أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم التطبيقية

الدفاع اليَقِظ

الدفاع اليَقِظ(*)

إن الحماية الأفضل من الإرهاب البيولوجي هي

توافر منظومات مجرّبة وأفراد مهيئين بصورة جيدة.

<S.S.مورس>

 

في خريف عام 2001، عندما شخّص الأطباء مرض الجمرة الخبيثة anthraxلدى <R.ستيڤنس> من فلوريدا، كانت شبهاتهم الأولية تحوم حول حالة مرضية طبيعية نادرة. إلا أن إصابة زميله في العمل سرعان ما وضعت الولايات المتحدة في حالة من الاستنفار. وعلى الرغم من أن خمسة أشخاص لقوا حتفهم في نهاية المطاف، فإن سرعة تعرّف أن العدوى المبكرة للجمرة نجمت عن إطلاق متعمد للبكتيرات ساعدت، بلا ريب، على إنقاذ العديد من الأشخاص: لقد تم تشخيص المصابين بالعدوى ومعالجتهم عاجلا، كما أمكن للمعنيين عزل البريد الملوث ببكتيرات الجمرة.

 

ولمدة طويلة ظلت الإدارات الأمريكية، المحلية والفدرالية، تعتبر الإرهاب البيولوجي شأنا يخص القوى الأمنية. إلاّ أن حادثة الجمرة الخبيثة والمحَاكيات الحديثة لإطلاق متزامن لبكتيرات الجدري في أتلانتا وفيلادلفيا ومدينة أوكلاهوما ولاعتداء آخر بالطاعون على دِنڤر أبرزت ما يمكن اعتباره أمرا جليا: الإرهاب البيولوجي هو أولا وبشكل رئيسي، شأن يخص الصحة العامة. فحتى الآن وفي المستقبل المنظور فإن أولى علامات هجوم إرهابي بيولوجي ـ وكما هي الحال عند انتشار أي مرض سار خطر ـ هو دخول المرضى أجنحة الطوارئ الطبية وليس صوت صفارة إنذار لجهاز متطور ينبئ بانتشار عامل مُمرض في مكان عام. وقد أظهر أسوأ سيناريو لتجربة محاكاة انتشار الجدري بشكل خاص، أن نظام الرعاية الصحية غير مستعد لاستقبال أعداد غفيرة ممن يمكن أن يصابوا، عدا عن متطلبات الرعاية لأولئك «الموسوسين» الذين يخشون أن يكونوا مرضى!

 

وبغض النظر عن أن تفشي المرض الوبائي ناجم عن إرهاب بيولوجي أو أسباب طبيعية فالاستعداد له يمكن أن يشكل الفارق ما بين احتواء سريع لخطر داهم وبين انتشار لأزمة صحية. إن من يضع أبعد حد لهذا الفارق هم الذين يقفون في خط الدفاع الأول في قطاع الصحة العامة: الأطباء والممرضون وغيرهم من المسعفين الأوليين والعاملين في المختبرات المكلفين بالبحث عن سبب المرض، إضافة إلى مسؤولي قطاعات الصحة العامة المعنيين بحماية عامة الناس. وتعتمد السيطرة على أي مرض وبائي على مقدرة هؤلاء على استقراء حدث صحي غير طبيعي قد يكون خطرا، ومن ثم حشد الأفراد والموارد التي يمكنها الحد من انتشار هذا الوباء على أفضل وجه. كما يتطلب الأمر وجود مخططات تنفيذية تحدد بوضوح دور طواقم المعنيين بالدفاع عن الصحة العامة ومسؤولياتهم.

 

وتتطلب منظومة إنذار مبكر فعالة عناصر ثلاثة، أسمي واحدا منها «التشخيص السريري»clinical recognition  . وتحتاج المنظومة إلى أطباء أو عاملين آخرين في الحقل الطبي قادرين على تعرف وباء غير عادي وطلب إجراء الفحوص المختبرية اللازمة للتشخيص الدقيق عندما تكون الأعراض المرضية لانمطية وإبلاغ وزارة الصحة العامة عن مثل هذه الأعراض والنتائج المختبرية المُقلقة. ففي الحالة الأولى التي وقعت في فلوريدا، اشتبه الأطباء في البدء بمرض التهاب السحايا، إلا أن الفحوصات المختبرية أظهرت أن سبب التهاب السحايا هو الجمرة الخبيثة ـ يصاب أيضا نصف عدد ضحايا الجمرة المستنشقة بالتهاب السحايا ـ وهذا ما أبلغه أطباء ستيڤنسن إلى موظفي الصحة العامة من قبيل أداء واجبهم.

