العضلات والجينات والأداء الرياضي
العضلات والجينات والأداء الرياضي(*)
تساعد دراسة البيولوجيا الخلوية للعضلات على تفسير الأسباب
التي يعزى إليها فوز رياضي بعينه. كما تقترح هذه الدراسة ما ينبغي على
رياضيي المستقبل القيام به لترجيح كفتهم في الفوز على نحو أفضل
<L .J. أندرسن> ـ <P. شرلِنگ> ـ <B. سالتين>
«خذوا أمكنتكم!» خيم الصمت، وتركزت عيون 000 60 مشاهد على ثمانية من أسرع الرجال في العالم. ففي 22/8/1999، تحفز العداؤون عند خط البداية في ساحة السباق استعدادا لنهائي المئة متر لبطولة العالم المقامة في إشبيلية بإسبانيا.
«استعدوا!» ثم دوى صدى العيار الناري في الهواء الدافئ ذلك المساء، وعلا صخب الجماهير؛ فيما وثب المتنافسون من نقاط انطلاقهم. بعدها بمقدار 9.80 ثانية فقط عبر الفائز خط النهاية؛ إنه <M. گرين>، رياضي من لوس أنجلوس عمره 25 عاما.
وقد نتساءل لماذا غدا گرين أسرع رجل في العالم، وليس الكندي <B. سُورِن> الذي احتل المركز الثاني؟ فكلا الرجلين تدرب من أجل هذه اللحظة تدريبا متواصلا ولسنوات طويلة، واتبع حمية «متقشفة» أساسها التدريب الرياضي والراحة والنظام الغذائي الصارم، وبضعة أشياء أخرى هامشية. وبطبيعة الحال، إن الإجابة عن هذا التساؤل معقدة، وتتعلق بطيف واسع من التفاصيل الصغيرة، بدءا من الحالة الذهنية للرياضيين في يوم السباق، بل وحتى تصاميم أحذيتهم الرياضية. ولكن في سباق المسافات القصيرة (الذي يعتمد بطبيعته على القوة الجسدية الخالصة)، فإن العامل الحاسم في الفوز هو فيزيولوجي بحت: إن الألياف العضلية في ساقي گرين (وفي فخذيه على وجه التخصيص) قادرة على توليد قوة تفوق قليلا، خلال فترة السباق القصيرة، تلك التي تتولد لدى منافسيه.
وقد وسّعت بيانات (معطيات) حديثة من مختبراتنا ومختبرات أخرى معارفَنا عن كيفية تلاؤم العضلة البشرية مع التمرينات الرياضية أو مع غيابها. وإلى أي مدى يمكن أن تغير عضلة الإنسان نفسها لتفي بالتحديات المختلفة، كالسباق الماراثوني أو كاندفاعة الانطلاق في سباق المسافات القصيرة. وساعدتنا المعلومات على فهم أسباب فوز رياضي مثل گرين، كما عمقت معارفنا بمدى قدرات الأشخاص العاديين؛ حتى إنها أماطت اللثام عن المعضلة الدائمة: أَتُخْلق الصفوة من العدائين والسباحين وراكبي الدراجات ومتزحلقي المسافات الطويلة مختلفة عنا، أم أن التدريب المناسب والتصميم يستطيعان أن يحولا أي واحد منا إلى رياضي بطل.
تعد العضلات الهيكلية أكثر النسج وفرة في جسم الإنسان وأعظمها تلاؤما. فالتدريب الشاق باستعمال الأثقال يمكن أن يضاعف حجم العضلة مرتين أو ثلاثا، في حين أن عدم الاستعمال (كما هي الحال في رحلات الفضاء) قد يجعلها تضمر بنسبة 20% خلال أسبوعين. ويكمن وراء هذا التلاؤم عدد من الظواهر الهائلة التعقيد، منها الميكانيكية الحيوية والكيميائية الحيوية. ولكن عقودا من البحث رسمت صورة شبه كاملة عن الكيفية التي تستجيب وفقا لها العضلات للتدريب الرياضي.
وما تحسبه أكثرية الناس عضلة هو في حقيقة الأمر حزمة من الخلايا، تُدعى أليافا fibres، يلتصق بعضها ببعض بوساطة نسيج كُلاّجيني collagen (انظر الشكل في الصفحتين 6 و77). ويتألف الليف العضلي الهيكلي الواحد من غشاء، وكثرة من النوى المبعثرة scattered nuclei، كل واحدة منها تحتوي على الجينات، وتقع تحت الغشاء مباشرة على امتداد طول الليف. وكذلك تحتوي الخلية على آلاف الشرائط الداخلية التي تعرف باللييفات العضلية myofibrils، وتؤلف سيتوپلازم (هيولي) الخلية. ويبلغ أكبر الألياف العضلية قرابة 30 سنتيمترا طولا، ويبلغ أعرضها ما بين 0.05 و0.15 مليمتر عرضا، ويحتوي على عدة آلاف من النوى.
واللييفات العضلية التي تملأ الليف لها طول الليف نفسه، وهي المسؤولة عن تقلص الخلية تقلصا قويا استجابة للدفعات العصبية. وتمتد الخلايا العصبية (العصبونات neurons) المحركة من النخاع (الحبل) الشوكي spinal cord إلى مجموعة من الألياف، تؤلف وحدة محركة motor unit. إن العصبون المحرك في عضلات الساق يضبط (يُعصِّب) عددا من الألياف العضلية يتفاوت ما بين عدة مئات وألف أو أكثر. ولكن إذا كان الأمر يتطلب دقة عالية جدا (كالتحكم في حركة الإصبع أو كرة العين أو الحنجرة مثلا) فإن عصبونا محركا واحدا يتحكم في ليف عضلي واحد فقط، أو في قلة من هذه الألياف على أبعد تقدير.
ويُنجَزُ التقلصُ الفعلي لِلُّيَيْف العضلي بفضل ما يحويه من وحدات متناهية الدقة، تسمى القُسَيمات العضلية sarcomeres، تترابط بوساطة نهاياتها لتكوّن اللييفات العضلية نفسها. ويحتوي كل قُسيم عضلي على نوعين من الپروتينات الخيطية filamentary proteins، هما الميوسين والأكتين، ينجم التقلص عن تآثرهما. وفي أثناء التقلص يَقْصر القُسَيْم العضلي، تماما كما تتداخل حلقات المقراب (التلسكوب) بعضها في بعض، فيما تنزلق خيوط الأكتين عند كل نهاية من نهايات خيط الميوسين المتوسط، باتجاه القسم المركزي للميوسين.
