اقتناص غازات الاحتباس الحراري
اقتناص غازات الاحتباس الحراري(*)
إن عزل ثنائي أكسيد الكربون في باطن الأرض أو في أعماق
المحيطات قد يساعد على الحد من القلق إزاء تغيّر المناخ.
<H. هيرتزوگ> ـ <B. إلياسون> ـ <O. كارستاد>
في أعماق باطن الأرض، نحو 1000 متر أسفل قاع بحر الشمال، يُضخ ثنائي أكسيد الكربون في مكمن reservoir الحجر الرملي المسمى تكوين formation أُتسيرا، حيث يمكن خزنه آلاف السنين. ولتجنب الضريبة النرويجية على ثنائي أكسيد الكربون فإن مُلاّك منصة سليپنر للغاز الطبيعي، الموجودة على بعد 240 كيلومترا تقريبا من الساحل النرويجي، يدفنون حاليا غازات الاحتباس الحراري بدلا من إطلاقها من المنصة إلى الغلاف الجوي. |
شهدت الفترة الأخيرة تحولا في الجدل الدائر حول تغيّر المناخ. فحتى عهد قريب جدا، كان العلماء يتداولون فيما إذا كان النشاط البشري يتسبب في تغير المناخ العالمي. وعلى وجه التحديد، هل يمكن إرجاع ذلك إلى انبعاث غازات الاحتباس الحراري (الدفيئة) التي تحتجز الحرارة المنبعثة من سطح الأرض أو لا؟ وبتعاظم الدليل العلمي للرأي القائل بالإيجاب، تحوَّل مسار النقاش حاليا إلى الخطوات التي يمكن للمجتمع اتخاذها لحماية مناخ الأرض.
وثمة حل يكاد يكون فشله مؤكدا، وهو نفاد الوقود الأحفوري وبالتحديد الفحم والنفط والغاز الطبيعي. إن موريس أديلمان [الأستاذ الفخري بمعهد ماساتشوستس للتقانة والخبير في اقتصادات النفط والغاز الطبيعي] دأب على تأكيد ذلك مدة ثلاثين عاما. وخلال القرن ونصف القرن الماضيين، ومنذ أن بدأ عصر الصناعة، ارتفع تركيز ثنائي أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بمقدار الثلث تقريبا، من 280 إلى 370 جزءا في المليون، ويرجع ذلك بصفة أساسية إلى حرق الوقود الأحفوري. وخلال حقبة التسعينات تسبب البشر في انبعاث 1.5 جزء في المليون ـ في المتوسط ـ من ثنائي أكسيد الكربون سنويا، ويتزايد المعدل باستمرار. وعلى الرغم من أن البشر يطلقون أنواعا أخرى من غازات الاحتباس الحراري مثل الميثان وأكسيد النيتروز، فإن الخبراء يتوقعون أن تتسبب انبعاثات ثنائي أكسيد الكربون في نحو ثلثي مشكلة الاحترار العالمي المحتمل. وبتنامي المخاوف من الأخطار المحتملة لتغير المناخ العالمي حاولت المجموعات البيئية والحكومات وبعض أرباب الصناعات التقليل من مستوى غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي، وذلك عن طريق تشجيع استخدامٍ أكفأ للطاقة واستحداث مصادر بديلة ـ مثل طاقة الرياح أو الطاقة الشمسية.
أما من الناحية الواقعية فإن رخص الوقود الأحفوري ووفرته سيجعلانه مصدر تزويد سياراتنا وبيوتنا ومصانعنا بالطاقة في القرن الحادي والعشرين، وربما لما بعد ذلك. وعلى مدى المئة عام الماضية كان القلق يسود بين حين وآخر من جراء تناقص إمدادات الوقود، غير أن التقدم المتواصل في تقنيات استكشاف النفط وإنتاجه سيحافظ على توفر الوقود لعدة عقود مقبلة. وفضلا عن ذلك، فمنذ أن أُقرت المعاهدة الدولية الأولى التي وقّعت في مؤتمر قمة الأرض بريو دي جانيرو عام 1992 والرامية إلى تثبيت انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، فإن الطلب العالمي على الوقود الأحفوري ازداد في الحقيقة. ويوفر الوقود الأحفوري ـ حاليا ـ أكثر من 85 في المئة من احتياجات العالم التجارية من الطاقة. وعلى الرغم من أن السياسات التي تشجع زيادة كفاءة استخدام الطاقة والبحث عن مصادر بديلة تؤدي دورا حاسما في معالجة التغيير المناخي، فهي لا تعدو أن تكون جزءا واحدا من الحل.
بل إنه حتى لو بدأ المجتمع اليوم بتقليل استخدام الوقود الأحفوري فإن كوكب الأرض سيظل على الأغلب يتعرض لتأثيرات الانبعاثات السابقة. إن معدل استجابة المناخ بطيء للغاية، ولو تُرِك ثنائي أكسيد الكربون إلى الوسائل الطبيعية لبقي في الغلاف الجوي مدة قرن أو أكثر من الزمن. ومن ثم، يجب أن نوفر مجموعة من الخيارات التقانية التي يمكن أن تقلل بدرجة كافية من التراكم المتسارع لغازات الاحتباس الحراري. وتُجرى حاليا بحوث متميزة ومتطورة لاستكشاف وسائل وطرائق جديدة لتحسين كفاءة الطاقة وزيادة استخدام أنواع الوقود غير المحتوية على كربون (مصادر الطاقة المتجددة أو الطاقة النووية). إلا أن هناك مقاربة ثالثة تشد انتباه الناس حينما يتبينون أن الخيارين الأولين ـ ببساطة ـ لن يكونا كافيين؛ وهي عزل الكربون carbon sequestration، أي البحث عن مكامن لتخزين غاز ثنائي أكسيد الكربون بدلا من تركه يتراكم في الغلاف الجوي.
ربما تُدهِش استراتيجيتنا بعضَ القراء. فعزل الكربون يرتبط عادة بزراعة الأشجار: فالأشجار (والكساء النباتي عموما) تمتص ثنائي أكسيد الكربون من الجو أثناء فترة نموها، وتحتفظ بهذا الكربون طوال حياتها [انظر ما هو مؤطر في الصفحة 13]. ويقدر العلماء ـ بصورة إجمالية ـ أن النباتات تحتجز حاليا نحو 600 بليون طن من الكربون، إضافة إلى 1600 بليون طن أخرى تحتفظ بها التربة.
