لغز مرض هنتنگتون
بعد نحو عشر سنوات من عزل الجينة المسؤولة عن مرض هنتنگتون،
مازال العلماء يبحثون في الكيفية التي توقِع بها هذه الجينة ضررها.
<E.كاتانيو> ـ <D. ريگامونتي> ـ <Ch. زوكاتو>
عادة ما يكون التجهم أولى العلامات على وجود خلل ما؛ ثم يصير المصابون بالمرض شاردي الذهن باطراد، ويبدؤون القيامَ بحركات لاإرادية، وبخاصة حينما يكونون مجهدين نفسيا أو جسديا. وعندما يتفاقم المرض، يتكرر حدوث الحركات التي تشبه الرقص والتي تلتبس بترنح الثَّمِل، وتصير أكثر إعاقة لهولاء المرضى. كما يفقدون قدراتهم على القيام بالأعمال اليومية البسيطة ويُبدون وَهَنًا في القدرات الذهنية كالتخطيط. ويسيطر الاكتئاب والعدوانية في المراحل المتأخرة من المرض، والخرف dementia والذهان psychosis في الحالات الوخيمة منه، وهذا يحيل شخصا كان سويا مفعما بالحيوية إلى مجرد شبح بائس طريح الفراش. وقد يكون هذا المصاب فردا في عائلتك أو صديقا أو زميلا في العمل.
هذه هي الصورة المروعة لمرض هنتنگتون، وهو مرض وراثي يصيب عادة الأشخاص ـ الذين يحملون الجينة المؤهِّبة predisposing gene ـ في ريعان حياتهم بين الثلاثين أو الأربعين من العمر. ولا توجد معالجة فعالة لهذا المرض، ولذلك فهو يتفاقم ببطء ولكن بعناد، مؤديا عادة إلى العجز الكامل والوفاة بعد 15 أو 20 عاما. وعلى الرغم من أن مرض هنتنگتون يصيب في المقام الأول الجهاز العصبي المركزي، فإن معظم المصابين به يموتون في نهاية الأمر بسبب المضاعفات القلبية أو التنفسية الناجمة عن التزام الفراش أو بسبب إصابات الرأس الناجمة عن العثرات المتكررة.
في عام 1993، تم تعرف الجينة التي تسبب مرض هنتنگتون بوساطة ائتلاف من 58 عالما من أنحاء العالم، من بينهم <F.J. گوزيلا> [من مستشفى ماساتشوستس العام] و<S.F.كولينز> [الذي كان يعمل حينذاك في جامعة متشيگان بآن آربر]. وبعد ذلك بقليل، توافرت الاختبارات الجينية التي تُمكِّن أقارب المصابين بمرض هنتنگتون من تحديد ما إذا كانوا هم أنفسهم ورثوا الجينة الطافرة. ولأن الجينة سائدة dominant، فأولئك الذين يرثون النمط الطافر تتحتم إصابتهم بالمرض، وتقدر إمكانية نقلها إلى أطفالهم بخمسين في المئة. إن بعض الناس يقررون إجراء الاختبار حتى يتاح لهم تخطيط حياتهم بشكل أفضل، في حين يفضل آخرون أن يظلوا على غير علم بالأمر.
(**)مرض هنتنگتون/ نظرة إجمالية
مرض هنتنگتون ـ الذي يقعد الناس ويسبب لهم الخرف في أواسط العمر ـ مرض جيني ينجم عن تطفر جينة تسمى هنتنگتين توجد على الصبغي (الكروموسوم) الرابع.
ثمة اختبارات جينية للمرض، ولكن لا يوجد له علاج. يحمل الأشخاص المؤهبون للإصابة بمرض هنتنگتون تأتأة جزيئية molecular stutter في جينة الهنتنگتين تجعلهم يصنعون شكلا طافرا من الپروتين هنتنگتين، الذي يتكرر فيه نفس الحمض الأميني «گلوتامين» عشرات المرات. يبدو أن پروتين هنتنگتين الطافر سام لخلايا عصبية رئيسية في الدماغ. كما أنه يفتقد القدرة على تشغيل جينة عامل نمو ضروري. |
ويحاول العلماء، من أمثالنا، أن يعطوا أملا للعائلات الحاملة لمرض هنتنگتون، وذلك بالسعي إلى فهم الكيفية التي تُحدث بها الجينة الطافرة هذا المرض، وكيف يمكن الالتفاف حولها لتحقيق المعالجة. لدينا أدلة على أن التطفر المسبب لمرض هنتنگتون ثنائي التأثير: فهو لا يكوِّد فقط لپروتين شاذ يبدو أنه سام للخلايا العصبية، ولكن هذا الپروتين المعيب يتوقف عن تحريض إنتاج عامل نمو أساسي، وبذلك يحرم جزءا معينا من الدماغ من الغذاء، بحيث يميته جوعا. وتوحي الدراسات على الحيوان ـ والتجارب السريرية الأولية على البشر ـ أن المعالجات المتضمنة عوامل النمو قد تضاد هذه التأثيرات. لكن المكتشفات الحديثة لا توضح پاثولوجية(1) مرض هنتنگتون إلا بصورة جزئية، وعلى ذلك فمازلنا بحاجة إلى البحث المستمر للكشف عن تعقيدات هذا المرض.
(***)من هنتنگتون إلى هنتنگتين
أُطلق على هذا المرض اسم هنتنگتون نسبة إلى <G.هنتنگتون>، وهو طبيب من أوهايو. لقد قدم هنتنگتون عام 1872 تقريرا مسهبا عن مرض وراثي غريب لاحظه هو ووالده ـ الذي كان طبيبا أيضا ـ في عائلة من لونگ أيلاند بنيويورك. وبملاحظة الحركات الغريبة غير المتناسقة للمصابين، سمي المرض «كوريا»chorea، من الكلمة اليونانية «كوروس» choros وتعني الرقص. واليوم يدرك الأطباء أن مرض هنتنگتون هو أحد أكثر أمراض الدماغ الوراثية شيوعا، إذ يصيب واحدا من كل000 10 شخص تقريبا
تكمن مأساة مرض هنتنگتون في أنه يضرب ضربته في أواسط العمر، مسببا حركات لاإرادية تشبه الرقص، وضعفا عقليا وآلاما مبرحة نفسية وجسدية، مما يحرم المصاب من ممارسة حياة طبيعية. والأصل في هذه العلة هو التكرار المديد extended للمتتالية الدناوية«سيتوزين ـ أدينين ـ گوانين»(CAG). |
تنجم أعراض مرض هنتنگتون عن تنكس degeneration العصبونات (الخلايا العصبية) neurons الموجودة في الجسم المخطط striatum، وهو منطقة عميقة ضمن الدماغ تكوّن جزءا من بنيان يدعى العقد القاعدية basal ganglia (انظر الشكل في الصفحة 28). تعمل هذه العصبونات عادة على إيقاف الإشارات المنبهة الآتية من قشرة الدماغ المحركة motor cortex، وهي الجزء من الدماغ الذي يملي أوامر الحركة. عندما تموت هذه العصبونات، تصير قشرة الدماغ المحركة فائقة النشاط، مما يسبب الحركات اللاإرادية (وتدعى أيضا كوريا). والأمر الأقل وضوحا هو كيف أن موت عصبونات الجسم المخطط يسبب الأعراض النفسية للمرض.
تلقب الجينة التي تطفر في مرض هنتنگتون باسم هنتنگتين، وتقع عند إحدى نهايتي الصبغي (الكروموسوم) الرابع. والجينات هي أجزاء من الدنا الحلزوني المزدوج DNA double helix، تقوم بتكويد المعلومات اللازمة لصنع الپروتينات. يتألف الكود من مجموعات كل منها تتألف من أربع وحدات بسيطة تدعى القواعد bases، وهي: الأدينين(A adenine) والثيمين thymine) T) والسيتوزينcytosine) C) والگوانين guanine) G). تزدوج(تتشافع) هذه القواعد، الواحدة بالأخرى، لتكوّن درجات سلم حلزون الدنا: تزدوج القاعدة A بالقاعدة Tوالقاعدة C بالقاعدة G. وعندما تحتاج الخلية إلى صنع پروتينات جديدة ينحلّ الحلزون وتنشطر درجاته، وبذلك تستطيع أجهزة الخلية أن تقرأ الكود. إن ثلاثيةً triplet ما مكونة من ثلاث قواعد تكود إنتاج واحد من الحموض الأمينية العشرين التي تنتظم معا في مجموعات متنوعة لتصنع الملايين من پروتينات الجسم المختلفة.
عندما حدد الباحثون الجينة هنتنگتين بدقة، لاحظوا أنها تحتوي ـ حتى في الأسوياء ـ على نوع من التأتأة(2)الجزيئية molecular stutter، حيث تتكرر الثلاثيةCAG ما بين 9 و 35 مرة(يمكن لهذا التكرار المديد أن يحدث كذلك في جينات مختلفة ويكون مصحوبا بالعديد من الأمراض التنكسية العصبية الأخرى). ولكن هذه التأتأة تصير مطولة بصورة خاصة في المصابين بمرض هنتنگتون ـ تمتد في بعض الحالات النادرة إلى 250 تكرارا. ومما يثير الاهتمام، أن العلماء وجدوا أن المرض يظهر في سن أبكر عند الأشخاص ذوي التكرارات الأكثر، مقارنا بذوي التكرارات الأقل. ولأسباب غير معروفة، يمكن لعدد تكرارات الثلاثي CAG أن يزداد من جيل إلى آخر في العائلات المصابة بمرض هنتنگتون (يبدو أن هذا أكثر حدوثا عندما تورث الجينة الطافرة من الأب).
(****)النظريات
تكود الثلاثية CAG الحمض الأميني” گلوتامين” glutamine، الذي يشير إليه الباحثون بالحرف Q. إن الأشخاص الحاملين للجينة الطافرة يصنعون پروتينات هنتنگتين تحوي ما يسمى«المقاطع المتعددة الگلوتامين» التي تتكون من Q 36 أو أكثر. ولكن لماذا تتسبب الگلوتامينات الزائدة في پروتين ما في إحداث المرض؟
إن أبسط تفسير لذلك هو أن الامتداد المطول للمقاطع المتعددة الگلوتامين يدمر قدرة الپروتينات هنتنگتين على القيام بوظيفتها المعتادة في الدماغ. لقد رُفضت فرضية فقدان الوظيفة هذه، لأن الدراسات الباكرة وجدت أن الپروتين هنتنگتين لا يُصنع فقط في الجسم المخطط ـ المنطقة التي تضمر نتيجة للمرض ـ ولكن أيضا في سائر مناطق الدماغ، وفي مناطق أخرى من الدماغ يبدو أنها لا تتأثر أثناء تطور مرض هنتنگتون. إضافة إلى ذلك، يحمل البشر نسختين من كل جينة ـ واحدة من الأم وواحدة من الأب؛ ولهذا فإن المصابين بمرض هنتنگتون مازالوا يحملون نسخة سليمة من الجينة هنتنگتين؛ وعليه، هم قادرون على صنع كمية معقولة من الپروتين السليم. وبالمثل، فالمصابون بمتلازمة وولف هيرشورن ـ وهي مرض نادر تنمحي فيه منطقة كبيرة من الصبغي الرابع، شاملة إحدى نسختي الجينة هنتنگتين ـ لا يبدون أيا من أعراض الكوريا.
وثمة فرضية بديلة تدعى فرضية اكتساب الوظيفة، وتفيد أن تَطفُّر الجينة هنتنگتين ينتج شكلا ساما من الپروتين هنتنگتين. وطبقا لهذا الرأي، فإن الامتداد المطول للمقاطع المتعددة الگلوتامين ـ الناتجة من تطفر الجينة هنتنگتين ـ يغيّر شكل الپروتين الطافر، ويكسبه القدرة على الالتصاق بالعديد من الپروتينات الأخرى ـ وبخاصة پروتين هنتنگتين السوي، وهذا يصيبه بالعجز عن أداء وظيفته. ويفسر هذا الالتصاق لماذا يورَّث المرض بالنمط السائد. وفي الواقع، فإن الراحل<F.M.پيروتز>وزملاءه [من مختبر البيولوجيا الجزيئية التابع لمجلس البحوث الطبية Medical Research Council’s Laboratory of Molecular Biology في كمبردج بإنكلترا] وجدوا أن الامتداد المطول للمقاطع المتعددة الگلوتامين ينثني على شكل يدعى صفيحة بيتا beta sheet، ومعروف أنها تعمل كغراء بين الپروتينات. كما أن<E.E.وانكر>[من مركز ماكس ديلبروك للطب الجزيئي Max Delbrück Center for Molecular Medicine في برلين]، و<P.G.بيتس> [من مستشفى گاي في لندن] و<M. ديفيليا> [من مستشفى ماساتشوستس العام]وزملاءهم، لاحظوا كُدَاسات (تجميعات) aggregates من پروتين هنتنگتين الطافر في أدمغة نماذج مرضية من الفئران، وفي عصبونات الجسم المخطط وقشرة الدماغ لدى الأشخاص الذين ماتوا بمرض هنتنگتون.
ومع ذلك، فإن الكيفية التي تسبب بها هذه الكداسات (التجمعات) تلف العصبونات الذي يلاحظ في مرض هنتنگتون مازالت موضع نقاش حاد. إحدى الفرضيات هي أن الپروتياسومات proteasomes ـ وهي بِنى خلوية تهدم الپروتينات البالية أو السامة ـ لا تستطيع التخلص من پروتينات هنتنگتين الطافرة بسبب بنيتها الشاذة. ونتيجة لذلك، يتراكم پروتين هنتنگتين الطافر دون كابح قاتلا الخلايا. ولكن فرضية اكتساب الوظيفة لا تستطيع أن تُُفسِّر بسهولة لماذا لا تتأثر مناطق أخرى من الدماغ إضافة إلى الجسم المخطط.
وبالعكس، تقترح فرضيات أخرى أن الكداسات ـ بدلا من أن تكون مسؤولة عن المرض ـ قد تمثل آلية دفاعية لحماية الخلايا من التأثيرات السامة للمقاطع المتعددة الگلوتامين. إن دراسة دور هذه الكداسات تظل أمرا أساسيا لفهم مرض هنتنگتون، وإن إيجاد سبل لمنع تكونها أو لتفكيكها قد يقود إلى أدوية جديدة لمعالجة المرض. وحديثا ابتكر <وانكر> وزملاؤه اختبارا لتعرف الأدوية التي يحتمل أن تستطيع منع پروتين هنتنگتين الطافر من تكوين الكداسات.
في مرض هنتنگتون يقع التخريب الدماغي بصورة رئيسية في الجسم المُخَطَّط striatum، وهو منطقة في عمق الدماغ، تشكل جزءا من بنيان يسمى العقد القاعدية basal ganglia. يبدو الجسم المخطط كاملا وسليما في دماغ شخص مات لأسباب غير مرض هنتنگتون(اليمين)، ويبدو منكمشا في دماغ شخص أصيب بمرض هنتنگتون(اليسار). |
وهناك اتجاه آخر للبحوث يرتكز على تعرف الجزيئات، التي يُعبر عنها بشكل نوعي في الجسم المخطط والتي تستطيع أن تتآثر مع الپروتين هنتنگتين. إذا احتجزت هذه الجزيئات في الكداسات فربما تسهم في إحداث السمية. لقد تعرّف الباحثون، حتى الآن، ثلاث مجموعات من الپروتينات التي تتآثر مع الپروتين هنتنگتين، ولكن يبدو أن لا أحد منها يفسر الطبيعة السامة لپروتين هنتنگتين الطافر، أو لماذا تموت عصبونات الجسم المخطط فقط في مرض هنتنگتون.