ويحدد أحد مكونات جزيء الميوسين (ويُعرف بالسلسلة الثقيلة) الخصائص الوظيفية لليف العضلي. وفي الإنسان البالغ توجد هذه السلسلة الثقيلة بثلاثة تنوعات مختلفة، تسمى الأشكال الإِسْوية isoforms، ويرمز لها بالنمط I وIIa وIIx، وكذلك الألياف التي تحويها. ويسمى النمط I من الألياف بالألياف البطيئة، في حين يسمى النمطان IIa وIIx بالألياف السريعة. وسميت الألياف بطيئة أو سريعة لسبب وجيه، وهو أن السرعة القصوى لتقلص الليف العضلي من النمط I تساوي تقريبا عُشْر السرعة القصوى لتقلص الليف من النمط IIx، في حين تتوسط سرعة الليف IIaالنمطين I وIIx.
إن عدّاء المسافات القصيرة الأمريكي <B. لويس> المصنّف عالميا (الصفحة المقابلة) يمتلك في ساقيه نسبة أكبر مما يُعرف بالألياف العضلية السريعة مما يمتلكه ماراثوني أو من يمارسون الرياضات الشاقة. فالليف السريع IIx يتقلص بسرعة تفوق عشر مرات سرعة تقلص الليف من النمط البطيء I. أما النمط IIa فيتوسط تقريبا النمطين السابقين. |
جوهر المادة العضلية
يرجع التباين في سرعة تقلص الألياف إلى اختلاف طرائقها في تقويض جزيء الأدينوسين الثلاثي الفسفات (ATP) الموجود في ناحية السلسلة الثقيلة للميوسين، وذلك لاشتقاق الطاقة اللازمة للتقلص. وتعتمد الألياف البطيئة بدرجة أكثر على الاستقلاب (الأيض) الهوائي aerobic metabolism الأكثر كفاءة، في حين تُعَوِّل الألياف السريعة أكثر على الاستقلاب (الأيض) اللاهوائي anaerobic. وهكذا، فالألياف البطيئة مهمة للأنشطة والرياضات التي تتطلب التحمل، كالعدو لمسافات طويلة وسباق الدراجات والسباحة؛ في حين أن الألياف السريعة تشكل مصدر القوة لوقت قصير، كما في حالة رفع الأثقال وسباق المسافات القصيرة.
ويمتلك الشخص البالغ الصحيح في المتوسط أعدادا متساوية تقريبا من الألياف السريعة والبطيئة في العضلة الرباعية الرؤوس quadriceps muscle للفخذ مثلا. ولكن البشر، في هذا الصدد، يبدون تباينا كبيرا. فقد وجدنا أفرادا تضم العضلة الرباعية الرؤوس لديهم أليافا بطيئة بنسبة 19 في المئة، وآخرين بلغت النسبة لديهم 95 في المئة. فمن لديه من الألياف البطيئة 95 في المئة قد يصبح عداء ناجحا في سباق المسافات الطويلة (الماراثون)، ولكنه لن يغدو أبدا عدّاء متفوقا في سباق المسافات القصيرة. والعكس صحيح في ما يتعلق بمن لديه 19 في المئة من الألياف البطيئة.
إضافة إلى الأنماط الثلاثة المتميزة من الألياف، توجد هجائن hybrids تحوي نمطين من الأشكال الإسوية المختلفة من الميوسين. وتقع هذه الألياف الهجينة في متصل eontinuum من الألياف، يتراوح بين تلك التي يكاد يسودها إما الشكل الإسوي البطيء slow isoform وإما الشكل الإسوي السريع. وكما هو متوقع، فإن الخصائص الوظيفية لليف تكون في كلتا الحالتين قريبة من نمط الليف السائد.
ويعد الميوسين نوعا من الپروتينات غير عادي ومثيرا للفضول. فلقد قارن الباحثون بين الأشكال الإسوية للميوسين في ثدييات مختلفة، فوجدوا أن هناك تباينا طفيفا بين نوع وآخر. فالميوسين البطيء (النمط I) الموجود في الجرذ أقرب إلى مثيله في الإنسان من قرابته إلى الميوسين السريع في الجرذ نفسه. وتوحي هذه الحقيقة بأن الضغط التطوري الانتقائي selective evolutionary pressure قد حافظ على الأشكال الإسوية للميوسين المتميزة وظيفيا، وأن هذا الضغط صان أساسا أشكالا إسوية خاصة نشأت عبر ملايين السنين من التطور. فتلك الأنماط من الميوسين تشكلت في المراحل المبكرة من التطور، حتى إن المخلوقات الأكثر بدائية تمتلك أشكالا إسوية من الميوسين لا تختلف اختلافا كبيرا عما نمتلكه نحن.
تضخم العضلات
لا تستطيع الألياف العضلية أن تشطر نفسها لتكوّن أليافا جديدة. فبتقدم العمر يفقد الناس أليافا عضلية لا تعوضها ألياف أخرى (انظر ما هو مؤطر في الصفحة 10). لذا، فإن العضلة لا تصبح أكثر ضخامة إلا عندما تزداد أليافها ثخانة.
وترجع هذه الثخانة إلى تكوُّن لييفات عضلية إضافية. فالكَرْب (الإجهاد) الميكانيكي الناجم عن التمرينات الرياضية والذي يصيب الأوتار والبنى الأخرى المتصلة بالعضلة، يستثير پروتينات إشارية(1) signaling proteins، تنشط الجينات التي تعمل على حث ألياف العضلة على تكوين المزيد من الپروتينات التقلصية. وتتأتى الحاجة إلى هذه الپروتينات (الأكتين والميوسين بصورة رئيسية) فيما ينتج الليف كميات كبيرة من اللييفات العضلية الإضافية.
وهناك حاجة إلى المزيد من النوى كي يتم إنتاج پروتينات إضافية، وأيضا لدعم وجود هذه الپروتينات، وللحفاظ على نسبة معينة من حجم الخلية إلى حجم النوى. وكما ذكرنا آنفا، فإن الليف العضلي هو خلية متعددة النوى، ولكن النوى داخل الليف لا تستطيع الانقسام، ولذا فإن خلايا أخرى، تعرف بالخلايا الساتلة satellitecells تعمل على إمدادها بالنوى الإضافية. وتوجد الخلايا الساتلة (وتعرف أيضا بالخلايا الجذعية stem cells) مبعثرة على سطح ليف العضلة الهيكلية بين العديد من النوى، ومنفصلة انفصالا تاما عن خلية العضلة. وتحتوي الخلية الساتلة على نواة واحدة فقط، وهي قادرة على الانقسام. وتعمل هذه النوى، في إثر اندماجها في الليف العضلي، مصدرا للنوى الجديدة التي تتمم نمو الليف.
وتتكاثر الخلايا الساتلة استجابة للبلى والتمزق المتأتيين عن التمارين الرياضية. وترى إحدى النظريات أن الرياضة العنيفة تلحق بالألياف العضلية تمزقات ميكروية (صِغرية) microtears. فتجتذب المنطقة التالفة الخلايا الساتلة التي تندمج في النسيج العضلي، وتبدأ بإنتاج الپروتينات لملء الفجوة. ومع تكاثر الخلايا الساتلة، فإن بعضها يظل كما هو على سطح الليف، في حين يندمج بعضها الآخر في هذه البنية. ولا يمكن بعدئذ تمييز النوى المندمجة عن النوى الأخرى للخلية العضلية. وبوجود هذه النوى الإضافية، يصبح الليف قادرا على إنتاج پروتينات إضافية وعلى تكوين لييفات عضلية جديدة.
ولكي تنتج الخلية العضلية الپروتين (شأنها شأن أي خلية أخرى في الجسم)، فإنها تحتاج إلى مخطط يحدد ترتيب الحموض الأمينية التي ستكوّن الپروتين، وبمعنى آخر تعيين نوع الپروتين الذي سيُنْتَج. إن هذا المخطط ما هو إلا في جينة توجد في نواة الخلية. وتبدأ السيرورة ـ التي تَخْرج بها المعلومات من النواة إلى السيتوپلازم، حيث سيتم تصنيع الپروتين ـ بالانتساخ transcription؛ وهذا الانتساخ يحدث في النواة عندما تُنسخ المعلومات الجينية (المكوّدة في الدنا DNA) على شكل جزيء آخر يسمى الرنا المرسال، الذي يحمل هذه المعلومات خارج النواة إلى الريبوسومات (الريباسات) ribosomes، التي تُجَمِّع الحموض الأمينية مكونة پروتينات مثل الأكتين أو أحد الأشكال الإسوية للميوسين، وذلك وفقا لما يحدده الرنا المرسال. وتعرف السيرورة الأخيرة بالترجمة. ويطلق البيولوجيون على السيرورة الكاملة لإنتاج الپروتين بدءا من الجينة مصطلح التعبير الجيني genetic expression.
تتألف العضلة من خلايا مليئة بأشرطة تعرف باللييفات العضلية، وهذه تتألف بدورها من وحدات قلوصة تسمى القُسيمات العضلية. إن أهم مكونات القُسَيمات العضلية پروتينان خيطيان هما: الأكتين والميوسين. وتنزلق جزيئات هذين الپروتينين أحدهما فوق الآخر مقرابيا(2) في أثناء تقلص القُسَيم العضلي وانبساطه. |
وهناك مجالان أساسيان من مجالات الدراسات الخاصة ببحوث العضلات الهيكلية، يتصلان مباشرة بالأداء الرياضي، ويدوران حول الطريقة التي تتسبب فيها التدريبات والمنبهات الأخرى بكبر حجم العضلة (سيرورة تعرف بالضخامةhypertrophy)، وبالكيفية التي تسبب بوساطتها هذه الفاعلية تحول ألياف العضلة من نمط إلى آخر. وفي السنوات القليلة الفائتة تتبعنا ـ نحن وآخرون ـ على نحو معمق هذين الموضوعين، وحصلنا على بعض الملاحظات المهمة.
وتعود الأبحاث تاريخيا إلى أوائل ستينات القرن العشرين عندما قام <.J .A. بولر> و<C .J. إكلز> [من الجامعة الوطنية الأسترالية في كانبرا]، وفيما بعد <M. باراني> ومعاونوه [من معهد أمراض العضلات في مدينة نيويورك] بإجراء سلسلة من الدراسات على الحيوانات، أدت إلى تحول ألياف العضلات الهيكلية من الشكل السريع إلى البطيء، ومن البطيء إلى السريع. واستعمل الباحثون وسائل متعددة ومختلفة لتحويل الألياف، كان أكثرها شيوعا التعصيب المتصالب cross innervation، حيث بدّلوا العصب الذي يتحكم في العضلة البطيئة بمثيله الذي يعصب العضلة السريعة، بحيث أصبح كل عصب يتحكم في الليف المعاكس له. وكذلك نبه الباحثون ـ كهربائيا ـ العضلات فترة طويلة أو عمدوا (للحصول على التأثير المعاكس) إلى قطع العصب المرتبط بالعضلة.
وفي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، ركز اختصاصيو العضلات على إيضاح أن مقدرة الليف العضلي على تغيير حجمه ونمطه (سمة تعرف عموما باللدونة العضلية) تنطبق على الإنسان أيضا. ونصادف مثالا مبالغا فيه على هذا النمط من التأثير لدى الأفراد الذين عانوا إصابة في النخاع الشوكي كانت بالغة لدرجة أن الجزء السفلي من أجسادهم غدا مشلولاً. إن غياب الدُّفعات impulsesالعصبية وعدم الاستعمال العام للعضلات يسببان ـ كما هو متوقع ـ فقدا جسيما في النسيج العضلي. ومما يثير الدهشة أكثر هو أن نمط العضلات يتغير تغيرا هائلا. فهولاء الأفراد المشلولون يعانون انخفاضا حادا في الكمية النسبية للأشكال الإسوية للميوسين البطيء، في حين تزداد فعليا كمية الأشكال الإسوية للميوسين السريع.
لقد بيّنا أن العديد من هؤلاء الأفراد لا يمتلكون تقريبا أي ميوسين بطيء في العضلة المتسعة الوحشية (الجانبية) vastus lateralis، التي تُعَد جزءا من عضلة الفخذ الرباعية الرؤوس. فبعد خمس إلى عشر سنوات من الإصابة بالشلل، يصبح نمط الميوسين كله تقريبا في هذه العضلة من النمط السريع. وعلينا أن نتذكر أن متوسط توزع الألياف في الفرد البالغ الصحيح يتساوى بين البطيء والسريع (50 في المئة لكل منهما). ولقد افترضنا أن الزاد العصبي للعضلة عن طريق التفعيل الكهربائي ضروري للحفاظ على التعبير الجيني للشكل الإسوي للميوسين البطيء. وهكذا، فإن بإمكان أي من التنبيه الكهربائي أو التدريبات المحرضة كهربائيا لعضلات هؤلاء الأفراد أن يعيد، إلى حد ما، إدخال الميوسين البطيء في العضلات المشلولة.
التحوُّل العضلي
لا يقتصر تحول الألياف العضلية على الحالات المتطرفة(3) لإعادة تأهيل العضلات المشلولة. وفي الحقيقة، عندما نُحمِّل العضلات الصحيحة تحميلا ثقيلا ومتكررا (كما هي الحال في برامج التدرب على رفع الأثقال)، فإن عدد الألياف السريعة IIx يتناقص بسبب تحولها إلى الألياف السريعة IIa. وتتوقف النوى في هذه الألياف عن التعبير الجيني للپروتين IIx، وتشرع في التعبير عن الپروتين IIa. فإذا ما استمرت التدريبات النشطة مدة شهر أو أكثر، فإن الألياف العضلية IIxتتحول كليا إلى الألياف IIa، وفي الوقت نفسه تزيد من إنتاجها للپروتينات وتغدو أكثر ثخانة.
إن للنتائج التجريبية غير المتوقعة تطبيقات عملية فيما يخص الرياضيين. فالميوسين السريع IIx يتناقص كما هو متوقع في أثناء التدرب على التحمل. ولكن عند توقف التدرب، وعوضا عن أن يعود هذا النمط من الألياف إلى مستوى ما قبل التدرب، فإن كميته النسبية تتضاعف تقريبا مدة ثلاثة أشهر من انقطاع التدرب. فما الذي يعنيه هذا لعدّاء المسافات القصيرة الذي يكون النمط IIx حاسما لعَدْوه؟ إنه يحتاج قبل المباراة إلى فترة يكون التدرب فيها خفيفا. |
وفي أوائل التسعينات من القرن العشرين، اقترح <G. گولدسپينك> [من المستشفى الملكي المجاني بلندن] أن جينة النمط السريع IIx تمثل نوعا من التركيبة «المعيبة». ولقد بُرهن على صحة هذه الفرضية في العديد من الدراسات التي أجريت على مدى سنوات طويلة، إذ اكتُشف من خلالها وجود كمية كبيرة من الميوسين IIxفي عضلات الأفراد القُعَدَاء(4) تفوق ما لدى الأشخاص الناشطين. كذلك كشفت دراسات مكملة عن وجود علاقة إيجابية بين الميوسين IIa وفاعلية العضلة.
ما الذي يحدث عندما يتوقف التدريب؟ هل تتحول ألياف IIa الإضافية من جديد إلى IIx؟ الإجابة نعم، ولكن ليس بالدقة المتوقعة. ولدراسة هذا الموضوع، أخذناخزعاتbiopsies من العضلة المتسعة الوحشية لتسعة من الشباب الدانمركيين القُعَداء. ثم طلبنا إلى هؤلاء الأفراد القيام بتدريبات مكثفة على التحمل، استمرت ثلاثة أشهر واستهدفت بصورة أساسية العضلة الرباعية الرؤوس، أعقبها أخذ خزعات عضلية جديدة. بعد ذلك، توقف الأفراد فجأة عن تدريبات التحمل، وعادوا إلى نمط حياتهم المسترخية المعتادة، وبعد انقضاء مدة ثلاثة أشهر أخرى أُخذت منهم الخزعة الثالثة والأخيرة.
وكما هو متوقع، فإن الكمية النسبية للشكل الإسوي السريع للميوسين IIx في العضلة المتسعة الوحشية قد انخفضت في المتوسط من 9 في المئة إلى 22 في المئة، وذلك في أثناء فترة تدريب التحمل. ولقد توقعنا آنئذ عودة الكمية النسبية للشكل الإسوي IIx إلى مستوى ما قبل التدرب (وهو 9 في المئة)، وذلك في أثناء فترة عدم النشاط. ولدهشتنا وجدنا أن الكمية النسبية من الميوسين IIx بلغت قيمة وسطية قدرها 18 في المئة، وذلك بعد انقضاء ثلاثة أشهر من توقف التدريب. ولم نستمر في أخذ الخزعات بعد انتهاء فترة الثلاثة أشهر هذه، ولكننا نحسب ـ بصورة تقترب من اليقين ـ أن مستوى الميوسين IIx قد عاد في نهاية الأمر إلى قيمته الأولى (نحو 99 في المئة) بعد انقضاء بضعة أشهر أخرى.
ليس لدينا بعد تفسير واضح لظاهرة التجاوز overshoot phenomenon في التعبير عن الشكل الإسوي للميوسين السريع IIx. ولكننا نستطيع أن نخلص إلى بعض الاستنتاجات التي قد يكون لها تطبيقات مفيدة. فمثلا، إذا أراد عداؤو المسافات القصيرة أن يعززوا الكمية النسبية للألياف الأسرع في عضلاتهم، فإن الاستراتيجية الأفضل تتمثل في أن يبدؤوا أولا بالتخلص مما لديهم فعلا من هذه الألياف، ثم يتباطؤوا في التدرب بانتظار تضاعف الألياف الأسرع لتغدو ضعفي مثلها. لذا، يُنصح عدّاؤو المسافات القصيرة بجعل برنامج تدربهم يتسع لفترة من التدرب المخفف reduced training أو «التناقص التدريجي» استعدادا للمسابقة الكُبْرى. وفي الحقيقة، إن العديد من العدّائين استقروا على هذا النظام نتيجة للخبرة فقط، بدون إدراك للأساس الفيزيولوجي.
أَمِن البطيء إلى السريع؟
إن التحول بين نمطي الألياف السريعة IIa وIIx هو نتيجة طبيعية للتدرب ولعدمه. ولكن ماذا عن التحول بين الألياف البطيئة I والألياف السريعة II؟ إن النتائج هنا أكثر غموضا. فقد أوضحت تجارب كثيرة أجريت على مدى العقدين السابقين عدم وجود دليل على إمكان تحوّل الألياف البطيئة إلى ألياف سريعة، والعكس بالعكس. ولكن في بداية التسعينات من القرن الماضي، وجدنا ما يشير إلى أن نظام الرياضة الصارم يمكن أن يحول الألياف البطيئة إلى الألياف IIa السريعة.
كان الأفراد الذين خضعوا لدراستنا من النخبة النادرة من عدّائي المسافات القصيرة، إذ تقصينا حالتهم مدة ثلاثة أشهر، ناوبوا فيها بين التدرب الشاق على التحمل والعَدْوِ لفترات قصيرة (وهذان هما التمرينان الأساسيان للدورة السنوية الخاصة بعدائي المسافات القصيرة). وفي الوقت نفسه تقريبا نشرت <M. إسبورنسون> ومعاونوها [من معهد كارولينسكا باستوكهولم] نتائج مشابهة، وذلك في دراسة تناولت 12 فردا لم يكونوا من الرياضيين النخبة. وتشير هذه النتائج إلى أن برنامج التدرب الناشط بالأثقال مدعما بأنماط أخرى من التمارين اللاهوائية لا يحوّل نمط الألياف IIx إلى IIa فحسب، ولكن أيضا ألياف النمط I إلى النمط IIa.
فإذا كان بمقدور نمط معين من الجهد أن يحول بعض الألياف من النمط I إلى النمط IIx، فيحق لنا أن نتساءل إن كان ثمة نوع آخر من الجهد يستطيع أن يحول النمط IIa إلى النمط I. قد يكون ذلك ممكنا، ولكن حتى الآن لم تبرهن بوضوح أي دراسة مسهبة للتدرب البشري على مثل هذا التحول. وفي الحقيقة، إن لدى نجوم الرياضات التحمّلية عموما ـ كعدائي وسباحي المسافات الطويلة وراكبي الدراجات ومتزحلقي المسافات الطويلة ـ نسبة عالية (تصل كما سبق أن عرضنا إلى 95 في المئة) من الألياف البطيئة من النمط I التي توجد في مجموعاتهم العضلية الكبيرة، كعضلات الساقين مثلا. ولكن مازلنا حتى الآن نجهل إن كان هؤلاء الرياضيون وُلدوا ولديهم هذه النسبة العالية من ألياف النمط I، ثم انجذبوا إلى أنماط من الرياضة أفادت من هذه السِّمة (الخلة) الخَلْقية غير العادية، أو أن الألياف من النمط I في عضلاتهم تزايدت بالتدريج البطيء من خلال التدرب لفترة تربو على عدة شهور أو سنوات. إننا نعلم أنه إذا أمكن تحول الألياف السريعة من النمط IIa إلى النمط I، فالزمن اللازم لهذا التحول طويل تماما، مقارنا بالزمن اللازم للتحول من النمط IIxإلى النمط IIa.
يكشف عدّاء المسافات القصيرة (بريان لويس) والعداء الماراثون (خالد خنوشي) عن فروق واضحة في عضلات الساق. فالألياف السريعة، تعتمد على استقلاب لاهوائي، في حين تعتمد الألياف البطيئة أكثر على الاستقلاب الهوائي الأكثر كفاءة. لذا، فإن الألياف البطيئة مهمة في رياضة التحمل، في حين تشكل الألياف السريعة الأساس لأحداث مختلفة، منها العدو السريع ورفع الأثقال. |
من المحتمل أن يولد عدّاؤو المسافات الطويلة (الماراثون) العظماء مختلفين فعلا عن غيرهم من الناس. كذلك قد يكون عداؤو المسافات القصيرة ـ خَلْقيا ـ غير عاديين، إذ إنهم ـ على العكس من عدائي المسافات الطويلة ـ قد يفيدون من النسبة الضئيلة من ألياف النمط I. ولكن على من يود أن يصبح عداء للمسافات القصيرة ولديه نسبة عالية من ألياف النمط I ألا يصاب باليأس. فقد وجد الباحثون أن التضخم الناجم عن التدرب على التحمل يضخم من ألياف النمط II بمثلي ما يحدثه لألياف النمط I. لذا، فإن التدرب بالأثقال يمكن أن يزيد من مساحة المقطع العرضي للعضلة الذي تشغله الألياف السريعة بدون أن يُحدِث تغييرا في نسبة عدد نمطي الألياف البطيئة والسريعة أحدهما إلى الآخر. وعلاوة على ذلك، فإن المساحة النسبية للمقطع العرضي للألياف السريعة والبطيئة هي التي تحدد الخصائص الوظيفية لكامل العضلة. فبقدر ما تزداد المساحة المغطاة التي تشغلها الألياف السريعة، بقدر ما تزداد سرعة العضلة ككل. لذا، فإن لدى عداء المسافات القصيرة الخيار لتغيير خصائص عضلات ساقه (أو ساقها) بإخضاعها للتدرب بالأثقال بغية زيادة المساحة النسبية للمقطع العرضي للألياف السريعة.
ففي دراسة قام بها <M. سبوستروم> ومعاونوه [من جامعة أوميا بالسويد] ونشرها عام 1988، كشف عن نتائج تبين أن متوسط مساحات المقطع العرضي للأنماط الرئيسية الثلاثة من الألياف كان متساويا تقريبا فيما يتعلق بالعضلة المتسعة الوحشية لدى مجموعة من عدائي الماراثون، إذ بلغ متوسط مساحة المقطع العرضي لألياف النمط I مقدار 4800 ميكرون مربع، ولألياف النمط IIa مقدار 45000، ولألياف النمط IIx مقدار 4600. وبالمقابل، فإن متوسط حجم الألياف تباين في مجموعة من عدّائي المسافات القصيرة تباينا ملحوظا، فبلغ متوسط مساحة ألياف النمط I مقدار 5000 ميكرون مربع، والنمط IIa مقدار 7300، والنمط IIx مقدار 59000. وتجدر الإشارة إلى أنه توجد لدينا نتائج عن مجموعة من عدائي المسافات القصيرة تتشابه كثيرا مع البيانات السابقة.
ومع أن تحول أنماط معينة من الألياف (مثل النمط IIa إلى النمط I) يبدو من الصعب إنجازه حاليا بالتدرب، فسيتحقق ذلك سريعا عندما يصبح الباحثون قادرين على إنجاز هذه التحولات بسرعة من خلال التقنيات الجينية. ومما يثير الفضول بدرجة أكبر أن العلماء سيكونون قادرين على استثارة تعبير جينات الميوسين الموجودة في الجينوم والتي لا يعبر عنها عادة في عضلات الإنسان. فهذه الجينات تشبه مخططات أرشيفية لأنماط من الميوسين وفرت لثدييات قديمة قريبة منا، نسيجا عضليا سريعا، أعانها، مثلا، على الفرار من مفترسيها.
العضلات والمسنّون
نعرف جميعا أنه عندما يتقدم بنا العمر تضعف عضلاتنا، وتصبح حركاتنا أكثر بطئا، ولكن لماذا يحدث ذلك؟
مع تقدم العمر تحدث تغيرات متعددة في العضلات الهيكلية، وأكثرها وضوحا هو فقدان الكتلة العضلية muscle mass، الذي يبدأ مبكرا منذ سن الخامسة والعشرين، وعند بلوغ الخمسين تكون الكتلة العضلية الهيكلية قد تناقصت (في معظم الأحيان) بنسبة 10%. أما عند الثمانين من العمر تقريبا، فيتم فقدان 50% من كتلة العضلات. وينتج أساسا هذا النقصان المرتبط بالعمر بسبب فقدان الألياف العضلية. ومع أن رياضة رفع الأثقال تسبب ثخن الليف الواحد بدرجة كبيرة، ومن ثم يمكنها أن تدرأ فقدان الكتلة العضلية الكلية، فليس لها فيما يبدو تأثير كبير في فقدان الألياف. ويتغير شكل الليف الواحد ومظهره قبيل ضموره. ويأخذ الليف العضلي عند اليافعين شكلا زوايّا واضحا، في حين يبدو أكثر استدارة لدى الكهول، حتى إنه يأخذ في الحالات المتطرفة شكل ثمرة الموز. وفضلا عن ذلك، يستحث تقدم العمر «تجميع النمط الواحد»: تتوزع الألياف السريعة والبطيئة في العضلات الهيكلية الفتية والمتوسطة العمر توزعا يأخذ هيئة لوحة الشطرنج، في حين تتعنقد الألياف في العضلات الهرمة في مجموعات إما من الخلايا السريعة أو البطيئة. إن هذه الظاهرة تحدث أيضا في الأفراد الأصغر سنا الذين يعانون أمراضا ذات صلة بالأعصاب الحركية. وقد دفعت هذه البيانات بعض الباحثين إلى افتراض أن سبب تعنقد أنماط الألياف في العضلات الهرمة إنما ينجم عن سيرورة معقدة يحدث فيها تحول الأعصاب التي تتحكم في العضلة من ليف عضلي إلى آخر. فإذا أخذنا في الاعتبار أن الوحدة المحركة تُعَرَّف بأنها الألياف العضلية كلها التي يتم التحكم فيها (تعصيبهاinnervated) بعصب محرك واحد مصدره النخاع (الحبل) الشوكي، فإن بعض هذه الأعصاب المحركة «يموت» مع تقدم العمر. وعندئذ تبقى الألياف العضلية للعصب من دون زاد عصبي، فتضمر هي الأخرى، وتموت بدورها، ما لم تعصّب من قبل عصب حركي آخر. ومما يثير الفضول أنه إذا أعيد تعصيب الليف العضلي بعصب من وحدة محركة مختلفة من حيث النمط، كما يحدث مثلا عندما يتم تعصيب ليف عضلي سريع بعصب لليف عضلي بطيء، فإن الليف الذي أعيد تعصيبه سيتلقى إشارات متضاربة. فالليف من حيث الأصل التطوري هو ليف سريع، ولكنه يتلقى الآن تنبيها عصبيا يؤدي إلى نمط تنشيطي يلائم الليف البطيء. ويبدو في النهاية أن هذا التغيير في التنبيه يحور الليف السريع إلى ليف بطيء (والعكس بالعكس في الحالة النقيضة). ويُعد تقدم العمر أبلغ أثرا في الألياف السريعة، فهي تضمر بمعدل يفوق ما يصيب الألياف البطيئة. لذا، فإن بعض الباحثين حسبوا فترة طويلة أن توزع الألياف السريعة والبطيئة ينزع تدريجيا مع تقدمنا في العمر باتجاه الألياف البطيئة. وبناء على ذلك استنتجوا أن هذه الفرضية تساعد على تفسير حقيقة أن الطفل في العاشرة من عمره يسبق في مباراة المئة متر جده ذا السبعين عاما، في حين أن هذا الجد نفسه مازال قادرا على هزيمة حفيده في سباق العشرة كيلومترات. ولكن هذه الفرضية لاتزال مثيرة للجدل، ذلك أنه كان من الصعب البرهان على أن تقدم العمر يزيد من الكمية النسبية للألياف البطيئة. ففي دراسة حديثة، تعاملنا مع المشكلة بمقاربة مختلفة قليلا. فقد أقنعنا مجموعة تتألف من اثني عشر مسنا وهنت عضلاتهم، وبلغ متوسط العمر لديهم 88 عاما، أقنعناهم بإعطائنا خزعا من العضلة المتسعة الوحشية التي تقع في الجانب الأمامي من الفخذ، وتُعَدُّ واحدة من العضلات الهيكلية التي دُرست دراسة مفصلة. وباستعمال إبر رفيعة، شرَّحنا الخزعة تحت المجهر، وحصلنا على ألياف عضلية فرادى. قمنا، بعد ذلك، بتعيين التركيب الميوسيني الإسوي لنحو 2300 ليف. نعلم أن الأجسام البشرية كلها لا تحتوي على مجرد ألياف بطيئة أو ألياف سريعة، إنما تحتوي على كلا الألياف البطيئة والأشكال الإسوية للميوسين السريع IIa، أو الشكلين الإسويين السريعين IIa وIIx معا. وتكون هذه الألياف الهجين نادرة في العضلة المتسعة الوحشية الفتية: إن أقل من 5% من الألياف تحتوي على كل من الميوسين البطيء، والشكل الإسوي للميوسين السريع IIa. أما في المسنين موضوع الدراسة، فإن ثلث الألياف التي فحصت يحتوي على هذين الشكلين الإسويين للميوسين. ومن المثير للدهشة أن هذا الليف الهجين كان النمط السائد في العضلات المعمرة جدا. لقد استنتجنا من هذه الدراسة أن التساؤل: أتحوي العضلات المعمرة عددا أكبر من الألياف البطيئة، لا يمكن الإجابة عنه على نحو قاطع بنعم أو لا. فالذي يحدث، على ما يبدو، ليس مجرد تغيير في النسبة بين الألياف السريعة والألياف البطيئة، بل بالأحرى بنية شواشية تضم النمطين معا. لذا، فإن ثلث الألياف في العضلات المعمرة جدا ليس بطيئا كليا أو سريعا كليا، بل بنى تضم نسبا متفاوتة من النمطين كليهما.
|
إن هذه المنابلات الجينية، التي تتمثل على الأرجح بلقاحات تَغرِزُ جينات صنعية في نوى الخلايا العضلية، ستشكل ـ يقينا ـ عقاقير المستقبل المعززة للأداء. وبالرجوع إلى تاريخ السجلات الرياضية، نجد باستمرار أن قلة من الرياضيين أساءت استعمال المواد المعززة للأداء. ولعقود من الزمن حاولت منظمات مختلفة (مثل اللجنة الأولمپية الدولية) حظر استعمال هذه العقاقير بإخضاع الرياضيين للفحوص، ومحاسبة من يغش منهم. ولكن ما إن يتم ابتكار عقاقير جديدة، حتى يقبل عليها غير الشرفاء من الرياضيين، الأمر الذي يرغم المسؤولين على تطوير اختبارات جديدة. وكانت النتيجة سباقا مُكلِّفا، يضع الرياضيين و«أطباءهم» في مواجهة مع منظمات رياضية عديدة، ومع العلماء المسؤولين عن تطوير اختبارات لكشف المواد المنشطة.
إن هذا «الصراع» وقع في سدني؛ ولكن في المستقبل القريب، عندما يستطيع الرياضيون الانتفاع من تقنيات العلاج الجيني، فإنهم سينقلون «اللعبة» (بين الرياضيين والمنظمات) إلى مستوى جديد تماما، فقد يكون من المستحيل تعرف نِتَف(5) المادة الجينية والپروتينات التي ستخلفها المعالجة الجينية كأجسام غريبة في الخلايا العضلية للرياضيين.
ويتم حاليا تقصي المعالجة الجينية تقصيا مكثفا في معظم الدول الصناعية لمجموعة من الأسباب الوجيهة. فسيستعيض الأطباء عن معالجة صور العوز بوساطة حَقْن (زرق) الأدوية، بوصف المعالجات الجينية التي تحث آلية إنتاج الپروتين في الجسم ذاته كي تنتج الپروتينات اللازمة لمحاربة المرض. لقد صارت هذه الاستراتيجيات ممكنة (على الأقل نظريا) في السنوات القليلة الماضية، ذلك أن الباحثين نجحوا مؤخرا في عمل نسخ صنعية من الجينات البشرية التي يمكن منابلتها كي تنتج كميات كبيرة من پروتينات نوعية. ويمكن إدخال هذه الجينات في الجسم البشري لتحل (في حالات عديدة) مكان الجينات المعيبة.
وتتكون الجينة الصنعية ـ شأنها شأن الجينات العادية ـ من الدنا DNA الذي يمكن إعطاؤه للجسم بطرائق عدة. فإذا فرضنا أن الجينة تُكود أحد الپروتينات الإشارية أو الهرمونات التي تنبه النمو العضلي، فإن المقاربة المباشرة تتمثل عندئذ بحقن الدنا في العضلة المعنية. وعندئذ، تمتص الألياف العضلية الدنا الصنعي، وتضيفه إلى مجموعة جيناتها المعتادة.
ولاتزال هذه الطريقة محدودة الكفاية. لذلك يستعمل الباحثون الڤيروسات لنقل الجينات إلى داخل نواة الخلية. فالڤيروس هو أساسًا مجموعة من الجينات المرزومة في محفظة (كبسولة) من الپروتينات بوسعها الارتباط بالخلية وحقن (زرق) الجينات فيها. ويستعيض العلماء عن جينات الڤيروس بالجينة الصنعية، حيث يوصلها الڤيروس بكفاية إلى خلايا الجسم.
ومما يؤسف له أن الحِمل الجيني الصنعي سيصل ليس إلى الألياف العضلية فقط، بل إلى العديد من خلايا الجسم الأخرى، كخلايا الدم والكبد (وذلك خلافا لما يحدث باستعمال أسلوب الحقن المباشر للدنا). فإذا تم تعبير الجينة الصنعية في أنماط من الخلايا غير الخلايا المستهدفة، فقد يؤدي ذلك إلى حدوث أعراض وتأثيرات جانبية غير مرغوب فيها. فمثلا، إذا تم حقن جينة تسبب تضخما عضليا كبيرا، فإن ذلك قد يؤدي إلى النمو المطلوب في العضلات الهيكلية. ولكن من المحتمل أيضا أن يتسبب في تضخم أنواع أخرى من العضلات، وعضلة القلب على وجه التخصيص، مما يؤدي إلى حدوث المضاعفات المختلفة المعروفة والخاصة بتضخم القلب. لذا، فإن الباحثين استكشفوا مقاربة أخرى، تعتمد على إزالة أنماط خلوية نوعية من جسم المريض، ثم إضافة الجينة الصنعية إلى هذه الخلايا في المختبر، وإعادتها بعد ذلك إلى الجسم.
وسوف يسيء الرياضيون استعمال هذه التقنيات في المستقبل. وسيصعب على مسؤولي الرياضة الرسميين اكتشاف سوء الاستعمال، ذلك أن الجينات الصنعية سوف تُنتج، في معظم الحالات، پروتينات مثيلة للپروتينات المعتادة. وبناء على ذلك، فإن حقنة واحدة ستكفي، الأمر الذي يضائل فرص افتضاحها. ومع أنه سيكون بوسع المسؤولين كشف دنا الجينة الصنعية، فإنجاز ذلك يتطلب معرفة تسلسل الجينة الصنعية، وكذلك على المحللين أن يحصلوا على عينة من النسيج الذي يحتوي على الدنا. وبالطبع، سيعارض الرياضيون إعطاء عينة من عضلاتهم قبل المباريات المهمة. ولذا، فإن اختبارا للبحث عن منشطات يعتمد على أخذ قطع من عضلات الرياضيين لن يغدو على الأرجح اختبارا روتينيا. ومن الناحية العملية، فإن التنشيط عن طريق الجينات لن يكون قابلا للكشف.
عالَم جديد شجاع(6)
ترى على أي صورة سيبدو الرياضيون في عصر التعزيزات الجينية؟ دعونا نُعِدِ النظر في السيناريو الافتتاحي لنهائي سباق 100 متر، إنما في العام 2012. إنه من العسير أن نحدد مرشحا مرجحا للفوز بالميدالية الذهبية في أولمپياد ذلك العام. ولكن الأمر تغير بعد فترة الحماسة الأولية. فقد توقفت المراهنات فعلا بعد الدور قبل النهائي، وتركز الرهان على متسابق المسار (الحارة) الرابع <J. ديسون>، العدّاء الذي أبهر الجميع في دور الثمانية بوصوله بسهولة إلى خط النهاية محطما الرقم القياسي العالمي السابق (الذي دام ثماني سنوات) بفارق قدره 3 في المئة من الثانية. أمّا في دور الأربعة، فقد حطم الرقم القياسي العالمي بفارق قدره 15 في المئة من الثانية، ولكن المشاهدين السبعة والثمانين ألفا لم يصدقوا أعينهم عندما خفّض في الدور نصف النهائي، على نحو مذهل، الزمن إلى 8.94 ثانية، متجاوزا خط النهاية وتاركا خلفه، على بعد عشرة أمتار، المتسابق الذي يليه. لقد جعل هذا الأداء بعض معلقي التلفزيون الرياضيين يؤكدون أن الحضور شاهدوا «شيئا من خارج هذا العالم.»
إن الأمر ليس على هذا النحو تماما، ولكنه لا يبتعد عن الحقيقة. فما الذي يمكن أن يكون قد قاد إلى هذا الأداء المذهل؟ بحلول عام 2012، سيكون من المرجح أن تغدو المعالجة الجينية تقانة طبية راسخة، تستعمل على نطاق واسع. دعونا نفترض أن طبيبا عرض على ديسون قبل الأولمپياد باثني عشر شهرا اقتراحا يصعب رفضه من قبل أي عدّاء: ماذا لو أصبحت خلايا عضلاتك تعبر عن أسرع شكلٍ إسوي للميوسين؟ إن التعبير عن هذا الشكل الإسوي لا يحدث في الظروف العادية في أي من العضلات الهيكلية البشرية الرئيسية. ولكن ها هي ذا الجينة، وإنها جاهزة للعمل، مثلها مثل مخطط تراكم عليه الغبار، لا يحتاج إلى أكثر من مهندس مدني وفريق من البنائين لكي يُترجم إلى حقيقة واقعة.
إن هذا الشكل الإسوي المغري للميوسين سيهب أليافَ العضلات خصائص وظيفية تكافئ الشكل الإسوي IIb العالي السرعة الموجود في الجرذان والثدييات الصغيرة الأخرى التي تحتاج إلى سرعة فجائية كبيرة تساعدها على الهرب من المفترسات. إن لهذا الشكل الإسوي IIb سرعة تقلص فائقة، ومن ثم يستطيع توليد قوة تفوق قوة الألياف IIx وIIa، ومع أن ديسون لم يعِ تماما ما عناه الطبيب، فقد أدرك جيدا ما تعنيه الكلمتان: «سرعة» و«قوة».
ومضى الطبيب يشرح فكرته بحماسة. إن الجينة تعبّر في الحقيقة عن نوع من الپروتين يُعرف بعامل الانتساخ transcription factor، الذي يُفَعِّل بدوره الجينة المعنية بتركيب الشكل الإسوي للميوسين IIb الشديد السرعة. لقد اكتُشف عامل الانتساخ منذ سنوات قليلة، وأطلق عليه اسم ڤيلوسيفين velociphin. ويلوح الطبيب بأنبوب زجاجي صغير في وجه ديسون مترنما «هذا هو دنا الجينة الصنعية للڤيلوسيفين، إن عدة حقن من هذا الدنا في كل من عضلتك الرباعية الرؤوس والوتر المأبضي(7)والعضلة الأَلْيوية(8)، تجعل ألياف العضلات تنتج الڤيلوسيفين الذي سيُفَعِّل جينة الميوسين IIb.
ويضيف الطبيب: في غضون ثلاثة أشهر ستحتوي عضلات ديسون على جزء لا بأس به من الألياف IIb، تُمكِّنه بسهولة من تحطيم الرقم العالمي لسباق المئة متر. ثم يوضح بقوله: علاوة على ذلك ستستمر عضلات ديسون في إنتاج الڤيلوسيفين لسنوات طويلة وبدون الحاجة إلى مزيد من الحقن. ولن تكون هنالك وسيلة متاحة أمام المسؤولين للكشف عن التحوير الجيني بدون اختزاع العضلة الرباعية الرؤوس أو الوتر المأبضي أو العضلة الأَلْيوية.
وبعد عام، تذكر ديسون ـ وهو يرتدي لباسه الرياضي ـ توكيد الطبيب خلو المعالجة الجينية من أي تأثيرات جانبية. كل شيء يسير على ما يرام حتى الآن. وبعد أن تمطّى وتحمّى، اتخذ مكانه في المسار الرابع. «خذوا أمكنتكم»، «استعدوا»، ثم دوت طلقة البداية، وانطلق العداؤون.
بعد ثانيتين، كان ديسون أسبق بمترين. وفي الثواني القليلة التالية تزايد فارقه بصورة مذهلة. وبدت خطواته للمشاهد أكثر تواترا وأشد قوة مقارنة بمنافسيه العدائين. وشعر بالارتياح وهو يتجاوز الأرقام 30 و40 و50 مترا. ولكن عند الرقم 65 مترا، حيث كان ديسون بعيدا في المقدمة، شعر بوخز حاد مفاجئ في الوتر المأبضي. واستحال الوخز عند المسافة 80 مترا إلى ألم ساحق عند كل شدٍّ لعضلة الوتر المأبضي. وبعد عُشْرِ ثانية فقط، انهار الوتر الرضفي(9) لديسون لأنه لم يكن متوافقا مع القوة الهائلة التي تولدها العضلة الرباعية الرؤوس. لقد جر الوتر الرضفي جزءا من عظم الظنبوب الذي انقصف فورا، مما أدّى إلى زيادة حجم العضلة الرباعية الرؤوس بشدة على امتداد عظم الفخذ. خَرّ ديسون متكوّما على الأرض، وقُضي على مستقبله عداء.
عموما، ليس هذا هو السيناريو الذي يقفز إلى الذهن بصدد الكلمات التالية: «الرياضي الخارق المُهندَس جينيا». فمن المحتمل أن يتدبر بعض الرياضيين أمر تسخير الجينات المهندسة ويتجنبون الكارثة. ولكن من الواضح أنه مع تسرب التقانات الجينية إلى المسار الرئيسي للطب، ستُحدث هذه التقانات تغيرا عميقا في الرياضة، ولكن ليس بالضرورة إلى الأفضل. وعلينا أن نتساءل ـ نحن المجتمع ـ هل الأرقام القياسية الجديدة والانتصارات الرياضية الأخرى هي بحق استمرار بسيط، للمحاولات التي يبذلها نوعنا البشري منذ نشوئه كي يبرهن دائما على ما يمكن أن يحققه؟
رسالة من قارئ
لقد وصلت من قراء مجلة ساينتفيك أمريكان رسائل عديدة حول هذه المقالة اخترنا منها الرسالة المتميزة التالية:
القلوب المتسابقة إن التعزيز الجيني للعضلة الهيكلية ينبغي ألا يكون مقصورا على الارتقاء بفرص الرياضيين المحترفين، حسب ما ورد في مقالة «العضلات والجينات والأداء الرياضي». فالباحثون في مجال المعاونة الميكانيكية الحيوية للقلب (وأنا من ضمنهم) يمكنهم الاستفادة بقوة من هذه التقانة الحديثة، في سعيهم إلى تدريب العضلات الهيكلية على مهمة أعظم ألا وهي مساعدة القلب على ضخ الدم. وقد أمكن تحويل العضلات الهيكلية بالكامل ـ بصورة روتينية ـ إلى الألياف من النمط I ذات القدرة العالية على التحمل، وذلك من خلال الحث الكهربي المستمر، ولكن نتاج قوة الحالة المستقرة steady-state powerللألياف يحده البطء النسبي في تقلص الليف وصغر حجمه. ويمكن التغلب على هذه المشكلة عن طريق تنشيط الجينات الكامنة داخل العضلات الهيكلية التي تكود للمعالم الموجودة في عضلة القلب فقط. إن هذه المحركات البيولوجية المعزّزة يمكن تطبيقها مباشرة على القلب أو استخدامها للحصول على مضخة ميكانيكية للدم، فهي تقدم وسيلة فعالة لعلاج المرحلة المتأخرة من أمراض القلب وتحسين حياة الملايين. إنه أمر يمكننا جميعا أن ندعمه. <R .D. ترمبل> أبحاث جراحة القلب والصدر مستشفى أليكيني العام, بيتسبيرك, بنسلفانيا |
المؤلفون
Jesper L. Andersen, Peter Schjerling and Bengt Saltin
يعملون معا في مركز كوبنهاگن لأبحاث العضلات التابع لجامعة كوبنهاگن ومستشفى الجامعة في تلك المدينة. يعمل أندرسن باحثا في قسم البيولوجيا الجزيئية للعضلات، وهو مدرب سابق لفريق الدنمارك الوطني لسباق المضمار والميدان. وشرلِنگ اختصاصي في علم الوراثة بالقسم نفسه، وقد غير حديثا مجال تخصصه من الخميرة إلى مخلوق له عضلات أكثر، وهو الإنسان العاقل. وأما سالتين فهو مدير المركز. وقد تخرج في معهد كارولينسكا باستوكهولم عام 1964 وعمل فيه أستاذا للفيزيولوجيا، وكذلك عمل في معهد أغسطس كروخ في كوبنهاگن. وكونه عداء سابقا فقد عمل مدربا للفريق الوطني الدنماركي.
مراجع للاستزادة
THE CYTOSKELETON in Molecular Biology of the Cell. Bruce Alberts et al. Third edition. Garland Publishing, 1994.
MUSCULAR AGAIN. Glenn Zorpette in SCIENTIFIC AMERICAN PRESENTS: Your Bionic Future, Vol. 10, No. 3, pages 27-31, Fall 1999.
THE MYSTERY OF MUSCLE. Glenn Zorpette in SCIENTIFIC AMERICAN PRESENTS: Men-The Scientific Truth, Vol. 10, No. 2, pages 48-55, Summer 1999.
Scientific American, September 2000
(*) Muscle, Genes and Athletic Performance
(1) أي تحمل إشارات.
(2) telescopically؛ أي كما تنزلق قطع المقراب بعضها فوق بعض. (التحرير)
(3) extreme case
(4) (couch potato) sedentary (الكثيري القعود)، ومفردها: قُعَدَة. (التحرير)
(5) snippets
(6) عنوان كتاب <A. هَكْسلي> الشهير: Brave New World. (التحرير)
(7) hamstring
(8) gluteus
(9) patella tendon