خزن ثنائي أكسيد الكربون في باطن الأرض وفي المحيطات إن أمكنة تخزين ثنائي أكسيد الكربون في باطن الأرض وفي أعماق البحار ستساعد على بقاء غازات الاحتباس الحراري خارج الغلاف الجوي، حيث تسهم حاليا في تغير المناخ. ويلزم تمحيص الخيارات المختلفة بالنسبة إلى التكلفة والسلامة والتأثيرات البيئية المحتملة. |
قد تستطيع النباتات والتربة عزل 100 بليون طن أخرى أو أكثر من الكربون، غير أنه سيلزم توفير مكامن تخزين إضافية لمواجهة تحدي التزايد في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وتبعا لذلك، قام ثلاثتنا خلال السنوات العشر الماضية بدراسة احتمال آخر: اقتناص capturing ثنائي أكسيد الكربون من مصادر غير متحركة، مثل مصنع للكيماويات أو محطة توليد طاقة كهربائية؛ ومن ثم حقنه في المحيط أو في باطن الأرض. إننا لسنا وحدنا في جهودنا، بل نحن جزء من مجتمع بحثي عالمي له برنامج أبحاث وتطوير حول غازات الاحتباس الحراري التابع لهيئة الطاقة الدولية، إضافة إلى برامج حكومية وصناعية أخرى.
اتباع مقاربة جديدة في النرويج
يوجد حقل سليپنر للنفط والغاز الطبيعي في وسط بحر الشمال على مسافة 240 كيلومترا تقريبا من شاطئ النرويج. وقد قام العاملون على إحدى منصات استخراج الغاز الطبيعي هناك بحقن 000 20 طن من ثنائي أكسيد الكربون أسبوعيا داخل مسام طبقة من الحجر الرملي تقع على عمق 1000 متر تحت قاع المحيط. وعندما بدأ الحقن في سليپنر في الشهر 10/1996 كانت تلك أول مرة يُخزّن فيها ثنائي أكسيد الكربون داخل تكوين جيولوجي بسبب اعتبارات مناخية.
كيف أمكن لتلك المغامرة أن تشق طريقها إلى حيز الوجود؟ يحتوي أحد مكامن حقل سليپنر على غاز طبيعي مخفف بثنائي أكسيد الكربون بنسبة 9 في المئة، وهي نسبة مرتفعة تُنَفِّر العملاء الذين لا يقبلون أي نسبة تزيد على 2.5 في المئة. ولذلك، كما هو متبع في سائر حقول النفط حول العالم، أقيم مصنع كيميائي في الموقع لاستخلاص extraction الكمية الزائدة من ثنائي أكسيد الكربون. وفي أية منشأة أخرى، يتم ـ ببساطة ـ إطلاق غاز ثنائي أكسيد الكربون في الجو، غير أن مالكي حقل سليپنر ـ الشركة ستات أويل [حيث يعمل أحدنا (كارستاد) باحثا]، والشركات إكسون ونورسك هيدرو وإلف ـ قرروا عزل غازات الاحتباس الحراري عن طريق ضغطها أولا، ثم ضخها إلى أسفل إلى باطن الأرض من خلال بئر إلى طبقة حجر رملي سمكها 200 متر تعرف باسم تكوين أُتسيرا الذي كان ممتلئا أصلا بالمياه المالحة. قد يبدو أن الكمية التي تبلغ نحو مليون طن من ثنائي أكسيد الكربون التي عُزِلت من حقل سليپنر خلال العام 1999 ليست بالكمية الضخمة، ولكنها بالنسبة إلى دولة صغيرة مثل النرويج تمثل نحو 3 في المئة من مجموع غازات الاحتباس الحراري التي تنطلق إلى الغلاف الجوي.
كان الدافع الرئيسي لإعادة الكربون لجوف الأرض في حقل سليپنر هو الضريبة التي تفرضها النرويج على غاز ثنائي أكسيد الكربون المنبعث بعيدا عن الشاطئ والتي بلغت في عام 1996 خمسين دولارا أمريكيا لكل طن منبعث من الغاز (خفضت الضريبة بدءا من 1/1/2000 إلى 38 دولارا للطن). وقد وصل مجموع المبالغ التي استُثمرت في معدات الضغط والضخ وحفر بئر ثنائي أكسيد الكربون إلى نحو 80 مليون دولار أمريكي. وبالمقارنة، لو أن غاز ثنائي أكسيد الكربون أُطلق في الغلاف الجوي، لالتزمت الشركات بدفع نحو 50 مليون دولار سنويا في الفترة ما بين عام 1996 و1999، ومن ثم فإن الوفورات قد عوّضت الاستثمارات في سنة ونصف السنة فقط.
وتخطط الشركات لمشروعات مشابهة في أمكنة أخرى من العالم. فمثلا يحتوي حقل ناتونا Natuna في بحر الصين الجنوبي على غاز طبيعي، ونحو 71 في المئة منه هو ثنائي أكسيد الكربون. وبمجرد تطوير هذا الحقل تجاريا سيتم عزل الفائض من ثنائي أكسيد الكربون. وتُجرى دراسات أخرى لبحث إمكانية خزن ثنائي أكسيد الكربون المقتنص في باطن الأرض، بما في ذلك خزنه داخل منشآت الغاز الطبيعي المسيل بحقل گورگون Gorgon على الرصيف القاري في شمال غرب أستراليا، وكذلك بحقل سنوڤيت (الثلج الأبيض) Snohvitللغاز في بحر بارنتس Barents قبالة الساحل الشمالي للنرويج، إضافة إلى حقول نفط المنحدَر الشمالي لألاسكا.
وفي جميع المشروعات التي هي قيد التنفيذ أو التي هي في طور الإنشاء، يتحتم اقتناص ثنائي أكسيد الكربون لأسباب تجارية (لتنقية الغاز الطبيعي قبل بيعه على سبيل المثال). ومن ثم فإن الخيارين المتاحين أمام الشركات المعنية هما إما إطلاق غازات الاحتباس الحراري إلى الغلاف الجوي وإما خزنها. ولم تقرر هذه الشركات بعد جمع ثنائي أكسيد الكربون أو لا. ونحن نتوقع أن تفضِّل كثير من الشركات التي يتعين عليها خفض انبعاثات ثنائي أكسيد الكربون، اختيار العزل في المستقبل؛ غير أن إقناع سائر المجالات التجارية والصناعية باقتناص انبعاثات ثنائي أكسيد الكربون من مصادر ضخمة مثل محطات توليد الطاقة الكهربائية أمر أكثر صعوبة، بسبب ارتفاع التكاليف المرتبطة بجمع غاز ثنائي أكسيد الكربون.
الأساسيات
دفن ثنائي أكسيد الكربون
يستعرض المؤلفون تقانة عزل الكربون ما هو عزل الكربون؟ إن الفكرة هي خزن غاز ثنائي أكسيد الكربون الحابس للحرارة في مكامن طبيعية بدلا من تركه يتراكم في الغلاف الجوي. وعلى الرغم من أن عزل الكربون كثيرا ما يرتبط بزراعة الأشجار، فإننا نبحث إمكانية اقتناص ثنائي أكسيد الكربون من مصادر ثابتة ـ محطة لتوليد الطاقة الكهربائية مثلا ـ ومن ثم حقنه في المحيطات أو في باطن الأرض. أين سيتم خزن ثنائي أكسيد الكربون؟ من الممكن ضخه في تكوينات جيولوجية تحت الأرض مثل طبقات فحم لا يمكن استخراجها أو آبار النفط أو الغاز الناضبة أو مكامن مائية ملحية، في سيرورة هي في جوهرها عكس سيرورة ضخ النفط من باطن الأرض إلى السطح. كما يبحث المهندسون إمكانية ضخ ثنائي أكسيد الكربون مباشرة في المحيطات بتراكيز لا تؤثر في المنظومة البيئية (الإيكولوجية) الموجودة في المنطقة على أعماق تضمن بقاءه في المحيطات. كيف سيتأكد العلماء من أن خزنه مأمون؟ إن أحد أهدافنا الأساسية هو التأكد من أن ثنائي أكسيد الكربون سيُخَزَّن بطريقة مأمونة وسليمة بيئيا. إن ذكريات كارثة بحيرة نيوس في الكاميرون عام 1986 (التي انبعثت منها وتفجرت فقاعة هائلة من ثنائي أكسيد الكربون فأدت إلى اختناق نحو 1700 شخص) تثير قضية السلامة وبالذات بالنسبة إلى الخزن في باطن الأرض. ولكن الوضع في البحيرة كان مختلفا كلية عن المخطط الذي نتصوره لعزل الكربون في المحيطات؛ إذ لا يتأتى لبحيرة صغيرة أن تحتفظ بكمية ضخمة من ثنائي أكسيد الكربون، ولذلك فإن انفجار بحيرة نيوس كان أمرا محتما. وفي المقابل لا توجد تلك القيود والتحديدات في المحيط. وفي حالة الخزن في باطن الأرض، فإن الطبيعة أظهرت سجلا من المسلك الآمن، إذ احتفظت مكامن مثل قُبّة ماك إلمو McElmo Dome بجنوب غرب ولاية كولورادو بكميات ضخمة من ثنائي أكسيد الكربون لقرون عدة. هل هناك مشروعات جارية حاليا لعزل الكربون؟ تضخ منصة سليپنر للغاز الطبيعي المقابلة لساحل النرويج ثنائي أكسيد الكربون داخل مكمن مائي ملحي على عمق 1000 متر تحت قاع البحر. وعلى الرغم من أن حقل سليپنر هو مشروع العزل الوحيد الذي ينفذ لمجرد اعتبارات التغير المناخي فإن المشروعات التجارية الأخرى توضح التقانة. تقوم أكثر من اثنتي عشرة من محطات توليد الطاقة الكهربائية باقتناص ثنائي أكسيد الكربون من الغازات المنبعثة من مداخنها، ومن ضمنها محطة شيدي پوينت بولاية أوكلاهوما التي قامت ببنائها الشركة الهندسية الدولية ABB. وفي أكثر من 65 حقل بترول في الولايات المتحدة تضُخ الشركات الغاز في باطن الأرض لتعزيز كفاءة حفر آبار النفط. |
في باطن الأرض أو تحت الماء
في واقع الأمر، إن تقانة ضخ ثنائي أكسيد الكربون داخل جوف الأرض متوطدة تماما، وهي ـ أساسا ـ النقيض لضخ النفط والغاز الطبيعي من باطن الأرض. والواقع إن هذه الممارسة شائعة في كثير من حقول النفط حاليا. إن حقن ثنائي أكسيد الكربون في مكمن نفط موجود حاليا يزيد من حركية النفط داخله، ومن ثم يُعزّز إنتاجية البئر. وخلال عام 1998 قام العاملون في حقول النفط الأمريكية بضخ ما مجموعه 43 مليون طن تقريبا من ثنائي أكسيد الكربون في باطن الأرض في أكثر من 65 مشروعا من مشروعات تحسين استعادة النفط. ولكن تلك الكمية تعد إضافة ضئيلة نسبيا في سيرورة عزل الكربون. وفي المقابل، فإن التكوينات الجيولوجية ـ بما فيها التكوينات الملحية المائية (مثل تلك الموجودة في حقل سليپنر) وطبقات الفحم غير القابلة للاستخراج ومكامن النفط والغاز الطبيعي الناضبة والكهوف الصخرية وقباب الملح في جميع أنحاء العالم ـ يمكن استخدامها لخزن المئات إن لم يكن الآلاف من بلايين الأطنان من الكربون.
توجد المخازن الطبيعية للكربون في الغلاف الجوي والمحيطات والرسوبيات والغلاف الحيوي؛ ويحدث التبادل بين هذه المكامن بطرق عدة. عندما يحرق الإنسان الوقود الأحفوري فإننا ننقل الكربون المخزون أصلا في الرسوبيات العميقة إلى الغلاف الجوي. إن هدف عزل الكربون هو إعادة توجيه الكربون من الغلاف الجوي إلى أحد المكامن الثلاثة الأخرى. |
ومع أن التكوينات الجيولوجية تتيح فرصا واعدة كأمكنة تخزين، فإن أكبر مَكْمَن محتمل لثنائي أكسيد الكربون الناجم عن النشاط البشري هو في أعماق المحيطات. وتحتجز المحيطات ما يقدر بنحو 000 40 بليون طن من الكربون مذابا في مياهها (مقابل 750 بليون طن في الغلاف الجوي)، إلا أن قدرات المحيط أكبر من ذلك بكثير. وحتى لو قُدّر للبشر أن يُضيفوا إلى المحيطات كمية من ثنائي أكسيد الكربون تعادل ضعف ما كان عليه تركيزه في الغلاف الجوي قبل ظهور الصناعات، فإن ذلك سيغير محتوى الكربون في أعماق المحيطات بنسبة أقل من 2 في المئة. وفي حقيقة الأمر، إن السيرورات الطبيعية البطيئة المسار سوف تُوَجه نحو 85 في المئة من الانبعاثات الحالية إلى المحيطات على مدى مئات من السنين، ولذلك فإن فكرتنا هي تسريع تلك المعدلات.