 

ومن غير الواقعي أن يتوقع المرء أن يتمكن أي طبيب من ربط أعراض مريض واحد بتفشي وباء ما. والمقاربة الأفضل هي تدريب جميع الأطباء على ممارسة «المسح التلازمي» syndromic surveillance، وذلك لمراقبة متلازمات معينة والإبلاغ عنها، مثل الأمراض الشبيهة بالإنفلونزا (النزلة الوافدة) flu-like  والطفح الجلديrashes، التي ترافق العوامل الممرضة الناجمة عن إرهاب بيولوجي محتمل. وفي معظم الحالات، ستحدد الفحوصات المختبرية أن سبب المرض طبيعي ومألوف. وربما لا يكون أمرًا مفاجئا أن يتم الكشف عن الإنفلونزا من خلال المسح التلازمي للأمراض الشبيهة بالإنفلونزا، وهو أمر قيّم في حد ذاته، نظرا لأن سلالات الإنفلونزا الوبائية مثيرة جدا للقلق والاهتمام. لكن عوامل الإرهاب المحتملة، مثل الجمرة الرئوية والطاعون اللذين تحدث الإصابة بهما عن طريق الاستنشاق، تبدأ أيضا بأعراض شبيهة بالإنفلونزا.

 

إضافة إلى ذلك، فبإمكان المجالس المحلية أن تراقب مؤشرات أخرى أكثر دلالة لتفشي الوباء. فالزيادة المفاجئة في شراء العقاقير من الصيدليات وفي طلب الإجازات المرضية بين العاملين والطلبة وكذلك في ظهور أعراض مَرَضية محددة في المستشفيات، يمكن أن تبعث تحذيرات إلى مسؤولي الصحة العامة بوجود حاجة إلى استقصاء إضافي.

 

في عام 1993، بدأتُ مع زملائي ببرنامج رصد الأمراض البازغة(1) (ProMED) المصمم لتعزيز إجراء مسح للأمراض السارية على مستوى العالم أجمع، وبشكل خاص لمتابعة تفشي أمراض غير مألوفة. وقد ظهرت بداية تحقيق ذلك الهدف في السنة التالية عندما طورتُ مع<J.وودل>[الذي كان يعمل حينذاك في وزارة صحة ولاية نيويورك]ما يسمى بريد پروميد الإلكتروني. يسمح هذا النظام المفتوح للبريد الإلكتروني ـ المُدار حاليا من قبل الجمعية الدولية للأمراض السارية(2)(ISID)، لجميع الأطراف المهتمة في أي مكان في العالم ـ بالإبلاغ عن رصدهم لأمراض سريرية. ويتم تحرير بريد پروميد وتقويم سلامته العلمية قبل إرساله إلى كامل قائمة المشتركين، المكوّنة من 000 25 فرد، بمن فيهم خبراء الأمراض الذين يمكنهم إرسال تعليقاتهم واتخاذ إجراءاتهم الشخصية. ومع ذلك، لا يتوافر هنا نظام للاستجابة، على الرغم من أن منظمة الصحة العالمية(3) (WHO) تتابع بريد پروميد الإلكتروني ومصادر أخرى، ولديها نظام لإبلاغ الممثلين المحليين ولتقديم التوصيات لإجراء استقصاء إضافي. إن وجود مسح صحي عالمي أكثر شمولية، على غرار الرصد الجوي العالمي، قد يحسّن من مقدرتنا على ملاحظة أي عواصف تلوح في الأفق وعلى استجابتنا لها في الوقت المناسب.

 

وحتى عند وجود حالة واحدة لمرض نادر الحدوث، مثل استنشاق الجمرة الخبيثة أو الإبولا Ebola، فيجب أن يثير ذلك استقصاء وبائيا إضافيا(بما في ذلك البحث عن كيفية الإصابة بالمرض)، وهي الصفة الأساسية الثانية في منظومة الإنذار المبكر. ولسوء الحظ، فعلى الرغم من التزام وموهبة العاملين في مراكز الوقاية والسيطرة على المرض(4)(CDC)ووزارات الصحة المحلية، فإن النظام الوطني المعمول به (في الولايات المتحدة) حاليا غير ملائم: فالصحة العامة لاتزال مرقعة ومقدرتها متباينة بشكل كبير من موقع لآخر.