(*****)منقذ للحياة
لحل هذا اللغز، اتجهنا وغيرنا ـ ومنهم<S.زايتلين> [من جامعة كولومبيا] ـ إلى تعيين وظيفة پروتين هنتنگتين السوي في الدماغ. وبدأنا بفحص تأثيرات استعمال الهندسة الجينية لغرس إما نسخ إضافية من جينة هنتنگتين السوية أو الأشكال الطافرة منها، في عصبونات مستنبتة في المختبر. في عام 2000 أعلنا أن الخلايا التي تفرط في إنتاج پروتين هنتنگتين سوي تستطيع البُقْيا عندما تحرم من وسط النمو أو عندما تكون تحت ظروف أخرى تتسبب عادة في موتها. وفضلا على ذلك، يبدو أن پروتين هنتنگتين السوي يبقي العصبونات حية بإيقاف شلال الأحداث الجزيئية التي تقود عادة إلى الموت الخلوي المبرمج(3) apoptosis. واستنتجنا أن پروتين هنتنگتين السوي يعمل كپروتين منقذ لحياة العصبونات.
لقد عزز زايتلين وزملاؤه هذه النتائج بتوليد ما يسمى الفئران المشروطة التعطيل conditional knockout، التي يمكن فيها تعطيل نسختي الجينة هنتنگتين متى بلغت الحيوانات سن النضج. فعندما يوقف نشاط الجينة، يتوقف الفأر عن إنتاج الپروتين هنتنگتين ويصاب بتلف شديد في دماغه.
وقد بينت أيضا مجموعة زايتلين أن إعاقة إنتاج الپروتين هنتنگتين في مراحل مختلفة من حياة الفأر تؤدي إلى موت عصبونات الدماغ موتا مبرمجا. إضافة إلى ذلك أظهر الباحثون أن الفئران المصابة بنقص في الشكل السوي من الپروتين هنتنگتين تعاني أعراضا عصبية تماثل كثيرا تلك التي تبديها الفئران التي تمتلك الشكل الطافر للپروتين. توحي هذه الملاحظة أن غياب پروتين هنتنگتين السوي ووجود پروتين هنتنگتين الطافر قد يكونان وجهين مختلفين للعملة نفسها.
ولكن الدراسات التي أجريت على الفئران لا تستطيع أن تفسر لماذا تُستهدف عصبونات الجسم المخطط على نحو تفضيلي في مرض هنتنگتون. لحل هذا اللغز، اتجهنا وآخرون إلى دراسة العامل التغذوي العصبي الدماغي(brainderived neurotrophic factor BDNF)، وهو عامل نمو معروف بأنه أساسي لنشوء العصبونات في الجسم المخطط وبُقْياها. إن العامل التغذوي العصبي الدماغي يتكون عادة في أجسام عصبونات قشرة الدماغ، ثم ينتقل إلى الجسم المخطط على طول ألياف تمتد بين منطقتي الدماغ. وطبقا لذلك، بدأنا بالبحث عن علاقة بين الپروتين هنتنگتين والعامل التغذوي العصبي الدماغي.
ومما يثير الاهتمام، أننا اكتشفنا أن پروتين هنتنگتين السوي يحث على إنتاج العامل التغذوي العصبي الدماغي في عصبونات مستنبتة مختبريا. وعلى وجه الخصوص، يبدو أن الپروتين هنتنگتين ينبه المشغل “on”switch، أو المُحفز promoter، للجينة التي تكوّد العامل التغذوي العصبي الدماغي. وهذا بدوره، يُشَغِّل جينة العامل التغذوي العصبي الدماغي، محفزا العصبونات لتصنيع المزيد من عامل النمو. في المقابل، لا ينبه پروتين هنتنگتين الطافر محفز العامل التغذوي العصبي الدماغي، مؤديا إلى نقص في إنتاج العامل التغذوي العصبي الدماغي. ولاحظنا أيضا وجود رابطة بين الپروتين هنتنگتين والعامل التغذوي العصبي الدماغي في تجارب تَستخدِم فئرانًا كان قد عدّلها جينيا<R.M.هايدن>وزملاؤه [من جامعة بريتش كولومبيا]. لقد وجدنا أن الفئران التي تفرِط في إنتاج پروتين هنتنگتين السوي، تمتلك أدمغتها كميات كبيرة من العامل التغذوي العصبي الدماغي، في حين تفتقد هذا العامل تلك التي لديها پروتين هنتنگتين الطافر.
بناء على هذه المعلومات، نخمن حاليا أن مرض هنتنگتون هو علة معقدة للغاية لا تتطابق تماما مع فرضياتنا السابقة. فلا يقتصر الأمر على أن يولِّد تطفر المرض هنتنگتون كداسات سامة تستطيع أن تقتل خلايا الدماغ مباشرة، ولكنه أيضا يحرم الدماغ من پروتين هنتنگتين السوي ـ الذي كان يمكنه لولا ذلك أن ينبه جينة عامل النمو (أي العامل التغذوي العصبي الدماغي). وفي الواقع، قد يترابط هذان التأثيران. وفي عام 1999 لاحظ <M.R .فريدلاندر> وزملاؤه [من بريگهام ومستشفى النساء] أن الشكل الطافر من پروتين هنتنگتين، في الفئران المعدلة جينيا، يستطيع أن يدمر الشكل السوي.
(******)الأساس الجزيئي لمرض هنتنگتون
هناك نظريات متباينة قد تفسر كيفية نشوء مرض هنتنگتون. تتوضع الجينة المسؤولة عن حدوث هذا المرض ـ وتدعى هنتنگتين ـ في نهاية الصبغي الرابع. وتحتوي هذه الجينة عادة ما بين 35 و9 تكرارا من المتتالية الدناوية: سيتوزين ـ أدنين ـ گوانين (CAG). أما في العائلات المصابة بمرض هنتنگتون فإن هذه الجينة تحتوي ما بين 40 و 60 تكرارا من هذه المتتالية. عندما تكون الجينة هنتنگتين فعالة فإن متتاليتها الدناوية تُنسخ إلى رنا مرسال يقوم بتوجيه جهاز صنع الپروتين في الخلية ـ المؤلف من رنا ناقل transfer RNA وريبوزومات ـ لتكوين الپروتين هنتنگتين عن طريق ٍ«تضم» المتتاليات المناسبة من الحموض الأمينية بعضها إلى بعض. ولما كانت المتتالية CAG تكود الحمض الأميني المسمى گلوتامين (الذي يشير إليه العلماء بحرف Q) فإن پروتين هنتنگتين الطافر يحتوي منطقة واسعة متعددة الگلوتامين. قد تسبب هذه المنطقة مرض هنتنگتون بإعاقتها پروتين هنتنگتين الطافر عن العمل (نظرية فقد الوظيفة) أو بالسماح له بالالتصاق بپروتين هنتنگتين السوي وغيره من الپروتينات وتعطيلها عن العمل (نظرية اكتساب الوظيفة). ويبدو أن هذه الكداسات الپروتينية لها تأثير سام في الخلايا الدماغية. وقد تسبب طفرة هنتنگتون المرض أيضا عن طريق الجمع بين هاتين الآليتين.
|
(*******)إنقاذ الدماغ
والآن، وقد تزَّودنا بفهم أفضل لتعقيدات مرض هنتنگتون، نستطيع أن نتوجه إلى ابتكار معالجات أفضل للمرض. إن الأدوية المتاحة حاليا تستطيع أن تخفف فقط من بعض أعراض المرض، ويمكن أن تكون لها تأثيرات جانبية خطرة. وفي الواقع فإن الأدوية كثيرا ما تخفف عَرَضًا ما لتجعل آخر أكثر سوءا. فعلى الرغم من أن الأطباء يصفون عادة للمصابين بمرض هنتنگتون مسكنات للسيطرة على الحركات اللاإرادية، فإن هذه الأدوية تخفض في الدماغ مستويات الناقل العصبي «دوپامين» dopamine، جاعلة أعراض اكتئاب المرضى أكثر سوءا. إن مضادات الاكتئاب تبطل أعراضه، ولكن بعض الأنواع يمكن أن تفاقم الكوريا. ويستخدم الأطباء ما يسمى أدوية مضادات الذهان neuroleptic لمعالجة الهلوسات hallucinations والذهان، ولكن يجب الإبقاء على الجرعات منخفضة، لأن هذه الأدوية يمكن أن تسبب حركات تشنجية. وعلى مدى سنوات عدة، يُجري الأطباء في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا اختبارات على ريلوزول riluzole، وهو دواء لا تُعرف الآلية المحددة لفعله، ولكنه يستعمل للعلة العصبية المعروفة باسم التصلب الجانبي الضموري (amyotrophic lateral sclerosis ALS) (أو مرض لو گِيرِگ). ومع ذلك، يبدو أن للدواء نجاحا محدودا ضد أي من العلتين.
تهدف التجارب الأكثر إبداعا في معالجة مرض هنتنگتون إلى الاستعاضة عن العصبونات التالفة بغرائس من نسيج جنيني أو حَقْن أو تسريب infusingالعوامل التغذوية العصبية، مثل العامل التغذوي العصبي الدماغي. لقد أعطت المقاربة الأولى نتائج مبدئية مشجعة لدى المصابين في المراحل الأولى من مرض هنتنگتون، ولكن بقي استعمالها مثيرا للجدل في ضوء التساؤلات الأخلاقية فيما يختص باستخدام النسج المأخوذة من الأجنة المجهضة. فمثلا، غرس <M. پيشانسكي> ومعاونوه [من مركز البحوث الطبية INSERM في كريتيل بفرنسا] عصبونات جنينية fetal neurons في الأجسام المخططة لخمسة مصابين بمرض هنتنگتون، وتحسنت حالة ثلاثة منهم تحسنا ملحوظا في أداء وظائفهم الحركية والفكرية. وتُجرى حاليا تجارب سريرية جديدة على عدد أكبر من المرضى. في غضون ذلك، يحاول الباحثون حاليا ـ للتغلب على الكميات المحدودة المتاحة من الخلايا الجنينية والجدل المثار حولها ـ استنبات خلايا جذعية عصبية في المختبر لاستعمالها في الغرس. ولكن الخلايا الجذعية أقل نضوجا من الخلايا الجنينية. والسؤال المطروح هو هل ستستطيع الخلايا الجذعية أن تنمو وتتكامل تماما مع الدماغ المعطوب للمريض؟ وليس من الواضح أيضا ما إذا كان پروتين هنتنگتين الطافر الذي صنعته العصبونات الأخرى العائدة لمريض، قادرا على تعطيل پروتين هنتنگتين السوي، الذي تصنعه الخلايا الجنينية أو الخلايا الجذعية المغترسة.
تستند المقاربة الأخرى إلى دراسات على الحيوان، أظهرت أن العامل التغذوي العصبي الهدبي (ciliary neurotophic factor CNTF) يستطيع أن يحمي خلايا الجسم المخطط من الموت. بيد أن إيصال عامل النمو إلى الدماغ بكميات كافية وبشكله الفعال ظل أمرا صعبا. فعندما تعطى بالفم پروتينات، من قبيل العامل التغذوي العصبي الدماغي والعامل التغذوي العصبي الهدبي، فإنها تتفكك في المعدة. وعندما تعطى بالحقن أو التسريب، فقد لا تستطيع أحيانا أن تعبر الحاجز الخلوي الذي يقي الدماغ من المواد الجائلة في الدم. وطبقا لذلك، فإن <P. إيبيشر> [من المعهد التقني الاتحادي السويسري في لوزان] صمم پروتوكول معالجة جينية، حيث يغرس هو ومساعدوه كبسولات نصف مُنْفِذة محتوية على خلايا معدلة جينيا لتوصيل العامل التغذوي العصبي الهدبي إلى البطين الأيمن للدماغ. واستنادا إلى ما حققته مجموعة<إيبيشر>في دراستها على الشمپانزي، من أن الكبسولات تواصل تحرير العامل التغذوي العصبي الهدبي، وحَّدت مجموعتا إيبيشر وپيشانسكي جهودهما لتقييم الاستراتيجية في عدد قليل من المرضى. ويُجرى اختبار استعمال العامل التغذوي العصبي الهدبي في الناس قبل العامل التغذوي العصبي الدماغي، لأن تأثيراته في حماية خلايا الجسم المخطط اكتشفت قبل سنين عدة من معرفة فوائد العامل التغذوي العصبي الدماغي. وتخطط فرق بحثية مختلفة حاليا لاختبار العامل التغذوي العصبي الدماغي في الحيوانات. وبناء على النتائج، سيختبر في مرضى هنتنگتون من البشر.
pharmacological لمرض هنتنگتون على أدوية يمكنها أن تعوق سمية پروتين هنتنگتين الطافر، وفي الوقت نفسه تستعيد التأثيرات المفيدة لپروتين هنتنگتين السوي. ولعلنا ـ بحل عقدة أسرار مرض هنتنگتون ـ سنكون قادرين على منح الأمل للجيل القادم.
المؤلفون
Elena Cattaneo – Dorotea Rigamonti – Chiara Zuccato
يعملون في قسم العلوم الأقرباذينية وفي مركز التفوق لدراسات الأمراض العصبية التنكسية Center of Excellence on Neurodegenerative Diseases، بجامعة ميلانو في إيطاليا، حيث تشغل كاتانيو منصب أستاذ التقانة الحيوية الصيدلانية pharamaceutical biotechnology، وتتضمن أبحاثها أيضا دراسة الخلايا الجذعية واستعمالها في معالجة العلل العصبية التنكسية، مثل مرض هنتنگتون. وقد شاركت كاتانيو منذ عام 1995 في الائتلاف من أجل الشفاء Coalition for the Cure، وهو اتحاد عالمي للأبحاث، أسسته الجمعية الأمريكية لمرض هنتنگتون؛ وشاركت أيضا في جمعية المبادرة للشفاء من مرض هنتنگتون Cure HD Initiative التي ترعاها مؤسسة الأمراض الوراثية Hereditary Disease Foundation. وهي تعمل منذ عام 1996 باحثة في المؤسسة الإيطالية تيليثون. ومن بين الأوسمة والجوائز التي حازتها وسام من الرئيس الإيطالي<A.C.كيامپي>لأبحاثها على الخلايا الجذعية ومرض هنتنگتون. أما ريگامونتي وزوكاتو فتعملان، بعد حصولهما على الدكتوراه، مساعدتين في مختبر كاتانيو. وكلتاهما حصلت على الدكتوراه عام 1998: ريگامونتي من جامعة ميلانو وزوكاتو من جامعة إنسوبريا في ڤاريزي.
مراجع للاستزادة
A Novel Gene Containing a Trinucleotide Repeat That Is Expanded and Unstable on Huntington’s Disease Chromosomes. The Huntington’s Disease Collaborative Research Group in Cell, Vol. 72, No. 6, pages 971-983, March 26, 1993.
Loss of Normal Huntingtin Function: New Developments in Huntington’s Disease Research. Elena Cattaneo, Dorotea Rigamonti, Donato Goffredo, Chiara Zuccato, Ferdinando Squitieri and Simonetta Sipione in Trends in Neurosciences, Vol. 24, pages 182-188, March 2001.
Loss of Huntingtin-Mediated BDNF Gene Transcription in Huntington’s Disease. Chiara Zuccato et al. in Science, Vol. 293, pages 493-498, July 20, 2001.
The Web sites of the Huntington’s Disease Society of America (www.hdsa.org) and the Hereditary Disease Foundation (www.hdfoundation.org) are useful resources on genetic testing for the disease and contain information for families with Huntington’s.
Scientific American, December 2002
THE ENIGMA OF HUNTINGTON’S DISEASE(*)
Overview/ Huntington’s Disease(**)
From Huntington’s to huntingtin(***)
The Theories(****)
A Lifesaver(*****)
Molecular Basis of Huntington’s(******)
Brain Rescue(*******)
(1) pathology: ما يتصل بأسباب المرض ومظاهره وصفاته ونتائجه. (التحرير)
(2) تعبر هنا عن تكرار الثلاثية مرات عدة، وهذا التكرار يشبه تأتأة الكلام. (التحرير)
(3) سيرورة طبيعية تشكل جزءا من التنامي السوي للخلايا والنسج والأعضاء وصيانتها وتجديدها. (التحرير)