وحتى تكون سيرورة العزل بوساطة المحيطات مجدية ينبغي أن يُحْقَن ثنائي أكسيد الكربون تحت «منطقة الانحدار الحراري(1)» في البحار. إن المياه السفلى الكثيفة الباردة ترتحل ببطء شديد جدا خلال المنحدر الحراري، لذا فإن المياه الموجودة أسفل المنحدر الحراري قد تستغرق قرونا لتمتزج بالمياه السطحية، ومن ثم فإن أيا من ثنائي أكسيد الكربون الموجود أسفل هذا الحد سيحتجز بكفاءة. وعلى وجه العموم فكلما حَقَنَّا ثنائي أكسيد الكربون إلى أعماق أكبر، ازدادت الفترة الزمنية اللازمة له ليعود إلى الغلاف الجوي.
يُمكن إدخال ثنائي أكسيد الكربون إلى مياه البحار بطريقتين: إذابته على أعماق متوسطة (من 1000 حتى 2000 متر) ليكوّن محلولا مخففا؛ أو حقنه على عمق يزيد على 3000 متر لتكوين ما نسميه ببحيرة ثنائي أكسيد الكربون. تهدف الاستراتيجية الأولى إلى تقليل التأثيرات البيئية المحلية عن طريق تخفيف تركيز ثنائي أكسيد الكربون؛ في حين تَطمح مقاربة البحيرة إلى إطالة أمد بقاء ثنائي أكسيد الكربون في المحيطات.
يمكن إرجاع مفهوم تخزين ثنائي أكسيد الكربون في المحيطات إلى مقالة نُشِرت عام 1977 للعالم <C. مارشيتي> [من المعهد العالمي لتحليل النظم التطبيقية في لاكسنبورگ بالنمسا] طرح فيها إمكانية إيصال ثنائي أكسيد الكربون من خلال أنابيب إلى مياه البحر الأبيض المتوسط عند جبل طارق، ومن هناك سيتدفق طبيعيا باتجاه المحيط الأطلسي ومن ثم إلى أعماقه. وحتى اليوم، فإن مد أنبوب على قاع المحيط لنقل ثنائي أكسيد الكربون على عمق مناسب مازال واحدا من أكثر الخيارات واقعية لعزل الكربون. وتتضمن سيناريوهات الحقن الأخرى إلقاء ثلج جاف في المحيط من السفن؛ أو إدخال ثنائي أكسيد الكربون على عمق 1000 متر من خلال أنبوب تجره سفينة متحركة؛ أو مد أنبوب إلى منخفضات على قاع المحيط على عمق 3000 متر أو أكثر.
تقانات آمنة وموثوقة؟
على الرغم من توفر التقانة اللازمة للشروع في تخزين الكربون في مكامن أرضية وبحرية، فإن علينا أن نفهم على نحو أفضل كيف ستكون المردودات للبيئة. ومن الواضح أن سيرورة خزن ثنائي أكسيد الكربون يجب أن تكون أقل ضررا للبيئة من الإطلاق المتواصل لغازات الاحتباس الحراري. ففي حالة الخزن داخل جوف الأرض يتحتم أن نكون متأكدين من الثبات الطويل الأمد لأي تكوين جيولوجي مطروح للاختيار مكمنا. إن سلامة بنية الموقع مهمة ليس فقط لتأكيد عدم رجوع الغاز إلى الغلاف الجوي تدريجيا، بل أيضا لأن الانطلاق الفجائي لغاز ثنائي أكسيد الكربون في منطقة مأهولة بالسكان قد يتسبب في وقوع كارثة. إن غاز ثنائي أكسيد الكربون أثقل من الهواء، والتصريف السريع والغزير للغاز سيزيح الأكسجين الموجود عند سطح الأرض ويحل محله، فيتسبب في اختناق الإنسان والحيوان. ولكن لحسن الحظ فإن الطبيعة خَزَنت ثنائي أكسيد الكربون في باطن الأرض لملايين من السنين في مكامن مثل تلك التي عند قبة ماك إلمو McElmo Dome في جنوب غرب كولورادو، ولهذا فنحن نعلم أن هناك سُبُلا لعمل ذلك بطرق آمنة.
يوفر العزل في المحيطات مجموعة مختلفة من التحديات. والهم الرئيسي هو مردوداتها بالنسبة إلى حمضية مياه المحيطات. واعتمادا على الطريقة التي يُطلق بها ثنائي أكسيد الكربون فإن الأس الهدروجيني pH لماء البحر قرب موقع الحقن قد يراوح ما بين 5 و7 (إن الأس الهدروجيني 77 يمثل وسطا متعادلا، وعادة ما يكون الأس الهدروجيني لماء البحر نحو 8).
ازرع شجرة
خيار آخر لخزن الكربون لا يحتاج إلا إلى الشمس والهواء
لمدة تزيد على عقد من السنين هناك مشروع منظم مازال مستمرا، يستهدف عزل الكربون في مناطق زراعية ومناطق أزيلت منها الغابات في گواتيمالا. ليس هناك حاجة إلى أنابيب تحت السطح أو محطات ضخ، كل ما نحتاج إليه هو الأشجار. فالنباتات تمتص أثناء نموها ثنائي أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتختزنه ككربون في صورة خشب. وعلى أمل أن يستفيدوا ماديا من هذه الوسيلة الطبيعية لعزل الكربون فقد استهلت الشركات والحكومات مجهودات إعادة زراعة الغاباتreforestation والتشجير(2) afforestation وزراعة الغابات واستغلالها(3) agroforestry ضمن وسائل لمواجهة الالتزامات المتفق عليها في بروتوكول كيوتو(4) . في عام 1988 احتلت الشركة AES للكهرباء ـ ومقرها الولايات المتحدة ـ مركزا رياديا بالبدء في أول مشروع للتشجير مصمم ليعادل انبعاثات ثنائي أكسيد الكربون. في ذلك الوقت، كانت الشركة AES على وشك البدء ببناء محطة لتوليد الطاقة الكهربائية بحرق الفحم في ولاية كونيتيكت، كان من المتوقع أن تنفث 52 مليون طن من ثنائي أكسيد الكربون على مدى سنوات عمرها الأربعين. وفي أثناء عملها في گواتيمالا مع معهد الموارد العالمية (WRI) وهيئة الغوث (CARE)، ابتكرت الشركةAES فكرة تخصيص أراض جماعية لزراعة الأشجار community woodlots، كما أدخلت طرق زراعة الغابات ودربت فرقا على طرق مكافحة حرائقها. وطبقا لحسابات المعهد WRI فسوف يتم امتصاص ما يصل إلى 58 مليون طن من ثنائي أكسيد الكربون على مدى عمر المشروع. ويعمل حاليا أكثر من اثني عشر من تلك المشروعات في أربعة ملايين هكتار تقريبا من أراضي الغابات، ومن ضمنها أراض في الولايات المتحدة والنرويج والبرازيل وماليزيا وروسيا وأستراليا. وطبقا للتوقعات الحديثة، فإن الغابات حول العالم تخزن اليوم نحو تريليون طن من الكربون. ويقدر العلماء أنه لمعادلة الانبعاثات الحالية من ثنائي أكسيد الكربون يجب أن يزرع الإنسان غابات جديدة كل سنة تغطي منطقة مكافئة لكل مساحة الهند. إن مشروعات التشجير ليست حلا سريعا ميسرا ولكنها تطرح فوائد جمة تراوح ما بين تهيئة بيئات أفضل للحياة البرية وإيجاد مزيد من فرص العمل. ومع ذلك فإن قدرات الأشجار على أن تشكل مكمنا للكربون محدودة؛ كما أن هذه المقاربة لها مضارها فزرع الأشجار يستنزف التنوع الحيوي للنباتات الفطرية ويمكن أن يؤثر سلبا في المجتمعات النباتية المحلية ويجبرها على تغيير موطنها. وكما هي الحال بالنسبة إلى كثير من الحلول المقترحة لتغير المناخ، فإن الأشجار ستكون مؤثرة فقط كجزء من التزام عالمي لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
|
قد يكون التغير الكبير في الحمضية ضارا لكائنات حية مثل الپلانكتون الحيواني والبكتيريا والكائنات القاعية التي لا يمكنها السباحة إلى مياه أقل حمضية. غير أن الدراسة البحثية التي قام بها أحدنا (هيرتزوج) وزميله <E. آدامز> [من معهد ماساتشوستس للتقانة] تشير إلى أن الحفاظ على تركيز منخفض من ثنائي أكسيد الكربون قد يقلل من مشكلات الحمضية أو حتى يلغيها تماما. وعلى سبيل المثال فإن معامل تخفيفٍ مقداره جزء واحد في المليون يسبب تغيرا في قيمة الأس الهدروجيني مقداره أقل من 0.1. ويمكن بسهولة التوصل إلى هذا التركيز المنخفض بإطلاق ثنائي أكسيد الكربون على هيئة قُطَيْرات صغيرة من أنبوب موجود على قاع البحر أو على سفينة متحركة.
إنجاز كبير في سياسة تغير المناخ؟
<W .D. كيث> ـ <A .E. پارسون>
على مدى القرنين الماضيين، ازداد تركيز ثنائي أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بمقدار 31 في المئة نتيجة للأنشطة البشرية. وإذا استمرت الحال على ما هي عليه، فإن التوقعات تشير إلى أن التركيز سيصل عام 2100 إلى ضعفي المستوى الذي كان عليه قبل بدء عصر الصناعة. وعلى الرغم من أن هناك قليلا من الشك في أن هذه الزيادة ستغير المناخ بطريقة ملموسة فمازالت هناك درجة كبيرة من عدم الوثوق حول الحجم والتوقيت والأنماط الإقليمية لتغير المناخ؛ كما أنه حتى العواقب البيئية والاقتصادية والاجتماعية معلومة بدرجة أقل. على الرغم من عدم الوثوق هذا فقد برز إجماع عالمي على أهمية حجب المستويات الشاردة من ثنائي أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. إن جهود تثبيت تركيز ثنائي أكسيد الكربون حتى عند ضعف مستواه قبل بدء عصر الصناعة ـ وهو ما يعتبر بصفة عامة أقل الأهداف المرجوة ـ ستتطلب تخفيض انبعاثات ثنائي أكسيد الكربون في العالم بنحو 50 في المئة من المستوى المتوقع عام 2050. وإنه مما لا يثير الدهشة أن هذا التخفيض المفرط سيتطلب إعادة تنظيم جوهري لنظم الطاقة في العالم. إن معظم التقييمات الحالية لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري تفترض أن الوصول إلى تلك التخفيضات سيتم عن طريق خليط من زيادة كفاءة الطاقة والتحول إلى مصادر بديلة لا تستخدم الوقود الأحفوري مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة المولدة من النفايات الحيوية أو الطاقة النووية. وفي المقالة المرافقة «اقتناص غازات الاحتباس الحراري» يطرح مؤلفوها نهجا مختلفا جذريا، هو حرق الوقود الأحفوري من دون إطلاق غاز ثنائي أكسيد الكربون للغلاف الجوي عن طريق فصل انبعاثات الكربون ودفنها في باطن الأرض أو في أعماق المحيطات. ونحن مؤمنون بأن هذا النهج ـ المسمى تدبير (إدارة) الكربون ـ سيكون له مردودات أساسية على اقتصادات وسياسات تغير المناخ. ويُعدّ تثبيت تراكيز غاز ثنائي أكسيد الكربون عند 550 جزءا في المليون ـ وهو ضعف مستوى ما قبل عصر الصناعة ـ هدفا طموحا للتحكم في الانبعاثات، إلا أن هذا التركيز سيظل يتسبب في تغيرات مناخية مهمة، كما أن المشكلات البيئية الناجمة سيكون لها في غالب الأمر تأثير محدود في الإنتاج الاقتصادي العالمي ككل؛ فالدول الغنية بالذات لن تتأثر إلا قليلا فقط. ولكن النتائج لأقاليم بعينها ستكون ملموسة أكثر، فسوف تستفيد بعض الأمكنة وتُعاني أمكنة أخرى. وعلى سبيل المثال، فمع أن أجزاء من شمال الولايات المتحدة قد تتمتع بشتاء دافئ فإن منظومات بيئية (إيكولوجية) بالكامل مثل غابات الجبال في الجنوب الغربي والمروج الألبية وبعض الغابات الساحلية قد تختفي من الأجزاء القارية من الولايات المتحدة. وهذه النتائج المرجحة ـ بل والأكثر منها أهمية ـ التغيرات المحتملة غير المتوقعة ـ أسباب تجبرنا على أن نحاول تثبيت التراكيز عند أقل من 550 جزءا في المليون إذا كان ذلك ممكنا بتكلفة مقبولة. وحاليا فإن تكلفة إبقاء التركيز، حتى عند 550 جزءا في المليون، عن طريق العمليات التقليدية تبدو مرتفعة بالنسبة إلى القيمة الدولارية وبالنسبة إلى المشكلات البيئية الأخرى. إن جميع مصادر طاقة الوقود غير الأحفوري المتوفرة حاليا باهظة التكاليف، كما أن مصادر الطاقة المتجددة ذات كثافة طاقية ضئيلة؛ إذ إنها تنتج طاقة ضئيلة نسبيا في مقابل مساحة الأرض المطلوبة. وعلى ذلك فإن الاستخدام الواسع النطاق للطاقة المتجددة قد يضير أهم وأغلى مصادرنا البيئية، وهو الأرض. وعلى الرغم من أن التقدم التقاني ينبغي أن يخفض من تكلفة مصادر الطاقة المتجددة فإن هناك القليل مما يمكن عمله لتحسين كثافتها الطاقية. ولذلك، فهل يجب أن نخلص إلى أن تخفيض انبعاثات الكربون من دون التسبب في مردودات بيئية غير مقبولة سيوجه ضربة قوية للاقتصاد؟ ليس بالضرورة. إن لب مشكلة التكلفة هو في التنبؤ بمدى السرعة التي ستتطور بها التحسينات التقنية الموفرة للأموال استجابة لفرض ضريبة كربون أو أية قيود تنظيمية أخرى. ومن اللافت للنظر أن معظم النماذج الاقتصادية المستخدمة حاليا لتقييم تكلفة تخفيض الانبعاثات تفترض أن الابتكار يتقدم حسب خطاه المرسومة له ولا يمكن تسريعه عن طريق تبني سياسات بديلة. وتحت مظلة هذا الافتراض، فإن تأخير الجهود الرامية لخفض الانبعاثات تبدو مقنعة، إذ إنها ستوفر الوقت اللازم لتطوير أفضل للتقانة، مما سيسهم في خفض التكلفة؛ في حين أنه إذا أخذنا في الاعتبار الافتراض المضاد ـ وهو ما نعتبره أقرب للحقيقة ـ فإن الابتكار يستجيب بقوة لمؤشرات السعر والسياسات. وفي هذه الحالة فإن الاعتماد المبكر لسياسة تواجه تغيرات المناخ ستكون مجدية، إذ إنها ستحث على ظهور الابتكارات التي تقلل تكلفة الوصول إلى تخفيضات ضخمة في الانبعاثات. هذا، وقد يكون تدبير الكربون carbonmanagement أحد تلك الابتكارات. ويتوافر حاليا عدد من تقانات تدبير الكربون، التي يبدو أنها أرخص بمراحل من تقانات الطاقة المتجددة لتوليد الطاقة الكهربائية. ولتحقيق تخفيضات كبيرة في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، يجب أن يبدأ المجتمع باستخدام وقود خالٍ من الكربون ـ مثل الهدروجين ـ في وسائل النقل والمواصلات. وهنا فإن الميزة النسبية لتدبير الكربون مقارنة بتقنيات الطاقة المتجددة تبدو أكثر وقعا في عمليات توليد الكهرباء. إضافة إلى ذلك، فإن هذه التقانات توفر ميزة فريدة عن مصادر الطاقة المتجددة؛ فلكونها أكثر توافقا مع البنية التحتية للطاقة الموجودة حاليا، فإننا نتوقع أن تنخفض تكلفتها بصورة أسرع من مثيلاتها في الطاقة المتجددة. يُضعف تدبير الكربون من الصلة ما بين حرق الوقود الأحفوري وإطلاق غازات الاحتباس الحراري، مما يجعل اعتماد الاقتصاد العالمي على الوقود الأحفوري أكثر استدامة. وذلك يضيف ميزة حاسمة لتقنية تدبير الكربون، إذ إنها ـ من خلال تقليلها الأخطار التي تتهدد صناعات الوقود الأحفوري والدول الغنية بذلك الوقود ـ قد تساعد على الخروج من حالات استحكام الخلافات السياسية الحالية. وبصراحة، فلو اتبع المجتمع سياسة تدبير الكربون على مدى واسع فستظل الدول والصناعات المعتمدة حاليا على الوقود الأحفوري تكسب وتنتفع من خلال مظلة أسواق الطاقة الحالية والمستقبلية والتي ستتطور باتجاه تدبير الكربون، مما يجعلها أكثر قابلية لتقبل السياسات الرامية إلى إجراء تخفيضات ضخمة في الانبعاثات إلى الغلاف الجوي. سيجد أصدقاء البيئة ـ على الأرجح ـ أن سياسة تدبير الكربون ستحدث خلافات عميقة لكثير من الأسباب. إن كفاءة عزل الكربون مرتبطة بمدى جودة المكامن التي يخزن فيها الكربون. ولقد تسبب التاريخ المؤسف لخزن النفايات السامة والنووية في زرع الشك لدى كثير من الناس الحصيفي التفكير في ادعاءات الخبراء حول سلامة خزن الكربون في باطن الأرض على الأمد الطويل. ولذلك يتعين على الباحثين أن يجيبوا بحيادية عن تلك الشكوك حينما يقيّمون سلامة مكامن الكربون المقترحة في باطن الأرض وفي المحيطات. وربما كان الأمر الأكثر إحباطا لأصدقاء البيئة هو أن تدبير الكربون يتعارض مع الاقتناع العميق الجذور بأن الاعتماد المتواصل على الوقود الأحفوري ما هو إلا مشكلة ذاتية، وأن الحل الوحيد المقبول هو في استخدام الطاقة المتجددة. وقد اقتُرِحت سياسة تدبير الكربون أولا ضمن اتجاه في الهندسة الجيولوجية، وهو تصنيف تتقاسمه مع اقتراحات «هندسة» المناخ العالمي ـ على سبيل المثال ـ بحقن هباء جوي aerosols في الاستراتوسفير ليعكس الإشعاعات الشمسية ويبرد سطح الأرض. ولدى كثير من أصدقاء البيئة نفور مفهوم من التطبيقات التقنية الواسعة المجال، فهم يحاولون أن يبرهنوا على أنه سيكون من الأصوب استخدام مصادر طاقة لا تتطلب جهودا ضخمة للتنظيف. ومع أن تقانة تدبير الكربون واعدة فهي مازالت غير مبرهنة. ومن الحكمة اتباع الحذر؛ إذ إن تاريخ تقانات الطاقة يزخر بخيارات كانت تبدو حينها وكأنها المنقذة، في حين أنها تؤدي حاليا دورا هامشيا (مثل الطاقة النووية). إن استكشاف إمكانيات أي من تدبير الكربون أو الطاقة المتجددة سيتطلب اتخاذ إجراءَات سياسية واقتصادية الآن ـ أي المساندة الفعالة للأبحاث الأساسية في الطاقة، ولضرائب الكربون أو إجراءات مكافئة تعطي المنشآت حوافز لتطوير وتسويق الابتكارات المخفضة للانبعاثات بتكلفة معقولة. وربما سيسمح تدبير الكربون للعالم ـ بعد طول انتظار ـ أن يجري تخفيضات هائلة في انبعاثات ثنائي أكسيد الكربون بتكلفة مقبولة سياسيا. وفي واقع الأمر فعلى مدى العقود العديدة القادمة، قد يكون تدبير الكربون هو أفضل خياراتنا للحفاظ على المناخ العالمي. David W. Keith – Edward A. Parson كثيرا ما يتعاونان في أبحاث سياسات البيئة. كيث أستاذ مساعد في قسم الهندسة والسياسة العامة في جامعة كارنيگي ميلون، أما پارسون فهو أستاذ مشارك في مدرسة <جون .F كينيدي> للإدارة بجامعة هارڤارد.
|
على امتداد السنوات المقبلة سيقوم المجتمع العلمي بإجراء عدد من التجارب لتقييم كيفية خزن كميات ضخمة من ثنائي أكسيد الكربون بطرق آمنة وسليمة بيئيا. فمثلا في صيف 2001 سيبدأ فريق من الباحثين من الولايات المتحدة واليابان وسويسرا والنرويج وكندا وأستراليا بدراسة المنطقة المقابلة لشاطئ كونا بولاية هاواي لاختبار الجدوى التقنية والتأثيرات البيئية لخزن ثنائي أكسيد الكربون في المحيطات. (يشارك اثنان منا في هذا المشروع: هيرتزوج أحد أعضاء اللجنة الفنية وإلياسون أحد أعضاء لجنة التوجيه).
تتمثل خطتنا في إجراء سلسلة من نحو عشرة اختبارات على فترة أسبوعين، متضمنة إطلاق ثنائي أكسيد الكربون على عمق 800 متر. وسوف نرصد العمود plume الناتج ونأخذ قياسات تتضمن قيمة الأس الهدروجيني للماء وكمية الكربون غير العضوي المذاب. وستسمح لنا تلك البيانات بتنقيح نماذج الحاسوب، ومن ثم تعميم نتائج تلك التجربة للتنبؤ بالمردودات البيئية على وجه أدق. إننا أيضا مهتمون بتحديد أي من التصاميم التقنية هو الأفضل للتخفيف السريع لتركيز قطيرات ثنائي أكسيد الكربون.
تفصل منشأة الاستعادة الموجودة في شيدي بوينت بأوكلاهوما ثنائي أكسيد الكربون من أدخنة العادم، ويُبَاع الغاز لاحقا لاستخدامه في الصناعات الغذائية. |
أمور مالية
إضافة إلى تساؤلات السلامة البيئية وإمكانية التنفيذ، فإنه يجب أن ننظر إلى تكلفة عزل الكربون. ولما كانت محطات توليد الطاقة الكهربائية هي منشأ نحو ثلث مجموع ثنائي أكسيد الكربون المنطلق إلى الغلاف الجوي عالميا، ولما كانت تلك المحطات مصدرا ضخما مركّزا للانبعاثات، فإنها تشكل هدفا منطقيا لتطبيق عزل الكربون. إضافة إلى ذلك فإن لدى تلك المحطات خبرة سابقة في تقليل الملوثات. (ومع ذلك فالجدير ذكره أن الاهتمام كان في الأساس مركزا على التحكم في الملوثات، مثل الجسيمات العالقة وأكاسيد الكبريت وأكاسيد النتروجين أو حتى أحادي أكسيد الكربون ـ ولكن ليس على ثنائي أكسيد الكربون نفسه.)
إن الأجهزة المسماة المُرَسِّبات الكهرَسكونية (الإلكتروستاتيكية) ـ التي استخدمت أول مرة في السنوات العشر الأولى من القرن العشرين ـ ساهمت في التخلص من الجسيمات المنبعثة من حرق الوقود الأحفوري، في حين لم تتسبب في رفع أسعار الكهرباء إلا بمقدار طفيف. واليوم فإن محطة حديثة لتوليد الطاقة، تتضمن أفضل ما أنتجه العقل البشري من معدات التنقية البيئية لإزالة الحبيبات العالقة وأكاسيد الكبريت وأكاسيد النتروجين، تكلف إقامتها ما يزيد بنحو 30 في المئة على تكلفة إقامة محطة لا تضم تلك المعدات. وتُضيف هذه المعدات البيئية إلى سعر الكهرباء المولَّدة ما يراوح فقط بين 0.1 و0.5 من السنت الأمريكي لكل كيلووات ساعة.
ولما كانت غازات العادم في محطات توليد الطاقة الكهربائية التي تستخدم الوقود الأحفوري تحتوي على تراكيز منخفضة من ثنائي أكسيد الكربون (تتراوح عادة ما بين 3 و15 في المئة) فإنه لن يكون مجديا اقتصاديا أن نوجه مسار العادم بأكمله نحو مواقع الخزن، ولذلك يجب أن تكون الخطوة الأولى هي زيادة تركيز ثنائي أكسيد الكربون الموجود في الانبعاثات. ولكن اتضح ـ لسوء الحظ، وفي حدود إمكانات الأجهزة الحالية ـ أن هذه الخطوة هي الأكثر تكلفة، ولذلك فإن تطوير التقانة لتقليل هذه التكلفة هو هدف رئيسي.
