أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
جغرافيا

جغرافية الغنى والفقر

جغرافية الغنى والفقر(*)

إن المناخ المداري وانعدام فرص التجارة البحرية أضرّا جدا بالأمم الفقيرة؛ ولكن برامج

 المساعدات الجديدة تستطيع أن تحدد الطريق إلى الازدهار.

<D.J.ساكس>ـ <.D.A ميلينگر>ـ <L .J. گالوب>

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H01_001972.jpg

إن التوزيع العالمي للإنتاج الاقتصادي تحدده خريطة العالَم هذه التي تبين كثافة إجمالي الناتج القومي (GNP) ـ حاصل ضرب الكثافة السكانية وإجمالي الناتج القومي للفرد. ويتركز الإنتاج على امتداد الشواطئ البحرية والطرق الملاحية البحرية في مناطق العالَم المعتدلة.

 

لماذا يكون بعض الأمم في غنى فاحش، ويكون بعضها الآخر في فقر مدقع؟ لقد أسَرَ هذا السؤال علماء الاجتماع منذ القرن الثامن عشر، عندما قام الاقتصادي الاسكتلندي<آدم سميث> بمناقشة الموضوع في كتابه القيم «ثروة الأمم»(1). لقد حاول سميث أن يبرهن على أن أفضل طريق للازدهار هي اقتصاد السوق الحرة التي تتيح فيها الحكومة للشركات حرية كبيرة في جني الأرباح. وعلى مدى القرنين الماضيين تأكدت فرضية سميث من خلال النجاح المذهل للاقتصادات الرأسمالية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وشرق آسيا، ومن خلال الفشل المريع للتخطيط الاشتراكي في أوروبا الشرقية والاتحاد السوڤييتي السابق.|

 

ومع ذلك، طرح سميث فرضية مرموقة ثانية تقول إن الجغرافيا الطبيعية لمنطقة تستطيع أن تؤثر في الفعالية الاقتصادية لهذه المنطقة. فقد ادعى أن الاقتصادات في المناطق الساحلية، التي يسهل عليها ممارسة التجارة البحرية، تكون عادة أكثر فعالية من المناطق الداخلية. ومع أن معظم الاقتصاديين المعاصرين يحذون حذو سميث في الربط بين الازدهار وحرية الأسواق، فإنهم كانوا يميلون إلى إهمال دور الجغرافيا؛ ويفترضون ضمنيا أن جميع أصقاع العالم لديها نفس الإمكانيات للتنمية الاقتصادية والتطور البعيد الأمد، وأن الاختلافات في الفعالية هي نتيجة الاختلافات في المؤسسات. إلا أن اكتشافاتنا المبنية على ما استجد من بيانات وطرائق بحث، توحي بأشياء مختلفة. فقد وجدنا دليلا قويا على أن الجغرافيا تؤدي دورا مهما في تحديد توزيع دخل العالم والنمو الاقتصادي فيه.

 

وتماما على النحو الذي تنبأ به سميث، فإن المناطق الساحلية والمناطق القريبة من الطرق الملاحية المائية هي في الحقيقة أكثر غنى وأكثر كثافة سكانية من المناطق الداخلية. إضافة إلى ذلك فإن مناخ منطقة من المناطق يستطيع التأثير في تنميتها الاقتصادية. فمعدلات الإصابة بالأمراض عند شعوب مناطق المناخ المداري أكبر منها عند شعوب المناطق المعتدلة، كما أن إنتاجيتها الزراعية أقل (وبخاصة الأغذية ذات الاستهلاك الكبير). والأعباء ذاتها تواجهها المناطق الصحراوية. والمناطق الأفقر في العالم هي التي تواجه العقبتين معا، أي بُعد عن التجارة البحرية وبيئة مدارية أو صحراوية.

 

إن القارئ المتشكك الذي يتمتع بحد أدنى من المعرفة بالجغرافيا قد يعلق على هذه النقطة قائلا: «جيد، ولكن أليس هذا كله من الأمور المعروفة؟» لدينا ثلاثة أجوبة عن ذلك. أولا، نذهب إلى ما وراء الأساسيات من خلال قياس إسهام الجغرافيا والسياسة الاقتصادية والعوامل الأخرى في تحديد فعالية الأمة. فقد جمعنا أدوات البحوث المستخدمة من قبل الجغرافيين ـ بما في ذلك برنامج جديد يستطيع أن يرسم خرائط تفصيلية لكثافة سكان العالم ـ مع تقنيات ومعادلات الاقتصاد الكلي macroeconomics. ثانيا، إنالدروس الأساسية للجغرافيا جديرة بالتكرار، لأن معظم الاقتصاديين تجاهلوها. ففي العقد الأخير أهملت الغالبية العظمى للأوراق العلمية، التي قدمت عن التنمية الاقتصادية، حتى أكثر الحقائق الجغرافية وضوحا. ثالثا، إذا كانت اكتشافاتنا صحيحة، فإن المضامين السياسية تصبح ذات مغزى. فبرامج المساعدات للبلدان النامية يجب أن توجّه حصرا من أجل حل المشكلات التي تفرضها الجغرافيا. وعلى وجه الخصوص، حاولنا وضع استراتيجيات جديدة يمكن أن تساعد الأمم في المناطق المدارية على زيادة إنتاجيتها وعلى الحدّ من انتشار الأوبئة فيها كالملاريا.

 

توزيع جغرافي(**)

إن أفضل مؤشر للازدهار هو إجمالي الناتج القومي (GNP) للفرد؛ أي القيمةالإجمالية للناتج الاقتصادي لبلد مقسومة على عدد سكان هذا البلد. إن خريطة التوزيع العالمي لإجمالي الناتج القومي للفرد تكشف مباشرة التفاوت الهائل بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة (انظر الخريطة في الصفحة 8). يلاحظ أن الغالبية العظمى من البلدان الأكثر فقرا تقع بين المدارين الجغرافيين ـ المنطقة الواقعة بين مدار السرطان ومدار الجدي. وبالمقابل، فإن معظم البلدان الأكثر غنى تقع في المناطق المعتدلة.

 

إن صورة أكثر دقة لهذا الانقسام الجغرافي يمكن الحصول عليها من خلال تحديد المناطق المدارية اعتمادا على المناخ وليس على خطوط العرض. تُقسِّم الخريطة (في الصفحة 9) العالم إلى خمس مناطق مناخية كبرى؛ وذلك اعتمادا على طريقة تصنيف طُوِّرت من قبل عالمي المناخ الألمانييْن<P.W.كوبن> و<R.جايگر>. وهذه المناطق هي: المناطق المدارية وشبه المدارية (يشار إليها فيما يلي كمنطقة مدارية)، مناطق البادية الصحراوية (الصحراء)، المنطقة المعتدلة ـ الثلجية (المعتدلة)، المناطق المرتفعة، المناطق القطبية. وقد حددت هذه المناطق من خلال قياس درجة الحرارة والرطوبة. كما استبعدت المنطقة القطبية من التحليل لأنها غير مأهولة بالسكان.

 

