البتراء، عاصمة على تخوم الصحراء
البتراء، عاصمة على تخوم الصحراء(*)
بعد أن اعتُبروا زمنا طويلاًً مُقلِّدين للإغريق لا شأن لهم، كان الأنباط
في الواقع مبدعي حضارة عربية أصيلة ومزدهرة بفضل تجارة البخور.
<R .وِنِنْگ>
كانت الأحصنة تخبُّ بعصبية بين الجدران الصخرية لشِعبٍ عرضه ثلاثة أمتار وارتفاعه 70 مترا. وفجأة لاحت من الظلّ واجهة بناء مدهشة منحوتة في الصخر على أيدي حرفيين قدماء، وقد أضاءتها الشمس المشرقة.
هذا المشهد من الفيلم (الشريط السينمائي) «إنديانا جونز والصليبية الأخيرة(1)» للمخرج <S .سبيلبُرگ> أسهم في جعل موقع البتراء الأثري شهيرا. وهذا الموقع على بعد 250 كم إلى الجنوب من عمّان عاصمة الأردن. تجذب حاضرة الأنباط القديمة حاليا نحو 1500 سائح يوميّا، يفدون من مختلف أنحاء العالم مُعجبين بالشِعاب والجروف المجاورة لوادي عربة الجاف والصحراوي، حيث تمر حاليا الحدود بين الأردن وفلسطين. وعلى الأرجح فإن هؤلاء السياح يأملون أيضا العثور على أحد الكنوز المخزونة في القبور أو في المساكن المحفورة في الصخر وذلك حسب رواية عربية حديثة العهد.
والآدوميون ?domites هم أقدم سكان المنطقة المعروفين. ومن القرن الثامن وحتى القرن الخامس ق.م. سيطر هؤلاء على إقليم يحدّه من الشرق البادية ومن الغرب وادي عَربة. وخلفهم الأنباط في موقع البتراء، وقد أطلقوا على هذا الموقع الاسم السامي «الرقيم» (المبرقش) لتعدد ألوان صلصاله: فهو أبيض أو وردي معرَّقُ بالأصفر والأمغر بل والأزرق. ويعلِّل الثراء الأسطوري للكنوز المطمورة شبه الحظر الذي فُرض على الأوروبيين لزيارة الموقع خلال فترة طويلة من القرن التاسع عشر. ولو لم يعتقد السكان المحلّيون أن هذه الأطلال القديمة تحفظ كنوزا قديمة، لما أعاروها أيَّ اهتمام! وكان السويسري <L.J. بوركهاردت> هو أول أوروبي يتجرّأ على اختراق هذا الحظر (1817 – 1784)، عندما كان في مهمة لمصلحة الإمبراطورية البريطانية، حيث تنكَّر بلباس عربي ولقب نفسه الشيخ إبراهيم، ونجح في زيارة البتراء عام 1812، وفي «يوميات رحلته» دوّن انطباعاته الأولى: قبر محفور في الصخر لا يمكن لموقعه وجماله إلا أن يتركا انطباعا خارقا على السائح، بعد أن يكون قد قطع خلال نصف ساعة دربا معتما إلى درجة يبدو وكأنه سرداب… ويُطلق عليه أهل المنطقة اسم «خزنة فرعون»، ويزعمون أنه مقرٌّ أميري قديم والأصح من دون شك أنه قبر أمير، وثراء المدينة القادرة على تشييد صرح بهذه الدهشة ذكرى لملوكها، لا بد أن يكون فاحشا.
لقد صدق بوركهاردت، إذ إن الواجهة الفخمة التي تنكشف في نهاية «السيق» (وهو شق صخري بطول 1200 متر)، كانت تزخرف فيما مضى ضريحا مكونا من ثلاث حُجر جنائزية محفورة في الصلصال من قبل حجّارين اسكندريين. ويمكن أن يعود تاريخ خزنة فرعون إلى عام 40 ق.م. تقريبا. ومن المحتمل أن يكون الأهالي قد دفنوا فيها الملك (مالك الأول) المتوفّى عام 30 ق.م. ومهما كان الأمر، فلا شك في أن الحجرة الكبيرة في الوسط، كانت تحوي ناووسا ملكيا. ولما كان الأثاث الجنائزي الثمين قد أغرى اللصوص، فإن معظم القبور في البتراء خاوية حاليا.
وخزنة فرعون هي بلا شك إحدى أجمل واجهات البتراء. وقبل أن يتحضر الأنباط ويؤسسوا مدينتهم كانوا يعيشون في الخيام. ولم يكن في الموقع الذي اختاروه نبع ماء متدفق، ولكنه تميّز بمناعته، ومن ثم سهولة حمايته. وكانوا يلجؤون إلى أحد المرتفعات الصخرية عندما يلوح تهديد لهم. هذه المرتفعات اشتقت بترا منها اسمها اليوناني (فبترا تعني في اليونانية الصخر). ويظنُّ علماء الآثار أنهم حدّدوا «الصخرة المؤسسة»، حيث كان الرعاة من البدو الأوائل يلتجئون إليها عند الخطر، وهي أم البيارة، الصخرة التي تشرف على الجنوب الغربي للموقع.
يمتدُّ موقع البتراء على عدّة كيلومترات مُرَبَّعة، حيث يجدُّ علماء الآثار في التنقيب منذ عام 1929 بحثا عن البقايا التي خلّفها مستوطنو المدينة القديمة، فاكتشفوا أنها كانت مزوّدة بخزانات، تغذّيها قنوات لتأمين إمدادها بالماء خلال أشهر الصيف. ولكي يتداركوا الأضرار الناجمة عن سيول الأمطار الشتوية كان على أهالي البتراء أيضا أن يقيموا عند مدخل شقّ السيق سدّا ونفقا لتحويل المياه، ويتجنبوا إغراق السيق بفيضانات «وادي موسى».
لم يخلّف لنا الأنباط نصوصا أدبية ولا صكوكا ملكية، فليس بحوزتنا لتعرّفهم سوى شهادات باليونانية أو باللاتينيّة مستوحاة من النقوش النبطية على صخور البتراء، ومن بعض آثار المنطقة (صروح، قطع نقدية، خزفيات، تماثيل، إلخ…). وحتى عهد قريب، أكّدت نتائج الأبحاث فكرة أن الأنباط قد «تهلّنوا»(2) كليّة. ولكن صورة أكثر تنوعا لهذا الشعب ذي التاريخ المشرق أخذت اليوم تتفتح معالمها.
شكل 1: في الموقع حيث بُنيت البتراء، صلصال رملي متعدّد الألوان (في اليسار). و(في اليمين) واجهة فخمة منحوتة في الصخر تبرز من الظل، عندما نغادر السيق، وهو الشقّ الذي يؤدي إلى البتراء. |
ويبدو جليا أن الأنباط كانوا أثرياء، وقد أدرك الاسكندر الكبير هذا الأمر جيدا، إذ إنه في عام 332 ق.م. حاصر مدينة غزّة و ميناءها، حيث كانت التوابل والبخور القادمة من الهند واليمن تشحن إلى أمكنة أخرى و بخاصة إلى بلاد اليونان ومنها إلى روما. وكانت هذه السلع الثمينة تصل إلى غزّة عن «طريق البخور»، الذي يمر بمنطقة البتراء. وبوصفهم قواد قوافل مَهَرَة، سيطر الأنباط إلى درجة كبيرة على هذه التجارة التي كانت مربحة جدا. ومنذ الأزمنة الموغلة في القدم، استعمل البخور في جميع المناطق المطلة على البحر المتوسط كعطر وكذلك في الطقوس الدينيّة؛ وقد نافس الذهب في العالم القديم. والبخور هو مزيج من مواد صمغيّة (راتنج) مقطوفة من عدّة أنواع من الجُنُب التي تنمو فقط في بعض المناطق الجنوبية من شبه الجزيرة العربية (اليمن) وكذلك في شواطئ أفريقية الشرقية (الصومال وأريترية). وقد نظّم منتجو البخور زراعته ليحافظوا على سعر عال لبضاعتهم المرغوبة كثيرا. وكانت قوافل الجمال التي تحمل البخور، تقطع الثلاثة آلاف والسبعمئة كيلومتر من الطريق إلى البحر المتوسط، في نحو 85 يوما. وتحمل كل دابّة تقريبا 200 كيلوغرام من البخور (تبلغ قيمتها نحو 100000 يورو). ولذلك فإن المكوس (الضرائب) وحقوق العبور و الإيرادات أتاحت الإثراء السريع للأنباط، وسمحت في الوقت نفسه بإثارة الكثير من الأطماع نحوهم!
في عام 311 ق.م.، حاول <أنتيجونس الأعور> [أحد خلفاء الاسكندر الكبير] ـ للمرة الأولى ـ أن يخضع الأنباط، عندما استولت قواته على غنيمة عظيمة في البتراء، ولكن الأنباط أغاروا عليهم ليلا في عقر معسكرهم، مكبّدين إياهم خسائر فادحة. وبوصفه شاهدا لهذه الوقائع، ترك لنا المؤرخ اليوناني <هيرُوْنومس دوكارْديا> بهذه المناسبة وصفا للأنباط، ذكره بعد قرنين <ديُودُوْرُوس الصقلّيّ> في مصنّفه «المكتبة التاريخية». وحسب روايته، كان عدد الأنباط حينذاك نحو عشرة آلاف نسمة يعيشون في بقعة لا ماء فيها تقع بين سورية ومصر، يعتاشون أساسا على النهب ويربُّون الخراف والجمال الوحيدة السنم، وقد أحبوا الحرب و شغفوا بالحرية ولم يخضعوا حتى تلك الفترة لسلطة أجنبيّة. كانوا يعيشون في الهواء الطلق، ولم يقيموا مساكن ولم يزرعوا الأرض ولم يشربوا الخمر. ويتوافق وصف المؤلفين اليونانيين مع ما نلحظه لدى بدو الصحراء. ويضيف هؤلاء إن بعض الأنباط كانوا في القرن الثالث ق.م. منخرطين في تجارة البخور والتوابل لمسافات بعيدة.
شكل 2: طريق البخور وطرق قوافل أخرى في الشرق الأوسط، كانت تتقاطع في البتراء. إن موقع المدينة كملتقى لهذه الطرق وشبه احتكار الأنباط لتجارة البخور كانا السبب في ثراء المدينة. |
تجارة البخور على تخوم الصحراء(**)
مَنْ هم الأنباط، ومِنْ أين قدموا؟ تتضارب الآراء حول ذلك. تُسوّغ العناصر الآرامية في لغتهم وثقافتهم إمكانية منبتهم في منطقة الخليج العربي (بلاد الرافدين) وقد تكون القبيلة النبطية الأولى هاجرت باتجاه الشمال الغربي في القرن الرابع ق.م. على أبعد تقدير.
غير أننا نعلم بأن قبيلة قِيدار العربية سيطرت قبل الأنباط على تجارة البخور. وجاء ذكر هذه القبيلة في العهد القديم مع شيخها جَشَم، وهو موصوف كعدو ل«نحميا» الموظف اليهودي الأصل، الذي أرسله الملك الفارسي أرْتحْشَشْتا عام 445 ق.م. لإعادة بناء أسوار القدس التي دمّرت عام 586 ق.م. أحيا «نحميا» مقاطعة يهوذا، وهو أمرلم يلق ترحيب جيران القدس، وفي عدادهم جَشَم. كانت قبيلة قِيْدَار خاضعة لملك الفرس، ولكنها تمتعت باستقلال كبير و حصلت على بعض الامتيازات، لا سيّما الحق في سك النقد في غزّة. وفقدت كل هذا في مطلع القرن الرابع ق.م. بعدما شاركت في تمرّد ضد الفرس، فحلّ محلّها الأنباط. فاستحوذ هؤلاء كذلك على تجارة البخور وحصلوا على إيرادات على مستوى طموحاتهم السياسية و العسكرية والاقتصادية. وبفضل سلطانهم الجديد، حسّنوا سلامة طريق القوافل وأقاموا محطّات ثابتة كانت البتراء من بينها. وتحت إدارة أمير اتّخذ لقب ملك، ازداد شأن الأنباط أكثر فأكثر.
وبحسب رواية هيرونومس، فإن عديدا من الينابيع لم تكن معروفة إلاّ من قبل الأنباط، الذين كانوا يلجؤون إليها في حالة الإغارة عليهم، أما أعداؤهم الذين كانوا يطاردونهم، فكانوا يموتون عطشا قبل العثور عليهم. وكان الرومان أنفسهم ضحايا هذه الاستراتيجية بُعيد تحويلهم المملكتين اليهودية والنبطية إلى دول تابعة لهم، وذلك نحو عام 63 ق.م. وحاولوا كما فعل الإغريق قبلهم احتكار تجارة البخور. وفي عام 25 ق.م.، قدم القائد الروماني <أَيليوس جالوس> على رأس جيش كبير ليقضي على الاحتكار التجاري لدولة سبأ، التي كانت الدولة المسيطرة على جنوب شبه الجزيرة العربية. وقد عرضَ كبير الوزراء النبطي <سيلاّيوس> نفسه ليكون دليلا للحملة، لأنها كانت تخدم مصالحه، إذ إن دولة سبأ راحت تعرقل نقل البخور نحو الشمال منذ قرنٍ تقريبا. وفي الحقيقة لم يكن في نيّة سيلاّيوس أن يسهم في تعزيز السطوة الرومانية، فقاد العشرة آلاف فيلَقِيّ(3) روماني المدججين بالأسلحة إلى مقصدهم، ولكن بعد أن جعلهم يجوبون في الصحراء العديد من الكيلومترات غير الضرورية، فمات كثير منهم، أما من وصلوا معه إلى مقصدهم فكانوا منهكي القوى. لذا، لم يكن بإمكان الجيش سوى تهديم بعض الحصون السبئية التي كانت تحتجز القوافل. وتحوّل المشروع إلى كارثة لا سابق لها بالنسبة إلى روما، إلى درجة أنها صرفت النظر نهائيا عن فكرة احتكار تجارة البخور. وبعد تخلّصها من منافسة الجنوب، ازدهرت أحوال البتراء أكثر من أيّ وقت مضى. وقد انتهى الأمر بسيلاّيوس بعد بضع سنوات بأن يجني عقوبة غدره، عندما تحدى هيرود ملك اليهود وكذلك الوالي الروماني في سورية، مما أدّى إلى إعدامه في روما.
شكل 3 : خريطة مُبسطة للبتراء. |
مكائد وسلام(***)
إذا كان نجاح البتراء يعود بدرجة كبيرة إلى براعة ملوكها، فإنها استفادت أيضا من السلام الذي نشره <أوغسطوس> الذي أصبح ـ قبل سنتين من الحملة ضد مملكة سبأ ـ أول إمبراطور روماني. لقد وحّد أوغسطوس الإمبراطورية وكان عهده فترة سلام وازدهار، كما يشهد على ذلك الجغرافي اليوناني سترابون. وفي وصفه للأنباط، يبدو أن البدو في أصولهم تحولوا إلى ملاّكين أثرياء، وتحول المحاربون إلى تجار. وأضحت البتراء بريازتها(4) اليونانية الطابع، محط أنظار تجّار ورحّالة وعلماء العالَم اليوناني ـ الروماني، يضاف إلى ذلك أن كرم الضيافة العربية وفّر لهؤلاء إقامة ممتعة. غير أن الكتّاب اليونانيين حكموا بغير رويّة على الحاضرة العربية ووقعوا في الخطأ حول عدة نواح. ولا شك في أن وصفهم للبتراء ولسكانها هو جزئيا مسؤول عن الأحكام الخاطئة الموجّهة اليوم للأنباط.
بلا ريب كانت البتراء مدينة بالمعنى اليوناني للكلمة، أي مركزا إداريا وشعائريا، ولكنها كانت قبل كل شيء مقرَّ قبيلة، أي مكان الإقامة المعتاد للملك، ومقام إله القبيلة المعبود «ذو الشرى». كانت الملكية النبطيّة وراثية، ولكنها لم تكن مطلقة، إذ إنه كان على الملك أن يقدّم حسابا عن إدارته أمام المجالس القبليّة. إضافة إلى ذلك، وجب عليه أن يسبغ الهبات والعطايا على الشخصيات ذات الشأن، وأن يقيم لهم ولائم وأن يعهد إليهم بمناصب في الإدارة. ومع أنهم أضحوا تجارا أو مالكي منازل، لم يتخلَّ الأنباط عن تقاليدهم وشرائعهم البدوية. ويبدو أن فرعاً منهم فقط قد استقرَّ ليمارس الزراعة والتجارة. أما الآخرون، فقد تابعوا التنقل إما لرعي قطعان مواشيهم وإما لمواكبة القوافل. ويعود الحكم بالعدل إلى مجلس القدامى أو جمعية شعبية. وأخيرا، كانت الأرباح والغنائم تُوزّع تبعا للمقام الاجتماعي للفرد، مما يفسّر من دون شك غزارة القبور المزخرفة بواجهات فخمة، التي عمل الأنباط على حفرها في الصخور.
كانت البتراء تشكّل على الأرجح نوعا من السوق المالية (البورصة) حيث كان سعر البخور يتحدّد وتعقد الصفقات التجارية. وكان يجري فيها تبادل بضائع أخرى، لا سيّما الغلال الزراعية. وحسب المصادر اليونانية، أعار الأنباط اعتبارا رفيعا لكلِّ من أسهم في إغناء الجماعة أو ثروته الخاصة. في حين أنهم أدانوا و عاقبوا جميع من كان إهمالهم أو كسلهم سببا في تدهور المراعي أو المزارع، أو أراضي القبيلة الزراعية. ففي مملكة جميع مواردها تقريبا من الصحراء، يعتبر حيويا كل مورد مهما صغر.
يتحدّد الوضع الاجتماعي للنبطيّ بمقدار امتلاكه قطعان الماشية و الأراضي الزراعية. ومهما كانت مكانته، فلا يحيا النبطيّ حياة جيدة إلا إن كانت قبيلته كذلك. ولا يبدو أن الرقّ في المجتمع النبطيّ أدى دورا بتلك الأهمية كالذي رأيناه في المجتمعات العربية اللاحقة، أو كما كان الأمر لدى الرومان أيام سترابون. ومع ذلك، فقد وُجِدت تباينات اجتماعية كبيرة ما بين الفلاحين المستعبَدين لاسيّما في المناطق التي كانت تعبرها الطرق التجارية، و ما بين وجهاء القبيلة. ومع ذلك، لم يعثر علماء الآثار على أي دليل لصراع بين الطبقات الاجتماعية. وتشهد بعض النقوش على الهبات التي منحها وجهاء القبيلة الأثرياء ليحسّنوا وضع الفلاّحين، مثل تمويل منظومات الريّ. وعلى الأرجح فإن هذه الهبات كانت شكلا من أشكال الضريبة.
أول أطلس (أثري) للبتراء(****)
كيف يمكن دراسة موقع مُعَقَّد كالبتراء من دون مُصَوَّر. فمنذ أن اكتشفها الغربيون في عام 1812، حاول علماء الآثار تصوير المدينة النبطية. لقد كانت المهمة فائقة الحد، إذ إن الموقع يشتمل على 3200 آبدة تقريبا ونحو 200 مركز نقوشي تعرض ما مجموعه نحو 1000 نقش! وكان عالما الآثار الألمانيان< بُرُونو> و< فون دُوْماسْزفسكي>، وفيما بعد النمساوي <دَالمان> روَّاد هذا العمل المنهجي. لقد نشروا الفهارس الأولى عامي 1904 و 1908. وفي هذين التصنيفين، تمَّ وَصْف ووضع خرائط مُبسَّطة لنحو 1600 موقع، معظمها من القبور والمعابد. ولسوء الحظ، لم تُغْرِ متابعة هذا الجهد الضروري من خلفهم إلا قليلا، وقد فضّل هؤلاء نبش بعض صروح البتراء المدهشة. وخلال القرن العشرين، تمت إضافة 230 صرحا إلى قوائم الجرد الأولى. لذا فإن فريق «تاريخ وعلم آثار سورية الجنوبية و البتراء» التابع «للمركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية (CNRS) حرص كثيرا على أن يكمل الإحصاء المنهجي لآثار عاصمة الأنباط. ويوشك المشروع أن يصل إلى نهايته. وقد استفاد هذا الفريق من سلسلة من 197 صورة من الجو التقطها عام 1974 «المعهد الجغرافي الوطني» في نطاق أول مشروع خرائطي أثري لموقع البتراء. والصور (بنسبة 1/ 10000) ممتازة وتغطي كامل حوض البتراء. وفي عام 1977، تمَّ عمل خريطة تربط بين هذه الصور بعد تعديلها، فيما تمكّنت أول بعثة ميدانية من تعيين معالم الصروح. بعد تصميم خريطة أولية من قِبَل مهندس في «المعهد الجغرافي الوطني»، جاءت عدّة بعثات إلى الموقع بين عامي 1988 و 1997: حيث جرى تسجيل منهجي للآثار. وقد تم تصوير ووصف كل أثر، من أصغرها كـ (بيت آيل) بقياس 3سم x 6سم، إلى أكبرها كقبر ذي طوابق، بارتفاع 46 مترا وعرض 49 مترا، كما حُدّدت بدقّة إحداثيات الأثر الجغرافية. وسمحت أعمال الريادة هذه بإضافة 1400 آبدة جديدة إلى تلك المعروفة سابقا. وقد أدخلت هذه المعلومات المُجمعة في قاعدة بيانات تشتمل على مختلف المعلومات المتوافرة الخاصة بالبتراء: الأوابد، النقوش، المستندات المرجعية، إلخ… وأخيرا تمَّ وضع خرائط لسائر صروح البتراء ونقوشها. وقريبا سينشر كل ذلك على شكل أطلس مزود بشروح. ونتوقع أن يصبح هذا الأطلس أداة عمل ضرورية لعلماء الآثار المهتمّين بالأنباط، مما سيتيح لهم أن يفهموا بشكل أفضل: تاريخ العاصمة النبطية وتطورها وتنظيمها المكاني. وبفضل الخريطة الأثرية، سيتمكن علماء الآثار على سبيل المثال، من تحديد اتّساع المدينة بدقة ومقارنة عصور بناء مجموعات الصروح وتحديد طبيعة مهنة كل من القطاعات الطوبوغرافية للموقع وبيان نوع العلاقات التي أقامتها شتى أنواع الآثار فيما بينها. وقد صار جليا أن التداخل المدهش بين المساكن والمقابر والمعابد، له علاقة بتناوب مراحل تراجع النسيج المديني وتطوره. وتُظهر الخريطة أيضاً أن بعض السمات الثقافية الخاصة بالأنباط ـ الرغبة الجليّة والتفاخرية بأن يجلبوا الانتباه ـ وكذلك متطلّبات بيئة قاسية، أدت أيضا دورا كبيرا في تنظيم المدينة. ليلى نعمة، مختبر الدراسات السامية القديمة المركز الوطني للأبحاث العلمية (CNRS)، باريس |
ونظرا لعدم امتلاك الأنباط للعبيد راحوا يعرضون نجاحاتهم بوسائل أخرى. وبما أن الثراء لم يكن لديهم سوى دلالة على الحظوة الإلهيّة، فقد أخذوا منذ نهاية القرن الأول ق.م. في تشييد الهياكل وفي تجسيد آلهتهم. وفي الواقع، فحتى تلك الفترة كانت آلهتهم على شكل كتل حجرية منحوتة، بحجم متر وبضعة سنتيمترات، وأطلقوا عليها اسم بيتيل (بيت إيل). وفي الفترة نفسها، أكّدت عدة شعوب أخرى في الشرق الأدنى سيادتها بإقامة معابد باذخة، مثال ذلك حي الهيكل بالقدس أو تدمر بسورية.
وفي أوج سطوتهم فقط شيّد الأنباط مساكن حجرية، على الرغم من أنهم كانوا يفضلون عليها الخيم والكهوف التي جعلوها باذخة. وقد نافس فن العمارة وزخرفة المساكن لدى الأنباط ما وجدناه في دارات (ڤيلات) روما أو بومبي، التي مازالت حتى اليوم تجتذب السياح الذين تشدهم زخرفة جصّها الملون وجدارياتها الخدّاعة. ونجد في نقوشها أسماء عدّة فنّانين محليين. وهذا يتناقض مع ما زعمه سترابون بأن جميع الأعمال الفنّية الماثلة في البتراء هي أجنبية المنشأ؛ وكسائر الإغريق، اعتبر هذا الجغرافي الأنباطَ برابرة. وكذلك الحال مع علماء آثار القرنين التاسع عشر والعشرين، الذين نظروا إلى الفن النبطيّ كانتحال للفن اليوناني أو الروماني. ولكن بالتدريج، أدرك علماء الآثار ومؤرخو الفن أنه كان لفنّاني البتراء القديمة أسلوبهم الأصيل. وبالتأكيد، انطلق هؤلاء من عناصر يونانية أو رومانية سابقة الوجود، لكنهم ابتكروا ما يعرف حاليا باسم «الأسلوب النبطيّ.»
لم تكن البتراء الموقع النبطيّ الوحيد الذي شهد مرحلة تشييد أبنية فخمة: إذ ظهرت قرى في البادية، بمحاذاة الطرق التجارية الواقعة في منطقة النفوذ النبطيّ، واتّسعت بلدات صغيرة لتتحوّل إلى مراكز إدارية. وخلال هذه المرحلة من التمدين الكبير، سيطر الأنباط على عدة مناطق واقعة شمالي البتراء، وعرفت مملكتهم حينذاك اتساعها الأكبر، فامتدت من شمال غرب شبه الجزيرة العربية، على مسافة قصيرة من شمال المدينة المنورة إلى مِدْيَن (شمال السلسلة الجبليّة الممتدّة على طول ساحل البحر الأحمر في شبه الجزيرة العربيّة)، وإلى سيناء والنقب ومؤاب لتصل إلى حوران في جنوب سورية (باستثناء المدن الواقعة بين الجولان وعمّان الحالية). وإذا رسمنا المملكة على مصور حديث، فإنها تغطّي أجزاء من كل من المملكة العربية السعودية ومصر وفلسطين والأردن وسورية. ففي أوجهم شغل الأنباط قلب العالم العربي. أما لغتهم، فكانت بين الآرامية «الإمبراطورية» الشائعة في العصر الفارسي والعربية النموذجية، وأضحت اللغة الإدارية لعديد من شعوب الشرق الأدنى. لذا لم يكن المؤرخون دائما على يقين إذا نسبوا نصا بالنبطية إلى الأنباط.
وبعد قرن، أي في مطلع القرن الثاني للميلاد، تعرّض سكان الحاضرة الكهفيّة إلى ظرف سياسي طارئ: إذ فقدت مملكتهم استقلالها وأضحت ولاية رومانية، اشتهرت ب«العربية». وقد بانت نُذر هذا التحوّل منذ فترة طويلة. فما بين عامي 60 و 70 ونتيجة لثورة اليهود، فقدت يهوذا التي أضحت ولاية رومانية في عام 6، ولكنها احتفظت بنوع من الحكم الذاتي، فقدت كل ما بقي لها من استقلال. وأخذت روما تقترب… ومما لاشك فيه أن التهديد الذي أخذ رب إيل الثاني، آخر ملك نبطيّ 70 – 106، يشعر بخطره على مملكته، يفسّر لنا لماذا بذل هذا الملك جلَّ جهده لتدعيم المظاهر العربية في الثقافة والديانة النبطيتين، وذلك سعيا لمقاومة القِيم اليونانية ـ الرومانية. وقد أعلن أن «ذو الشرى» إله البتراء، صار أيضا الإله الحامي للملك ولسائر الأنباط. وحظيت معابد نبطية قديمة في الهواء الطلق بأهمية تضاهي بل تفوق أهمية الهياكل وأسهمت في تألّق المملكة.
انعكست العودة إلى تبجيل الآلهة المتمثلة بشكل «بيتيل/ بيت إيل»، في أسماء الآلهة. ففي مختلف أرجاء المملكة، صار بإمكان أيّ نبطيّ أن يلتقي «ذو الشرى» وأن يوقّره في معابد شتى، وإن كانت تلك المعابد خاصة بآلهة محليَّة. وسعى رب إيل الثاني إلى أن يشدَّ الأنباط إلى البتراء وأن يحوّل المملكة القبلية إلى دولة حقيقية.
مكتشفات في قصر البنت(*****)
إن قصر البنت هو الهيكل الأفضل حِفظا في البتراء. منذ عام 1999، تقوم بعثة أثرية فرنسية بدراسة القسم الغربي لسوره (المعروف باسم تِمِنُوس «فناء مقدّس لمعبد يحيط بالهيكل») حيث يقوم المعبد. وقد اكتشف علماء الآثار قاعة فخمة ـ المصطبة ـ مبنية في القرن الثاني للميلاد ضمن الجدار الغربي لذلك السور. وحوى هذا البنيان تمثال تُوْخِة (ربّة الحظّ) النصفي المشاهد أدناه وهو من الصلصال الرملي المحلي. وهذه المصطبة ذات الطابع الفخري منذورة على الأرجح للأسرة الإمبراطورية الرومانية. يحيّر اكتشاف آخر الباحثين: فالمذبح الكبير المقام أمام الهيكل كان موصولا بشبكة أساسية من القنوات اكتشفوها تحت أرضية السور المقدّس، ولم تُحدّد وظيفته حتى اليوم. وشرع علماء الآثار أيضا في تنقيب صرح نبطيّ كبير، يقع في الجهة الأخرى لصرح الهيكل: قد يكون له وظيفة رسمية. ونأمل أن توفر لنا متابعة الحفريات إيضاحات عن الأوضاع الأكثر قِدَمَا، وبخاصة حول تنظيم كامل المعبد في العصر النبطيّ. ويودّ علماء الآثار بوجه خاص أن يعرفوا التاريخ الذي تم فيه بناء مختلف صروح المجموعة الآثارية الواسعة، وما هي وظائفها. <C. أُوجه>، المركز الوطني للأبحاث العلمية (CNRS) دار علم الآثار وعلم السلالات البشرية «إثْنُولوجية»، نَانْتِر. |
هل أثار الأنباط كاليهود، انتفاضة ضد روما؟ هل أرادت المملكة النبطية أن تتخلّى عن وضعها كدولة تابعة؟ إننا نجهل ذلك. على كل، ففي عام 106، زحف بغتة فيلقان رومانيان على المملكة النبطية وألحقاها بالدولة الرومانية. و أُعْلِن الاحتلال رسميا فقط بعد خمس سنوات والهدف من ذلك من دون شك، هو عدم إلقاء ظلال على انتصار الإمبراطور <تريانوس> على الداكيين- 117) (98، (داكية هي رومانيا الحالية). ومع ذلك باشرت الإدارة العسكرية الرومانية العمل فورا، فتم إنشاء طرق منصوبة الصوى وعلامات المسافات في مختلف أطراف البلد، لاسيّما بمحاذاة الطريق الترايانية (نسبة إلى الإمبراطور تريانوس) الجديدة، التي تربط بين بصرى في سورية وإيلات على خليج العقبة. و تطوّرت عدة قرى لتصبح مدنا. لم ينبس المؤرخون ببنت شفة حول مصير الأسرة الملكية النبطيّة. فبعد حرمانها من نخبها السياسية وفقدان سيطرتها على تجارة البخور، فقدت القبيلة بسرعة أهميتها وامتزجت مع غيرها من السكان العرب.
بيد أن البتراء عرفت كيف تتكيّف مع الوضع الجديد. ويبدو أنها صارت عاصمة الولاية الجديدة (مازال ذلك موضع شك، إذ إن مدينة بصرى التي كانت مقرّ فيلق الولاية الروماني كان يمكن أن تؤدي ذلك الدور أيضا). وعلى القطع النقدية للمدينة، حلّت ربَّة الحظ اليونانية <تُوخِة> محل الزوجَيْن الملكيين النبطيين.
اشتهرت البتراء بكونها مدينة رومانية ذات حكم محلي ولها مجلس بلدي وقاعة اجتماعات (يعتقد علماء الآثار أنهم عثروا عليها في قلب المدينة، في «المعبد الكبير.» ففي عام 1997، تمّ الكشف في هذا المجمّع الأثري التذكاري عن مسرح كبير، إلى درجة أنه يستوعب جميع أعضاء المجلس الاستشاري في ذلك العصر، وهم نحو 600 شخص. إضافة إلى ذلك، يبدو أن هذا المُجَمّع كان في الأصل هيكلا أو قصرا ملكيا. وإن صحّ هذا التفسير، فمعنى ذلك، أننا حيال مثال استثنائي لمعبد حوّله الرومان إلى مكان لاجتماع إدارة البلدية.
لقد حاول الإمبراطور <تريانوس> أن يعزز الطابع الروماني للبتراء، فحوّل الشارع الموكبي القديم المحاذي لوادي موسى إلى شارع بصفي أعمدة وعلى جانبيه أرصفة مغطاة مع حوانيت صغيرة. كما بنى جسرا فخما يؤدي إلى السطح الأعلى، حيثُ يقع السوق. ونرى نقشا يعود إلى عام 114 (وهو عام التدشين) على قوس جعل البتراء تحظى بلقب «حاضرة شبه الجزيرة العربية». أما باب الفناء (الحرم المقدس)، المنشأ فوق بناء أكثر قدما، فقد أُقِيم في عهد تريانوس أو في عهد خلفه هادريانوس، وكان يؤدي، عبر ثلاث فتحات يمكن إغلاقها، إلى النطاق المقدس، حيث ينتصب الهيكل الرئيسي للبتراء، وهو قصر البنت (انظر الشكل في الصفحة 21). وزُخْرِفت الأعمدة (العضادات) بمنقوشات تمثل آلهة وجنّا حارسة.
جمع مياه الأمطار(******)
قناة ماء (في اليسار) وهي عداد الشبكة المائية الممتدة من نبع موسى، وفي اليمين تظهر بقايا أحد خزانات البتراء الواسعة كيف أمكن لحاضرة أن تنشأ وتتطوّر في وسط قاحل جاف؟ السبب هو أن الأنباط كانوا بارعين إلى حد كبير بالتقنيّات الهيدروليكية (جر المياه وتخزينها)، حيث كانت شبكة قنوات عديدة تسيّر السائل الثمين إلى مركز المدينة ،من ينابيع دائمة التدفق تنبجس على بعد عدة كيلومترات من البتراء، عند سفوح الجبال التي تحيط بالمدينة من الشرق والجنوب. وتجر إحدى هذه القنوات مياه نبع موسى، الواقع عند مدخل قرية وادي موسى الحالية. وبوساطة قناة محفورة في الصخر وقناطر، تعبر هذه القناة مرتفعات الخُبْثَة لتصبّ في خزان بحجم (300م3) قرب «القبر المتعدد الطوابق». وكانت هذه القناة وحدها تجرّ نحو مليون ونصف المليون لتر من المياه إلى خزانات المدينة. إضافة إلى شبكتين، كل واحدة من طرفي السيق، لتوزيع المياه المخزونة في خزانين واسعين، يغذيهما على الأرجح نبع موسى. ونلاحظ أن شبكة الطرف اليميني مصنوعة من أنابيب فخارية متصلة وراسية على المِلاط. وتجرّ قناة أخرى مياه نبع براك، الواقع جنوب ـ شرق المدينة، إلى حوض قريب من المصطبة التي تحيط بها نحيتة فخمة على شكل أسد يطلُّ على وادي فراسة. ويؤدي فرع ثان إلى قِطاع قصر البنت. وأخيرا، فلكي يكملوا مواردهم المائية، خزّن الأنباط مياه الأمطار الشتوية في خزانات. طبعا سدّت المياه المُجمعة بهذه الطريقة، الحاجات اليومية لأهالي المدينة؛ ولكن ندرتها على هذا النحو أكسبتها بعدا دينيا: فكانت الآلهة تُحْمَدُ في كل بقعة يرشح السائل النفيس الحيوي من صدوع الجُرف فيها. قناة ماء ( في اليسار ) وهي في عداد الشبكة المائية الممتدة من نبع موسى. وفي اليمين تظهر بقايا أحد خزانات البتراء الواسعة. |
ما عدا تلك الصروح و هيكل حوريات الماء، لم يخلّف الرومان إلاّ بعض البقايا في البتراء، وهذا مدهش إذا أخذنا بعين الاعتبار أهمية المدينة كمركز إداري للولاية. فقد ظلّت شروط السكنى تقليدية. وكدليل آخر على استمرار التقاليد النبطيّة، هو أن <أنِينيوس سِكْستِيوس فُلُورنْتينوس> [حاكم الولاية الروماني] دُفن عام 127، في قبر منحوت في الصخر، من الممكن أن يكون لأسرة نبطيّة ثريّة. وتشهد الإهداءات إلى الآلهة الرومانية وكذلك تماثيل الآلهة والأباطرة الرومان على هيمنة السادة الجُدُد. وتحت حكمهم ظلّت البتراء مركزا تجاريا مهما، ولكن قسماً من الأرباح التجارية كان يذهب إلى خزائن مدن أخرى أو إلى خزانة الدولة الرومانية.
وفي مطلع القرن الثالث، عندما اهتم السِفِرِيّون (سلالة من الأباطرة الرومان) بعدة مدن في المقاطعات الشرقية، لم يعيروا اهتماما كبيرا للبتراء: إذ إنها لم تحصل إلا على بناء سبيل ماء وعلى نظام ضريبي خاص بمستعمرة رومانية. وبدا واضحا أن المدينة فقدت أهميتها. وقد زادت في الركود المحلي الأزمةُ الاقتصادية العامة التي أصابت الإمبراطورية الرومانية حينذاك. وعندما ضرب زلزال المدينة عام 363، لم تكن الإمكانات المالية المتوافرة كافية لإعادة بنائها مثلما كانت عليه.
انحطاط البتراء(*******)
في نهاية القرن الثالث، كان لإصلاحات ديوقِلِتيانوس عواقب وخيمة على البتراء، التي فقدت وضعها بوصفها عاصمة ولاية، وذلك لمصلحة بصرى. ولم يتغير أي شيء اعتبارا من عام 330 مع انهيار روما وانتقال شبه الجزيرة العربية إلى الجزء البيزنطي للإمبراطورية مع القسطنطينيّة كعاصمة. وفقط في عام 358 أمكن للبتراء أن تستعيد وضعها السياسي الرسمي، وذلك مع تكوين ولاية «فلسطين الطيبة(5)» («فلسطين الثالثة(6)» اعتبارا من عام 440)، التي تشتمل على جنوب ولاية شبه الجزيرة العربية وبعض أطراف النقب، حيث صارت البتراء عاصمتها. وبعد أن رفع قسطنطين الأول (337 – 280) المسيحية إلى مرتبة ديانة دولة(7) في الإمبراطورية الرومانية، راحت تظهر بوادر المسيحية في البتراء. وَوَضعُ البتراء كعاصمة وتبعيتها إلى «الأرض المقدسة»، ولا سيما وجود قبر هارون (أخي موسى) على جبل هارون، كل ذلك حفّزها إلى اعتناق المسيحية. وقد أرسل إليها أساقفة ليحاولوا هداية الأهالي إلى المسيحية، ولكن من دون جدوى على ما يبدو، فقد أصرّ أعيانها على تمسكهم بمعتقداتهم القديمة. وفقط في منتصف القرن الخامس بدأت المسيحية تفرض وجودها. ففي عام 446، حوَّل الأسقف ياسون قبر ملك نبطيّ قديم إلى كاتدرائية. وإلى منتصف القرن الخامس، يرجع تاريخ بازيليك(8) مزخرفة بالفسيفساء زخرفة رائعة، وكذلك كنيسة أكثر تواضعا، تمَّ اكتشافهما خلال تسعينات القرن العشرين في الوسط المديني للبتراء، على الضفة الشمالية لوادي موسى.
شكل 4: الدير يقع على مرتفع. في الأصل كان معبدا نبطيّا ثم استخدمته الكنيسة، مما يفسّر اسمه. |
وفي عام 1993، كُشف النقاب في البازيليك عن بقايا متكلِّسة لعدد من الوثائق الخاصة المكتوبة باليونانية على 152 لفة من ورق البردي. وهذه الوثائق، التي هي حاليا قيد الدراسة، توفر معلومات عن الوضع الاقتصادي للمدينة وضواحيها في القرن السادس. وخلافا لما كان يُظنّ، تَرافَق وصول المسيحية مع نمو اقتصادي استمرّ خلال القرن السادس. ولكن ذلك لم يمنع من أن تصير البتراء في تلك الفترة، مكان النفي المفضل للمجرمين والهراطقة. وفي نهاية القرن السادس، تغيّر الوضع مرة أخرى، كما يشهد على ذلك استعمال الجناح الجنوبي للبازيليك مؤقتا مستودعا في أثناء حريق شبّ في الوثائق المخزونة في مُصلى جانبي.
ومع أنهم لم يخلفوا آثارا ملموسة لمرورهم بالبتراء، يمكننا أن نفترض أن جماعة من البدو تملّكوا الخرائب القديمة للبتراء وحافظوا عليها خلال قرون، ومنعوا الأجانب من دخولها. وقد غادر أخلافهم المدينة القديمة منذ نحو عشرين سنة ليقيموا في قرية مستحدثة شيدوها على قمة ممر جبلي يشرف على الموقع. وصار هؤلاء مديري فنادق أو مَقاه، أو حرفيين يدويين أو بائعي تحف تذكارية، ولديهم حاليا أحصنة تُسْتَخدم دواب للسياح. لقد أصبحت مصدرَ رزقهم تركةُ إحدى أوائل الدول العربية الكبرى. ▪
المؤلف
Robert Wenning
عالم آثار وباحث علمي في جامعة إيشتات الكاثولوكية
مراجع للاستزادة
J. STARCKY, Petra et 1a Nahatene, editions H. Cazelle et A. Feuillet, Dictionnaire de la Bible, supplement 7, col. 886-1017,1996.
L. NEHME et F. VILLENEUVE, Petra, Metropole de l’Arabie antique, Le Seui1,1999.
Chr. AUGE et J.-M. DENTZER, Petra, La cite des caravanes, Decouvertes Gallimard,1999.
Petra. Dernieres nouvelles de la cite rose, in Le monde de la Bible, n° 127, mai-juin 2000.
J. HFALEY, The Religion of the Nabataeans, editions Brill, Leiden, 2001
Pour la Science No. 286
(*) PÉTRA, UNE CAPITALE AUX CONFINS DU DÉSERT
(**)Marché de l’encens aux confins du désert
(***) Ruses et paix
(****) Le premier atlas archéologique de pétra
(*****) Trouvailles au Qast al-Bint
(******) La collecte des eaux de pluie
(*******) Le déclin de Pétra
(1) Indiana Jones et La dernière croisade
(2) هَلّنه: جعله إغريقيا شكلا أو ثقافة.
(3) جندي فيلق أو فرقة أجنبية.
(4) فن عمارتها.
(5) Palaestina Salutaris
(6) Palaestina Tertia
(7) حيث سمح قسطنطين الأول للمسيحيين بممارسة شعائرهم بشكل علني، وبذا صارت المسيحية ديانة كغيرها من ديانات الإمبراطورية الرومانية. والإمبراطور ثيودوسيوس الأول الكبير، (395 – 379) هو الذي أصدر عام 380 مرسوما رفع المسيحية إلى مرتبة الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. هذا وفي عام 392، حُرِّمت الوثنية و أُغلقت معابدها أو حولّت إلى كنائس مسيحية.
(8) يطلق هذا الاسم في عصرنا على كنيسة مسيحية مركزية. (التحرير)