 

تعتبر المقدرة المختبرية المكون الثالث. فالمختبرات مكونات حاسمة في تعرّف عوامل مُمرضة محددة في المراحل المبكرة للاستقصاء وفي تحديد كون عينة من مادة ما، لمريض أو موقع، تحتوي على ذلك العامل المُمرض. فتقانات علم الوباء الجزيئي molecular epidemiology، القادرة على تعرّف سلالات إفرادية للعوامل المُمرضة المبنيّة على التغيرات الجزيئية، هي أيضا ذات قيمة بالغة الأهمية في مجال الطب الشرعي. فالتحليل الجزيئي قادر، مثلا، على تحديد كون سلالة جزئية substrain  واحدة من الجمرة الخبيثة قد أسهمت في جميع حالات عدوى عام 2001، موحيا بذلك أن نفس الشخص أو المجموعة كان مساهما فيها.
إن تحسين عملية المسح المَرَضي وقدرة الاستجابة لما تتطلبه هذه العملية هو خطوة ضرورية أولى. إلا أن هناك حاجة إلى مزيد من التحسينات: فنظام الصحة العامة يواجه بشكل متزايد تحديات في حالات طوارئ متنوعة، من الأعاصير إلى موجات القيظ وقد يؤدي دورا رئيسيا في حوادث الإرهاب الكيميائي والإشعاعي المؤسفة، إضافة إلى الإرهاب البيولوجي. فالصحة العامة، كجزء من البنية التحتية الوطنية، ليست أقل شأنا من الجسور والطرقات السريعة. وإن وجود أي حلقة ضعيفة في هذا النظام يثير القلق.

 

ومع ذلك، لا يخلو الأمر من بعض الأشياء السارة، فمنذ عام 1999 تقوم مراكز الوقاية والسيطرة على المرض(CDC) بتطوير شبكة الاستجابة المختبرية(5)(LRN) في مواجهة الإرهاب البيولوجي لاستكمال نظام مختبر الصحة العامة الاعتيادي. وتشتمل الشبكة على مختبرات تحليل للميكروبات في أنحاء البلاد، وتقوم بإجراء التشخيصات الأساسية، كما أن بإمكانها استزراع culture بعض العوامل المُمرضة وتعرفها. وتتوافر على الصعيد الوطني مختبرات أكثر تخصصا ضمن نظام يعرف«بالإحالة الصاعدة» upward referral؛ إذ يقوم مختبر اعتيادي بإحالة العينات المشبوهة أو التي تكون نتائجها غير مؤكدة إلى مختبرات أفضل تجهيزا لفحص هذه المواد غير الاعتيادية. وتعتبر مختبرات المراكز CDC  ومختبرات معهد الأبحاث الطبية للأمراض السارية للجيش الأمريكي(6) (U.S.AMRIID) الأعلى درجة بين المختبرات في مجالها.

 

ومنذ11/9/2001وما تلاه من هجوم بالجمرة الخبيثة الذي هزّ الولايات المتحدة، ركّزت الولايات المتحدة جهودها في هذا المضمار على تحسين الاستعداد لمواجهة الإرهاب البيولوجي. فبعد تأسيس مكتب جديد ـ هو مكتب الاستعداد للصحة العامة(7) (OPHP) في وزارة خدمات الصحة والإنسان الفدرالية(8) (US.DHHS) ـ في الشهر10/2002، جرى اعتماد مخصصات فدرالية إضافية في الشهر1/2003بمبلغ قدره 2.9 بليون دولار من أجل الاستعداد للإرهاب البيولوجي ـ وربما كان هذا المبلغ أكبر مبلغ يصب في قطاع الصحة العامة بعد عقود من الشُّح المزمن. وسيساعد معظم هذا المال الولايات الأمريكية على تحسين بنيتها التحتية في مجالات الصحة العامة. ومن بين هذه المجالات، تقانات لتعزيز المسح المرضي، إضافة إلى تدريب العناصر البشرية ـ وهي على الأغلب الموارد الأكثر نضوبا ـ اللازمة لتشغيل هذه التقانات والقيام بتشخيص المواد الخطرة والتعامل معها. ومن الأولويات الأخرى التوسع في إعداد المختبرات القادرة على التعرف الموثوق والسريع إلى معظم التهديدات الخطرة، مثل الجمرة والجدري والطاعون والذيفان الغذائي (التسمّم الوشيقي) botulismtoxin والتولاريمية tularemia.

 

إضافة إلى هذا، ستتسلم مراكز الوقاية والسيطرة على المرض CDC مبلغا قدره 116 مليون دولار، وسيخصص معظمه لتحديث المختبرات، وكذلك لتحسين الشبكة الإلكترونية للإنذار الصحي، التي تسمح لوزارات الصحة بالبقاء على اتصال سواء بعضها ببعض أو بالأطباء ـ فيما يخص التهديدات المرضية الفعلية. وسيتوسع المخزون الصيدلاني الوطني: إذ ستزداد «رزم المساعدات العاجلة» من عددها الحالي 8 إلى 12 ـ والرزمة عبارة عن مجموعة متكاملة من التجهيز الطبي بزنة 50 طنا [محاقن، ضمادات، أقنعة تنفس، مضادات حيوية، الخ..]، تكون جاهزة لنقلها إلى مواقع الكوارث ـ وستشترى من المخصصات مؤونة من لقاحات الجدري بما يكفي لحماية جميع الأفراد، إذا دعت الضرورة إلى ذلك. إن تفشي وباء الجدري ضعيف الاحتمال، إلا أن نتائجه بالغة الخطورة، بحيث إن الاستعداد له، مع ذلك، ضروري.

 

فحالما يتم تعرّف المرض، تكون الخطوة التالية الحد من انتشاره ومعالجة من أصيب به. لكن هذه الخطوة أيضا ترتبط بجودة عمليات المسح الطبي والاتصالات. أين هي تجمعات الحالات المرضية؟ ما العلاج اللازم وأين؟ كيف يمكن لطاقم التطهير إزالة الذيفانات toxins في موقع ما؟ وأي من المواقع ستكون له الأولوية؟ ما الدلائل المادية التي يمكن جمعها حول العامل الممرض والتي يمكن أن تؤدي إلى تعرّف المسؤولين عن تنفيذ الاعتداء؟ ما تدابير الحجر الواجب اتباعها إذا كان ذلك ضروريا؟ إن تبادل البيانات أمر حتمي بين كل من وزارات الصحة المحلية والولاياتية والفدرالية من جهة وبين تنظيمات الصحة العامة والسلطات الأمنية من جهة أخرى.

 

إن البنية التحتية للصحة العامة ليست مكونا أساسيا للدفاع البيولوجي فحسب ـ بل، لربما، هي المكون الوحيد في الطور المبكر من الاستجابة لهجوم إرهابي بيولوجي. فتفشي مرض سارٍ يحدث بشكل متواتر، كما أن الظروف العالمية توحي بأن ظهور أمراض سارية وانتشارها سيزداد في المستقبل القريب. بعضها، مثل وباء الإنفلونزا الجديدة، يمكن أن ينتشر بسرعة وبقوة مدمرة. ولحسن الحظ أن للاستثمار في مجال الدفاع البيولوجي أرباحا مؤكدة، سواء بزغ مرض بشكل طبيعي أو أطلق بشكل متعمد، فاستعداد الصحة العامة يمكن له إنقاذ الأرواح في أي من الحالتين. 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/19/SCI2003b19N4-5_H02_002935.jpg

يعتبر بيع كامل مخزونات دواء من الأدوية في الصيدليات مؤشرا إلى انتشار مرض معين. فبعد أن لفت انتباه مسؤولي الصحة العامة في ميلووكي، في عام 1993، اختفاء الدواء المضاد للإسهال «إموديوم»Imodium من على رفوف الصيدليات، تبين لهم أن الطفيلية كريپتوسپوريديوم Cryptosporidium في الماء الملوث قد سببت العدوى لما يقارب 000 400 شخص.

 

المؤلف

Stephen S.Morse

متخصص في علم الڤيروسات(الحُمّات). في عام 1988 صاغ مصطلح«الڤيروسات البازغة»emergingviruses، وقاد حركة لتعرف تهديد الأمراض السارية البازغة. وهو مدير مركز الاستعداد للصحة العامة(14)(CPHP)في معهد ميلمان للصحة العامة بجامعة كولومبيا وعضو هيئة التدريس في قسم علم الأوبئة بالجامعة. عمل سابقا في وكالة مشروعات أبحاث الدفاع المتقدمة(15) (DARPA)التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، حيث كان يساعد على إدارة برنامج الإجراءات المضادة للعوامل المُمرضة وكذلك إدارة برنامج التشخيص المتقدم.

 

THE VIGILANCE DEFENCE(*)

 

(1)Program for Monitoring Emerging Diseases (ProMED)

(2)International Society for Infectious Diseases (ISID)

(3) World Health Organization (WHO)

(4) Centers for Diseases Control and Prevention  CDC)

(5)  U.S. Army Medical Research Institute of Infectious

(Laboratory Response Network (LRN)(6)

(7)Diseases (U.S.AMRIID) Office of Public Health Preparedness (OPHP)

 (8) U.S. Department of Health and Human Services (U.S.DHHS)

(9) Center for Public Health Preparedness (CPHP)

(10) Defense Advanced Research Projects Agency (DARPA)

 

Scientific American, October 2002

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى