و4 بلايين عام. وبالتالي، فربما يكون الجو الكثيف قد ولّد مفعول دفيئة قويا نَجَمَ عنه تسخين الكوكب إلى حَدٍّ يكفي للسماح للماء السائل بأن يظل مستقرا. وثمة شواهد تدعو إلى الاعتقاد بأن قشرة الكوكب، في المرحلة التي تلت الثلاثة بلايين سنة ونصف الماضية، كانت تحوي فعلا كثيرا من الماء. ومن الواضح أن الفيضانات الكارثية الجارفة، التي انبثقت من تحت سطح الكوكب، شقت قنوات مائية ضخمة؛ وكانت هذه الفيضانات تحدث دوريا على مدى العصور الجيولوجية. وبناء على هذه الشواهد، لا بد من وجود الماء تحت سطح الكوكب بعدة كيلومترات، حيث يقوم التسخين الحراري الأرضي برفع الحرارة إلى درجة حرارة ذوبان الجليد.
كان المريخ يملك أيضا مصادر غنية للطاقة طوال الوقت. كذلك كان تكوّن البراكين (البركنة) volcanism يوفر الحرارة منذ أقدم العصور حتى الماضي القريب، شأنه في ذلك شأن حوادث الصدم. وثمة طاقة إضافية لدعم الحياة ناشئة عن تجوية الصخور البركانية. فتأكسد الحديد داخل الصخور البازلتية، مثلا، يحرر طاقة يمكن للكائنات أن تستعملها.
وتُكْمِل غزارة العناصر اللازمة لنشوء الحياة، والمتوافرة على سطح المريخ متطلبات الحياة عليه. فإذا أدخلنا وجود الماء والطاقة في اعتبارنا، فقد تكون الحياة نشأت نشوءا مستقلا على المريخ. زد على ذلك أنه حتى لو لم تنشأ الحياة على المريخ، فمازال ثمة إمكان لوجودها عليه. ومثلما تمخّض عن الصدمات العالية السرعة، التي تعرَّض لها سطح المريخ، تشتيتُ صخور هذا السطح في أرجاء الفضاء ـ لتسقط بعد ذلك على الأرض على شكل نيازك مريخية ـ فربما تكون الصخور الأرضية قد هبطت هبوطا مماثلا على الكوكب الأحمر. فإذا حَمَلَتْ هذه الصخور في ثناياها كائنات بقيت على قيد الحياة خلال رحلتها، وإذا هبطت في بيئات مريخية ملائمة، فإن البكتيريا قد يكتب لها البقيا. وليس ثمة ما يمنع أن تكون الحياة قد نشأت على المريخ وانتقلت بعد ذلك إلى الأرض.
قنال كارثي على المريخ ـ داو ڤاليس Dao Vallis ـ يقع على خاصرة بركان هادرياكا پاتيرا Hadriaca Patera. ويعتقد العلماء بأن سخونة البركان ربما سببت تفجر مياه جوفية على سطح المريخ في هذا الموقع. إن الاندماج المحتمل للطاقة البركانية والماء يجعل من هذا الموقع مكانا مغريا للبحث عن الحياة فيه. |
إن حصر موارد الطاقة المتاحة على المريخ يوحي بأن ثمة ما يكفي منها لترعرع الحياة عليه. أما حدوث بناء ضوئي سمح للحياة بأن تنتقل إلى بيئات ملائمة أخرى، فمازال أمرا مشكوكا فيه. وممّا لا ريب فيه أن البيانات التي استُعيدت من مركبة الفضاء ڤايكنگ Viking خلال السبعينات من القرن العشرين لم تقدم أي دليل على انتشارٍ واسعٍ للحياة على المريخ. ومع ذلك، من الممكن وجود شكل من أشكال الحياة الآن على هذا الكوكب قابعة في بيئات منعزلة مترعة بالماء وغنية بالطاقة ـ وربما كانت هذه البيئات نظما حرّمائية تحت سطح المريخ تسخنها البراكين، أو مجرد نظم تحت الأرض تستمد طاقتها من التآثرات الكيميائية بين الماء السائل والصخور.
وقد قاد تحليل حديث للنيازك المريخية التي عُثر عليها على أرضنا كثيرا من العلماء إلى الاستنتاج أن الحياة ربما ازدهرت في إحدى الحقب على المريخ ـ استنادا إلى بقايا الأحافير التي شوهدت داخل الصخرة النيزكية [انظر ما هو مؤطر في الصفحة المقابلة]. بيد أن هذا الدليل لا يشير بالضرورة إلى نشاط بيولوجي، إذ إنه قد ينجم عن عمليات جيوكيميائية طبيعية. وحتى لو قرر العلماء أن هذه الصخور لا تحوي شواهد على وجود حياة على المريخ، فهذا لا يعني عدم احتمال وجود حياة على الكوكب الأحمر، إذ إنها قد توجد في بقاع لم يجر التنقيب فيها بعد. ولاستخلاص نتيجة حاسمة في هذا الشأن، يجب دراسة تلك الأمكنة التي يكون احتمال وجود حياة (أو وجود شواهد على حياة سابقة) فيها أكبر ما يمكن.
يوروپا
وبالمقابل، فإن القمر يوروپا يقدم سيناريو محتملا مختلفا لأصل الحياة. وللوهلة الأولى، يبدو يوروپا مكانا غير ملائم للحياة. فهذا التابع، الذي هو أكبر توابع المشتري، أصغر قليلا من قمرنا وسطحه مغطى بجليد صرف تقريبا. لكنّ داخل يوروپا قد يكون أقلَّ برودة، إذ يُدفأ بمزيج من الاضمحلال الإشعاعيradioactive decay والتسخين المدّي tidal يُمَكِّنه من رفع حرارته إلى درجة أعلى من نقطة انصهار الجليد في أعماق ضحلةٍ نسبيا. ولمّا كانت ثخانة طبقة الجليد السطحي تتراوح بين 150 و300 كيلومتر، فقد يوجد مباشرة تحت هذه الطبقة محيط شامل من الماء السائل مغطى بالجليد.
وتُظهر صور حديثة لسطح يوروپا التقطتها المركبة الفضائية گاليليو Galileoوجودا محتملا لجيوب من الماء السائل. وإذا ألقينا نظرة شاملة على السطح، بدا مغطى بصدوع وشقوق طويلة. وبمقياس أصغر تبين هذه المعالم شبه الخطية بنى مفصَّلة تدل على وجود نشاط تكتوني محلي مرتبط بالجليد. وفي أصغر المقاييس، يتضح أن ثمة وجودا لكتل من الجليد. ولدى تتبع الأخاديد المتصالبة، نرى أن هذه الكتل تحركت تحركا واضحا بالنسبة إلى الكتل الأكبر. وهي تبدو شبيهة بالجليد البحري على كرتنا الأرضية ـ كما لو أن كتلا جليدية كبيرة انفصلت عن الكتلة الرئيسية، وطفت على مسافة قريبة منها ثم تجمَّدت في مكانها. ولسوء الحظ، فلسنا قادرين بعد على الجزم بأن الكتل الجليدية طفت خلال الماء السائل أو أنها انزلقت على جليد لين ودافئ نسبيا. هذا وإن ندرة فوهات الصدم على الجليد تشير إلى أن الجليد الطازج يعود إلى السطح باستمرار. ومن المحتمل أيضا أن يكون الماء السائل موجودا على نحو متقطع على الأقل.
هل هي بقايا ميكروبية أتتنا من كوكب المريخ؟
لدى مسح الحقل الجليدي Far Western بمنطقة Allan Hills في القارة المتجمدة الجنوبية، عام 1984، اقتلعت الجيولوجية <R. سكُور> من سهل جليدي تعصف به الرياح، لونه ضارب إلى الزرقة وعمره000 10 عام، صخرة غير عادية لونها رمادي ضارب إلى الخضرة. وبعد أن فحصها العلماء في مركز جونسون الفضائي التابع للوكالة (ناسا) وفي جامعة ستانفورد، أكدوا أن هذه الصخرة التي تزن 1.9 كيلوغرام (أربعة باوندات) والشبيهة بحبة من البطاطا ـ والتي صار يشار إليها بالرمز ALH84001 ـ هي نيزك أتى من المريخ، وأن لها تاريخا مثيرا للاهتمام. إن هذه الصخرة، التي تبلورت منذ 4.5 بليون سنة بعد تكوُّن المريخ بوقت قصير، قُذِفَتْ من الكوكب نتيجة صدمة قوية أصابته، ممّا أدّى إلى اندفاعها بعنف عبر الفضاء طوال 16 مليون سنة، إلى أن حطّت منذ 000 13 عام في القارة المتجمدة الجنوبية. وقد استنتج الجيوكيميائيون أن توزع نظائر الأكسجين والمعادن في الصخرة وسماتها البنيوية منسجمة مع ما وجدوه في خمسة نيازك أخرى أكدوا أنها أتتنا من المريخ. وقد كانت تبطِّن جدران الشقوق الموجودة داخل النيزك كريّات من الكربونات، كل منها كرة مفلطحة يتراوح قطرها ما بين 20 و250 مكرونا (المكرون جزء من مليون من المتر). ويبدو أن الكريّات تكوّنت في مائع مشبع بثنائي أكسيد الكربون، قد يكون ماء، وذلك منذ ما يتراوح بين 1.3 و3.6 بليون عام. وتوجد داخل تلك الكريّات معالم مثيرة تشبه، إلى حد ما، بقايا متحجرة لميكروبات مريخية قديمة. هذا وتَظهر في الكريات حبيبات دقيقة من أكسيد الحديد وسلفيد الحديد شبيهة بتلك التي تولِّدها البكتيريا على الأرض، مثلما تَظهر هدروكربونات عطرية خاصة متعددة الحلقات polycyclic، غالبا ما توجد جنبا إلى جنب مع الميكروبات المضمحلة. وتوجد بنى أخرى بيضوية الشكل أو أنبوبية شبيهة بالبكتيريا الأرضية المتحجرة نفسها. وعلى الرغم من أن طول هذه البنى يمتد من 30 إلى 700 نانومتر (النانومتر هو جزء من بليون من المتر)، فإن طول بعض أكثر الأنابيب إثارة للاهتمام يبلغ نحو 380 نانومترا ـ وهذا يقارب النهاية الدنيا لطول البكتيريا الأرضية التي يقع طولها، عموما، بين مكرون واحد وعشرة مكرونات. وتشير أطوال الأنابيب وأشكالها إلى أنها ربما تكون قِطَعا متحجرة من البكتيريا، أو من النانوبكتيريا nanobacteria الأدق التي تتراوح أطوالها على كوكب الأرض بين 20 و4000 نانومتر. وقد قادت هذه المكتشفات مجتمعة عالمي الوكالة ناسا <K .E. گيبسون> و<S .D. ماكاي> وزملاءهما إلى الإعلان في الشهر8/ 1996 بأن الميكروبات ربما ترعرعت في وقت سابق على الكوكب الأحمر. بيد أن التحاليل الكيميائية الحديثة تبين أن النيزك ALH84001 ملوث بشدة بحموض أمينية من جليد القارة المتجمدة الجنوبية، وهذا يُضْعِف الدعوى القائلة بأنها أحافير مكروية أتتنا من المريخ. <R. ليپكين> |
ولو وُجِدَ حقا ماء سائل في يوروپا، لكان من المحتمل وجود ذلك الماء في السطح الذي يفصل الجليد عن المنطقة الداخلية الصخرية التي تقع دونه. ومن المحتمل أن مركز يوروپا الصخري كان مسرحا لنشاط بركاني ـ ربما من مستوى يماثل النشاط البركاني على قمر الأرض والذي كان موجودا عليه إلى أن توقف منذ ثلاثة بلايين سنة. ومن الممكن أن تولّد البركنة داخل قلب يوروپا منبعا للطاقة ضروريا للحياة المحتملة عليه، كما تفعل تجوية المعادن المتفاعلة مع الماء. وهكذا فإن يوروپا يملك جميع العناصر التي يمكن أن تقدح زناد الحياة عليه. وبالطبع، فمن المحتمل وجود قدر أقل من الطاقة الكيميائية على يوروپا مما هو على المريخ، ومن ثمَّ فعلينا ألا نتوقّع رؤية وفرة في الحياة عليه، هذا إذا وُجِدت هذه الحياة أصلا. ومع أن مسبار (مجس) گاليليو الفضائي عَثَرَ على جزيئات عضوية وماء متجمد على اثنين من توابع المشتري الگاليلية الأربعة، وهما كاليستو Callisto وگانيميد Ganymede، فإن هذين القمرين يفتقران إلى مصادر الطاقة التي لا بد منها لنشوء الحياة. وأيو Io وحده، وهو تابع گاليلي أيضا، يحظى بحرارة بركانية، إلا أنه لا يحوي ماء سائلا؛ وكما نعلم، فالماء السائل ضروري للحياة.
إن المريخ ويوروپا هما المكانان الوحيدان في نظامنا الشمسي اللذان يمكن أن نعتبر أنهما يملكان (أو مَلَكا) جميع المقومات الضرورية لوجود الحياة. إلا أنهما ليسا الجرمين الكوكبيين الوحيدين في نظامنا الشمسي اللذين يقعان في نطاق البيولوجيا خارج الأرض exobiology. وبوجه خاص فلا يمكن استثناء كوكب الزهرة وتيتان، أكبر تابعٍ لزحل. وجدير بالذكر أن درجة حرارة الزهرة حاليا أعلى من درجات الحرارة التي يمكن أن توجد في ظلها حياة، فدرجة حرارتها السطحية اللاهبة قريبة من 750 درجة كلڤن، ويعزز هذه الحرارة مفعول الدفيئة بفعل غازَيْ ثنائي أكسيد الكربون وثنائي أكسيد الكبريت. ومن المحتم أن يكون أي قدر من الماء السائل قد تشتت منذ زمن بعيد في الفضاء واختفى فيه.
الزهرة وتيتان
إلامَ يعود سببُ اختلاف كوكبي الزهرة والأرض؟ لو كان بُعْدُ الأرض عن الشمس بقدر بُعْد الزهرة عن الشمس، لكانت الأرض أيضا تعاني حرارة لاهبة تجعل بخارَ الماء يملأ جوها ويعزز مفعولَ الدفيئة. وتحث التغذية الراجعة الإيجابية على حدوث هذه الدورة مطلقة مزيدا من الماء وتسخين دفيئة أكبر، وهكذا، مما يؤدي إلى إشباع الجو ورفع درجات الحرارة. ولما كانت درجة الحرارة تؤدي دورا أساسيا في تحديد محتوى الجو من الماء، فإنه يوجد لكل من الأرض والزهرة عتبة لدرجة الحرارة إذا تجاوزناها إلى الأعلى انطلقت التغذية الراجعة الإيجابية نحو مفعول دفيئة متزايد. ومن شأن حلقة التغذية الراجعة هذه تزويد جو الزهرة بوفرة من الماء يقوم بدوره برفع درجة حرارتها إلى قيم عالية جدا. أما تحت هذه العتبة، فإن مناخ الزهرة يصبح أشبه بمناخ الأرض.
إن سطح يوروپا مغطى بمعالم توحي «بتكتونيات جليدية». ويبدو أن كتلا جليدية تحطمت وتحركت من مواقعها، إمّا منزلقة على الجليد نصف المنصهر، أو طافية على ماء سائل. وفي كلتا الحالتين، يبيّن التحليل الطيفي للضوء المنعكس وجود جليد ماء نقي تقريبا على سطح يوروپا. وتشير الشُّرُط السوداء الأفقية التي تظهر في الصورة إلى بيانات فُقدت خلال البث بين الكوكبي. |
ومع ذلك، فربما لم تكن الزهرة دائما غير مضيافة. فمنذ أربعة بلايين سنة كانت الشمس تُصْدِر طاقة أقل بنحو 30 في المئة مما تصدره حاليا. وبقدرٍ أقلَّ من ضوء الشمس، فربما كان الحد بين مناخ معتدل وآخر متقلب موجودا داخل مدار الزهرة، وربما كانت درجات الحرارة على سطح الزهرة تتجاوز درجة حرارة الأرض الحالية بمقدار 100 درجة سيلزية فقط. ومن الممكن للحياة أن توجد بسهولة في ظل درجات الحرارة هذه ـ كما نلاحظ في أنواع معينة من البكتيريا والكائنات الحية قرب الينابيع الحارة والفجوات الطولية الموجودة تحت البحار. ومع ارتفاع درجة حرارة الشمس، لا بد من أن تكون الزهرة سَخَنَتْ تدريجيا إلى أن تعرّضت لانتقالٍ جوي كارثي أدى إلى جعل غلافها الجوي كثيفا وحارا. ومن المحتمل أن تكون الحياة قد نشأت على الزهرة منذ عدة بلايين من السنين، إلا أن درجات الحرارة العالية والنشاط الجيولوجي طمست منذ ذلك الحين كل دليل على أنها كانت كوكبا تزدهر عليه الحياة. ومع استمرار درجات حرارة الشمس بالارتفاع، فقد تخضع الأرض لانتقال جوي كارثي مماثل بعد بليوني سنة فقط من الآن.
أما تيتان فإنه يغرينا بدراسة إمكان وجود حياة عليه بسبب الشواهد الكثيرة على وجود نشاط كيميائي عضوي في غلافه الجوي يشبه ذلك النشاط الذي ربما حدث على الأرض في بداية عهدها إذا توافر لغلافه الجوي إمكانات فعّالة لاختزال العوامل الكيميائية. إن حجم تيتان قريب من حجم عطارد، وغلافه الجوي أسمك من الغلاف الجوي للأرض، ويتكون بصفة أساسية من النيتروجين والميثان والإيثان. ويجب أن يُعاد تزويد الغلاف الجوي بالميثان باستمرار من السطح أو من الطبقة دون السطحية؛ لأن التفاعلات الكيميائية الضوئية في الغلاف الجوي تطرد الهدروجين (الذي يذهب إلى الفضاء) وتحوّل الميثان إلى سلاسل أطول من الجزيئات العضوية. ويُظن أن هذه الهدروكربونات ذات السلاسل الأطول هي السبب في وجود الضباب الكثيف الذي يحجب سطح تيتان في الأطوال الموجية المرئية.
يوحي سطح تيتان الذي تغشاه البقع بأنه ليس مغطى تغطية منتظمة بمحيط من الميثان والإيثان، كما كان العلماء يظنون في وقت سابق. والواقع إن سطحه قد يكون مغطى بخليط من البحيرات والمناطق الصلبة. وتغلّف القمرَ سُحُبٌ سميكة غنية بحلالات هوائية aerosols عضوية تولِّدها التفاعلات الجوية. وغالبا ما يقارن العلماء تيتان بالأرض في أطوارها المبكرة قبل بدء الحياة عليها. |
ودرجات الحرارة على سطح تيتان قريبة من 94 درجة كلڤن، وهي أبرد من أن تدعم وجود ماءٍ سائل، أو تفاعلاتٍ ليست كيميائية ضوئية يمكنها توليد نشاط بيولوجي ـ مع أنه يبدو أن تيتان كان يحوي بعض الماء السائل خلال المراحل المبكرة من تاريخه. ولا بد من أن تكون الصدمات التي تعرض لها خلال تكوّنه قد أودعت فيه ما يكفي من الحرارة (الناجمة عن الطاقة الحركية للأجسام التي صدمته) لإحداث صهر محلي للماء المتجمد. ويُحتمل أن يكون الماء السائل المخزون قد ظل موجودا آلاف السنين قبل تجمده، كما أن من الممكن أن تكون كل بقعة من سطح تيتان قد انصهرت مرة واحدة على الأقل. أما المدى الذي وصلت إليه التفاعلات الكيميائية الحيوية خلال مثل هذا الزمن القصير فغير معروف.
بعثات استكشافية
من الواضح أن العناصر الأساسية اللازمة للحياة كانت موجودة في نظامنا الشمسي حقبة طويلة من الزمن، وربما كانت موجودة الآن خارج الأرض. ومن المحتمل أن تكون أربعة من الأجرام الكوكبية قد حققت، في وقت من الأوقات، الشروط الضرورية لنشوء الحياة عليها.
مدخنة معدنية قرب فجوة حرمائية تحت البحر واقعة قبالة الشاطئ الغربي للمكسيك عند East Pacific Rise للصدع المسمى Galapagos Rift. وعلى عمق يزيد على كيلومترين تحت سطح البحر، على طول هذه السلسلة الممتدة وسط المحيط، ثمة ماء غني بالمعادن، تصل درجة حرارته إلى 757 درجة سيلزية، ينبثق من صدوع موجودة في قاع المحيط تسخَّن بركانيا، وتشكِّل مداخنَ معدنيةً تتراوح ارتفاعاتها بين ستة وتسعة أمتار. وثمة أشكال غير عادية للحياة، من ضمنها ديدان بيضاء دقيقة وبكتيريا تتحمل الحرارة، تزدهر في هذه البيئة العدائية ظاهريا. ويعتقد بعض العلماء بأن مثل هذه الفجوات الحرّمائية رعت نشوء الحياة على الأرض. |
لا يمكننا إثبات وجود فعلي للحياة في بقعة أخرى غير الأرض إلا اعتمادا على الخبرة empirically، ويشغل البحث عن حياةٍ اهتماما مركزيا للبعثات العلمية المتواصلة التي تطلقها الوكالة (ناسا). كما أن سلسلة بعثات ماسح المريخ Mars Surveyor، التي خُطِّط لإرسالها خلال بداية القرن الحادي والعشرين، تهدف إلى تقصي وجود حياة على المريخ في أي وقت من الأوقات. وستبلغ هذه السلسلة ذروتها في بعثة يخطط لإطلاقها عام 2005، هدفها جمع صخور مريخية من مناطق يُحتمل أن يكون لها علاقة بالحياة ثم العودة بها إلى الأرض لإجراء التحاليل المفصَّلة عليها. وتواصل مركبة الفضاء كاسِّيني Cassini طريقَها إلى كوكب زحل. وسيجري هناك إدخال مسبار هويگنز Huygens إلى الغلاف الجوي لتيتان بهدف فكّ مغالق تركيب تيتان وكيميائه. وسيقوم أيضا جهاز للرادار برسم خريطة لسطح تيتان تمكِّن من فك الألغاز الجيولوجية في تاريخه، ومن البحث عن أدلة على وجود محيطات أو بحيرات مكشوفة من الميثان والإيثان.
إضافة إلى ذلك، تركز المركبة گاليليو التي تدور حول المشتري اهتمام بعثتها الطويلة الأمد في دراسة سطح يوروپا وقسمه الداخلي. وهناك خطط ماضية في طريقها لإطلاق بعثة فضائية مكرّسة ليوروپا فقط، وذلك لاكتشاف تاريخه الجيولوجي والجيوكيميائي، ولتحديد إن كان ثمة محيط شامل قابع تحت قشرته الجليدية.
وبالطبع، فمن المحتمل، ونحن نغوص في أعماق نظامنا الشمسي، ألا نتوصل إلى أي دليل على وجود الحياة فيه. فإذا كان بمقدور الحياة أن تتجمع من لبنات أساسية بالسهولة التي نعتقد أنها تسلكها في ذلك، فلا بد من أن تظهر الحياة في مكان آخر. والواقع إن غياب الحياة يقودنا إلى إعادة النظر في فهمنا لنشوء الحياة على الأرض. وسواء عثرنا على حياة أو لم نعثر عليها، فإننا، في كلتا الحالتين، سنحظى، من دون ريب، برؤية عميقة لتاريخنا، وبمعرفة إن كانت الحياة نادرة في مجرتنا أم أنها واسعة الانتشار في أرجائها.
المؤلف
Bruce M. Jakosky
أستاذ الجيولوجيا وعضو في مختبر فيزياء الجو والفضاء بجامعة كولورادو في بولدر. وهو أيضا باحث في بعثة ماسح المريخ الشامل Mars Global Surveyor التي تدور الآن حول المريخ. وقد نشر كتابا بعنوان «البحث عن حياة في كواكب أخرى» The Search for Life on Other Planets في عام 1998 من قِبَلِ Cambridge University Press
(*) Searching for Life in Our Solar System