لمن تعود ملكية هذا الدم؟(*)
يحتوي الدم الذي يُجمع من الحبل السُّري والمشيمة(1) والذي عادة ما يلقى
جانبًا بعد الولادة، على الخلايا الجذعية(2) القادرة على إعادة بناء الدم
والجهاز المناعي لدى المصابين بابيضاض الدم(3) وسرطانات أخرى.
<M.R. كلاين>
تخطط <K. روميرو> الحامل في شهرها الرابع لاستعمال دم الحبل السري الخاص بجنينها في علاج ابنها تشيس المصاب بابيضاض الدم. |
يعلن المولود عن قدومه إلى هذا العالم بوجه متجعد وجسم زلق وصراخ. وبينما تغمر الفرحة الأبوين وهما يشرعان في عدّ عشر أصابع كاملة في اليدين وعشر أصابع دقيقة لطيفة في القدمين، فإنهما نادرا ما يعيران اهتماما للمشهد الثاني من الولادة (أو ما بعد الولادة)، ألا وهو إخراج المشيمة.
بعد عناء المخاض، تشعر معظم الأمهات الجدد بالسعادة؛ لأنهن يحتجن فقط إلى دفعة أخرى واحدة ليُخرج الطبيب عضوًا يزن أقل من نصف كيلوغرام ويشبه قرص العجين، كان يمد طفلهن بالغذاء عبر الحبل السري umbilical cordطوال تسعة شهور. وبعد قطع الحبل السري وإجراء فحوص ما بعد الولادة، بحثا عن فجوات أو تمزقات يمكن أن تدل على بقاء جزء ما داخل الرحم ـ مما يمكن أن يسبب عدوى مميتة ـ يلقي الطبيب عادة هذه الأجزاء في وعاء معدني مع سائر النفايات الطبية التي ترسل إلى محرقة المستشفى.
ولكن عددًا متزايدًا من الأطباء والآباء يدرك قيمة ما درج على اعتباره مجرد ناتج ثانوي للولادة فحسب. فمنذ عام 1988 أُنقذت حياة المئات بواسطة الأُنْصات الثلاث (نحو 90 غرامًا) من الدم التي تحويها عادة المشيمة والحبل السري. ويُعرف الآن أن هذا الدم يشكل مصدرَا غنيًّا لما يسمى الخلايا الجذعية المصنعة للدم hematopoietic stem cells، وهي السليفة لكل ما يحتويه الدم، بدءًا من الخلايا الدموية البيض المقاومة للعداوى، إلى الخلايا الحمر الحاملة للأكسجين، إلى الصفائح التي تسهل عملية تخثر الدم بعد حدوث إصابة ما.
وتكفي الخلايا الجذعية الموجودة في مشيمة واحدة لإعادة بناء الدم والجهاز المناعي عند طفل مصاب بابيضاض الدم، وهو الطفل الذي تنقسم خلايا الدم البيض لديه بصورة غير سوية مما يوجب قتلها بالمعالجة الكيماوية. في الماضي كان على الأطباء البحث عن مانح حي(4) ليؤمنوا لمثل هذا الطفل غرائس transplants من نِقْي العظم bone marrow، الذي يحتوي أيضًا على خلايا جذعية منتجة للخلايا الدموية والمناعية. ولسوء الحظ كان الكثيرون يموتون خلال فترة البحث الطويلة عن مانح يطابق النوع النسيجي للمريض، أو بسبب المضاعفات الناتجة عن عدم تطابق النِقْي الممنوح تطابقًا جيدًا؛ أما دم الحبل السري القابل للحفظ، فهو أكثر احتمالا للتطابق الجيد وأقل احتمالا لإحداث المضاعفات، لأن الخلايا الجذعية في دم الحبل السري تختلف مناعيًّا عن تلك الموجودة في نقي عظم البالغين. وكذلك فإنها أكثر منها تحملاً(5).
لقد تأكدت فوائد اغتراس دم الحبل السري umbilical cord blood transplantation بشكل حاسم في معالجة ابيضاض الدم، ولكن لهذه السيرورة استعمالات أخرى أيضًا. فالخلايا الجذعية في دم الحبل السري يمكنها أن تساعد على إعادة تشكيل خلايا الدم الحمر الطبيعية عند المصابين بفقر الدم المنجلي sickle cellanemia، وأن تعيد تشكيل الجهاز المناعي للرضع المولودين ولديهم عوز مناعي مشترك وخيم severe combined immunodeficiency. وكذلك يمكن أن يستعمل دم الحبل السري في معالجة حالات العوز الإنزيمي الوراثية المميتة، مثل متلازمة هرلر Hurler’s syndrome التي تسبب تنكسا عصبيا مستفحلا ًprogressiveneurological degeneration يؤدي في النهاية إلى الوفاة. ففي مثل هذه الحالات لا تؤدي الخلايا الجذعية في الحبل السري إلى تكوين خلايا الدم البيض والحمر فحسب، بل أيضًا إلى تكوين خلايا داعمة في الدماغ، تدعى الخلايا الدبقية الميكروية (الصغيرة) microglia، يمكنها أن توافر بدورها الإنزيم الناقص المهم.
بعد تعرف الميزات الواضحة لاغتراس دم الحبل السري، قامت عدة مراكز طبية بتأسيس بنوك تمكن الأم الراغبة في منح دم الحبل السري الخاص بوليدها ليستعمل من قبل الغرباء المحتاجين إليه. فبرنامج دم المشيمة التابع لمركز الدم في نيويورك، الذي يدين لريادة <P. روبنشتاين>، يضم 000 13عينة ممنوحة مخزنة، ليكون بذلك أكبر بنك عمومي لدم الحبل السري في الولايات المتحدة. وتمتلك كذلك جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس وجامعة ديوك برامج لتخزين دم الحبل السري بتمويل من الحكومة الفدرالية.
ولكن كما هي الحال في معظم الاكتشافات العلمية الجديدة، طرحت عملية اغتراس دم الحبل السري مجموعة من الأسئلة الأخلاقية (انظر المؤطر في الصفحة 19). لمن تعود ملكية دم الحبل السري: لكلا الوالدين، أو للأم، أو للرضيع؟ ماذا يحدث لو منحت الأم دم الحبل السري الخاص بوليدها لأحد البنوك وأصيب الطفل فيما بعد بابيضاض الدم وأصبح بحاجة لهذا الدم؟ وما فاقم هذه الأسئلة قيام شركات خاصة ربحية بجمع دم الحبل السري وحفظه لإمكان استعماله من قبل العائلة فيما بعد. فهل يحق لهذه الشركات أن تروج بقوة لخدماتها ـ التي يمكن أن تكلف 1500 دولار للجمع و95 دولارا سنويا للتخزين، في الوقت الذي يتراوح احتمال حاجة الطفل إلى دم حبله السري من 1 في كل 10000 (بحسب بيانات مركز الدم في نيويورك) إلى 1 في كل 200000 (بحسب بيانات المعاهد القومية للصحة).
ينابيع من الخلايا الجذعية(**)
ظهر أول دليل على إمكان الاستفادة الطبية من دم الحبل السري عام 1972، عندما أبلغ كل من <N. إنده> [من جامعة الطب وطب الأسنان في نيوجرسي] وأخيه <M. إنده> [وهو طبيب في پيترزبرگ بڤرجينيا] عن إعطاء مصاب بابيضاض الدم عمره 16 سنة دم الحبل السري بالتسريب الوريدي infusion. وبعد أسابيع وجد العالمان أن دم المريض يحتوي على خلايا حمر منشؤها الخلايا الجذعية للمانح.
استغرق الأمر سنوات ليتعرف أطباء آخرون إمكانات اغتراس دم الحبل السري. ففي عام 1989 قام كل من <E.H. بروكسماير> [من كلية الطب في جامعة إنديانا] و<A.E. بُويس> [من مركز سلون كِتَرِينگ التذكاري للسرطان في مدينة نيويورك] وزملاؤهما بإحياء الاهتمام بهذه الطريقة، عبر التوضيح أن دم الحبل السري يحتوي على كمية الخلايا الجذعية نفسها الموجودة في نقي العظم. وفي العام نفسه أبلغ بروكسماير و<E. گلوكمان> [من مشفى سانت لويس في پاريس] وزملاؤهما عن شفاء طفل عمره خمس سنوات مصاب بفقر الدم الفانكوني Fanconi anemia ـ وهو اضطراب وراثي يمكن أن يكون مميتًا ـ عن طريق استعمال دم الحبل السري لأخته الوليدة. ومنذ ذلك الحين شكلت حالات اغتراس دم الحبل السري من غير الأقرباء بواسطة برامج تخزين دم الحبل السري نحو 75% من كل حالات اغتراس دم الحبل السري.
