أصداء من الانفجار الأعظم
أصداء من الانفجار الأعظم(*)
قد يستطيع العلماء قريبا إلقاء نظرة خاطفة
على بدايات الكون وذلك بدراسة التموجات
الدقيقة التي تحدثها موجات تثاقلية.
<R .R. كالدويل> ـ <M. كاميونكوڤسكي>
كون أملس(1) في كون ليس فيه تغيرات في الكثافة ولا موجات تثاقلية، تكون الخلفية الكونية للموجات الميكروية (الصِغْرية) متسقة تماما. |
مازال علماء الكون يطرحون الأسئلة نفسها التي طرحها راصدو النجوم الأوائل عندما كانوا يمسحون السماوات. من أين جاء الكون؟ وهل سبقه شيء؟ وما هو هذا الشيء؟ كيف وصل الكون إلى حالته الراهنة، وماذا سيكون مستقبله؟ ومع أن المنظِّرين تفكروا طويلا في أصل هذا الكون، فلم يكن لديهم أية طريقة لسبر لحظات الكون الأولى لاختبار فرضياتهم، إلا منذ عهد قريب جدا. لكنْ في السنوات الأخيرة، توصل الباحثون إلى طريقة لرصد الكون كما كان في بداية ذلك الجزء من الثانية الأولى بعد الانفجار الأعظم. وتتضمن هذه الطريقة النظر في آثار الموجات التثاقلية في الخلفية الكونية للموجات الميكروية (CMB)، أي الإشعاعات الباردة التي تخللت الكون طوال نحو 15 بليون سنة.
لقد أُطلقت الإشعاعات CMB بعد نحو 000 500 سنة من الانفجار الأعظم، عندما اتحدت لأول مرة الإلكترونات والپروتونات في الپلازما الكونية البدائية ـ وهي الحساء الحار والكثيف المكوّن من الجسيمات دون الذرية التي كانت تملأ الكون، وذلك لتكوّن ذرات الهدروجين. ولأن هذه الإشعاعات توفر لقطة سريعة للكون في ذلك الوقت، فقد أصبحت الوسيلة لفك رموز علم الكون (الكوسمولوجيا). وبعد أن اكتُشِفت الإشعاعات CMB عام 19655، وجد الباحثون أن درجة حرارتها ـ وهي مقياس لشدة إشعاعات الجسم الأسود ـ قريبة جدا من 2.7 درجة كلڤن، وذلك مهما كان الاتجاه الذي ينظرون فيه إلى السماء. وبكلمات أخرى، ظهرت هذه الإشعاعات وكأنها متناحية isotropic، وهذا يشير إلى أن الكون كان متسقا (منتظما) جدا في مراحله الأولى. ولكن في مطلع التسعينات، كشف ساتل سمي «مستكشف الخلفية الكونية» Cosmic Background ExplorerCOBE تغيرات ميكروية ـ جزء واحد فقط من 000 100 ـ في درجة حرارة هذه الإشعاعات. وقد وفرت هذه التغيرات دلالة على وجود تكتلات ونتوءات صغيرة في الپلازما الكونية البدائية. وتطورت هذه التشوهات في نسق توزع كتلة المادة فيما بعد، متحولة إلى بُنى كبيرة الحجوم في الكون: المجرات، وحشود المجرات التي توجد حاليا.
وفي أواخر التسعينات قامت عدة مكاشيف detectors، محمولة بالمناطيد ومقامة على قواعد أرضية، برصد الإشعاعات CMB بميز (فصل) resolution زاوي أدق من ميز المستكشف COBE، وكشفت بنى في الپلازما الكونية البدائية تمتد عبر السماء ضمن زوايا قياساتها تقل عن درجة واحدة. (وبغية المقارنة، فإن القمر يقع ضمن زاوية قياسها أقل من نصف درجة). وقد أشار حجم هذه البنى البدائية إلى أن هندسة الكون مسطحة [انظر:«تقرير خاص: ثورة في الكوسمولوجيا»، مجلة العلوم العدد 11(1999)، ص 51]. وتنسجم هذه الأرصاد مع نظرية التضخم الكوني، التي تفترض وجود حقبة زمنية جرت في اللحظات القليلة الأولى بعد الانفجار الأعظم كان فيها التمدد الكوني سريعا على نحو لافت للنظر. وفي هذا العام، تخطط الوكالة (ناسا) لإطلاق مسبار اللاتناحي الميكروي الموجة Micrwave Anisotropy Probe MAP الذي سيوسّع أرصاد CMBالدقيقة لتشمل السماء كلها(2). كذلك فإن مركبة الفضاء پلانك Planck، التابعة لهيئة الفضاء الأوروبية، والمخطط لإطلاقها عام 2007 ستعد خرائط أكثر تفصيلا. ويتوقع علماء الكون أن تكشف هذه الأرصاد كنز معلومات نفيسا عن الكون المبكر.
ويأمل الباحثون، بوجه خاص، أن يجدوا برهانا مباشرا على حقبة التضخم الكوني. والدليل الأقوى «المدفع ذو الدخان» ـ يمكن أن يكون رصد الموجات التثاقلية التضخمية. ففي عام 1918 تنبأ آينشتاين بوجود الموجات التثاقلية كنتيجة لنظريته في النسبية العامة. وهذه الموجات تشبه الموجات الكهرمغنطيسية، كالأشعة السينية والموجات الراديوية والضوء المرئي، وهي اضطرابات متنقلة للحقل الكهرمغنطيسي. ومثلما هي الحال في الموجات الضوئية أو الراديوية، يمكن للموجات التثاقلية أن تنقل معلومات وطاقة من المصادر التي تنتجها. إضافة إلى ذلك يمكن للموجات التثاقلية أن تتنقل من دون عوائق عبر المادة التي تمتص جميع أشكال الإشعاعات الكهرمغنطيسية. وكما تسمح الأشعة السينية للأطباء بالتحديق عبر المادة التي لا يستطيع الضوء اختراقها، فإن الموجات التثاقلية يجب أن تسمح للباحثين بأن يروا ظواهر فيزيائية فلكية لا يمكن رؤيتها بطريقة أخرى. ومع أن الموجات التثاقلية لم تُرصد مباشرة حتى الآن، إلا أن الأرصاد الفلكية أكدت أن أزواجا من أجسام عالية الكثافة، كالنجوم النيوترونية والثقوب السوداء، تولِّد هذه الموجات عندما تتخذ سبيلا لولبيا بعضها باتجاه البعض الآخر.
موجات تثاقلية(3) مع أن الموجات التثاقلية لم ترصد مباشرة قط، فإن النظرية تتنبأ بأن بالإمكان كشفها، لأنها تمط وتعصر الحيز الذي تنتقل خلاله. فعندما تضرب موجة كتلة كروية (a)، فإنها أولا تمط الكتلة باتجاه، وتعصرها باتجاه يعامد الاتجاه الأول (b). ثم تنعكس هذه التأثيرات (c)، وتتأرجح هذه التشوهات تبعا لتردد (تواتر) الموجة (d وe). والتشوهات المبيّنة هنا مكبرة جدا؛ فالموجات التثاقلية تكون عادة أضعف بكثير من أن تحدث تأثيرات يمكن قياسها. |
إن الپلازما، التي كانت تملأ الكون خلال مدة الـ000 500 سنة الأولى من وجوده، كانت عاتمة للإشعاع الكهرمغنطيسي، لأن أي فوتونات منطلقة كانت تتشتت فورا في حساء الجسيمات دون الذرية. لهذا لا يستطيع الفلكيون رصد الإشارات الكهرمغنطيسية التي سبقت تاريخ انطلاق الإشعاعات CMB. وبالمقابل، فإن الموجات التثاقلية كانت قادرة على اختراق الپلازما الكونية. إضافة إلى ذلك، فإن نظرية التضخم الكوني تتنبأ بأن التمدد الانفجاري للكون خلال 38-10 ثانية بعد الانفجار الأعظم كان يجب أن يولّد موجات تثاقلية. وإذا كانت النظرية صحيحة، فإن هذه الموجات كان يجب أن تترك أصداء عبر الكون المبكر، وأن تترك تموجات دقيقة جدا في الإشعاعات CMB بعد 000 5000 سنة من ذلك، بحيث يمكن رصدها حاليا.
موجات من التضخم الكوني(4)
ولفهم الكيفية التي كان من الممكن فيها للتضخم الكوني أن يولّد موجات تثاقلية، دَعْنَا نفحصْ نتيجة مذهلة للميكانيك الكمومي: إن الفضاء الخالي ليس خاليا تماما، إذ إن أزواجا افتراضية من الجسيمات تتولد وتُدمَّر تلقائيا باستمرار. فمبدأ هايزنبرگ في الارتياب ينص على أن كل زوج من الجسيمات طاقته E∆ يمكن أن يبرز إلى حيز الوجود مدة من الزمن ∆t قبل أن يدمر أحدهما الآخر، إذا تحقق الشرط h/2>∆E∆t، حيث h هو ثابت پلانك المخفض (1.055xx 10-34 جول ـ ثانية). ولكن يجب عليك ألا تقلق عندما يتعلق الأمر بتفاحة أو موزة افتراضية لدى خروجهما من الفضاء الخالي، لأن هذه الصيغة تنطبق على الجسيمات الأولية فقط وليس على التجمعات المعقدة من الذرات.
كون مشوه (5) لا بد أن يكون التمدد الهائل السرعة للكون، الذي حدث مباشرة بعد الانفجار الأعظم، قد ولّد موجات تثاقلية. ويمكن لهذه الموجات أن تَمط وتَعصر الپلازما الكونية البدائية مولدة حركات في السطح الكروي الذي بث الإشعاعات CMB. وهذه الحركات تُحدث بدورها انزياحات نحو الأحمر وانزياحات نحو الأزرق في درجة حرارة الإشعاع، وتستقطب الإشعاعات CMB. ويُظهر الشكل هنا تأثيرات الموجات التثاقلية الذاهبة من قطب إلى آخر بطول موجي يساوي ربع نصف قطر الكرة. |
وأحد الجسيمات الأولية التي تتأثر بهذه العملية هو الگرڤيتون، وهو الجسيم الكمومي للموجات التثاقلية (المماثل للفوتون في الموجات الكهرمغنطيسية). فأزواج من جسيمات الگرڤيتون الافتراضية تدخل في حيز الوجود باستمرار ثم تخرج منه. لكن خلال مدة التضخم الكوني، يتوقع أن تتفكك جسيمات الگرڤيتون الافتراضية بسرعة أكبر بكثير من سرعة عودتها للاختفاء في الخلاء. وهذا يعني جوهريا أن الجسيمات الافتراضية ربما تحولت إلى جسيمات حقيقية. إضافة إلى ذلك، فإن التمدد الهائل السرعة للكون ربما أدى إلى مط الأطوال الموجية للگرڤيتون لتتحول من أطوال ميكروية إلى ماكروية (كبرية). وبهذه الطريقة ربما يكون التضخم الكوني ضخ طاقة في إنتاج الگرڤيتونات، مولدا طيفا من موجات تثاقلية عكست ظروف الكون خلال اللحظات الأولى التي أعقبت الانفجار الأعظم. وإذا كانت الموجات التثاقلية التضخمية موجودة فعلا، فستكون أقدم المخلفات في الكون، التي تولدت قبل 000 500 سنة من انبعاث الإشعاعات CMB.
خط الزمن الكوني(6) خلال حقبة التضخم الكوني ـ أي التمدد الهائل للكون الذي حصل في اللحظات الأولى بعد الانفجار الأعظم ـ ولدت السيرورات الكمومية طيفا من الموجات التثاقلية. وقد كان لهذه الموجات صدى في الپلازما الكونية البدائية، محدثة تشوهات في الإشعاعات CMB التي انبعثت بعد ذلك بنحو 000 500 سنة. وبالقيام برصد يقظ للإشعاعات CMB، في هذه الأيام، يمكن لعلماء الكون أن يكشفوا حركات الپلازما التي أحدثتها الموجات التثاقلية التضخمية. |
وفي حين انحصرت الإشعاعات الميكروية في الإشعاعات CMB، إلى حد بعيد، في أطوال موجية بين مليمتر واحد وخمسة مليمترات (حيث الطول في ذروة الشدة نحو 2 مليمتر)، فإن الأطوال الموجية للموجات التثاقلية التضخمية تغطي مجالا أوسع: من سنتيمتر واحد إلى 1023 كيلومتر، وهو حجم الكون الحالي المرصود. تفترض نظرية التضخم الكوني أن الموجات التثاقلية ذات الأطوال الموجية الكبرى ستكون هي الأكثر شدة، وأن قوتها تتوقف على المعدل الذي تمدد به الكون خلال حقبة التضخم. وهذا المعدل يتناسب طرديا مع مستوى طاقة التضخم، التي تحددت بدرجة حرارة الكون عندما بدأ التضخم. ولأن الكون كان أكثر حرارة في المراحل الزمنية الأبكر، فإن قوة الموجات التثاقلية تتوقف في النهاية على الوقت الذي بدأ فيه التضخم.
ولسوء الحظ، لا يستطيع علماء الكون تحديد هذا الوقت، لأنهم لا يعرفون بالتفصيل سبب التضخم الكوني. وقد وضع بعض الفيزيائيين نظرية تنص على أن التضخم بدأ عندما انفصلت ثلاثة من التآثرات الأساسية ـ القوى: الشديدة والضعيفة والكهرمغنطيسية ـ بعد خلق الكون مباشرة. فوفق هذه النظرية، كانت هذه القوى الثلاث واحدة في البداية، ثم أصبحت متمايزة بعد38-10 ثانية من الانفجار الأعظم، وقد أطلق هذا الحدث، بطريقة أو بأخرى، العنان للتمدد المفاجئ للكون. ولو كانت هذه النظرية صحيحة، لكان للتضخم مدى طاقة محصور بين 1015 إلى 1016 جيگاإلكترون ڤلط (GeV). (جيگاإلكترون ڤلط واحد هو الطاقة التي يكتسبها پروتون عندما يُسرَّع نتيجة هبوط في الڤلطية قدره بليون ڤلط. وأكبر مسرِّع للجسيمات حاليا يصل إلى طاقة 103Gev.) وبالمقابل، إذا كان التضخم قد نتج من ظاهرة فيزيائية حدثت في وقت متأخر، فإن الموجات التثاقلية ستكون أضعف.
وما إن تحدث الموجات التثاقلية التضخمية خلال الأجزاء الأولى من الثانية بعد الانفجار الأعظم، حتى تواصل انتشارها إلى ما لانهاية، ومن ثم فإنها لاتزال تنتشر عبر الكون. لكن كيف يمكن لعلماء الكون رصدها؟ لننظر أولا كيف يلتقط مستقبِل ستيريو عادي موجة راديوية. هذه الموجات مكوّنة من حقول مغنطيسية وكهربائية واهتزازية تجعل الإلكترونات في هوائي الجهاز المستقبِل تتحرك جيئة وذهابا. وتنتج حركة الإلكترونات هذه تيارا كهربائيا يسجله الجهاز المستقبل.
وبالمثل، تحرِّض الموجات التثاقلية مطّا وعصرا بطريقة اهتزازية للحيز الذي تنتقل الموجات عبره. ومن الممكن لهذه الاهتزازات أن تُحدِث حركات صغيرة في مجموعة من كتل الاختبار العائمة الطليقة. ففي أواخر الخمسينات من القرن العشرين، وبغية إقناع المتشككين في الحقيقة الفيزيائية لهذه الموجات، قام الفيزيائي <H. بوندي> [منKing’s College في لندن] بوصف مكشاف افتراضي للموجات التثاقلية. كان الجهاز المثالي المقترح حلقتين معلَّقتين تتحركان بحرية على قضيب صلب طويل. فموجات التثاقل الواردة التي سعتها h وتواترها (ترددها) ؤ تجعل المسافة L بين الحلقتين تتقلص ثم تتمدد بالتناوب مسافة قدرها h x L، وبتواتر قدره F. وبهذا توفر حرارة الاحتكاك، الناتجة من احتكاك الحلقات بالقضيب، برهانا على أن موجات التثاقل تحمل طاقة.
أثر في الإشعاعات(7) يمكن للموجات التثاقلية التضخمية أن تترك بصمة متميزة على الإشعاعات CMB. يصور المخطط هنا محاكاة للتغيرات في درجة الحرارة ولأنماط الاستقطاب التي يمكن أن تنتج من التشوهات المبينة في الشكل السفلي في الصفحة 35، وتمثل البقع الحمراء والزرقاء المناطق الأبرد والأسخن من الإشعاعات CMB، كما تشير الخطوط المستقيمة الصغيرة إلى زاوية توجيه الاستقطاب في كل بقعة من السماء. |
ويبني الباحثون حاليا مكاشيف للموجات التثاقلية أكثر تعقيدا، وهي تستخدم الليزر لتعقُّب أثر الحركات الصغيرة جدا لكتل اختبار معلقة [انظر الإطار في الصفحة 38]. فالمسافة بين كتل الاختبار تحدد نطاقا من أطوال الموجات التي يمكن للجهاز أن يرصدها. وأكبر المكاشيف ذات القواعد الأرضية، والتي تفصل بين كتل الاختبار فيها مسافة 4 كيلومترات، تستطيع قياس اهتزازات تحدثها موجات تثاقلية أطوالها محصورة بين 30 و000 30 كيلومتر. ويُخطَّط لمرصد فضائي يمكن أن يكشف أطوالا موجية أكبر بنحو ألف مرة. وتقع أطوال الموجات التثاقلية الناتجة من اندماج النجوم النيوترونية وتصادم الثقوب السوداء ضمن هذا المجال، ومن ثم يمكن كشفها بوساطة هذه الآلات الحديثة. لكن الموجات التثاقلية التضخمية التي تقع ضمن هذا المجال تكون أضعف كثيرا من أن تُولِّد اهتزازات يمكن قياسها بهذه المكاشيف.
وأقوى الموجات التثاقلية التضخمية هي تلك التي لها أكبر الأطوال الموجية، أي التي يمكن مقارنتها بقطر الكون المرصود حاليا. ولكشف هذه الموجات، يحتاج الباحثون إلى رصد كتل اختبار طليقة تفصلها مسافات مماثلة لقطر الكون. ومصادفة، وفَّرت الطبيعة مثل هذا الترتيب: الپلازما الكونية البدائية التي بثت الإشعاعات CMB. فخلال ال000 500 سنة بين حقبة التضخم الكوني ووقت بث الإشعاعات CMB كان لموجات التثاقل، التي لها أطوال موجية فائقة الكبر، صدى عبر الكون المبكر، محدثة مطّا وعصرا بالتناوب للپلازما [انظر الشكل في الصفحة المقابلة]. وحاليا، يستطيع الباحثون رصد الحركات الاهتزازية هذه من خلال النظر إلى انزياحات دوپلر الطفيفة في الإشعاعاتCMB.
فلو أن موجة تثاقلية كانت تمط منطقة من الپلازما باتجاهنا ـ أي باتجاه الجزء من الكون الذي أصبح مجرتنا ـ وذلك في وقت بث الإشعاع CMB، لبدا الإشعاع من هذه المنطقة أكثر زرقة للراصدين، لأن هذا الإشعاع قد انزاح باتجاه الأطوال الموجية الأقصر (ومن ثم باتجاه درجات حرارة أكبر). وعلى العكس، إذا كانت موجة تثاقل تعصر منطقة من الپلازما بعيدا عنا عندما كانت تبث الإشعاع CMB، فإن هذا الإشعاع سيبدو أكثر احمرارا، لأنه انزاح نحو أطوال موجية أكبر (ومن ثم باتجاه درجات حرارة أقل). وبمسح البقع الزرقاء والحمراء في الإشعاعات CMB ـ التي تقابل درجات حرارة إشعاع أسخن وأبرد على التوالي ـ يمكن للباحثين نظريا أن يروا أنماط حركات الپلازما التي استحثتها الموجات التثاقلية التضخمية. وبهذا يصبح الكون نفسه مكشافا للموجات التثاقلية.
خصائص الاستقطاب(8)
لكن المهمة ليست بهذه البساطة. فكما أوردنا في بداية هذه المقالة، فإن عدم تجانس الكتلة في بداية الكون أحدث أيضا تغيرات في درجة حرارة الإشعاعاتCMB. (فمثلا، الحقل التثاقلي لمناطق الپلازما الأكثر كثافة كان سيولد انزياحا نحو الأحمر للفوتونات التي انطلقت من تلك المناطق، مسببا بعض الاختلافات في درجات الحرارة التي رصدها المستكشف COBE). فلو نظر علماء الكون إلى درجة حرارة الإشعاع فقط، لما استطاعوا معرفة أي جزء (إذا كان ثمة من جزء) من هذه التغيرات يجب أن يُعْزَى إلى الموجات التثاقلية. ومع ذلك، فإن العلماء يعرفون، على الأقل، أن الموجات التثاقلية لم تكن لتستطيع توليد أكثر من واحد من مئة ألف من الاختلافات في درجات الحرارة التي رصدها المستكشف COBEوغيره من مكاشيف الإشعاعات CMB. وهذه الحقيقة تضع قيودا طريفة على الظواهر الفيزيائية التي أدت إلى حدوث التضخم الكوني: فطاقة التضخم الكوني يجب أن تكون أقل من نحو 1016 Gev، ومن ثم فإن هذا الحادث لا يمكن أن يكون قد جرى قبل 38-10 ثانية من حدوث الانفجار الأعظم.
صيادو الموجات(**)
مكاشيف جديدة ستصبح جاهزة قريبا
إن الموجات التثاقلية الناتجة من السيرورات الكمومية خلال حقبة التضخم الكوني ليست على الإطلاق الموجات الوحيدة التي يُعتقد بأنها ترتحل عبر الكون. فالعديد من النظم الفيزيائية الفلكية، مثل النجوم الثنائية التي يدور كل منها حول الآخر، والنجوم النيوترونية المندمجة، والثقوب السوداء المتصادمة، يجب أن تبث أيضا موجات تثاقلية قوية. فتبعا لنظرية النسبية العامة، تتولد الموجات من أي نظام فيزيائي ذي حركات داخلية غير متناظرة كرويا. ومن ثم فإن أي زوج من النجوم التي يدور كل منها حول الآخر يولّد موجات، إلا أن النجم المنفرد لا يفعل ذلك. والمشكلة في كشف الموجات هي أن قواها تذوي عندما تنتشر إلى الخارج. ومع أن اندماج النجوم النيوترونية، وتصادم الثقوب السوداء هما من الأحداث المزلزلة الأكثر عنفا في الكون، إلا أن ما ينتج من ذلك من موجات تثاقلية يُصبح في منتهى الضعف بعد قطعها مئات ملايين السنين الضوئية إلى الأرض. فمثلا، إن الموجات الناتجة من تصادم ثقب أسود يبعد بليون سنة ضوئية تحدث تأرجحا في المسافة بين كتلتي اختبار معلقتين تعليقا حرا، مطا وعصرا على التوالي، بنسبة 21-10 فقط، أي واحد من بليون من التريليون. ولقياس مثل هذا الاهتزاز الضئيل، يُحضِّر الباحثون «مرصد مقياس التداخل الليزري للموجات التثاقلية» (LIGO)، الذي يتألف من مَرافقَ في مدينة ليڤنگستون بولاية لويزيانا، وفي مدينة هانفورد بولاية واشنطن [انظر الصورتين في اليسار]. في كل موقع وُصل أنبوبان متعامدان طول كل منهما أربعة كيلومترات على شكل حرف L عملاق. وتنطلق حزم أشعة الليزر داخل كل أنبوب إلى الأمام وإلى الوراء بين مرايا مصقولة صقلا شديدا. وبتعديل حزم الليزر بحيث تتداخل فيما بينها، سيتمكن العلماء من تسجيل التغيرات الدقيقة في المسافات بين المرايا، وبهذا يقيسون اهتزازات صغيرة جدا سعتها 17-10 سنتيمتر (أي قرابة واحد من بليون من قطر ذرة الهدروجين). وستقارن النتائج الواردة من مدينتي ليڤنگستون وهانفورد لإزالة أية تأثيرات محلية قد تحاكي الموجات التثاقلية، مثل أنشطة الاهتزازات الأرضية، والضوضاء الصوتية، وعدم الاستقرارات الليزرية. ويبني العلماء أيضا مكاشيف أصغر ستعمل بالترادف مع المرصد LIGO، وهذا يسمح للباحثين بتثليث مصادر الموجات التثاقلية. ومن الأمثلة على هذه المراصد: تاما TAMA(قرب طوكيو)، وڤيرگو Virgo (قرب پيزا في إيطاليا)، وجيو GEO (قرب هانوڤر في ألمانيا). ولمراقبة الموجات التثاقلية التي لها أطوال موجية أكبر، تخطط ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية لإطلاق الهوائي الفضائي لمقياس التداخل الليزري Laser Interferometer SpaceAntenna عام 20100. وهذا المكشاف سوف يتألف من ثلاث مركبات فضائية متطابقة تطير في تشكيلة مثلث، ويطلق كل منها على الأخرى حزما ليزرية بطول خمسة ملايين كيلومتر. ولسوء الحظ، لن يكون أي من هذه المراصد المقترحة حساسا بما يكفي لكشف الموجات التثاقلية التضخمية. وإشعاعات الخلفية الكونية للموجات الميكروية هي وحدها التي تستطيع كشف وجود هذه الموجات. |
لكن كيف يمكن لعلماء الكون أن يمضوا إلى أبعد من هذا؟ كيف يمكن لهم أن يتجنبوا عدم التيقن في أصل التقلبات في درجة الحرارة؟ يكمن الجواب في استقطاب الإشعاعات CMB. فعندما يصدم الضوء سطحا بحيث يتبعثر الضوء منحرفا بزاوية قائمة تقريبا عن حزمة الضوء الأصلية، يصبح مستقطبا خطيا ـ أي إن موجات الضوء تصبح متجهة باتجاه محدد. وهذا هو التأثير الذي تستغله النظارات الشمسية المستقطبة: فلما كان ضوءُ الشمس الذي يتبعثر من سطح الأرض مستقطبا عادة بالاتجاه الأفقي، فإن المرشحات في النظارات تخفف الوهج بصد موجات الضوء في هذا الاتجاه. والإشعاعات CMB مستقطبة أيضا. وقبل أن يوشك الكون المبكر أن يصبح شفافا للإشعاعات، تبعثرت فوتونات الإشعاعات CMB بعيدا عن الإلكترونات في الپلازما للمرة الأخيرة. وبعض هذه الفوتونات صدمت الجسيمات بزوايا كبيرة، وهذا أدى إلى استقطاب هذه الإشعاعات.
إن كشف الموجات التثاقلية التضخمية ينطلق من حقيقة أن حركات الپلازما الناجمة عن هذه الموجات ولّدت نمطا من الاستقطاب مختلفا عن ذلك الذي ولّده عدم تجانس الكتلة. والفكرة بسيطة نسبيا؛ فالاستقطاب الخطي للإشعاعاتCMB يمكن وصفه بقطع خطوط مستقيمة تُظهر زاوية توجيه الاستقطاب في كل منطقة من السماء [انظر الشكل في الصفحة 37]. ويمكن أن تظهر هذه القطع المستقيمة أيضا في الدوّامات الدوّارة إما باتجاه دوران عقارب الساعة، أو بعكس ذلك الاتجاه [انظر الشكل في هذه الصفحة].
إن تحديد اتجاه الدوران في هذين النمطين الأخيرين هو مفتاح الحل لمعرفة أصلهما. فعدم تجانس الكتلة في الپلازما الكونية البدائية لا يمكن أن يولّد أنماط استقطاب مثل هذين النمطين، لأن مناطق الكثافة أو التخلخل في الپلازما لا تدور باتجاه دوران عقارب الساعة أو بعكس ذلك الاتجاه. وبالمقابل، فإن الموجات التثاقلية تتسم بهذا الدوران أو عكسه: فهي تنتشر إما باتجاه دوران حركة فتّاحة سدادات القناني أو بعكس ذلك الاتجاه. ونمط الاستقطاب الناتج من الموجات التثاقلية سيبدو مثل تراكب عشوائي لعدة دوّامات دوّارة لها حجوم مختلفة بعضها يقع فوق بعض. ويصف الباحثون هذه الأنماط بأنها تمتلك دوّارا curl، في حين أن الأنماط الشعاعية، والتي لها شكل الحلقة الناتجة من عدم تجانس الكتلة، لا تمتلك دوّارات.
وحتى الراصد ذو العين الثاقبة لا يستطيع النظر إلى مخطط استقطاب، مثل ذلك المبين في الصفحة 37، ثم يحكم بعينه المجردة ما إذا كان المخطط يحوي أي أنماط لها دوّارات. إن هناك امتدادا لتحليل فورييه Fourrier ـ وهذه تقنية رياضياتية يمكنها أن تقسم الصور إلى سلاسل من أشكال الموجات ـ يمكن استخدامه لتقسيم نمط استقطاب إلى مكوناته من الأنماط التي لها دوّارات والأنماط التي ليس لها دوّارات. وهكذا فإذا استطاع علماء الكون قياس استقطاب الإشعاعات CMB وتحديد النسبة التي تأتي من الأنماط التي لها دوّارات، فإنهم يستطيعون عندئذ حساب سعة الموجات التثاقلية التضخمية ذات الأطوال الموجية المفرطة في الطول. ولأن سعة الموجات كانت قد تحددت بطاقة التضخم، فإن الباحثين سيتمكنون من إجراء قياس مباشر لمستوى هذه الطاقة. وستساعد هذه النتيجة بدورها على الإجابة عن السؤال عمّا إذا كان توحد القوى الأساسية هو الذي قدح زناد التضخم الكوني.
تُرى، ما هي احتمالات كشف أنماط الدوّارات هذه؟ إن مركبة ناسا الفضائيةMAP، والعديد من التجارب التي أجريت من قواعد أرضية أو محمولة على المناطيد، أصبحت جاهزة لقياس الاستقطاب في الإشعاعات CMB للمرة الأولى، غير أن الآلات المستعملة لن تكون على الأرجح حساسة بالقدر الكافي لكشف مكوِّن الدوّارات الناتج من الموجات التثاقلية التضخمية؛ لكن قد يكون للتجارب اللاحقة حظ أفضل. وإذا كان التضخم الكوني قد نتج فعلا من توحد القوى، فإن إشارة الموجات التثاقلية التي ولّدها قد تكون من القوة بحيث يمكن أن تكشفها مركبة پلانك الفضائية، مع أن جيلا لاحقا وأكثر حساسية من مركبات الفضاء قد يكون ضروريا. لكن إذا كان ما قدح زناد التضخم الكوني ظواهر فيزيائية أخرى حدثت في أوقات لاحقة بطاقات أدنى، عندها تكون الإشارة الآتية من الموجات التثاقلية أضعف بكثير من أن تُكشف في المستقبل المنظور.
أنماط الاستقطاب(9) إن استقطاب الإشعاعات CMB يمكن أن يزودنا بمفاتيح مهمة لحل ألغاز تاريخ الكون المبكر. فالتغيرات في كثافة الپلازما الكونية البدائية قد تحدث أنماطا على شكل حلقات، وأنماطا شعاعية للاستقطاب (في الأعلى). وبالمقابل، فإن الموجات التثاقلية تنتج دوّامات تدور باتجاه دوران عقارب الساعة، أو بعكس ذلك الاتجاه (في الأسفل). |
ولما كان علماء الكون غير متيقنين من أصل التضخم الكوني، فإنهم غير قادرين على التنبؤ بقوة إشارة الاستقطاب الناتجة من الموجات التثاقلية التضخمية. لكن إذا كانت هنالك فرصة، ولو صغيرة، لكشف هذه الإشارة فإنها تستحق أن تتابع. إن كشف هذه الإشارة لن يوفر برهانا قاطعا على التضخم الكوني فحسب، لكنه سيتيح لنا أيضا فرصة غير عادية للنظر إلى الوراء، إلى أبكر الأوقات، أي إلى الوقت الذي حل بعد الانفجار الأعظم بمدة 38-10 ثانية فقط. عندها نستطيع أن نأمل معالجة واحد من أكثر الأسئلة إلحاحا على مدى العصور، ألا وهو: من أين أتى هذا الكون؟
المؤلفان
Robert R. Caldwell – Marc Kamionkowski
كان كالدويل وكاميونكوڤسكي طالبين في قسم الفيزياء بجامعة واشنطن عام 1987. حصل كالدويل على الدكتوراه في الفيزياء من جامعة وسكونسن ـ ملووكي عام 1992. وهو واحد من العلماء الرئيسيين الذين صاغوا نظرية الطاقة القاتمة(10) quintessencee، ويعمل حاليا مدرسا للفيزياء وعلم الفلك في كلية دارتموث. أمّا كاميونكوڤسكي فحصل على الدكتوراه في الفيزياء من جامعة شيكاگو عام 19911. وهو حاليا أستاذ الفيزياء النظرية والفيزياء الفلكية في معهد كاليفورنيا للتقانة CIT. وقد حصل على جائزة وارنر عام 1998 لإسهاماته في علم الفلك النظري.
مراجع للاستزادة
FIRST SPACE-BASED GRAVITATIONAL-WAVE DETECTORS. Robert R. Caldwell, Marc Kamionkowski and Leven Wadley in Physical Review D, Vol. 59, Issue 2, pages 27101- 27300; January 15,1999.
Recent observations of the cosmic microwave background are described at these Web sites:pupgg.princeton.edu/~cmb/; www.physics.ucsb.edu/~boomerang/; cfpa.berkeley.edu/group/cmb/
Details of the MAP and Planck missions are available at map.gsfc.nasa.gov/ ;astro.estec.esa.nl/astrogen/planck/mission_top.html
More information on gravitational-wave detectors is available at www.ligo.caltech.edu; lisa.jpl.nasa.gov
Scientific American, January 2001
(*) Echoes from the Big Bang
(**) Wave Hunters
(1) Smooth Universe
(2)[انظر: “A Cosmic Cartographer”, by Ch.L.Bennett – G.F.Hinshaw L.Page “
Scienific American, January 2001]
(3) Gravitational Waves
(4) Waves from inflation
(5) Distored Universe
(6) Cosmic Timeline
(7) Relic in the Radiation
(8) The prticulars of polarization
(9) Polarization Paterns
(10) نظرية المادة السوداء المنتشرة في الكون التي تسهم في تسارع الكون ولكن لا يمكن رصدها. (التحرير)