تتضمن الطريقة الأكثر شيوعا لفصل ثنائي أكسيد الكربون خلط محلول مخفف من الإيثانول أمين (MEA) مع نواتج الاحتراق الغازية أو غازات العادم في داخل برج الامتصاص بمحطة مصممة لامتصاص غازات الاحتباس الحراري. يتفاعل ثنائي أكسيد الكربون الموجود في غاز العادم مع المحلول الأميني عند درجة حرارة الغرفة لتكوين مركّب جديد ضعيف الترابط. يجري تسخين هذا المركب في برج آخر (برج التجريد) لنحو 120 درجة مئوية لتحرير ثنائي أكسيد الكربون. بعد ذلك يتم ضغطه بحالته الغازية وتجفيفه وتبريده فجائيا وإسالته وتنقيته (إذا لزم الأمر)؛ ويُعاد تدوير المحلول الأميني. تعمل هذه التقانة حاليا بكفاءة، إلا أنه ينبغي تطويرها بحيث تصبح أكثر اقتصادا للطاقة إذا كان لها أن تُطبّق على نطاق واسع لعزل الكربون. واليوم يقوم عدد من محطات توليد الطاقة الكهربائية ـ لا يتعدى عدد أصابع اليد، ومن ضمنها المحطة المنشأة في ولاية أوكلاهوما من قبل الشركة ABB (حيث يعمل إلياسون رئيسا لأبحاث التغير العالمي) ـ باقتناص ثنائي أكسيد الكربون من غازات الاحتراق. وبعد ذلك يباع هذا الغاز للاستعمالات التجارية مثل التثليج الجاف للدجاج أو كَرْبَنة مشروبات البيرة والصودا.
ويوفر استخدام آخر لثنائي أكسيد الكربون المستعاد العديدَ من الفوائد المحتملة. واليوم يمكن استخدام الميثانول وقودا. إن توليد مصدر الطاقة النقي هذا (الميثانول) من ثنائي أكسيد الكربون المقتنص والهدروجين المستخلص من مصادر عديمة الكربون سيكون أكثر تكلفة مما لو أُنتج الميثانول من الغاز الطبيعي كما يتم حاليا. ولكن بإعادة استخدام ثنائي أكسيد الكربون وبإعطائه قيمة سوقية، فإن هذه الطريقة ينبغي أن تقلل من الانبعاثات ككل، وأن تقدم حافزا لخفض تكاليف تقانة اقتناص ثنائي أكسيد الكربون، وأن تساعد على بدء التحول إلى الاستخدام الروتيني لوقود أنظف.
يتحتم أن يتعامل العلماء ومخططو السياسات والجمهور مع الأهمية المستمرة للفحم والنفط والغاز الطبيعي باعتبارها مصادر للطاقة، حتى في عالم مقيد بهموم تقلبات المناخ. إن التقانة الأساسية اللازمة لاستخدام هذا الوقود بأسلوب ودود للبيئة موجودة فعلا. وسترفع المعدات المتوافرة حاليا لاقتناص ثنائي أكسيد الكربون من محطات توليد الطاقة الكهربائية تكلفة توليد الكهرباء إلى 50، وحتى إلى 100، في المئة. ولكن بسبب كون العزل لا يؤثر في تكلفة نقل الكهرباء والتوزيع (وهو ما يُمثل جزءا كبيرا من فواتير كهرباء المستهلك)، فإن أسعار التوريد ستزداد بنسبة أقل؛ ما بين 30 و50 في المئة. ويُفترَض أن تؤدي أبحاث التوصل إلى تقانات أجود للفصل إلى خفض أكثر للتكاليف.
ما الذي يجب أن يَحْدث لكي يصبح عزل الكربون ممارسة شائعة؟ أولا، يحتاج الباحثون إلى أن يؤكدوا ملاءمة مختلف مواقع الخزن المقترحة، وذلك بطريقة واضحة ومقبولة من عامة الجمهور. ثانيا، نحن نحتاج إلى جهود قيادية من الصناعة والحكومة لكي تبرز فاعلية تلك التقانات على نطاق جد واسع. وأخيرا، نحن نحتاج إلى تقانة متطورة لخفض التكاليف المرتبطة بفصل ثنائي أكسيد الكربون من محطات توليد الطاقة الكهربائية. ولقد أظهر مشروع سليپنر أن عزل الكربون يمثل خيارا واقعيا لخفض انبعاثات ثنائي أكسيد الكربون عند وجود حافز مادي. ولقد حدثت تغيرات ثورية خلال المئة عام السابقة في نظم تزويدنا بالطاقة ـ من اقتصاد ثابت مبني على الفحم والبخار إلى اقتصاد متحرك قائم على الوقود السائل والغاز والكهرباء. وتَعِدُ التغيرات التي ستحدث خلال المئة عام المقبلة بأن تكون أكثر ثورية.
المؤلفون
Howard Herzog – Baldur Eliasson – Olav Kaarstad
تقابلوا في أمستردام في الشهر 3(1992) أثناء المؤتمر الدولي الأول لإزالة ثنائي أكسيد الكربون. هيرتزوج ـ المهندس والباحث الرئيسي في مختبر الطاقة التابع لمعهد ماساتشوستس للتقانة ـ هو المؤلف الرئيسي للكتاب الأبيض الذي أصدرته وزارة الطاقة الأمريكية عام 1977 عن عزل الكربون. وإلياسون هو رئيس برنامج الطاقة والتغير العالمي التابع للشركة ABB وهو ممثل سويسرا، إضافة إلى كونه نائب رئيس برنامج أبحاث وتطوير حول غازات الاحتباس الحراري التابع لوكالة الطاقة الدولية. أما كارستاد فهو الاستشاري الرئيسي للبحوث في مجال الطاقة والبيئة بشركة ستات أويل Statoil النرويجية للبترول والغاز، وهو حاليا مرتبط بالمشروع الجاري لحقن ثنائي أكسيد الكربون بحقل سليپنر في بحر الشمال.
مراجع للاستزادة
ABB Group’s Energy and Global Change Web site is at www.abb.com/ (click on “Environment,” then on “Energy and Global Change”).
IEA Greenhouse Gas Research and Development Program Web site is at www.ieagreen.org.uk/ MIT. Energy Laboratory Web site is atweb.mit.edu/energylab/www
Statoil Web site is at www.statoil.com (for information on the Sleipner area in particular, go to www.statoil.com/statoilcom/svg00990.nsf/ealias/Sleipner ).
U.S. Department of Energy’s Office of Fossil Energy Web site is at www.fe.doe.gov/coal_power/sequestration/
U.S. Department of Energy’s Office of Science Web site is at www.sc.doe.gov/production/ober/carbseq.html
Scientific American, February 2000
(*) Capturing Greenhouse Gases
(1) thermocline؛ وهي الطبقة من مياه المحيطات المحصورة ما بين 100 و1000 متر تقريبا والتي تتناقص درجة حرارتها بسرعة مع ازدياد العمق. (التحرير)
(2) زراعة أشجار في أرض لم تكن مشجرة من قبل.
(3) تحقيق تكامل بين أشجار الغابات والمحاصيل الزراعية.
(4) وهي الاتفاقية الدولية للبيئة لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. (التحرير)