يقوم الأطباء بربط الحبل السري لطفل ولد بواسطة عملية قيصرية. |
ماالذي يترعرع في العظم(***)
يهدف اغتراس دم الحبل السري إلى الحصول على مصدر للخلايا الجذعية الأكثر تطابقًا مع النوع النسيجي لمريض معين. ويقرر نوعَ النسيج مجموعةٌ من الجينات التي تقوم بصنع پروتينات تدعى مستضدات الكريات البيض البشريةhuman leukocyte antigens HLAs ، وهذه توجد على سطوح جميع خلايا الجسم. يتعرف الجهاز المناعي الخلايا الحاملة لپروتينات HLA التي صادفها منذ الولادة على أساس أنها طبيعية (أي تنتمي «للذات» self). وكل ما عدا ذلك من پروتينات HLA يتم التعامل معه على أنه غيري (لا ينتمي للذات) nonself (أي غريب)؛ بحيث تتعرض الخلايا الحاملة لمثل هذه الپروتينات بسرعة للقتل.
هناك ست جينات HLA رئيسية. ويمتلك كل شخص نسختين (أو أليلينalleles) لكل جينة من الجينات الست، كل نسخة منهما تعود لأحد الأبوين. (يوجد من كل أليل أكثر من 30 نوعًا مختلفًا). ومن أجل اغتراس نقي العظم يهدف الأطباء إلى مطابقة الأليلات الستة (من أصل 12) الأكثر ملاءمة للاغتراس من الناحية السريرية. ولكن بسبب الاختلاف المناعي لخلايا دم الحبل السري عن خلايا نقي العظم، يستطيع الأطباء استعمال عينات من دم الحبل السري تطابق خمسة فقط ـ أو حتى ثلاثة ـ من أليلات HLA.
تتوضع النسخ الجينية المسؤولة عن صناعة پروتينات HLA على الصبغي رقم 6. وبحسب قواعد علم الوراثة يكون احتمال أن يرث أخوان الصبغي رقم 6 نفسه من الأب والأم، ومن ثم أن يكونا متطابقين نسيجيًّا بشكل جيد، هو 25% فقط.
إن تلقّي غرسة نقي عظم من شخص لا يطابق النوع النسيجي للمريض بشكل جيد يمكن أن يكون مميتًا. فمن جهة يمكن أن يفشل الطُّعم إذا نجت ولو كمية قليلة جدًّا من الخلايا المناعية للمتلقي، إذ تولد استجابة مناعية تَسِم الخلايا المغترسة بأنها غريبة وتقتلها. إن فشل الطعم هذا يترك المريض من دون جهاز مناعة فعال وعرضة للعدوى بشكل كبير. وعلى العكس، يمكن للخلايا المغترسة أن تهاجم جسم المتلقي على أنه غريب في ظاهرة رهيبة تدعى داء الطعم حيال العائل (الثوي) graft-versus-host disease. ويتجلى هذا المرض بطفح جلدي مصحوب بقروح ونَفْطات blisters، إضافة إلى أذية كبدية يمكن أن تتطور إلى فشل كبدي أو نزيف شديد بالجهاز الهضمي. وقد يؤدي هذا المرض سريعًا إلى الوفاة.
ومن أجل التقليل من مثل هذه المضاعفات الخطرة عند الذين لا يستطيعون الحصول على غرسة نقي العظم من أخ جيد التطابق، قام تحالف من مؤسسات بنوك الدم القومية في عام 1987 بحث الحكومة الفدرالية الأمريكية على تأسيس البرنامج القومي لِمنْح نقي العظم من أجل إيجاد أفضل الغرسات تطابقًا للمرضى من بين مجموع المسجلين ضمن المانحين لنقي العظم. ويضم هذا البرنامج، إضافة إلى سجلات دولية أخرى شبيهة، ما مجموعه 6.5 مليون اسم. ولكن بما أن احتمال تطابق شخص مع آخر ليس من الأقرباء هو فقط 1في كل 400، فإن فرصة أن يجد المحتاج مانحًا ملائمًا هي 60% فقط. وتقل هذه النسب في حال المرضى المنتمين إلى أقليات عرقية، لأن احتمال حدوث التطابق يكون أكبر بين أفراد العرق نفسه؛ وكذلك لا يكون عدد المتطوعين المسجلين من هذه الأقليات كافيًا.
ولكن هل هو أخلاقي(****)
إن استراتيجيات التسويق واعتبارات خصوصيةِ المعلومات تثيران التساؤل
في الشهر 9/2000 تلقت طفلة صغيرة تدعى مولّي من كاليفورنيا غرسة دم حبل سري منقذة من أخيها آدم الحديث الولادة. كانت مولّي حينئذ في الثامنة من عمرها وهي تعاني اضطراب دم وراثيا مميتا يعرف باسم فقر الدم الفنكوني Fanconi anemia . ولكن ما جعل هذا الإجراء غير عادي هو أنه كان من المحتمل أن لا يولد آدم لولا مرض أخته. لقد تم الحمل بآدم بواسطة الإخصاب في الأنابيب، إذ اختار الأطباء الجنين من بين مجموعة من الأجنة ليزرع في رحم أمه، بعد أن أظهرت الفحوص أنه الأفضل لمولّي من حيث التطابق النسيجي، إضافة إلى عدم احتمال إصابته بالمرض. هل كان هذا مقبولا أخلاقيا؟ قررت هيئة من إخصائيي الأخلاقيات الحيوية أن ذلك كان أخلاقيا على اعتبار أن منح دم الحبل السري لن يؤثر في صحة آدم. إن الحمل الانتقائي بجنين يصلح أن يكون مانحا مناسبا ليس إلا واحدا من القضايا الأخلاقية التي تحيط بعملية اغتراس دم الحبل السري. وكذلك فإن إحدى المشكلات الأكثر أهمية لا تكمن في طريقة استعمال الدم وإنما في حملات التسويق التي تتبعها الشركات الخاصة التي تبتغي الربح، عبر عرضها على الآباء المحتملين prospective parents جمع دم الحبل السري لطفلهم وتخزينه ـ مقابل أجرة مرتفعة ـ في حال حاجة الطفل إليه فيما بعد. وتسوق مثل هذه الشركات جمع دم الحبل السري على أنه نوع من التأمين الحيويbiological insurance للآباء الذين ينتظرون قدوم مولودهم، في حين أن “احتمال حاجة طفلهم إلى هذا الدم تكون شبه معدومة”، بحسب قول <R.P. وولپه> [الزميل في مركز النظام الصحي للأخلاقيات الطبية بجامعة پنسلڤانيا]. ويخشى وولپه أن يشعر الآباء الذين يستطيعون بالكاد تأمين مثل هذه الخدمات بأنه عليهم شراؤها حتى في حالة خلو تاريخهم العائلي من أي اضطرابات دموية. وتصرح الشركة ڤيكاورد، وهي شركة تقوم بحفظ دم الحبل السري ومقرها في بوسطن، أن خمسة فقط من زبائنها البالغ عددهم 6500 احتاجوا حتى الآن إلى الحقن بدم الحبل السري المخزن العائد لهم. والأكثر من ذلك أن 20 في المئة فقط لديهم تاريخ عائلي لاضطرابات دموية أو أنهم قيد المعالجة الآن. في الشهر 7 / 1999 أصدرت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بيانا تحذر فيه “أنه من الصعب توصية الآباء بتخزين دم الحبل السري لأطفالهم لاستعماله في المستقبل” إلا إذا سبق وأصيب أحد أفراد العائلة باضطراب دموي. وعوضا عن ذلك، حث البيان الآباء على التبرع بدم الحبل السري لأطفالهم للبنوك العمومية. لقد طرحت أسئلة فيما مضى حول ملكية دم الحبل السري. ولكن بحسب ما صرح به إخصائي الأخلاقيات الحيوية <J. سوگرمان> [من جامعة ديوك] فمن الواضح الآن أنه وإن كان الطفل هو الذي يملك دم حبله السري، فإن الوالدين يملكان الوصاية على دم الحبل السري العائد لطفلهما ـ تماما كما يكونان وصيّيْن على الطفل نفسه ـ ريثما يبلغ الثامنة عشرة. وفي عام 1997 تشارك سوگارمان وولپه في إصدار بيان عام حول أخلاقيات حفظ دم الحبل السري نشر في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية. ويضيف سوگارمان إنه لمن المقبول تماما أن يستعمل أحد الآباء دم الحبل السري من أحد أولاده لمعالجة ولد آخر. وإذا احتاج الأخ الأول لاحقا إلى اغتراس دم الحبل السري، فإن كون أبويه قد استعملا دم حبله السري هو مجرد سوء طالع ولكنه ليس عملا لاأخلاقيا. الأمر الأهم هوكيف تُؤمن سلامة دم الحبل السري الممنوح لبنك الدم. بمعنى آخر، ماذا لو منح الأبوان دم الحبل السري الخاص بوليدهما لبنك عمومي ثم أصيب الطفل بعد سنوات بابيضاض الدم؟ عندها لا توجد أي طريقة تحول دون إعطائه لطفل آخر ما لم تكن هناك معلومات تحدد الصلة بين العينة الممنوحة وصاحبها الأصلي. وكذلك فإن الخلايا الجذعية لدم الحبل السري التابع لطفل أصيب لاحقا بابيضاض الدم قد تسبب المرض نفسه عند الطفل المتلقي. ولكن الاحتفاظ بسجلات دائمة عن المانحين يحمل مخاطر تتعلق بالخصوصية: فماذا لو لم تؤد عملية اغتراس الدم إلى الغرض المنشود، الأمر الذي قد يدعو أهل الطفل المريض إلى تقفي أثر المانح للحصول على خلايا نقي العظم منه؟ تضع معظم بنوك دم الحبل السري بطاقة تعريف لكل عينة، وبذلك تستطيع تأمين صلة بالمانح تمتد سنوات عدة، تمحى بعدها كل معلومات التعريف. ويقول وولپه: إن هذه مقايضة جيدة، لكن دم الحبل السري الممنوح سيبقى ينطوي على مخاطر تماما كما هو دم البالغين.” ويضيف وولپه “يجب أن نحاول جعله آمنا قدر الإمكان، ولكن على الناس أن يجازفوا.” <C. إزّل> – من هيئة التحرير في ساينتفيك أمريكان |
حتى أولئك الذين وجدوا مانحًا مناسبًا من أحد السجلات، فإن خطر إصابتهم بداء الطعم حيال العائل من النوع المعتدل إلى الشديد (من الدرجة IIإلى الدرجة IV) يعادل 80 في المئة. ويعتقد العلماء أن هذا يحدث لأن عملية المطابقة النسيجية لا تأخذ بالحسبان الكثير من پروتينات HLA اللارئيسية، التي لاتزال مجهولة. ومع أنه لا تتم مطابقة هذه الپروتينات بشكل فاعل في الغرائس بين الإخوة، فإن التقارب الجيني بينهم يضمن تطابق الكثير منها ببساطة عن طريق المصادفة. ومع ذلك، يظل احتمال حدوث داء الطعم حيال العائل 20 في المئة، حتى عند النقل بين أخوين جيدي التطابق.
تكمن إحدى طرق إنقاص هذه النسبة العالية من المضاعفات الخطرة في محاولة مطابقة كل پروتينات HLA المعروفة، ولكن هذا يقلل كثيرًا من فرصة إيجاد مانح ممكن لأي متلق. ويوفر اغتراس دم الحبل السري بديلاً أفضل. فبسبب الاختلافات في الجهاز المناعي للوليد، فإن احتمال قيام الخلايا المناعية في الحبل السري بمهاجمة نسج المتلقي (على أنها غريبة) يقل كثيرًا عن احتمال مهاجمة تلك النسج من قبل الخلايا المناعية للأطفال الأكبر سنًّا أو خلايا نقي العظم عند البالغين، ومن ثم تكون الخلايا المناعية في دم الحبل السري أقل إحداثًا لداء الطعم حيال العائل.
تحتفظ بعض الشركات بدم الحبل السري لكل وليد، وذلك لاحتمال استعماله مستقبلا من قبل عائلته. فهل هذا عمل مربح إذا كان احتمال حاجة طفل إلى دم حبله السري في المستقبل يتفاوت من 1/10000 إلى 1/20000؟
مشيمة وحبل سري جاهزان لجمع الدم منهما |
عام 1997 توصلت گلوكمان وزملاؤها إلى دليل على أن اغتراس دم الحبل السري ـ حتى بين مانح ومتلقٍّ غير قريبيْن ـ هو أكثر أمانا من اغتراس نقي العظم. تكونت مجموعة الدراسة من 143 مريضًا أجري لهم اغتراس دم الحبل السري، سواء من مانحين أقارب أو عبر أحد برامج المَنْح. ومع أن معدل التطابق تراوح ما بين تطابق كامل إلى عدم التطابق بنسبة الثلثين، كان معدل حدوث داء الطعم حيال العائل الذي يهدد الحياة (من الدرجة III أو الدرجة (IV 55 في المئة فقط في مجموعة الأقرباء و200 في المئة في مجموعة غير الأقرباء. أما معدل الوفيات فكان 1 في المئة في مجموعة الأقرباء و6 في المئة في مجموعة غير الأقرباء. وبالمقارنة، في دراسات موسعة على اغتراس نقي العظم كامل التوافق من غير الأقرباء بلغ معدل حدوث الإصابة الشديدة بداء الطعم حيال العائل 47 في المئة، توفي منهم في آخر الأمر 70 في المئة (أي 33 في المئة من المجموع).
ويتميز اغتراس دم الحبل السري عن اغتراس نقي العظم بأمور أخرى. فمثلا يكون عدد المانحين المحتملين لدم الحبل السري أكبر بكثير منها في نقي العظم. لقد احتاج البرنامج القومي لمَنْح نقي العظم إلى عقد من الزمن ليجمع عددا من المانحين يبلغ أربعة ملايين شخص حُددت زمرتهم النسيجية واعتبروا مانحين محتملين لنقي العظم (هناك 2.5 مليون مانح آخر مسجل في بلدان أخرى). بالمقابل يوجد سنويًّا أربعة ملايين مولود في أمريكا كلهم مؤهلون لمنح دم الحبل السري. وقد استطاع مركز الدم في مدينة نيويورك تأمين مانحين مناسبين لتلبية 85 في المئة من احتياجاته، اعتمادًا فقط على 000 13عينة مخزنة من دم الحبل السري. إن هذه المجموعة تفوق بقليل المعدل اليومي للولادات في أمريكا.
سيكون من الممكن للوليد المصاب بخلل جيني في نقي العظم أو الدم أن يحصل على دم حبله السري (الذي جمع عند الولادة) بحقنه من جديد، وذلك بعد إصلاحه عن طريق الهندسة الجينية (الوراثية).
عينة من الحبل السري المجمد محفوظة في مركز الدم في مدينة نيويورك. |
وكذلك ثمة ميزة أخرى لدم الحبل السري، وهي السرعة. فإيجاد مانح مناسب لنقي العظم من غير الأقرباء عملية بطيئة تحتاج إلى أربعة شهور في المتوسط. وخلال هذه الفترة يُرسَل المانحون المحتملون إلى مراكز المنح لسحب عينة من دمهم لإجراء التنميط النسيجي tissue typing والكشف عن الڤيروسات، كتلك التي تسبب الإيدز AIDS والتهاب الكبد hepatitis. وبعد اختيار المانح يعود مرة أخرى ليخضع لفحص بدني ويدلي بموافقته، ومن ثم يحدد له موعد لسحب نقي العظم من عظم الورك باستعمال إبرة.
في المقابل، يكون دم الحبل السري متوافرا بصورة مجمدة في ثلاجات البنوك بعد أن أجري له مسبقا الفحص الڤيروسي والتنميط النسيجي. وتستغرق مطابقة دم الحبل السري ثلاثة أيام أو أربعة فقط، وهي فترة قد تعني الحياة أو الموت لشخص ناقص المناعة معرض بشدة لخطر عدوى مميتة. وكذلك فإن جمع دم الحبل السري من أكبر عدد ممكن من الناس سيزيد من احتمال تأمين تطابق لمن ينتمون إلى أقليات عرقية. وبحسب بيانات البرنامج القومي لمنح نقي العظم، تكون فرصة الأمريكيين الأفارقة للحصول على مانح لنقي العظم 57 في المئة فقط. وتكون النسبة أعلى بالنسبة لسكان جزر المحيط الهادئ والآسيويين وهي تبلغ 74 في المئة؛ ولمن هم من أصل لاتيني تبلغ 78 في المئة؛ أما الهنود الحمر وسكان أَلاَسْكا ففرصتهم 84 في المئة؛ وأخيرا تكون النسبة عند القوقازيين (العرق الأبيض) 87 في المئة.
وكذلك يكون دم الحبل السري خاليا عمليا من ڤيروس كان في الماضي مسؤولا عن 10% من الوفيات التي تحدث بعد اغتراس نقي العظم، هو الڤيروس المضخم للخلاياcytomegalovirus CMV . ويحمل هذا الڤيروس أكثر من نصف السكان البالغين في أمريكا، وهو يظل حيًّا داخل كريات الدم البيض للعائل بعد العدوى البدئية. ومع أن الڤيروس CMV يسبب عادة متلازمة ڤيروسية لا ضرر منها عند الأصحاء، فإنه يمكن أن يقتل شخصا مثبَّط المناعة إثر عملية اغتراس نقي العظم. إن المانحين لنقي العظم يُفحصون عادة من أجل الكشف عن الڤيروس CMV، ولكن كثيرا ما يتلقى المرضى نقي عظم إيجابي الڤيروس CMVإذا كان تطابقه هو الأفضل. وبما أن أقل من 11 في المئة من الرضع يصابون بالڤيروس CMV داخل الرحم، يكون دم الحبل السري أكثر أمانا من نقي العظم.
في بعض الأحيان يعامل دم الحبل السري بالطرد المركزي لعزل خلايا الدم الحمر الأثقل وزنا (في قعر أنبوب الاختبار). |
السلبيات(*****)
ومع ذلك، فإن اغتراس دم الحبل السري لا يخلو من المخاطر. وأحد هذه المخاطر هو احتمال وجود أخطاء وراثية (جينية) في الخلايا الجذعية في عينة دم الحبل السري، مما يمكن أن يسبب مرضًا عند المتلقي. وهذه الحالات ـ التي يمكن أن تشمل فقر الدم الخَلْقي أو نقص المناعة ـ قد لا تظهر عند المانح إلا بعد شهور أو سنوات، يكون دم حبله السري قد نقل خلالها إلى أشخاص آخرين.
ويمكن لبنوك دم الحبل السري أن تتجنب هذا الخطر بدرجة كبيرة عن طريق إجراء ما يشبه الحَجْر الصحي للدم مدة تتفاوت بين 6 و 12 شهرًا تتصل خلالها بعائلة المانح للتأكد من تمتعه بصحة جيدة. إن بقاء صلة تعرّف طويلة الأمد بين المانح ووحدة تلقي دم الحبل السري الخاصة به أمر ضروري، وهو ما أثار قلق المهتمين بالأخلاقيات الطبية حول خصوصية المعلومات.
في الوقت الحالي، يطلب مركز الدم في نيويورك من والدَيِ المانح المحتمل ملء استبيان مفصل يركز بصفة خاصة على التاريخ المرضي للأسرة، إضافة إلى التاريخ الجنسي. وإذا كان هناك تحفظات طبية على إجابات الاستبيان، يمتنع المركز عن جمع دم الحبل السري أو تخزينه. ويحتفظ المركز بصلة قصيرة الأمد مع المانح إلى حين إنهاء الفحص الڤيروسي، يصبح صاحب الدم بعدها مجهولاً.
وهناك سلبية أخرى لدم الحبل السري تتمثل في احتواء العينة الواحدة منه على عدد قليل نسبيًّا من الخلايا الجذعية. فمع أن دم الحبل السري يمكن أن يستعمل للاغتراس لدى البالغين، توضح دراسات <P. روبنشتاين> أنه بسبب العدد المحدود للخلايا الجذعية في عينة دم الحبل السري، يستفيد المرضى الأضخم حجمًا (الأكبر عمرًا) بشكل أقل من المرضى الأصغر حجمًا (الأحدث عمرًا). ويعمل الباحثون الآن على استحداث طرق من أجل زيادة عدد الخلايا الجذعية في عينات دم الحبل السري عن طريق استعمال المغذيات nutrientsوعوامل النمو growth factors. وكذلك يقومون بهندسة الخلايا الجذعية جينيًّا من أجل إصلاح الاضطرابات الوراثية كالعوز المناعي المشترك الوخيم severecombined immunodeficiency. ففي مثل هذه الحالة، يجمع الأطباء دم الحبل السري الخاص بالمريض، ثم يقحمون جينات سوية في الخلايا الجذعية لدم الحبل السري، ثم يعيدون حقن الخلايا في جسم الطفل.
يبشر كل ذلك باستعمالات أكثر إثارة لدم الحبل السري. فإذا احتُفظ بهذا الدم الخاص بمولود به خلل وراثي في نقي عظامه أو في دمه، يُمكن عن طريق الهندسة الجينية إصلاح الخلل في دمه الذي تم جمعه، ومن ثم يحقن الطفل به، وبذلك لن يعاني هذا الطفل أبدًا التأثيرات السلبية لموروثه الجيني. وبخلاف ذلك، يمكن أن يعالج مثل هذا الطفل بحقن خلايا جذعية من عينة دم حبل سري ـ كامل التطابق ـ لمانح من غير الأقرباء عن طريق بنك الدم. وقريبًا ستنتقل هذه السيناريوهات من مجال الخيال العلمي إلى مجال العلم الحقيقي، فيما توسِّع الاكتشافات في التقانة الحيوية إمكانات استعمال دم الحبل السري لشفاء أمراض كانت مميتة في الماضي.
المؤلف
Ronald M. Kline
يدير قسم أمراض وسرطانات الدم واغتراس الدم ونقي العظم عند الأطفال في مركز أتلانتك لطب الأطفال في نيوجرسي منذ العام 1998. ترأس في السابق برنامج اغتراس دم الحبل السري في جامعة لويزڤيل وبرنامج اغتراس الدم ونقي العظم في مشفى كوسير للأطفال في لويزفيل. حصل على البكالوريوس والدكتوراه في الطب من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. ويعد كلاين داعية لاستعمال الحيوانات في الأبحاث؛ ففي عام 1989 كتب مقالة لمجلة Newsweek تحت عنوان «العدو أنا»، حمل فيها على دعاة حركة حقوق الحيوان لعدم إظهارهم التعاطف الكافي مع المعاناة البشرية.
مراجع للاستزادة
Ethical Issues in Umbilical Cord Blood Banking. J. Sugarman, V. Kaalund, E. Kodish, M. F. Marshall, E. G. Reisner, B. S. Wilfond and P. R. Wolpe in Journal of the American MedicalAssociation, Vol. 278, No. 11, pages 938-943; September 17, 1997.
Umbilical Cord Blood Transplantation: Providing a Donor for Everyone Needing a Bone Marrow Transplant? Ronald M. Kline and Salvatore J. Bertolone in Southern Medical Journal, Vol. 91, No. 9, pages 821-828; September 1998.
For more details on the cord blood transplantation process, visit the University of California at Los Angeles site at www.cordblood.med.ucla.edu
Scientific American, April 2001
(*) Whose Blood Is it, Anyway?
(**) Founts of Stem Cells
(***)what’s Bred in the Bone
(****)But Is It Ethical?
(*****)The Downside
(1) placenta
(2) stem cells، ويقال أيضًا «أرومية» نسبة إلى أرومة وهذه تعني أصل الشيء.
(3) leukemia
(4) living donor
(5)tolerance