ومن بين 28 اقتصادا مصنفا من قبل البنك الدولي كاقتصادات ذات دخل عال (مع عدد سكان لا يقل عن مليون نسمة) كانت هونغ كونغ وسنغافورة وجزء من تايوان فقط هي الواقعة في المناطق المدارية. وهي لا تمثل أكثر من 2 في المئة من عدد سكان المناطق ذات الدخل العالي. وتقريبا جميع بلدان المناطق المعتدلة لديها إما اقتصادات ذات دخل عالٍ (كما هي الحال في شمال أمريكا وأوروبا الغربية وكوريا الجنوبية واليابان) أو اقتصادات ذات دخل متوسط ومثقلة بالسياسات الاشتراكية في الماضي (كما هي حال أوروبا الشرقية والصين وبلدان الاتحاد السوڤييتي السابق). إضافة إلى ذلك هناك تقسيم مداري-معتدل مهم ضمن البلدان التي تمتد على كلا النوعين من المناخ. فعلى سبيل المثال، يمتد جزء كبير من البرازيل داخل المنطقة المدارية، ولكن الجزء الأغنى من هذا البلد ـ الولايات الواقعة في أقصى الجنوب ـ يقع داخل المنطقة المعتدلة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H01_001973.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H01_001974.jpg
 يمكن ردّ التباين الاقتصادي إلى الجغرافيا؛ إذ إن تكاليف النقل في بلدان المناطق المعتدلة الساحلية مثل ألمانيا (الصفحة المقابلة) هي أقل، وإنتاجية المزارع هي أعلى من بلدان المناطق المدارية غير الساحلية مثل أوغندا.

 

وأهمية الوصول إلى التجارة البحرية هي أيضا واضحة في خريطة العالم لإجمالي الناتج القومي للفرد. فالمناطق البعيدة عن البحار، مثل البلدان المحرومة من البحر أو الموانئ في جنوب أمريكا وإفريقيا وآسيا تنحو لأن تكون أكثر فقرا من البلدان الساحلية. ويظهر الفرق بين المناطق الساحلية والداخلية بقوة أيضا في خريطة كثافة إجمالي الناتج القومي في العالم ـ وهذا يعني مقدار الإنتاج الاقتصادي للكيلومتر المربع الواحد (انظر الشكل في الصفحتين 4 و 5). تعتمد هذه الخريطة على مسح تفصيلي لكثافة السكان في العالم أجري عام 1994، استخدم فيه برنامج منظومة المعلومات الجغرافية لتقسيم مساحة أرض العالم إلى قطاعات من خمس دقائق في خمس دقائق (نحو 100 كيلومتر مربع عند خط الاستواء). ويمكن تقدير كثافة إجمالي الناتج القومي لكل قطاع كحاصل ضرب الكثافة السكانية في إجمالي الناتج القومي للفرد. هنا يجب على الباحثين أن يستخدموا معدلات إجمالي الناتج القومي للفرد عندما لا تكون التقديرات الإقليمية متوافرة.

 

ولكي تكون هذه البيانات مفهومة، صنَّفنا مناطق العالم إلى أصناف واسعة بحسب المناخ والقرب من البحر، حيث اعتبرنا «قريبة من البحر» كل منطقة تقع في حدود مئة كيلومتر من شاطئ البحر أو من طريق بحري قابل للملاحة (نهر أو بحيرة أو قناة تستطيع سفن المحيطات الإبحار فيها)، واعتبرنا ما عدا ذلك من المناطق «بعيدة عن البحر». فكل منطقة من المناطق المناخية الأربع التي حلّلناها يمكن أن تكون إمّا قريبة أو بعيدة؛ وهكذا حصلنا على ثمانية أصناف. ويظهر الجدول (في الصفحة 8) توزع سكان العالم والدخل ومساحات اليابسة ضمن هذه المناطق.

 

لقد كشف هذا التصنيف بعض الأنماط المدهشة: على نحو كبير، يتركز الإنتاج العالمي في المناطق الساحلية من المناطق المعتدلة. وتمثل المناطق «شبه المعتدلة»temperatenear 8.4 في المئة من مساحة الأراضي المأهولة؛ ولكنها تستأثر بنسبةة22.8 في المئة من سكان العالم وتنتج 52.99 في المئة من إجمالي الناتج القومي في العالم. إن دخل الفرد في هذه المناطق أكبر بنحو 2.3 مرة من المعدل العالمي، والكثافة السكانية أكبر بنحو 2.7 مرة من المناطق الأفقر التي يساوي إجمالي الناتج القومي للفرد فيها نحو ثلث المعدل العالمي.

 

تفسير الأنماط(***)

لقد تناولنا في بحثنا ثلاث طرق مهمة تؤثر الجغرافية من خلالها في التنمية الاقتصادية. وكما أشار<آدم سميث>، فإن الاقتصادات تختلف أولا في سهولة نقل البضائع والأفراد والأفكار، لأن التجارة البحرية أقل تكلفة من النقل البري والجوي. وهكذا تكون لدى الاقتصادات القريبة من السواحل مزايا كبيرة من تلك النائية عن السواحل. فتكاليف الكيلومتر للتجارة البرية داخل إفريقيا مثلا هي في الغالب أكبر من تكاليف التجارة البحرية إلى الموانئ الإفريقية. وفي ما يلي بعض الأرقام التي وجدناها حديثا: إن تكلفة الشحن البحري لحاوية طولها ستة أمتار من روتردام في هولندا إلى دارالسلام في تنزانيا ـ مسافة جوية تساوي 7300 كيلومتر ـ تبلغ نحو 1400 دولار أمريكي. ولكن نقل الحاوية ذاتها برا من دار السلام إلى كيگالي في رواندا ـ مسافة برية تساوي 1280 كيلومترًا ـ تكلف قرابة 2500 دولار أمريكي.

غنى المناطق المناخية (****)

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H01_0061.gif

ثانيا، إن الجغرافية تؤثر في انتشار الأوبئة. فعدة أنواع من الأوبئة المُعْدية تستوطن المناطق المدارية وشبه المدارية. وهذا أقرب إلى الصحة بالنسبة إلى الأوبئة التي تمضي فيها الكائنات المسببة للمرض جزءا من دورة حياتها خارج جسم الإنسان العائل (الثَّوَي) host، كالملاريا (ينقلها البعوض) والعداوى (الأخماج) infectionsالدودية (التيتسببهاالديدان الطفيلية). ومع أن أوبئة الملاريا انتشرت في القرن الماضي على نحومتقطع في مناطق شمالية وصلت حتى بوسطن، فإن الوباء لم يحرز موطأ قدم في المناطق المعتدلة لأن الشتاء البارد يحد بشكل طبيعي من قدرة البعوض على نقل الأوبئة. (يمكن اعتبار الشتاء أهم مؤثر في الصحة العامة). ولكن من الصعوبة بمكان السيطرة على الملاريا في المناطق المدارية، حيث ينقل البعوض الملاريا طوال أيام السنة ويصيب نسبة كبيرة من السكان.

 

وفقا لمنظمة الصحة العالمية هناك ما يتراوح بين 300 و 500 مليون حالة جديدة من الملاريا في العام، كلها تقريبا متمركزة في المناطق المدارية. وهذه سمة مشتركة لهذه المناطق، حتى أن أحدا لا يعرف عدد الذين يقتلهم هذا الوباء سنويا ـ على الأقل مليونا وربما 2.3 مليون. إن الانتشار السريع للمرض والموت المبكر يكبحان بجلاء فعالية الاقتصاد القومي من خلال التأثير في إنتاجية العمال. ولكن ثمة تأثيرات بعيدة المدى يمكن أن تتضاعف مع الزمن عبر التأثيرات الاجتماعية المختلفة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H01_001975.jpg

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H01_001976.jpg 

 إن الثراء والمناخ مترابطان ترابطا شديدا. فبمقارنة خرائط العالم التي تعرض إجمالي الناتج القومي للفرد (في الصفحة المقابلة) والمناطق المناخية (في الأعلى)، يلاحظ المرء أن بلدان المناطق المعتدلة هي أكثر ازدهارا من بلدان المنطقة المدارية. وفي كل منطقة مناخية تكون المناطق القريبة من سواحل البحار والطرق المائية أغنى من المناطق البعيدة عنها (الجدول في أسفل الصفحة المقابلة).

 

فعلى سبيل المثال، إن تفشي الوباء يمكن أن يغير البنية العمرية للسكان. فالمجتمعات ذات المستويات العالية من وفيات الأطفال تنزع لأن تكون ذات مستويات عالية من الخصوبة أو نسبة المواليد؛ فالأمهات ينجبن عدة أطفال أملا في بقاء بعضهم على الأقل على قيد الحياة والوصول إلى سن البلوغ. ونتيجة لذلك يشكل الأطفال الصغار نسبةً كبيرة من سكان تلك البلدان. ومع مثل هذا العدد الكبير من الأطفال لا تستطيع الأسر الفقيرة أن تخصص ما يلزم لتعليم كل طفل من أطفالها. ثم إن النسبة العالية من الخصوبة تحد من دور النساء في المجتمع، لأن تربية أطفالهن تشغل حيزا كبيرا من حياتهن بعد سن الرشد.

 

ثالثا، إن الجغرافيّة تؤثر في الإنتاجية الزراعية. فمثلا، بالنسبة إلى أهم الحبوب الغذائية ـ القمح والذرة والرز ـ ينمو القمح في المناخ المعتدل، ومحصولا الذرة والرز هما أكثر إنتاجية في المناطق المعتدلة وشبه المدارية من المناطق المدارية. ففي حين يعطي الهكتار الواحد في المناطق المدارية 2.3 طن متري من الذرة، يعطي الهكتار الواحد في المناطق المعتدلة 6.4 طن. كما أن العمل بالزراعة في بيئة الغابات المدارية المطيرة يواجه عقبات تتعلق بضعف الأرض، حيث «تُمعدن» mineralize درجة الحرارة العالية الموادَّ العضوية، ويؤدي هَطْل الأمطار الغزيرة إلى خروج تلك المواد من التربة. وفي البيئات المدارية التي لها فصول كثيرة الأمطار وأخرى قليلة الأمطار ـ كما هي الحال في الساڤانا الإفريقية ـ يجب على المزارعين أن يقاوموا الفقدان السريع لرطوبة الأرض الناجم عن الحرارة المرتفعة والتقلب الكبير في هطل الأمطار وأخطار الجفاف. إضافة إلى ذلك يصيب البيئات المدارية العديد من الأوبئة والطفيليات التي يمكن أن تفتك بالمحاصيل والحيوانات.

 

وقد بُذِلت جهود عديدة لتحسين المحاصيل الغذائية في المناطق المدارية ـ محاولات تمت أولا من قبل القوى الاستعمارية، ثم من قبل الوكالات المانحة في العقود القليلة الماضية ـ باءت جميعها بالفشل. وكما هو معهود، حاول خبراء الزراعة نقل الممارسات الزراعية في المناطق المعتدلة إلى المناطق المدارية، لكنهم وجدوا أن الحيوانات والمحاصيل تفتك بها الأوبئة والأمراض والعوائق المناخية. وما يجعل المشكلة أكثر تعقيدا هو أن إنتاجية الغذاء في المناطق المدارية تتأثر أيضا بالظروف الجيولوجية والطبوغرافية التي تتغير من مكان إلى آخر. ففي جزيرة جاوة على سبيل المثال لوحظ أن المزارع ذات إنتاجية عالية نسبيا، لأن الأراضي البركانية فيها تعاني استنزافا أقل للمواد المغذِّية من تلك الأراضي غير البركانية في الجزر الإندونيسية المجاورة.

ويمكن لمزايا زهيدة أو لظروف معوِّقة في الجغرافية أن تؤدي إلى اختلافات كبيرة في الفعالية الاقتصادية على المدى البعيد. فعلى سبيل المثال، يمكن للظروف الزراعية أو الصحية المناسبة أن تزيد من دخل الفرد في بلدان المناطق المعتدلة، ومن ثم تزيد من حجم اقتصاداتها. وهذا النمو يشجع المخترعين في تلك البلدان على إيجاد منتجات وخدمات تباع في أسواق أكبر وأغنى. والاختراعات الناجمة تزيد أيضا من المخرجات الاقتصادية وتحث على المضي في الأنشطة الإبداعية. وهكذا فإن المزايا الجغرافية الزهيدة تَكبر من خلال الإبداع.

 

وبالمقابل، فإن المخرجات الغذائية المنخفضة للعمال الزراعيين في المناطق المدارية تؤدي إلى تقليص حجم المدن التي تعتمد في معيشتها على المناطق الزراعية المحيطة بها. وبأعداد أقل من السكان في المدن، يكون معدل التقدم التقاني فيها عادة أبطأ. ولذلك تبقى المناطق المدارية ريفية أكثر من المناطق المعتدلة المناخ؛ كما تنصب غالبية أنشطتها الاقتصادية على التقانة الزراعية البسيطة، وليس على التقانة المتقدمة في الصناعة والخدمات.

وفي جميع الأحوال علينا أن نؤكد أن العوامل الجغرافية هي جزء من القضية؛ لأن للمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية دورا حاسما في الفعالية الاقتصادية على الأمد البعيد. ومن المفيد هنا مقارنة فعالية ما بعد الحرب العالمية الثانية لاقتصادات السوق الحرة بالاقتصادات الاشتراكية في بلدان مجاورة تتقاسم نفس السمات الجغرافية، مثل كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، وألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، وجمهورية التشيك والنمسا، وأستونيا وفنلندا. وفي كل حالة نجد أن مؤسسات السوق الحرة تفوّقت إلى حد بعيد في أدائها على المؤسسات الاشتراكية.

 

إن المضمون الأساسي في اكتشافاتنا هو أن السياسيين يجب أن يتنبهوا إلى العقبات التنموية المترافقة مع الجغرافيا ـ على وجه الخصوص، سوء الحالة الصحية، والإنتاجية الزراعية المتدنية، وارتفاع تكاليف النقل. فمثلا، يجب أن تسعى الاقتصادات المدارية جاهدة من أجل تنويع الإنتاج ليشمل قطاعات الصناعة والخدمات التي لا تتأثر بالظروف المناخية. والبلدان الناجحة في جنوب شرق آسيا المدارية، وأشهرها ماليزيا، حققت تقدما مذهلا خلال السنوات الثلاثين الماضية، جزئيا من خلال الاهتمام بمشكلات الصحة العامة وجزئيا من خلال دفع اقتصاداتها بعيدا عن تصدير البضائع المرتبطة بالمناخ (المطاط وزيت النخيل، وغير ذلك) إلى الإلكترونيات وشبه الموصلات وقطاعات اقتصادية أخرى. ومما ساعد تلك البلدان كثيرا هو التمركز الشديد للسكان في المناطق الساحلية وقرب الممرات البحرية الدولية، كما ساعدتها السهولة النسبية في السيطرة على الملاريا والأوبئة المدارية الأخرى. إلا أن بلدان جنوبي الصحراء الإفريقية (الكبرى) لم تكن محظوظة بهذا الشكل، لأن غالبية سكانها تتمركز بعيدا عن الشواطئ، وظروفها البيئية قاسية بالنسبة إلى الصحة البشرية والزراعة.

 

إن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (الوكالتين الدوليتين الأكثر تأثيرا في تقديم المشاورات للبلدان النامية) يركزان جهودهما في الوقت الحالي على إعادة الهيكلة المؤسساتية ـ مثل تطوير الخدمة المدنية للبلدان أو إدارات الضرائب فيها ـ أكثر من تركيزهما على التقانات اللازمة لمواجهة الأوبئة المدارية والإنتاجية الزراعية المتدنية. وإحدى العقبات الهائلة هي أن الشركات الصيدلانية ليس لديها حوافز سوقية لمواجهة المشكلات الصحية لدى فقراء العالم. لذلك فإنه يجب على الأمم الأغنى أن تعتمد سياسات لزيادة حوافز الشركات لتعمل على إنتاج لقاحات للأوبئة المدارية. وفي إحدى مبادراتنا الخاصة ناشدنا حكومات الدول الغنية أن تشجع البحث والتطوير، وذلك بأن تلتزم هذه الدول بشراء لقاحات الملاريا والإيدز والسل من الشركات الصيدلانية بأسعار معقولة. وبالمثل، فإن شركات الأبحاث الزراعية وشركات التقانة الحيوية تحتاج إلى حوافز إضافية لتدرس كيفية تحسين مخرجات الزراعة في المناطق المدارية.

 

إن البلدان الأكثر فقرا في العالم تحتاج إلى الكثير من الموارد لتخفف من عوائقها الجغرافية. فبلدان جنوبي الصحراء الإفريقية لديها مستويات من الدخل الفردي تعادل دولارا أمريكيا واحدا في اليوم. وحتى لو استثمرت هذه البلدان 3 أو 4 في المئة من إجمالي ناتجها القومي في الصحة العامة ـ وهذه نسبة كبيرة من الدخل الوطني في البلدان الفقيرة جدا ـ فإن النتيجة تتراوح بين 10 و15 دولارا للشخص الواحد في العام. وهذا بالتأكيد ليس كافيا للسيطرة على الملاريا المستوطنة في تلك البلدان، ومقارعة الأوبئة المنتشرة فيها مثل الإيدز والسل والعداوى (الأخماج) الدودية.

 

إن الجهود الجادة للتنمية العالمية لا تتطلب فقط سياسات اقتصادية أفضل في البلدان الفقيرة، وإنما أيضا دعما ماليا أكبر من البلدان الغنية للمساعدة على التغلب على المشكلات التي تطرحها الجغرافيا. وتؤكد تقديرات أولية أنه حتى زيادة متواضعة في تمويل الدول المانحة بمقدار 25 بليون دولار في العام ـ أي فقط 0.1 في المئة من إجمالي الناتج القومي للبلدان الغنية، أو نحو 28 دولارا للشخص ـ قد تؤدي إلى الحد من الأوبئة على نحو كبير وتزيد من إنتاجية الغذاء في بلدان العالم الفقيرة.

 

 المؤلفون

Jeffery D. Sacks – Andrew D. Mellingr – John L. Gallup

لقد أجرى المؤلفون بحثهم هذا برعاية مركز جامعة هارڤارد للتنمية الدولية (CID).ساكس، هو مدير المركز CID ويعمل مستشارا اقتصاديا لحكومات أوروبا الشرقيةوالاتحاد السوڤييتي السابق وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا. ميلّينگر، هو زميل بحث في المركز CID متخصص بالتطبيق المتعدد التخصصات لنُظُم المعلومات الجغرافية. گالوب،هو مؤسس DevelopIT الذي يقدم دعما فنيا مجانيا لمستخدمي تقانة المعلوماتوالتجارة الإلكترونية e-commerce في البلدان النامية، وكان منذ وقت قريبزميلا باحثا في المركز CID.

 

مراجع للاستزادة 

AN INQUIRY INTO THE NATURE AND CAUSES OF THE WEALTH OF NATIONS. Adam Smith. Reprint. Modern Library, 1994.

GUNS, GERMS, AND STEEL: THE FATES OF HUMAN SOCIETIES. Jared Diamond. W. W. Norton, 1997.

THE WEALTH AND POVERTY OF NATIONS: WHY SOME ARE SO RICH AND SOME SO POOR. David S. Landes. W. W. Norton, 1998.

Additional data and research papers are available at www.cid.harvard.edu and sedac.ciesin.org on the Web.

Scientific American, March 2001

 

(*) THE GEOGRAPHY OF PORERTY AND WEALTH.

(**) The Geographical Divide

(***) Interpreting the Patterns.

(****) The Wealth of Regions.

 

(1) The Weath of Nations

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى