أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم السياسةقضايا

(القنبلة الذرية والثنائي الغريب (فِرمي ـ زيلارد

القنبلة الذرية والثنائي الغريب (فِرمي ـ زيلارد)(*)

كقصة من قصص ڤيكتور هوگو، فإن الأحداث التي أدت إلى أول

تفاعل نووي متسلسل مسيطر عليه شملت مقابلات عرضية بين أبرز

الشخصيات، وخاصة بين اثنين لم ينسجما تماما ولكنهما اضطرا إلى ذلك.

<W. لانويت>

 

عشية الحرب العالمية الثانية، كان الفيزيائيان الأوروبيان <E. فِرمي> Fermi و <L. زيلارد> Szilard من نزلاء فندق كينك كراون القريب من جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك. ومع أنهما تبادلا في السابق الرسائل، فقد التقيا مصادفة في الفندق في الشهر 1/1939. وقد أدت المقابلة إلى شراكة من أزهى الشراكات ـ وأشدها مشاكسة ـ في تاريخ العلم.

 

كان كل من الرجلين لاجئا من الفاشية الأوروبية، وكل واحد منهما يملك بعض النتف الأساسية للغز الذي سوف يحل حلا كاملا مسألة طاقة الذرة. وسرعان ما تحققا أن التعاون المشترك بينهما يتطلب منهما التغلب على الخلافات العميقة في آرائهما عن العالم، وفي أسلوب عملهما وفي شخصيتهما الأساسية. ولو فشل فرمي وزيلارد في الاستمرار في تعاونهما غير المريح عموما، فإن أول تفاعل نووي متسلسل nuclear chain reaction ما كان ليتطور إلى واقع في عام 1942، وما كان لمشروع مانهاتن أن يصنع القنابل الذرية الأولى في عام 19455. وكما استنتج زيلارد فيما بعد، «إذا كانت الأمة مدينة لنا بالشكر ـ وربما لن تكون ـ فذلك يرد إلى تحمل أحدنا الآخر كلما كان ذلك ضروريا.»

 

دروب متقاطعة(**)

كان فِرمي قد أتم الثامنة والثلاثين من عمره حين وصل إلى نيويورك من روما. وفي رحلته البرية توقف في استوكهولم لتسلم جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1938، لما توصل إليه في أبحاثه حول قذف عنصر اليورانيوم بالنترونات، مما أدى إلى عناصر ما بعد اليورانيوم transuranic (أي أثقل من اليورانيوم). وخوفا من القوانين العنصرية الجديدة في إيطاليا الفاشية، قرر فِرمي وزوجته اليهودية عدم العودة إلى الوطن. وبدلا من ذلك قبل عرضا من العروض الأمريكية الأربعة التي تلقاها وتسلم وظيفة في جامعة كولومبيا.

 

جاء زيلارد، وهو يهودي هنگاري عمره 40 سنة، إلى نيويورك بطريق دوراني أكثر. فقد غادر مسقط رأسه بودابست عام 1919 إلى برلين، حيث درس وعمل مع ألبرت آينشتاين. وكان الاثنان أصلا يشتركان في بعض الأفكار وبراءات الاختراع لمضخة البراد الكهرمغنطيسية [انظر: «ثلاجات آينشتاين-تسيلارد»، مجلة العلوم، العدد 5 (1997) ، ص 18]. وبعد عقدين اكتسبت علاقتهما أهمية تاريخية كبرى.

 

وعندما استولى هتلر على السلطة عام 1933 فر زيلارد، الشديد الحذر، إلى لندن. وفي تلك السنة أدرك الفكرة المتعلقة بـ «التفاعل النووي المتسلسل» الذي يمكن، وفقا لتطبيق براءة اختراعه، أن ينتج «طاقة إلكترونية» ومن المحتمل أن ينجم عنه «انفجار». ومثل هذه التفاعلات قد تستخدم في المآل في محطات الطاقة الكهربائية وفي الأسلحة النووية. وعلى أي حال، لابد أولا من اكتشاف العنصر الذي يستطيع توليد التفاعل المتسلسل. وبعد أربع سنوات فشلت التجارب في جامعة أكسفورد، ومن ثّم في جامعتي روشيستر وإيلُيّنوي في الولايات المتحدة؛ وزيلارد جاء أيضا إلى جامعة كولومبيا وعمل فيها.

 

كان فرمي شخصية أكاديمية قوية تركَّزت حياته على عمله المتألق في الفيزياء، وكانت اهتماماته بالسياسة قليلة. وبحرصه العائلي، نقل أسرته من فندق كينك كراون إلى منزل في ضاحية من ضواحي نيوجرسي. وكان يستيقظ في الخامسة والنصف صباح كل يوم، فيمضي ساعتين قبل الإفطار في تحضير نظرياته والتخطيط لما سيقوم به من تجارب في هذا اليوم. وكان فرمي فيزيائيا نظريا موهوبا يحب العمل بيديه، وهذا أمر نادر بين علماء القرن العشرين. وعندما لا يكون فرمي مشغولا بمحاضراته يقوم بالعمل في المختبر مع مساعديه في صنع أو معالجة ما يحتاج إليه من تجهيزات.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N11-12_H01_001549.jpg

كان للتعاون المستمر بين ليو زيلارد (الصفحة المقابلة في اليسار) وأنريكو فِرمي (في اليمين) نتائج عديدة،

 شملت ألبرت آينشتاين والرئيس فرانكلين روزفلت وإنجاز القنبلة الذرية.

أما زيلارد الأعزب فكان يعمل في الجامعات «كأستاذ زائر» ليس لديه مختبر أو صفوف تدريسية خاصة به، ونادرا ما كان يقوم بالتدريس، وقلما كان ينشر بحوثا علمية، وكان يتلهى بالسياسة والبيولوجيا. وكان يعيش في الفنادق والنوادي الجامعية ويستمتع بالاسترخاء ساعات طويلة في حوض الحمام لاستنباط أفكار جديدة. (كان أحد إلهاماته أن على مؤسسة العلوم القومية NSFأن تمول العلميين الضعاف كيلا يقوموا بإجراء أبحاث) وكان زيلارد يقرأ الصحف بحماسة وينهمك في التفكير بالشؤون المالية والسياسية والعسكرية، محتفظا دائما بحقيبتين جاهزتين تماما ليفرّ بهما بسرعة من وجه أية انتفاضة فاشية جديدة.

 

ولأنه كان ينام متأخرا، فغالبا ما كان يأتي إلى جامعة كولومبيا في وقت الغداء، وبعد ذلك يقوم بزيارة زملائه على غير ميعاد ويطرح عليهم أسئلة عميقة وتجارب مقترحة عليهم أن يحاولوا القيام بها.

 

«لديك أفكار أكثر مما يجب؛ من فضلك اتركنا لحالنا»، هذا ما قاله له أخيرا <I.I. رابي> الذي حاز فيما بعد جائزة نوبل في الفيزياء.

 

عمل الفيزيائي الراحل <B. فلد>Feld مع فرمي وزيلارد مساعد باحث لزيلارد في جامعة كولومبيا، ثم أصبح فيزيائيا في معهد ماساتشوستس؛ وقد قدم خلاصة عن الرجلين قائلا: «فرمي لا ينتقل من النقطة A إلى النقطة B ما لم يعرف كل ما يمكنه معرفته عن A وتكون لديه كل الضمانات المعقولة عن B. أما زيلارد فيقفز من النقطة A إلى النقطة D، ثم يعجب منك لماذا كنت تضيِّع وقتك مع B و C.»

 

وبعد أيام قليلة من اللقاء الأول بين فرمي وزيلارد الذي حصل مصادفة في فندق كينك كراون، جاء إلى نيويورك الفيزيائي الدانمركي <N. بور> Bohr حاملا معه خبرًا مهمًا من أوروبا وهو أن الفيزيائي <L. مايتنر> Meitner، [وهو يهودي فر من ألمانيا إلى استوكهولم]، أكد أن كيميائييْن من برلين هما <O. هان> Hahnو <F. ستراسمان> Strassmann جعلا اليورانيوم يخضع «للانشطار» fission عن طريق قذفه بالنترونات neutron؛ وبذلك قسَّما الذرة atom. (في عام 1966 حاز هؤلاء الثلاثة جائزة أنريكو فرمي نظير هذا العمل). وكان تقرير <بور> عونا لفرمي من أجل فهم أكمل لتجاربه على اليورانيوم التي قام بها عام 1934؛ إضافة إلى تكوين عناصر أثقل، فقد توصل من دون أن يعلم إلى تقسيم الذرات.

 

لقد كان هذا الخبر نذير شؤم بالنسبة إلى زيلارد. فقد تحقق أن اليورانيوم هو العنصر الذي يقوم بدور الوقود للتفاعل المتسلسل الذي وصفه في تطبيق براءة اختراعه عام 1934. ولقد راهن على بصيرته السياسية، فتنازل عن براءة اختراعه للبحرية البريطانية سرا، خشية أن ينتبه العلماء الألمان إلى إمكانية إجراء تفجيرات ذرية. واكتشاف الانشطار أكد مخاوف زيلارد أن قنبلة ذرية يمكن أن تصير واقعا حاسما، في وقت قريب.

 

لقد طرأت فكرة التفاعل المتسلسل على ذهن زيلارد بينما كان يقف في زاوية أحد شوارع لندن عام 1933. وكان النترون قد اكتشف فقط عام 1932، واعتقد العلماء حينذاك أن الذرة مشابهة للمنظومة الشمسية من حيث إن لها إلكترونات سالبة الشحنة تدور في مدار حول نواة من الپروتونات الموجبة الشحنة والنترونات المعتدلة الشحنة. وبما أنه ليس للنترون شحنة فقد يهرع إلى ذرة من الذرات خلسة ويخترق النواة من دون أن يُطرد. لقد تخيل زيلارد أنه لو ضرب نترون ما النواة وشطر الذرة، فإن الانشطار الحاصل قد يحرر طاقة الربطbinding energy  التي تحافظ على تماسك الذرة. وبعض نترونات الذرة تلك، قد تتحرر بدورها، مما قد يسمح لها بضرب الذرات الأخرى وشطرها. فإذا تحرر أكثر من نترون واحد من كل انشطار ذرة، يمكن أن تتسع العملية اتساعا كبيرا، مع ملايين الذرات منشطرة في جزء من الثانية ومحررة كميات هائلة من الطاقة. (وقد علم زيلارد فيما بعد أن أخبار بور مكّنت فرمي أيضا من تصور تفاعل متسلسل، مع أن حدوثه اعتبر بعيد الاحتمال.)

 

وبينما كان زيلارد يسجل براءة اختراعه عام 1934، كان فرمي في روما آخذًا في تبوؤ مكان الصدارة كخبير عالمي حول قذف الذرات بالنترونات. ووجد فِرمي أن إمرار النترونات من خلال شمع البارافين، يُمكّن من تبطيئها، مما يزيد من فرصة امتصاصها من قبل النواة المستهدفة للقذف. وكان عمله في اليورانيوم محيرا. فأحيانا تمتص النواة نترونات (إذ يتحكم في الهوية الذرية عدد الپروتونات، فالامتصاص النتروني ينتج عناصر مختلفة أثقل، أو نظائرisotopes، لليورانيوم) ولكن في أحيان أخرى يكوِّن القذف النتروني عناصر جديدة كل الجدة. وباتباع تجارب فرمي المنشورة في المجلات العلمية، اقترح الكيميائي الألماني <I. نوداك> Noddack تحليلا كيميائيا للأنواع الجديدة لرؤية ما إذا كانت هذه الأنواع شظايا من ذرات منشطرة. ولكن فرمي، وقد ركّز انتباهه على القذف والامتصاص، لم يتابع مضامين تلك العناصر الجديدة. وحين تابعها، تمكّن من تمييز الانشطار الذري قبل مايتنر بسنوات.

 

في جامعة كولومبيا وفي ربيع عام 1939، أجرى كل من فرمي وزيلارد تجارب تهدف إلى فهم أفضل للانشطار. وقد قدم زيلارد للفيزيائي الكندي <W. زينّْ>Zinn مصدرا نترونيا من الراديوم ـ البيرايليوم radium-beryllium  المشع، كان زيلارد قد طلبه توا من إنكلترا. وبهذا المصدر المشع بيّن زينّ وزيلارد أن أكثر من نترونين قد فلتا في أثناء الانشطار. وقام فرمي ومساعده <H. أندرسون> بتجربة مشابهة مستخدمين مصدر بيريليوم ـ رادون أقوى، فتوصلا إلى نتائج غير قطعية؛ وقدّر زيلارد أن المصدر كان أكثر قوة مما يلزم، فمكّن بعض النترونات من المرور عبر النواة مما صعّب عليهما معرفة ما إذا كانا يحصيان النترونات الناجمة عن الانشطار، أم النترونات الأصلية. وقد توصل فرمي إلى نتائج أكثر وضوحا باستخدام المصدر النتروني الإنكليزي الذي حصل عليه زيلارد.

 

عندئذ سعى الرجلان إلى العمل معا ـ مع صدام صاخب ناجم عن أساليبهما الشخصية في العمل. لقد كان زيلارد يتفادى العمل اليدوي مفضلا الاستلهام الفكري، في حين أن فرمي كان يتوقع إسهام جميع فريق عمله في إجراء التجارب. ومع أن كل واحد من الرجلين كان يحترم قدرات الآخر، إلا أن كلا منهما كان يتهيأ للشر عندما يكون في صحبة الآخر. واعترافًا منهما بحاجة كل منهما إلى الآخر، فقد لجأ كل منهما إلى رئيس قسم الفيزياء في جامعة كولومبيا <G. بيگرام> الذي قبل أن ينسق عملهما الفردي؛ فكبحت دبلوماسية بيگرام المكوكية دقة فرمي وعِلم زيلارد بالغيب. ومع أندرسون نجح الزميلان المتشاجران في إثبات أنه باستخدام النترونات البطيئة «يمكن الإبقاء على تفاعل نووي متسلسل.»

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N11-12_H01_001550.jpg

 

بناء تفاعل متسلسل(***)

مع أن التصادمات بين فرمي وزيلارد كانت عادية جدًا، فإن التصادمات بين النترونات والنواة كانت في بداية الأمر نادرة جدا. واختراق النترونات لما سمي بالمهدئات moderators مثل بارافين فرمي، ساعد على تبطيئها، جاعلا صدامها مع نواة الذرة أكثر احتمالا. وبحلول عام 19399 عرف الفيزيائيون أيضا أن «الماء الثقيل» heavy water كان مهدئا كافيا. فالماء العادي أو «الماء الخفيف» يتألف من ذرتي هدروجين وذرة أكسجين، حسب الصيغة المألوفة H2O؛ أما في الماء الثقيل فيتحد اثنان من إيزوتوب الهدروجين(1) الثقيل، وهو ما يسمى الديوتريومdeuterium، مع الأكسجين. ومازال الماء الثقيل يستخدم مهدئا فعالا لوقود اليورانيوم الطبيعي في المفاعلات الذرية الحالية؛ أما الماء العادي فيستخدم لتخصيب وقود اليورانيوم. لكن الماء الثقيل كان باهظ الثمن ونادرًا. والتجارب الضخمة التي كانت في بال زيلارد تتطلب مهدئات أكثر توافرا وبأسعار مقبولة؛ وقد اكتشف واحدا من المهدئات التي أغفلها نظراؤه الألمان.

 

وتحققت مخاوف زيلارد، فأبحاث الألمان حول القنبلة الذرية كانت جارية بإحكام في ربيع عام 1939. وأقر كل من العلماء الألمان والأمريكان أن الگرافيتgraphite ـ الشكل الناعم للكربون المستخدم في أقلام الرصاص ـ يمكن أن يكون مهدئا.ولكنهم استبعدوه لأنه يمتص كثيرا جدا من النترونات، وبدلا منه ركزوا اهتمامهم على الماء الثقيل، وهو دائما قليل الوجود. وقد أدرك زيلارد، الذي اعتاد أن يستقل القطار إلى بوسطن أو بَفالو ليحصل على المواد الأولية لتجارب فرمي، أن الگرافيت التجاري يتضمن أيضا كميات صغيرة من البورون boron ـ وهو ماص شره للنترونات؛ فأوصى بأن يُصنع له گرافيت خالٍ من البورون، مما أدى في آخر الأمر إلى أشد المواجهات اللاذعة بين فرمي وزيلارد.

 

قاس أندرسون امتصاص النترون في الگرافيت النقي فوجد أنه يمكن أن يكون مهدئا جيدا بالفعل. وأوصى زيلارد بأن تظل نتائج هذه التجربة سرّية؛ فاعترض فرمي، العالِم المحترف، على خرق التقليد الأكاديمي العريق في النشر العلمي لنتائج التجارب العلمية. وفي هذا الصدد، ذكر زيلارد فيما بعد: «إن فرمي فقد صوابه حقا؛ فقد ظن بحق أن هذا كان سخيفًا.» ومرة أخرى تدخل بيگرام، فوافق فرمي بامتعاض على رقابة ذاتية في هذه الظروف الخاصة.

 

لقد ظنّ فرمي أن المهدّئ الگرافيتي قد يوفر بصيص أمل على الأقل من أجل تفاعل متسلسل مُداوم ذاتيًّا(2). وحول مسألة مدى واقعية هذا الأمل، أظهر فرمي وزيلارد أيضا طرائق مختلفة جدا في التفكير. وقد اغتاظ زيلارد من أن الألمان كانوا متقدمين في سباق التسلح النووي؛ وتعليقا على ذلك قال فرمي باللغة الأمريكية الدارجة التي كان يسره استخدامها «هراء» “Nuts”. فقد ظنّ فرمي أن أي قنبلة ذرية لن تكون جاهزة ربما قبل 25 إلى 50 سنة؛ كما أخبر زملاءه الجامعيين أن إيجاد دعم متسلسل مداوم ذاتيًّا هو فعلا «احتمال بعيد» مع فرصة تُقدر بنحو 10 في المئة.

 

وقد ردّ <I. رابي> على ذلك بقوله: «ليست العشرة في المئة هذه احتمالا بعيدا إن كانت تعني أنها قد تتسبب في موتنا.» وفي هذا الصدد لاحظ زيلارد كم كان هو وفرمي مختلفين في تفسير المعلومة نفسها، وقد علّق على ذلك لاحقا بقوله: «كلانا أراد أن يكون تحفظيا؛ لكن فرمي كان يرى أن التحفظ في هذا الشأن يقتضي التقليل من احتمال حدوث ذلك، أما أنا فقد اعتقدت أن التحفظ يفترض أن يحدث ذلك، وأن تُتخذ الإجراءات الوقائية اللازمة.»

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N11-12_H01_001551.jpg

براءة منحت لزيلارد في إنكلترا لفكرته عن التفاعل النووي المتسلسل، وقد تخلى عنها للبحرية البريطانية وأبقى ذلك

سرا إلى ما بعد الحرب. أما براءة الولايات المتحدة الأمريكية عن المفاعل فقد منحت لفِرمي وزيلارد معا.

 

وتضمنت الإجراءات الوقائية هذه استدانة ألفي دولار أمريكي لدعم أبحاث فرمي. ومع ذلك، ففي صيف عام 1939 أفصح فرمي عن عدم اهتمامه النسبي بمضامين الأبحاث النووية وذلك بالانتقال إلى جامعة متشيگان لدراسة الأشعة الكونية. فأول تصميم عالمي ناجح لمفاعل نووي لم يُنشأ لا في المختبر ولا في المكتبة، وإنما في الرسائل.

 

قام زيلارد بالحث على المباشرة فورا «بتجارب ضخمة». لكن فرمي ظل متشككا. واقترح زيلارد أن تكوّم، بالتناوب، طبقات من الگرافيت واليورانيوم في شبيكة lattice، قد يُحدد هندستها تبعثر النترونات والأحداث الانشطارية التالية. فردّ فِرمي على ذلك بتصميم متجانس يختلط فيه اليورانيوم والگرافيت مثل الحصباء(3). وقد أغضب هذا الاقتراح زيلارد، الذي استنتج أن فرمي فضل هذا التصميم لأن شكله أسهل للقيام بالحسابات حوله. لكن فِرمي رد بأن تفكيرا إضافيا أقنعه بفكرة الشبيكة لزيلارد. ولدى قناعته بالفكرة قام فِرمي بتطبيق مهارته المتينة لتحديد الخصائص الفيزيائية للشبيكة وتحديد العناصر البشرية اللازمة لصنع مفاعل.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N11-12_H01_001552.jpg

آينشتاين وزيلارد يناقشان الرسالة التي سوف تقنع الولايات المتحدة بتطوير أسلحة نووية. وصورة هذين الفيزيائيين هي في الواقع استعادة للقائهما، وقد أخذت عام 1946 لفيلم عن الطاقة الذرية بعنوان: «مسيرة الزمن» March of Time.

 

أصدقاء في مناصب عالية(****)

أقر زيلارد أنه على الرغم من قدراته وقدرات فِرمي العقلية، فمازالا بحاجة إلى المساعدة من حلفاء مهمين كي ينجح تعاونهما. وقد يحصلان على هذه المساعدة من ثلاثة مصادر مستبعدة هي: <F. روزفلت> و<E.J. هوفر> و<A. آينشتاين>.

 

في صيف عام 1939، علم زيلارد أن ألمانيا تحصر إمدادات اليورانيوم. فاستنتج أن هذا مؤشر إلى أن ثمة بحوثا تجرى حول الانشطار، وأراد إخطار الحكومة الفدرالية بذلك. وبغرائز خبير في العلاقات العامة، سارع بالاتصال بمرشده وصديقه آينشتاين، الذي كان يعيش في منزل صيفي في لونگ أيلاند، التي تبعد سبعين ميلا عن مدينة نيويورك، وأخبر هذا الفيزيائي الشهير آينشتاين عن التفاعل المتسلسل. «لم أفكر في ذلك قط» أجاب آينشتاين، ولكنه لمس أخيرا في هذه الآلية ما قد يجعل معادلته الشهيرة في تحول المادة ـ الطاقة أمرا يمكن تحقيقه عمليا.

 

قام زيلارد بزيارتين لآينشتاين، كانت الثانية لمناقشة رسالة يودّ أن توقّع من قبل آينشتاين. ويقول سائق السيارة التي أقلت زيلارد للقيام بالزيارة الثانية، وهو عالم هنگاري لاجئ وصديق لزيلارد: «يمكن لزيلارد أن يفعل أي شيء سوى قيادة سيارة ولذلك قدت سيارة زيلارد إلى منزل آينشتاين الصيفي.. كان آينشتاين ديمقراطيا فلم يدع زيلارد وحده إلى شرب فنجان القهوة، بل دعا سائقه أيضا.» وكان <E. تيلر> حاضرا عندما قرأ آينشتاين الرسالة، وكان يرتدي روبا robe  قديما وخفين، ووافق على توقيع هذه الرسالة المشهورة والتي رُفعت إلى الرئيس روزفلت حينذاك. تبدأ الرسالة المشهورة هذه، والمؤرخة في  2/8 /1939 بالآتي: «إن بعض الأبحاث الراهنة التي يقوم بها فِرمي وزيلارد…» وتتابع الرسالة بالتحذير من الأبحاث الألمانية في مجال التسلح الذري، وتحث الولايات المتحدة على القيام بأبحاث خاصة بها في هذا المجال.

 

مرّر زيلارد الرسالة إلى المستثمر المصرفي <A. ساكس>، الذي كان مستشار الصفقة الجديدة(4)، وبمقدوره الوصول إلى رئيس الولايات المتحدة. لقد بدأت الحرب العالمية الثانية في 1/9/1939، وبعد نحو شهر من ذلك عندما تسلم روزفلت أخيرا الرسالة وافق على أنه لا بد من عمل شيء «لنتأكد من أن النازيين لن يُدمرونا.» ولهذه الغاية، شكل لجنة اليورانيوم الفدرالية التي ضمّت زيلارد وبقية العلماء المهاجرين كأعضاء. وخلال أسابيع حصلوا على 6000 دولار كمخصصات للأبحاث في جامعة كولومبيا.

 

وبعد الحرب، قال آينشتاين «إن دوره كان مجرد صندوق بريد» لزيلارد. ومع ذلك فقد اضطر آينشتاين في عام 1940 إلى أن يؤدي مرة أخرى دورا حاسما عندما كاد جيش الولايات المتحدة يرفض منح فِرمي وزيلارد تصريحا أمنيا(5). فرجال المباحث، الذين استندوا إلى معلومات من «مصادر عليا موثوقة»، خلصوا إلى مفارقات عجيبة وهي أن فِرمي، اللاجئ هربا من الفاشية، كان «فاشيا من دون أدنى ريب»، وأن زيلارد، اللاجئ هربا من الحكم الإرهابي النازي، كان «ألمانيا متحمسا جدا.» ولعل هذا التفسير الخاطئ يُرد إلى صيحات زيلارد بأن ألمانيا يمكنها أن تكسب الحرب (كما أن تقرير رجال المباحث يورد اسم زيلارد بطريقتين مختلفتين، كلتاهما خطأ) وقد قرر الجيش أن كل واحد من هذين الرجلين «لا يُنصح بتوظيفه في عمل سري»، وذلك على الرغم من حقيقة أن العمل السري الوحيد المطروح في الولايات المتحدة حينذاك كان يحتل مكانه في عقلي فِرمي وزيلارد.

 

فلو نُفذ قرار الجيش لكانت المخصصات قد تبخرت طبعا، وتوقف البحث الفدرالي لفرمي وزيلارد الذي كان لايزال في باكورته. جرى تجنب هذه الغلطة عندما أصدر المكتب الفدرالي للتحقيقات، تحت ضغط البيت الأبيض، أمرا «بالتحري عن ولاء هذين العالِمين للولايات المتحدة.» فأرسل مدير المخابرات الفدرالية (F.B.I) بعض عملاء هذه المخابرات لاستطلاع رأي آينشتاين (الذي سوف تؤدي آراؤه المتسالمة إلى وضع ولائه هو شخصيا موضع تساؤل.) وبفضل تزكية آينشتاين تدفقت الأموال الفدرالية على جامعة كولومبيا في الشهر 11/ 1940مع أن حدة الشكوك التي كانت تحوم حول فرمي وزيلارد لم تخف إلا بَعد سنوات من حصولهما على الجنسية الأمريكية.

 

وبوصول المخصصات، أخذ فريق فرمي بالعمل بانتظام لبناء مفاعلات piles(شبيكة زيلارد) من اليورانيوم والگرافيت، لاختبار النسبة والتشكيل الهندسي المطلوبين للحصول على تفاعل نووي متسلسل أَمثل. وقبل يوم من الهجوم الياباني على بُرل هاربر، وافق الرئيس روزفلت على التزام فدرالي لتوفير الوسائط والإمكانات كافة من أجل أبحاث القنبلة الذرية، وفي ربيع عام 1942 انتقل فرمي وزيلارد مع بقية فريق كولومبيا إلى جامعة شيكاگو، حيث أسسوا «مختبر تعدين» metallurgy laboratory سريا للغاية من أجل بحث التفاعل النووي المتسلسل. وفي الشهر 6 (19422) أسندت إدارة هذا المختبر إلى مشروع مانهاتن العائد للجيش. ومن عجائب التقارير، في تلك اللحظة بالذات من التاريخ، أن خفضت ألمانيا من مجهودها البحثي حول القنبلة الذرية، لاعتقادها بأن هذا المجهود لن يكون مجديا عمليا بالنسبة إلى الحرب الجارية.

 

وفي خريف عام 1942 شيد مفاعل، بكرات من اليورانيوم مرصوصة في قوالب من الگرافيت. وفي 2/12/1942، في باحة سكواش بستاد كرة القدم التابع للجامعة، أشرف فِرمي على تجربة كانت بداية أول تفاعل نووي متسلسل مداوم ذاتيا ومسيطر عليه. وبعد هذه التجربة التاريخية، وجد فرمي وزيلارد نفسيهما وحيدين مع مفاعلهما؛ فتصافحا، وقال زيلارد لفِرمي: «أظن أن هذا اليوم سيسجل يوما أسود في تاريخ البشرية.»

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/17/SCI2001b17N11-12_H01_001553.jpg

منحت جائزة نوبل لفرمي لكونه فيزيائيا مبدعا وتجريبيا موهوبا. ومن بين فيزيائي

 القرن العشرين هناك قلة حازت هاتين السمتين.

 

الصدامات الأخيرة والائتلاف(*****)

قبيل نهاية الحرب عام 1945 اختلف فرمي وزيلارد مرة أخرى. لقد سارع زيلارد إلى تطوير القنبلة الذرية كسلاح دفاع ضد ألمانيا. وباندحار هتلر دعا زيلارد إلى عدم استخدام القنبلة الذرية ضد اليابان، وإنما يجب بدلا من ذلك القيام باستعراض لقوتها يدفع اليابان إلى الاستسلام. أما فرمي، فباعتباره مستشارا علميا للجنة العليا للإدارة حول خيارات استخدام القنبلة الذرية، فرأى أن الاستعراض لن يكون عمليا. وقد وافقت الإدارة على رأي فرمي، وبحلول الشهر 8/1945 دُمِّرت مدينتا هيروشيما وناگازاكي.

 

بعد الحرب فضل فرمي استمرار سيطرة الجيش على الأبحاث الذرية، في حين نجح زيلارد في مراوضة(6) الكونگرس لتكوين هيئة طاقة ذرية مدنية. وفي عام 1950، وجد الاثنان أرضية مشتركة في معارضة تيلر، صديق زيلارد القديم، عندما عارضا تطوير الولايات المتحدة للقنبلة الهدروجينية. وقد اعتبر فرمي القنبلة الهدروجينية «سلاحا هو في الواقع من أسلحة الإبادة الجماعية إلى حد ما.»

 

لقد نشرت براءة اختراع مشتركة لفِرمي وزيلارد في «المفاعل النتروني» أول مرة عام 1955، وذلك بعد سنة من وفاة فرمي. وقد واصل زيلارد البحث في البيولوجيا الجزيئية والتحكم في التسلح النووي حتى وفاته عام 1964. وقد لخص فرمي رأيه في زيلارد بأنه «بارع للغاية» ولكنه أحد الذين «يبدو أنه يسرهم ترويع الناس». وقال زيلارد رأيه في فرمي فكتب: «أحببته في المناسبات النادرة عندما يستشيط غضبا (طبعا عدا عندما يكون ذلك عليّ)».

 

 المؤلف

William Lanouette

حصل على الدكتوراه في السياسة من مدرسة لندن للاقتصاد. كانت أطروحة لانويت حول مقارنة استعمال وإساءة استعمال الإعلام العلمي من قبل المشرعين وموظفي حكومتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فأهلته لأن يعمل مُحللا لسياسة العلم والطاقة في دائرة المحاسبة العامة بالولايات المتحدة. كتب عن الطاقة الذرية وسياسة العلم لأكثر من ثلاثين عاما، في مجلات من أمثال «أطلنطيك الشهرية» و«نشرة علماء الذرة» و«الإيكونوميست». وهو مؤلف سيرة حياة ليو زيلارد، وقد ألقى عدة محاضرات حول سياسات وشخصيات مشروع مانهاتن.

 

مراجع للاستزادة 

ENRICO FERMI: COLLECTED PAPERS. Vols. 1 and 2. University of Chicago Press, 1962 and 1965. COLLECTED WORKS OF LEO SZILARD. Vols. 1, 2 and 3. MIT Press, 1972, 1978 and 1987.

GENIUS IN THE SHADOWS: A BIOGRAPHY OF LEO SZILARD, THE MAN BEHIND THE BOMB. William Lanouette (with Bela Silard). University of Chicago Press, 1994.

ENRIGO FERMI, PHYSICIST. Reprint. Emilio Segre. University of Chicago Press, 1995.

An Enrico Fermi Web site can be found atwww.time.com/time/time100/scientist/profile/fermi.html

A Leo Szilard Web site is at www.dannen.com/szilard.html

Scientific American, November 2000

 

(*) The Odd Couple and the Bomb

(**) Crossed Paths

(***) Building the Chain

(****) Friends in High Places

(*****) Later Conflicts and Harmony

(1) isotopes of hydrogen

(2) self-sustaining chain reaction

(3) الحصباء: gravel، كسارة الحجارة وتكون أخشن من الرمل.

(4) New Deal

(security clearance(5

(6) Lobbying

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى