سرّ السيوف الدمشقية
سرّ السيوف الدمشقية(*)
منذ عدة قرون، دأب الحرفيون المهرة على صُنع نِصال فولاذية
لم يجارهم فيها أحد. فكيف تسنى لهم ذلك؟ لقد وجد كاتب
هذه المقالة الإجابة عن ذلك بمشاركة واحد من الحدادين المهرة.
< D .J.ڤيرهوڤن>
أتى على الإنسان حين من الدهر، امتد من العصر البرونزي وحتى القرن التاسع عشر، اعتمد فيه على السيف سلاحا له في حروبه. فلا غرو في أن يكون معيار التفاضل التكتيكي بين الجيوش هو ما تملكه من أنواع متميزة من السيوف. وقد حظيت الجيوش التي تستعمل السيوف الدمشقية بما يعده بعضهم أجود أنواع السيوف على الإطلاق، وهي السيوف التي واجهها الغربيون أول مرة إبان الحملات الصليبية على الشعوب الإسلامية في المشرق.
تتميز هذه السيوف، التي يُعتقد أنها صُنعت أصلا في دمشق (عاصمة سورية حاليا)، بخاصيتين فريدتين لا تتوفران في الأصناف الأوروبية: أولاهما ذلك الوشي المتموج، المعروف باسم داماسك damask، الذي يزين سطحها [انظر الصورة في الأعلى]؛ وثانيتهما ـ وهي الأهم ـ النصل المرهف البالغ الحدة، الذي يقترن بالحكاية التي تروي كيف استطاعت السيوف الدمشقية قطع منديل حريري يجول في الهواء، عمل بارع ربما لا يضاهيه أي سلاح أوروبي.
وعلى الرغم من هذه الشهرة الواسعة لهذه السيوف وفاعليتها، لم يتمكن الغربيون قط من معرفة كنه صناعة فولاذها (وهو فولاذ استُعمل أيضا في صناعة الخناجر والفؤوس ونِصال الرماح)، حتى إن إنتاجه على نحو مطابق قد استعصى على كبار علماء المعادن وأرباب صناعة النِّصال الأوروبيين، على الرغم من استحضار عينات منه وتحليلها تحليلا مستفيضا. ولعل فن إنتاج هذا الفولاذ اندثر في أرض نشأته نفسها. وعموما يُجمِع الخبراء على أن آخر ما صُنع من سيوف دمشقية عالية الجودة كان قبل التسعينات من القرن التاسع عشر، وأعتقد أن سر هذه السيوف قد انكشف لي مؤخرا بمساعدة خبرة حدّاد مبدع.
والحق إننا لسنا أول من يدّعي السبق في الوصول إلى حل، لكننا السابقون إلى إثبات زعمنا بتقديم نماذج مستنسخة طبق الأصل لهذا السلاح القيّم العريق على مرّ الزمن. ولإثبات صحة أي نظرية تتصل بصناعة السيوف والخناجر الدمشقية، لا بد من أن تصنَّع تلك النماذج المستنسخة من المواد الأولية التي صُنِّع منها الأصل، كما يتعين أن تحمل نموذج الوشي المتموج نفسه، وأن تتمتع كذلك بالصفات الكيميائية والبنية الميكروية ذاتها.
ما هو الفولاذ الدمشقي الحقيقي؟(1)
من المعروف أن السيوف الدمشقية الحرة الخالصة كانت تصنع في مدينة دمشق، (وفي غيرها من بلاد الشرق الأوسط والإسلامية فيما بعد) من سبائك (صُبّات) ingots صغيرة من الفولاذ (مزيج من الحديد والكربون) تُشحن من الهند، وتؤلِّف الموادَّ الأولية التي أطلق عليها منذ نحو عام 18000 اسم سبائك الفولاذ الهندي (ووتز) wootz ingots أو كعكات الفولاذ الهندي wootz cakes، تشبه في شكلها الأقراص المطاطية المستعملة في لعبة هوكي الجليد، بقطر يقارب أربعة إنشات وارتفاع يقل قليلا عن إنشين. وقد ثبت للمطلعين الإنكليز الأوائل في الهند أن صنع السيوف الدمشقية من فولاذ ووتز هذا كان يجري بتطريق forgingهذه السبائك مباشرة إلى نصال وذلك بعمليات تسخين heating ومَطْلhammering متكررة كثيرا، علما بأن الفولاذ يحتوي على نحو 1.55 في المئة من الكربون وزنا، إضافة إلى نسبة منخفضة من الشوائب الأخرى من قبيل السليكون والمنغنيز والفوسفور والكبريت.
على أن الوشي المتموج الأخّاذ الذي يُرى على سطح السيوف الدمشقية يمكن توليده بطرق أخرى؛ فالحدادون المحترفون من ذوي الذوق الرفيع حاليا يصنعون بطريقة «اللحام بالتطريق» forge welding صفائحَ من الفولاذ المنخفض الكربون والعالي الكربون على التناوب، بضم بعضها إلى بعض لإنتاج مركَّب معقد. ويرجع هذا العمل التقليدي في الغرب إلى أيام روما القديمة، وثمة تقنيات مشابهة له تطبَّق في إندونيسيا واليابان، مع أن البنية الداخلية الناتجة من تطبيق هذه التقنيات مختلفة تماما عن تلك التي تولِّد سيوف فولاذ ووتز. وتحاشيا لأي لبس محتمل بين هذين الأسلوبين من التصنيع، سأشير إلى السيوف المصنوعة بطريقة اللحام بالتطريق باسم السيوف الدمشقية «الملحومة»، تمييزا لها عن «سيوف ووتز الدمشقية» موضوع اهتمامنا في هذه المقالة.
في وقت مبكر يرجع إلى عام 1824 أعلن < R .J.برايان> في فرنسا عن نجاحه في كشف ما خفي من فنون صنّاع السيوف المسلمين، وبعد ذلك بزمن قصير أعلن < P.أنوسوف> في روسيا مثل ذلك؛ فقد ادَّعى كلاهما استنباط نماذج مطابقة للنماذج الأصلية من السيوف. كذلك عُرِضت في غضون هذا القرن حلول أخرى كان آخرها ما اقترحه <J. وادسوورث> و<D .O. شيربي> [انظر: «الفولاذ الدمشقي»،العلوم ، العدد التجريبي الأول (1986)، صفحة 42]. إلا أن أحدا من الصنّاع المعاصرين لم يفلح بأي حال في تسخير الأساليب المقترحة لإنتاج سيوف ذات سوية مقبولة، من حيث مظهرها الخارجي وتركيبها الداخلي، تُجاري نظائرها الأصلية القديمة.
خنجر صُنع نصله من الفولاذ الدمشقي نحو عام 1585، وقد عزز النصل ذو الجودة العالية بسمك إضافي ناحية طرفه المستدق، لاختراق الدروع، لاحظ المقبض المرصع بالزمردة والياقوت. |
وقد بُذِلت جهود كبيرة بغية مقارنة الخصائص الكيميائية والميكروية (المجهرية) لسيوف ووتز الدمشقية الحديثة بصنوانها الأكثر قِدَمًا، إلا أن تلك الجهود كثيرا ما كانت تعرقلها عقبة من نوع خاص: فالأسلحة الدمشقية ذات الجودة المتحفية العالية تعد قطعا فنية نفيسة يصعب التضحية بها في سبيل دراسة تركيبها الداخلي. غير أنه في عام 1924، تبرع < H .موزر> [وهو جامع تحف أوروبي] بأربعة سيوف لعالِم المعادن <B. تستشوكي> الذي قطّعها لإجراء دراسات تحليلية على تركيبها الكيميائي وبنيتها الميكروية. ثم نُقِلَت القطع المتبقية إلى متحف بيرن في سويسرا، الذي قام بدوره مؤخرا بإهدائي عينات منها لدراستها أيضا.
بفحص هذه العينات الثمينة تبين لي أنها تحتوي على شرائط من جسيمات كربيد الحديد Fe3C المعروف باسم سمنتيت cementite. هذه الجسيمات مستديرة الشكل ومُحكمة النسق، يراوح قطرها عموما ما بين 6 و 9 ميكرونات، وتتباعد شرائط الجسيمات بعضها عن بعض بمقدار 30 إلى 70 ميكرونا، وهي مرصوفة بشكل مواز لسطح السيف، بما يشبه حبة قمح داخل لوح خشبي. فلدى حفر السيف بالحمض تظهر الكربيدات على شكل شرائط بيضاء ضمن قالب فولاذي أدكن اللون. وكما أن من شأن حلقات النمو المتموجة في شجرة أن تولِّد الأنماط الملتفة المميزة على الخشب المقطوع، كذلك فإن تموجات شرائط الكربيد تفسر وجود أشكال الوشي الدمشقية على سطوح نصال السيوف. ولما كانت جسيمات الكربيد بالغة الصلادة، يُعتقد أن اجتماع هذه الشرائط الفولاذية القاسية ضمن قالب فولاذي أكثر لينا ومرونة هو الذي يسبغ على السيوف الدمشقية صلابة في حدها ومرونة في بنيتها في آن معا.
تركزت محاولاتي في المقام الأول على استنباط نظير يجاري البنى الميكروية لفولاذ ووتز الدمشقي، وذلك في حدود ما تسمح به إمكانات مختَبَر جامعي. وأدركتُ في الحال أنني بحاجة إلى مساعدة شخص حاذق محترف يجيد فن تطريق الأسلحة ذات النصال، فالتقيت كبير الصناع <H .A. پندري> الذي عمل بصورة مستقلة على حل لغز السيف الدمشقي، والذي كان يصنع سبائك صغيرة في موقد غاز، ثم يطرِّقها حتى تتخذ أشكال نصال، وكثيرا ما حصل على بُنى ميكروية أقرب ما تكون إلى بنى النصال القديمة الأعلى جودة.
بدأ تعاوننا عام 1988، وكان پندري صانعا ماهرا تعلم حرفة البَيْطار (حذّاء الخيول) من والده، كما كان دؤوبا واسع المعرفة في فن تطريق الفولاذ. لكن من أجل استنباط التقنية اللازمة، كان علينا تعزيز نظرياتنا ببيانات علمية صحيحة واهتمام دقيق بتفاصيل تجاربنا كلها. وفي عام 1993 توجهت وأحد طلبتي في جامعة ولاية أيوا إلى ورشة حدادة پندري الواقعة بالقرب من گينزڤيل بولاية فلوريدا، حيث استعملنا مزدوجة حرارية ومعدات قياس الحرارة العالية بالأشعة تحت الحمراء infrared pyrometer equipment لتسجيل درجات حرارة عمليات الصهر والتطريق التي نحن بصدد إجراء تجارب عليها.
وقد حاولنا بادئ الأمر إنتاج السيوف باتباع الطريقة التي اقترحها وادسوورث وشيربي، غير أننا أخفقنا في استحصال البنية الميكروية الداخلية وكذلك أنماط الوشي السطحي. ثم تمكنّا ـ على مدى عدة سنوات ـ من تطوير تقنية يستطيع پندري استعمالها روتينيا لصنع نصال دمشقية مجددة من فولاذ ووتز، كما أن بإمكانه توليد شكل الوشي المعروف باسم سُلَّم محمد Mohammed’sladder [انظر الصورة في الصفحة 99] الذي يُرى على بعض أروع النماذج الإسلامية القديمة، وفيه تتسق التماوجات اتساقا سُلّمّيا على امتداد طول النصل، فكان الاعتقاد بأنها رمزية(2) إلى الطريق الذي يتبعه المؤمنون عندما يعرجون إلى الجنة.
إن التقنية التي اتبعناها شبيهة بشكل عام بالطريقة العامة التي انتهجها الباحثون من قبلنا، مع بعض الاختلافات الجوهرية. فنحن ننتج سبيكة فولاذية صغيرة ذات تركيب دقيق في بوتقة مغلقة، ثم نطرِّقها على شكل نصل. ويتوقف نجاحُنا ـ وما يمكّننا من المضي أبعد شوطا من أسلافنا ـ بدرجة كبيرة على مزيج الحديد والكربون وعناصر أخرى (كالڤاناديوم والموليبدنيوم، وهي ما سندعوه بالعناصر الشائبة impurity elements) في الفولاذ، وعلى درجة تسخين البوتقة وزمن تسخينها، وأخيرا على درجة الحرارة والبراعة المطبَّقة في عمليات التطريق المتكررة.
سيف من الفولاذ الدمشقي يعود إلى القرن السابع عشر، يُظهر وشيا دمشقيا تقليديا من شرائط متموجة زاهية ودكناء. ويستوحى من النقش أن هذا السيف الفاخر صنعه عام 1691 أو 1692 «أسد الله»، أشهر صانع سيوف فارسي في زمانه. |
إذا كان لديك فولاذ تقارب نسبة الكربون فيه 1.5% وأضفت إليه أحد العناصر الشائبة العديدة (بنسب منخفضة جدا لا تتجاوز 0.03%)، ثم أخضعته إلى خمس دورات أو ست من التسخين ضمن حدود حرارية دقيقة، والتبريد إلى درجة حرارة الغرفة، تكوَّنت لديك مجموعات من جسيمات متماسكة من الكربيدcarbide، يعود إليها الفضل في إضفاء ذلك الوشي المتموج الجميل على سطح الفولاذ في أثناء عملية التطريق. وتُظهر التجارب على سيوف قديمة وحديثة أن تكوُّن الشرائط(2) ينجم عن انعزال بعض العناصر الشائبة ـ على المستوى الميكروي ـ في أثناء تبرد السبيكة المتميعة وتصلبها.
يحدث هذا الانعزال الميكروي (المجهري) microsegregation داخل الفولاذ كما يلي: بينما تتبرد السبيكة الحارة وتتجمد، تمتد داخل السائل جبهة صلبة من الحديد المتبلور، متخذة شكل نتوءات متفرعة تدعى الانشعابيات dendrites [انظر الشكل في الصفحة 7]. وفي حالة الفولاذ المحتوي على نسبة 1.55% كربون، يسمى نوع الحديد المتصلب عن فولاذ سائل بالأوستنيت austenite. يُحتبس المعدن السائل في المناطق الواقعة ما بين هذه الانشعابيات لمدة وجيزة. فإذا عرفنا أن الحديد الصلب يمكنه أن يضم من ذرات الكربون والعناصر الأخرى عددا أقل مما يمكن للحديد السائل، أدركنا أن المعدن يتصلب متحولا إلى انشعابيات من الحديد المتبلور، وأن الكربون والذرات الشائبة تنزع إلى الانفصال داخل السائل المتبقي. من هنا فقد يصبح تركيز تلك الذرات عاليا جدا في آخر المناطق ما بين الانشعابيات تجمدا.
تتصف سبيكة فولاذ دمشقي مبرَّدة، على المستوى الميكروي، بامتداد مقدمتها المعدنية المتجمدة داخل الفولاذ المنصهر، فتتبلور أولا إلى بنية تفرعية تشبه شجرة الصنوبر تسمى الانشعابيات dendrites. تنعزل ذرات العناصر الشائبة (الحمراء) كالڤاناديوم بسرعة، منفصلة عن الحديد الصلد إلى المناطق الواقعة ما بين الانشعابيات، حيث تتجمد في المواضع الملائمة متسقة اتساق حبات العقد. وفي الدورات اللاحقة من التسخين والتبريد تكوِّن هذه الذرات الشائبة الأساس لنمو جسيمات كربيد الحديد الصلد (السمنتيت)، وهي الشرائط الزاهية اللون في النصل الدمشقي. وتُظهر الصورة الميكروية العليا خطوطا زاهية وداكنة في مقطع سيف دمشقي أصلي قديم، في حين تظهر الصورة الميكروية السفلى مقطعا من سيف حديث العهد صَنَعه كاتب هذه المقالة على المنوال نفسه. ويدل التشابه بين البنيتين على أن التقنية الحديثة تكرار صحيح وموفق للعملية الأصلية. |
وفي حين يتصلب الحديد وتتنامى الانشعابيات، تتخلف في المناطق الواقعة بينها شبكة من ذرات شوائب متجمدة في الموضع الصحيح، بما يشبه سلكا من اللآلئ. وعندما تخضع السبيكة لاحقا لدورات متكررة من التسخين والتبريد، تعمل هذه الذرات على تحريض نمو الشرائط المكونة من جسيمات السمنتيت الصلبة التي هي الشرائط الأنصع لونا في الفولاذ. وبإمكاننا التدليل على أن هذه الشبكة ذات صلة بالشرائط الفولاذية الناصعة والدكناء في فولاذ ووتز. يبلغ البُعد بين فرعي انشعابيتين نحو نصف مليمتر، ويتقلص هذا البُعد بمطل السبيكة وما يستتبع ذلك من انكماش في قطرها. هذا وإن المسافة النهائية بين الانشعابيات تقابل عن كثب البُعد بين الشرائط في الفولاذ الدمشقي.
وفي أثناء عملية التطريق ـ من المهم التزام درجة الحرارة الصحيحة في الفولاذ وذلك للحصول على مزيج من جسيمات الأوستنيت والسمنتيت. وعند انخفاض درجة حرارة السبيكة إلى ما دون نقطة حرجة، تبدأ جسيمات كربيد الحديد (وهي جسيمات السمنتيت ذاتها التي رأيتُها في سيوف موزر) بالتكون. تسمى درجة الحرارة الدنيا، والتي بتجاوزها يظل الفولاذ المبرَّد على شكل أوستنيت، درجة الحرارة A. وفي أنواع الفولاذ التي تزيد نسبة الكربون فيها على%0.77 اصطُلح على تسمية درجة الحرارة A بدرجة الحرارة Acm، وهي الدرجة التي دونها تبدأ جسيمات السمنتيت بالظهور، بمسافات بينية عشوائية في فولاذ الأوستنيت.
البراعة في تكوين الشرائط(3)
كيف يمكن لتطريق بسيط تُحوَّل فيه سبائك فولاذية صغيرة إلى نصال أن يحمل الكربيدات على التراصف شرائطَ متميزة؟ ذاك سر كبير من أسرار سيوف ووتز الدمشقية. لقد أجرينا دراسات منهجية على مقاطع مستعرضة من السبائك المطرَّقة بعد تحويلها من أشكال تشبه كرات الهوكي إلى نصال. ولإحداث هذا التغيير في سبيكة قمنا بتسخينها إلى درجة حرارة بدأ الفولاذ عندها بتكوين مزيج من جُسيمات السمنتيت والأوستنيت، ثم عرَّضناها للتطريق. في هذه الأثناء بردت السبيكة فانخفضت درجة حرارتها نحو 50 درجة سيلزية تحت الدرجة Acm إلى نحو 250 درجة سيلزية تحت الدرجة Acm. وفي أثناء هذا التبرد ارتفعت نسبة جسيمات السمنتيت. ثم إننا أخضعنا السبيكة لدورة تسخين أخرى وتطريق بين درجتَي الحرارة ذاتيهما. وخلصنا، بالتجربة، إلى أننا بحاجة إلى نحو 50 دورة تطريق من أجل إنتاج سيف يداني في قياسه السيوف الأصلية، التي يبلغ عرضها 45 مليمترا وسُمكها 5 مليمترات.
مراحل صناعة السيف الدمشقي:
يعرض <H .A. پندري> التقنية التي يتبعها في معمله بالقرب من منطقة گينزفيل بولاية فلوريدا.
1 جمع المكونات المراد تحميلها في البوتقة، بما في ذلك حديد عالي النقاوة وحديد سورِل وفحم نباتي وقطع زجاج صغيرة وأوراق شجر خضراء. يجري التحكم في كمية الكربون والعناصر الشائبة، التي تنتهي إلى السبيكة، عن طريق تنظيم نسب الحديد وحديد سورِل والفحم النباتي المضافة إلى المزيج.
2 تسخين البوتقة: في أثناء هذه العملية ينصهر الزجاج مكونا خَبَثا slag يحمي السبيكة من التأكسد، في حين تولِّد الأوراق الخضراء الهدروجين الذي يسرِّع تفحيم (كربنة) الحديد. تُرفع نسبة الكربون في الحديد إلى 1.5%، وهي نسبة جيدة لتكوين جسيمات كربيد الحديد الصلبة التي يُشكل تجمعها أشرطة تُكسب السيوف الدمشقية نمطها السطحي المتموج المميز. ويمكن الاستغناء عن أوراق الشجر الخضراء وقطع الزجاج، إلا أن السبائك الناتجة عندئذ تكون أكثر عرضة للتصدع أثناء عملية المطْل hammering. 3 عندما تبرد البوتقة تُفصل السبيكة، فيلاحظ أنها تحمل مزايا أقراص فولاذ ووتز التي استعملها القدماء. 4 تسخين السبيكة إلى درجة حرارة دقيقة. يستعمل پندري موقد غاز تُضبط فيه النسبة بين غاز البروبان والهواء لتخفيض تكوُّن قشرة أكسيدية oxide scale في أثناء التطريق، إذ تتكون في العادة طبقة أكسيد سطحية سُمكها نصف مليمتر تقريبا، ومن المفترض أن عملية الجلخ النهائية كفيلة بإزالتها. 5 تطريق السبيكة (تغيير شكلها تغييرا طفيفا، وهي لاتزال حارة، بضربات مطرقة). عندما تبرد السبيكة إلى درجة يتعذر معها تغيير شكلها من غير أن تنصدع، تسخّن وتطرَّق من جديد. وتعرض الصورة أربع مراحل منفصلة للسبيكة؛ كل مرحلة منها نتيجة من عدة دورات من التسخين والتطريق. وقد تتطلب هذه المعالجة نحو 50 دورة للحصول على شكل النصل المرغوب من السبيكة ـ وهي بالطبع عملية تحتاج إلى جهد كبير، يستعمل پنْدري لتحقيقها مطرقة هوائية حديثة، علما بأن مطرقة يدوية قد تؤدي الغرض نفسه، لكنها تستغرق زمنا أطول. 6 تقطيع النصل إلى شكله النهائي، وتطريقه يدويا لإضفاء التفاصيل الدقيقة عليه. 7 إزالة الزوائد الفولاذية والمعدن السطحي المنزوع الكربون. يستعمل پنْدري شريط جلخ كهربائيا لهذه الغاية. 8 شق أثلام وإحداث ثقوب في سطح السيف لتوليد «سلّم محمد» والنقوش الوردية، بحسب الرغبة. يسوّى المعدن بتطريقه إلى شكل منبسط ثانية، ويُصقل سطحه للوصول إلى شكله النهائي تقريبا. 9 حفر سطح النصل باستعمال حمض لإظهار النقش؛ فتبدو أجزاء الفولاذ اللينة دكناء اللون، في حين تظهر أجزاؤه الصلدة كخطوط أزهى لونا. |
ونعتقد أن تكوُّن الشرائط يحدث كما يلي: بتطبيق الدورات العشرين الأولى من التسخين، تتكوَّن جسيمات الكربيد الصلدة على نحو عشوائي تقريبا، لكن هذه الجسيمات تنحو أكثر فأكثر لتصطف على امتداد شبكة النقاط المتكوِّنة في المناطق ما بين الانشعابيات. والسبب في هذا التحسن يعود إلى أن بعض جسيمات الكربيد تنحل في الفولاذ لدى كل تسخين له، إلا أن ذرات العناصر الشائبة تبطئ معدل الانحلال، فتتسبب في الإبقاء على جسيمات الكربيد الأكبر حجما. وتتمخض كل دورة جديدة من التسخين والتبريد عن ازدياد ضئيل في حجم هذه الجسيمات، الأمر الذي يقتضي إجراء دورات كثيرة لتكوين الشرائط المتميزة. ولما كان اصطفاف العناصر الشائبة يحدث في المناطق ما بين الانشعابيات، فإن جسيمات الكربيد تصبح متركزة هناك أيضا.
سيف جاهز، يظهر عليه بوضوح «سلَّم محمد» والنقوش الوردية. |
العناصر الصحيحة(4)
ومع أننا كنا لفترة طويلة نشكِّك في الدور الأساسي الذي تؤديه العناصر الشائبة في تشكيل الشرائط، فلم نكن مدركين على وجه اليقين أي هذه العناصر هو الأكثر أهمية. وقد ثبت لنا بسرعة أن عناصر السيليكون والكبريت والفسفور (الموجودة في سيوف ووتز القديمة) ليست، فيما يبدو، هي العوامل الفاعلة. إلا أن هذه المعرفة لم تفض إلى حل المشكلة.
وقد حققنا فتحا كبيرا عندما بدأنا باستعمال معدن (فلز) سورِل Sorel metalكأحد مكونات السبائك. وهذا المعدن خليط (أشابة) alloy من الحديد والكربون العالي النقاوة، يحتوي على الكربون بنسبة 3.9 إلى 4.7%، وينتج من تراكم طبيعي كبير لفلز إلمينيت ilmenite ore يقع في منطقة لاك تيو على ضفاف نهر سان لوران بمقاطعة كويبك الكندية، ويحوي مقادير ضئيلة من عنصر الڤاناديوم، ولهذا السبب يأتي معدن سورِل محتويا على شائبة الفاناديوم بنسبة تراوح بين 0.003 و 0.014%. وقد أغفلنا هذه الشائبة أول الأمر، إذ لم يكن ليخطر ببالنا أن تركيزا منخفضا جدا كهذا يمكن أن يكون ذا قيمة، لكننا أدركنا في نهاية المطاف (وبعد عامين من المحاولات غير المجدية) أن وجود الشوائب على أدنى مستوى قد يكون مهما.
وبالفعل، فقد وجدنا أن إضافة مقادير يسيرة من الڤاناديوم (من قبيل 0.003%) إلى خلائط الحديد والكربون العالية النقاوة، تُنتج شرائط جيدة. كذلك يفضي استعمال عنصر الموليبدنيوم إلى النتيجة المرغوبة، وكذا بالنسبة إلى الكروميوم والنيوبيوم والمنغنيز على نطاق أضيق. أما العناصر التي لا تساعد على تشكيل الكربيد والشرائط فتشمل النحاس والنيكل. هذا وقد أثبت التحليل الميكروي بمسبار إلكتروني أن العناصر الفعالة، عند وجودها بنسبة لا تتجاوز 0.02% في السبائك، تكون منعزلة ميكرويا (مجهريا) microsegregated داخل المناطق ما بين الانشعابيات وتكون أكثر تركيزا هناك.
خلصنا إذًا إلى أن الشرائط تتولد من الانعزال الميكروي للعناصر الشائبة، وهذا يؤدي إلى الانعزال الميكروي لجسيمات السمنتيت. ولاختبار هذه النتيجة أجرينا تجارب تثبت إمكان التخلص من الشرائط عن طريق التخلص من الانعزال الميكروي للذرات الشائبة. فأخذنا قطعا صغيرة من سيوف قديمة وحديثة مخططة، وعرّضناها للتسخين إلى نحو 50 درجة سيلزية فوق درجةAcm، فانحلت عند درجة الحرارة هذه جسيمات كربيد الحديد كلها في الأوستنيت. قمنا بعد ذلك بتسقية النصال بالماء، فتولَّد من التبريد المفاجئ ما يسمى فولاذ طور المارتنزيت martensite phase، وهو فولاذ صلد جدا، ليس فيه أي جسيمات كربيدية. وباختفاء جسيمات الكربيد لوحظ اختفاء الشرائط الناشئة عنها كذلك.
ولإعادة تكوين جسيمات السمنتيت، أخضعنا النصال إلى عدة دورات من التسخين حتى الدرجة 50 سيلزية تحت درجة الحرارة Acm ثم التبريد البطيء بالهواء، فأتاحت هذه العملية للجسيمات الزمن اللازم لتنمو من جديد وتنعزل. وقد وجدنا، بعد الدورة الأولى، أن جسيمات الكربيد عادت إلى الظهور ولكن بتوزيع عشوائي ما لبث أن بدأ بالانتظام بعد دورة أو دورتين؛ فبدأت الجسيمات بالاصطفاف في شرائط واهية راحت تتوضح رويدا إلى أن صارت تامة الوضوح بعد 6 إلى 8 دورات.
في أحد الاختبارات رفعنا حرارة التسخين إلى الدرجة 1200 سيلزية، أي أعلى كثيرا من الدرجة Acm وأدنى قليلا من درجة انصهار الفولاذ. فوجدنا بعد مرور 18 ساعة أن التشكيل الحراري الناتج للفولاذ لم يتمكن من إعادة الشرائط لجسيمات السمنتيت. وتُظهر الحسابات أن المعالجة بدرجة حرارة مرتفعة كهذه من شأنها أن تزيل تماما الانعزال الميكروي للذرات الشائبة عن طريق الانتشارdiffusion.
أجريت و پندري أيضا تجارب مقيدة بدقة، استبعدنا فيها جملة العناصر الشائبة، فوجدنا ـ حتى بعد دورات كثيرة من التسخين والتبريد البطيء ـ أن السبائك لم تولِّد مجموعات من جسيمات الكربيد أو شرائط. وفي المقابل، عمدنا إلى إضافة العناصر الشائبة إلى السبيكة نفسها، وطبقنا عليها دورات التسخين والتبريد، فظهرت الشرائط ثانية.
ولا شك في أن جهودنا لإحياء صنع سيف دمشقي تساعدنا على الإجابة عن سؤال آخر: كيف تمكن قدماء الحدادين من توليد النقش المسمى بسلم محمد؟ لقد جاء عملنا مؤيدا لنظرية كانت قد اقتُرحت فيما مضى، مفادها أن درجات السلم تُصنع بحز أخاديد وأثلام على النصال. فالوشي السلمي الذي يُرى في الصورة السفلى في الصفحة 9 نُقش بحزِّ مثل هذه الأخاديد على سطح السيف بعد تطريقه إلى ثخانة قريبة من ثخانته النهائية [انظر الصورة رقم 8 في الصفحة 9]، ومن ثم تطريقه ثانية لملء الأخاديد. وطبيعي أن يقلِّص التطريق المسافات بين الشرائط الزاهية والكامدة على السطح النهائي، ولا سيما على امتداد حافات الأخاديد. والشكل المستدير بين درجات السلم، والذي يُعرف باسم النقش الوردي rose pattern، هو أيضا مقتبس عن أنماط من سيوف معقوفةscimitars أكثر قِدما. يتولد هذا النقش المستدير من ثقوب سطحية العُمق تُصطنع على سطح السيف، في الوقت الذي تُشقُّ فيه الأخاديد.
نتساءل أخيرا: لماذا بات فن صنع هذه الأسلحة مهملا في وقت ما قبل نحو قرنين من الزمن؟ ربما لأن فلزات الحديد الآتية من الهند لم تكن جميعها محتوية على العناصر اللازمة لتكوين الكربيد؛ فسيوف موزر الأربعة القديمة التي أجرينا عليها دراساتنا احتوت كلها على شوائب الڤاناديوم التي يرجَّح أنها السبب في تكون الشرائط في تلك السيوف. ولو أن تبدلات التجارة العالمية أتاحت وصول سبائك من الهند خلوٍ من العناصر الشائبة اللازمة، لغدا صنّاع السيوف (وأبناؤهم من بعدهم) غير قادرين على ابتداع النقوش الجميلة على سيوفهم، من دون أن يدركوا بالضرورة سببا لذلك. ولو دامت الحال هكذا لأوشك سر السيف الدمشقي الأسطوري أن يضيع لا محالة بعد جيل أو جيلين على الأكثر. وبفضل اجتماع العلم والفن معا أمكن إماطة اللثام عن هذا السر القديم.
المؤلف
John D. Verhoeven
أستاذ فخري بارز في الهندسة وعلم المواد بجامعة ولاية أيوا الأمريكية. انصب جل اهتمامه على دراسة سر السيوف الدمشقية المصنوعة من الفولاذ الهندي (ووتز) منذ كان طالب دراسات عليا في جامعة ميتشيگان. في عام 1982 بدأ بإجراء تجاربه العلمية لإعادة تكوين السيف الدمشقي القديم. تطور عمله ـ الذي كان هواية في المقام الأول ـ لينحو فيما بعد منحى جادا، ولا سيما بعد أن عمل بالتعاون مع الحداد البارع < H .A.پندري> على مدى سنوات عديدة.
مراجع للاستزادة
HISTORY OF METALLOGRAPHY: THE DEVELOPMENT OF IDEAS ON THE STRUCTURE OF METALS BEFORE I890. Cyril S. Smith. MIT Press, 1988.
ON DAMASCUS STEEL. Leo S. Figiel. Atlantis Arts Press, 1991.
ARCHAEOTECHNOLOGY: THE KEY ROLE OF IMPURITIES IN ANCIENT DAMASCUS STEEL BLADES. J. D. Verhoeven, A. H. Pendray and W. E. Dauksch in Minerals, Metals and Materials Society, Vol. 50, No. 9, pages 58-64; September 1998. Available atwww.tms.org/pubs/journals/JOM/9809/verhoeven-9809.html on the World Wide Web.
Scientific American, January 2001
(*) The Mystery od Damascus Blades
(What is Real Damascus Steel?(1
(2) ج. شريط band.
(3)symbolic.
(4) The Trick of Banding.
(5)The Right Elments.