زيادة الوقت المتاح
في إيقاف مؤقت لمظاهر الحياة(*)
إن القدرة على إيقاف مؤقت لفعاليات الجسم البشري، قد تسمح
بوقاية ضحايا الإصابات البالغة أو بحفظ الأعضاء المتبرع بها
المعدّة للغرس. ترى هل تكمن فينا بالفعل القدرة على إيقاف
ساعاتنا البيولوجية وإعادة تشغيلها من جديد؟
<B.M. روث> ـ <T. نيستل>
لطالما استحوذ على فكر كتاب الأدب الخيالي إمكانية الحفاظ على الحياة البشرية في حالات التوقف المؤقت لمظاهر الحياة(1). ففي روايات الخيال يمكن أن «ينام» أبطال القصة قرونا عديدة في رحلاتهم بين النجوم أو خلال تعرضهم لطامّات طبيعية كبرى، ليستيقظوا من دون أن يعتريهم أي تأثر بمرور الزمن. وتبعث هذه القصص قدرا كبيرا من المتعة في النفوس، غير أن تحقيقها بيولوجيا أمر بعيد المنال. وفي الواقع، لا يبدو أن بمقدورنا كبشر أن نغير من سرعة تقدمنا في مراحل الحياة؛ فليس بوسعنا إيقاف الفعالية المندفعة لخلايانا، كما ليس باستطاعتنا إيقاف تنفسنا فترة تتجاوز دقائق قليلة من دون أن يتسبب ذلك في تخريب شديد للأعضاء الرئيسية للجسم.
إلا أن الطبيعة تزخر بكائنات تستطيع توقيف عملياتها الحياتية الأساسية ثم العودة إليها. وقد يدوم هذا التوقيف في بعض الأمثلة سنوات عدة. ويصف العلماء هذه الظواهر بمصطلحات مختلفة مثل: الهمود quiescence والفتور torpor والسُّبات الشتوي hibernation، وتمثل جميعها درجات مختلفة من وقف مؤقت لمظاهر الحياة يتسم بخفض شديد في كل من إنتاج الطاقة (الاستقلاب(2) metabolism) واستهلاك الطاقة (النشاط الخلوي). وفضلا عن ذلك، تتمتع تلك الكائنات وهي تمر بهذه الحالة بمقاومة غير مألوفة للظروف البيئية القاسية، مثل درجات الحرارة المفرطة والحرمان من الأكسجين، بل حتى الإصابات البدنية.
ولنترك سيناريوهات الخيال العلمي جانبا؛ فإن أمكن وضع الجسم البشري في مثل هذه الحالة (حالة وقف مؤقت لمظاهر الحياة)، فإن ذلك سيعود على الطب بفوائد هائلة. فعلى سبيل المثال، يمكن لبعض الأعضاء البشرية التي يراد استخدامها للاغتراس، مثل القلب والرئة، أن تبقى حية خارج الجسم مدة لا تتجاوز ست ساعات؛ فيما يمكن لأعضاء أخرى، مثل الپنكرياس والكلية، أن تبقى مدة لا تزيد على يوم واحد. ومن هنا كان نجاح نقل الأعضاء يعتمد على السرعة، وهو ما قد يعني في بعض الحالات ضرورة التساهل في التحقق من توافق النُّسُج بسبب قصر الوقت اللازم لغرس (زرع) العضو قبل تلفه. وفي الوقت الذي يتم فيه بنجاح كل عام غرس عشرات الألوف من الأعضاء في الولايات المتحدة وحدها، فإن الاستعجال فيه قد يؤدي إلى أخطاء كان من الممكن تجنبها لو توافر المزيد من الوقت.
فإذا أمكن وضع هذه الأعضاء الثمينة في حالة حياة معلقة، فقد تواصل حيويتها بعد ذلك أياما أو حتى أسابيع. ويمكن أيضا لفرق الطوارئ الطبية الاستفادة من هذا الأسلوب لكسب الكثير من الوقت لصالح ضحايا الرضوح الشديدة والحالات الحرجة؛ إذ إن وضع هؤلاء المرضى في حالة وقف مؤقت لمظاهر الحياة قد يقي نُسجهم من التلف في الوقت الذي يعمل فيه الأطباء على ترميم إصاباتهم.
التغلب على الساعة(**)
تصبح الأعضاء عرضة للتلف الإقفاري(3) حالما ينقطع عنها الإمداد الدموي من المتبرع. وحتى بعد تسريب محاليل حافظة ومواد كيميائية باردة في هذه الأعضاء وتبريدها الشديد أثناء نقلها، فإنها تفشل في أداء وظائفها إذا مر وقت طويل قبل غرسها. وتعرف مدة العيوشية viability التي تتيح البقيا بأنها «الزمن المقبول طبيا للإقفار البارد» acceptable cold ischemic time. ووفقا لمعلومات «الشبكة المتحدة للتشارك في الأعضاء»، فإن 3216 عضوا من الأعضاء التي تم إنعاشها في السنة الماضية (2004) لم تستعمل. ويردُّ ذلك إلى أن هذه الأعضاء لم تكن مطابقة لنسج المتلقي أو إلى أنها لم تنقل إليه في الوقت المناسب.
|
وقد أوضحت الدراسات التي أجريت مؤخرا في مختبرنا بمركز<F. هتشنسون> لأبحاث السرطان في سياتل، إلى جانب ما أجراه باحثون آخرون، أن من الممكن ـ عند الطلب ـ تحريض حالات تُماثل السبات الشتوي لدى الحيوانات التي لا تدخل فيها بشكل طبيعي. وإلى جانب ذلك، يبدو أن هذه الحيوانات تصبح محميّة من التأثيرات المعهودة لنقص الدم، كالحرمان من الأكسجين، عندما تكون في حالتها المعلقة. وتظهر هذه النتائج احتمالا مثيرا، ألا وهو إمكانية حدوث تعليق مظاهر الحياة لدى البشر أيضا. وفي الحقيقة تشير الطرق التي استخدمها فريقنا لتحريض الحياة المعلقة في حيوانات المختبر وفي بعض النسج البشرية إلى أن هذه القدرة قد تكون كامنة في الكثير من الكائنات عن طريق آلية متجذرة فيها منذ الأيام الأولى للحياة الميكروبية على وجه الأرض.
البقاء للأبطأ(***)
إن المخلوقات المتنوعة المعروفة بقدرتها على توقيف بعض أو معظم فعالياتها الخلوية تفعل ذلك استجابة لِشدّات بيئية، وتبقى تلك الفعاليات «متوقفة» حتى تزول تلك الشِّدّات. فلو أخذنا مثالا على ذلك بذور النباتات في تطورها، فإنها تستطيع البقاء هاجعة في التربة سنوات حتى تصبح الظروف المحيطة بها مشجعة على الإنبات، وشبيه بذلك ما يحدث لدى أجنة نوع من الإربيان(4) الذي يعيش في المياه المالحة وهو الأرتميات الفرنسية Artemia franciscana، التي اعتاد الناس على تسميتها قرود البحر(5). فهي تستطيع العيش مدة تزيد على خمس سنوات من دون أي طعام أو ماء أو أكسجين، وذلك بدخولها في حالة شبيهة بحالة البذور تدعى الهمود، وتكون خلاياها خلال ذلك متوقفة الفعالية عمليا. وما إن يتعرض ذلك النوع من الإربيان ثانية للبيئة الطبيعية حتى يعاود التطور الطبيعي نحو البلوغ.
ويمكن أن تتفاوت الحالات الشبيهة بالحياة المعلقة من حالات تكون فيها الحياة متوقفة تماما ـ بمعنى توقف كافة أشكال الحركة التي يمكن مراقبتها بالمجهر داخل الخلايا ـ وبين حالات تتواصل فيها الفعاليات الخلوية ولكن بمعدل شديد البطء. وهناك على سبيل المثال، تشكيلة من الحيوانات البالغة تستطيع خفض حاجاتها من الهواء ومن الغذاء خفضا شديدا فترات طويلة أثناء السبات الشتوي، فلا نكاد نشعر بتنفسها أو بنظم قلبها، وتنخفض درجة حرارة أجسادها قريبا من درجة التجمد، ولا تستهلك خلاياها إلا قدرا ضئيلا جدا من الطاقة. إن السناجيب الأرضية وعشرات من أنواع الحيوانات الثديية تقضي أشهر الشتاء الباردة كل عام في هذه الحالة؛ فيما تأوي حيوانات أخرى، مثل بعض ضروب الضفادع والسمندل والأسماك، خلال أشهر الصيف الحارة إلى حالة مشابهة تسمى التصييف(6).
إن القدرة على البقيا حتى مع الحرمان مدة طويلة من الأكسجين، وهي قدرة تكتسبها هذه الكائنات عن طريق خفض كبير لاحتياجاتها إلى الطاقة وإنتاجها لها، تمثل نقيضا صارخا للحالة السوية لدى البشر. فنحن البشر نعتمد اعتمادا تاما على الإمداد المستمر بالأكسجين، لأن خلايانا تحتاج إليه لمواصلة إنتاجها من الطاقة، وعندما تنخفض مستويات الأكسجين في نُسجنا إلى ما دون حد معين تعاني الخلايا تلفا ناجما عن إقفار الدم ischemic damage يؤدي إلى موت النسج. فالإقفار إذًا، هو السبب الدفين غالبا للوفيات التي تَحدث إثر النوبات (الهجمات) القلبية، والسكتات الدماغية، أو الرضوح البدنية الأخرى التي تحرم النسج من الدم، ومن ثم من الأكسجين ولو لم يستمر ذلك الحرمان إلا زمنا قصيرا.
ولم يستكمل بعد فهم بعض الأحداث الجزيئية التي تسبب التلف الإقفاري(7)؛ إلا أن العلماء متفقون بالتأكيد على أن ثمة دورا مهما يؤديه فقدان الخلايا قدرتها على توفير الطاقة اللازمة للقيام بالأنشطة الأساسية الضرورية للإعاشة. فمعظم الطاقة التي تستهلكها الخلايا تنتج من جزيئات ثلاثي فُسْفات الأدينوزين (ATP) التي تُصنع بشكل رئيسي في الميتوكندرات (المتقدرات) الخلوية، وبعملية تعتمد على الأكسجين تسمى الفسفرة التأكسدية. وعندما يهبط مستوى الأكسجين تحت مجال محدد تماما، تعاني الخلايا ما يسمى تلفا إقفاريا، مما يؤدي إلى موت نسيجي(8). وهكذا فإن هذا التلف هو غالبا ما يكون سبب الوفاة إثر إصابة قلبية أو جلطة أو إصابات جسدية(9) أخرى تحرم النسج من الدم، ومن ثم من الأكسجين، حتى إن كان ذلك لفترة قصيرة.
نظرة إجمالية / إيقاف الحياة(****)
• بوسع كائنات كثيرة أن تبطِئ أو توقِف على نحو طبيعي سيروراتها الحياتية، مما يحميها من الظروف البيئية التي كانت ستودي بحياتها لو لم تتمكن من ذلك، كما يحدث عند الحرمان الطويل من الأكسجين.
• يعد عدم توافر الأكسجين الكافي من الأسباب الرئيسية لتلف النُّسُج والموت للأعضاء المغروسة المأخوذة من متبرع وكذلك للذين يعانون نقصا حادا في الدم أو انسدادا يعيق إتاحته. وقد لا يكون بالإمكان دائما استئناف إمداد هذه النسج بالدم سريعا، إلاّ أن إحصار الأكسجين المتوافر كله قد يحرض أنواعا من الحيوانات على دخول حياة معلقة (إيقاف مؤقت لمظاهر الحياة) تحميها، وربما يحدث الأمر ذاته لضحايا الأذيات من البشر وللنسج البشرية أيضا. • إن سلفيد الهدروجين هو مادة كيميائية تنتجها أجسامنا بشكل طبيعي، وهي تمنع الخلايا من استخدام الأكسجين كما تحرض حالة الحياة المعلقة (الإيقاف المؤقت لمظاهر الحياة) لدى الفئران. وقد تكون هذه المادة من المواد الطبيعية التي تنظم إنتاج الطاقة الخلوية التي يمكن استخدامها لتحريض حالة حياة معلقة واقية لدى البشر. |
ومما قد يزيد التلف سوءا تواصل بعض العمليات الخلوية التي تتسم بأنها أقل حاجة إلى الطاقة، ولكنها ذات أهمية مكافئة لأهمية غيرها من العمليات؛ مما يؤدي إلى فقدان التناسق في مجمل النظام الخلوي. وأخيرا إن الفسفرة التأكسدية(10)نفسها قد تسبب الضرر للخلية أيضا. فعندما ينخفض مستوى الأكسجين إلى ما دون التركيز الأمثل له، تصبح الفسفرة التأكسدية أقل كفاءة، وقد تطلق الطاقة في وقت مبكر على شكل جزيئات تتمتع بقدرة هائلة على التفاعل، وتدعى الجذور الحرة freeradicals. وقد اشتهرت هذه النواتج الثانوية بتأثيراتها المسببة للشيخوخة؛ إذ إنها تستطيع إتلاف الدنا والبنى الخلوية الأخرى. وفي الإقفار، يؤدي تأثير الجذور الحرة إلى المزيد من إعاقة قدرة الخلايا المحرومة من الأكسجين على أداء وظائفها الأساسية.
وهكذا يصبح الهدف الذي يسعى إليه الإنعاش القلبي الرئوي (كالتنفس الاصطناعي) وغيره من الأساليب المعهودة لتوقي التلف الإقفاري لدى ضحايا الأذيات الرضحية، هو إعادة التدفق الدموي ـ ومن ثم الأكسجين اللازم ـ بأسرع ما يمكن. وقد تبدو هذه الاستراتيجية هي الوحيدة الممكنة انطلاقا من الاعتماد الأساسي للخلايا على الأكسجين وأن ضرورة تزودها به هو من متطلباتها الأولى؛ إلاّ أننا شاهدنا لدى الحيوانات في الحالات المشابهة للحياة المعلقة نقصا شديدا في النشاط الخلوي يجعلها مقاومة بشكل واضح للإقفار أثناء الحرمان من الأكسجين، وبسبب الظن في أن تحريض حالة مشابهة لدى الناس ربما يجنبهم التلف الإقفاري أثناء فترات انخفاض مستوى الأكسجين، بدأ فريقنا العمل لفهم المزيد من الآليات التي تسمح للكائنات بكبح متطلباتها أمام الحرمان من الأكسجين.
دروس من إحدى الديدان(*****)
لقد أجرينا دراسات على الحياة المعلقة لدى مختلف الكائنات التي يشيع العمل عليها في المختبرات، مثل الخمائر وأجنة أسماك الزَّرَد ودودة التربة الممسودة (الربداء الرشيقة Caenorhabditis elegans). إن بوسع الربداء الرشيقة الدخول في الحياة المعلقة في أي طور من أطوار حياتها. وتستطيع عمل ذلك عندما توضع في حالة من عوز الأكسجين ـ أي في وسط يقل فيه الأكسجين بشدة ويبلغ نحو 0.001 في المئة أو أقل من ذلك ـ ويستمر توقف مظاهر الحياة لديها مدة قد تزيد على 24 ساعة.
يُظهر النسيج الدماغي لسناجيب الأرض القطب الشمالي (القطبشمالية)(11) التأثيرات الواقية للحياة المعلقة بصورة طبيعية. فبعد مرور ثلاثة أيام على إدخال مسابير دقيقة لا يتجاوز قطرها 0.5 مليمتر في أدمغة سناجيب يدخل بعضها في حالة الإشتاء ولا يدخل فيها بعضها الآخر، جرى قتل تلك الحيوانات وفحص الجروح لديها. وتظهر صورة النُّسُج المأخوذة من الحيوانات التي تنام في الشتاء (في اليمين) بقاء ثقب صغير أحدثه المسبار، ولكن لا يشاهد أي تضرر آخر ولا أي دليل على وجود التهاب. اما في الحيوانات التي لم تكن تدخل حالة إشتاء، فإن عددا كبيرا من الخلايا المحيطة بالأذية الأصلية قد مات وترك ثقبا كبيرا (في اليسار) محاطا بخلايا مناعية مصطبغة بلون داكن. |
ولكن عندما ينقطع تدفق الدم إلى النسيج البشري، سواء أكان انقطاعه بسبب نقص الدم أم بسبب انسداد الأوعية، فإن تركيز الأكسجين قد لا ينخفض أبدا إلى مستوى يكفي لحرمان النسج حرمانا تاما منه. ويمكن لثمالة الأكسجين(12) في الدم المتبقي أو في النسج ذاتها أن تسمح بحدوث درجة منخفضة من الفسفرة التأكسدية؛ إلا أن إنتاج ثلاثي فسفات الأدينوزين سيكون غير كاف لدعم المعدلات السوية من الأنشطة الخلوية، كما سيزداد إنتاج الجذور الحرة المدمرة.
ولمحاكاة هذه الحالات من الإقفار عند البشر، يمكننا تعريض الأجنة المتطورة لدى الربداء الرشيقة لتركيزات أكسجين «ناقص التأكسج» hypoxic تتفاوت فيها نسبة الأكسجين بين 0.01 و 0.1 في المئة، وهي درجات أقل كثيرا من نسبة 211 في المئة التي تعد المعيار السوي للأكسجين في هواء الغرف، ولكنه أعلى قليلا من عوز الأكسجين. ففي حالة نقص التأكسج، لا تدخل الأجنة حالة الحياة المعلقة، كما يحدث لو كانت في حالة عوز الأكسجين، وبدلا من ذلك تحاول تلك الأجنة الاستمرار في تطورها في سلم التخلق الجنيني(13)، مما يؤدي إلى تلف واضح في الخلايا وموتها بعد 24 ساعة.
وإذا زدنا تركيز الأكسجين في الأوساط التي تحيط بالأجنة زيادة طفيفة تبلغ 0.5 في المئة، فإن هذه الأجنة تتطور بشكل سوي في سلم التخلق الجنيني، شأنها في ذلك شأن غيرها التي تحيط بها أوساط سوية الأكسجين. وهكذا فإنه على الرغم من قدرة الديدان الممسودة(14) على البقاء حية مع عوز الأكسجين وذلك بدخولها في حالة حياة معلقة، فإنها تستطيع التطور بشكل طبيعي في وسط يقل فيه الأكسجين عن 0.5 في المئة. ويشكل المدى الذي يحوي عشرة أضعاف من تراكيز الأكسجين ويفصل بين هذين الرقمين مدى مميتا.
وكما أوضحنا في دراستنا على الربداء الرشيقة، إن تحوُّل الأجنة إلى الحياة المعلقة في ظروف عوز الأكسجين ليس نتيجة منفعلة لنفاد الأكسجين لديها فحسب، بل وفقا لآلية هادفة. فقد تعرفنا جينتين تقومان بوظيفتهما أثناء عوز الأكسجين، لا أثناء نقص التأكسج، وتبدوان ضروريتين لإيقاف دورة الحياة الخلوية للأجنة. وحينما تتعرض الأجنة التي ليس لديها هاتان الجينتان لعوز الأكسجين، فإنها تخفق في إيقاف انقسام خلاياها، وتنعزل على نحو غير ملائم، وينفق الكثير منها.
تشير هذه النتائج إلى إمكان اتقاء التلف الإقفاري لا بزيادة كمية الأكسجين المتاح للخلايا فحسب، كما تتوقع الحكمة السائدة، بل تمتد إلى إنقاص كمية الأكسجين المتاح لها أيضا. وقد تتعارض هذه الفكرة مع الممارسات الطبية الشائعة في الوقت الحاضر، إلا أن لها تأثيرات قوية في مجال حفظ النسج البشرية؛ إذ يصعب الحفاظ على أكسجة عضو معزول يراد نقله إلى إنسان آخر، كما يصعب إمداد النسج المتضررة لدى ضحايا الأذيات والإصابات بالأكسجين الكافي، ولكن قد يكون إنقاص الأكسجين المتوافر ممكنا.
ومن الطرق الفعالة لإنقاص ما يتوافر للخلايا من الأكسجين، إضافة مادة محاكية للأكسجين، وهي مادة تشبه من الناحية الفيزيائية الأكسجين من حيث المستوى الجزيئي، ومن ثم يمكنها أن ترتبط بالكثير من المواقع الخلوية التي يرتبط بها الأكسجين، ولكنها لا تسلك السلوك الكيميائي للأكسجين. فأحادي أكسيد الكربون، مثلا، قد يتنافس مع الأكسجين على الارتباط بإنزيم أكسيداز السيتوكروم( c(15، وهو أحد مكونات آلية الفسفرة التأكسدية ضمن الخلية، التي تربط الأكسجين في الأحوال العادية، ولكن لا يمكن لأحادي أكسيد الكربون المرتبط أن يستخدم في إنتاج ثلاثي فسفات الأدينوزين (ATP).
المنطقة الوسطى المميتة(******)
تحرّض مستويات تركيز الأكسجين السوية على إنتاج فعال للطاقة وعلى أداء الخلايا وظائفها في معظم الكائنات. وقد وجد المؤلفان وفرق أبحاث أخرى أن الظروف التي يسود فيها انخفاض شديد في الأكسجين (عوز الأكسجين) يمكنها أن تدفع الخلايا إلى الدخول في حالة من الحياة المعلقة تكاد فيها هذه الخلايا جميعها أن تتوقف عن إنتاج الطاقة أو استهلاكها. أما عندما تكون مستويات الأكسجين متوسطة (نقص التأكسج) فإن الخلايا تحاول الاستمرار في العمل على نحو سوي؛ إلا أن نقص الإمداد بالأكسجين يجعل أنشطتها غير فعالة، وربما مخربة لها ذاتيا. ولذا فإن من الممكن إنقاذ النسج المحرومة من الأكسجين، إما بإعادة مستويات الأكسجين فيها إلى حالتها السوية أو ربما بإحصار أي أكسجين متبقٍّ متاح لها. |
ولذا تساءلنا عما إذا كان بوسعنا وقاية أجنة الربداء الرشيقة من التلف الإقفاري الذي تواجهه تلك الأجنة في تركيزات متوسطة من الأكسجين، وذلك بإضافة أحادي أكسيد الكربون للوسط الناقص التأكسج المحيط بها؛ مما سيحاكي فعليا عوز الأكسجين عن طريق إحصار block الكمية القليلة المتبقية من الأكسجين المتاح لتلك الأجنة. وفي الحقيقة، وجدنا أن الأجنة في هذه الظروف دخلت في حالة الحياة المعلقة، وتجنبت بذلك تأثيرات الإقفار المميتة.
وبحلول عام 2003 قادتنا هذه النتائج المشجعة إلى اختبار هذا المفهوم أكثر فأكثر. وقد أوحت لنا الدراسات السابقة على الحيوانات الكبيرة والقصص المغرية عن حوادث تعرض لها ضحايا من البشر ثم بقوا على قيد الحياة بعد معاناتهم ظروف نقص الأكسجين أن الآليات التي أنقذت الديدان قد توجد أيضا في الكائنات الأخرى الأكثر تعقيدا.
ويدعم جزء كبير من الأبحاث على الحيوانات، الفكرة القائلة بأنه، حتى في الحيوانات الكبيرة، يمكن للمستويات المنخفضة من الأكسجين المتاح أن تقي من تلف النسج. فمثلا، عندما تدخل الحيوانات في مرحلة الإشتاء الطبيعي، تبدو الحالة المعلقة مصدر حماية لها من الأذيات. وقد أظهرت التجارب التي أجرتها <L.K. درو> وزملاؤها [من معهد بيولوجيا القطب الشمالي بجامعة ألاسكا في فيربانكس] أنه عند وخز أدمغة السناجيب الأرضية القطب الشمالي حين إشتائها بمسابير مجهرية، لا تموت النسج الدماغية أو أنه يموت القليل منها فحسب؛ في حين أدت الأذية ذاتها لدى السناجيب خارج أوقات إشتائها إلى ضرر نسيجي سريع (انظر الشكل في الصفحة 19).
وقد قادت هذه البيِّنة الكثير من الباحثين إلى محاولة تحريض حالة شبيهة بالإشتاء في الحيوانات التي لا تدخل فيه بشكل طبيعي لمعرفة إمكان تحقيق الإبطاء الخلوي ذاته على نحو آمن لا يلحق أي ضرر، وكذلك إمكان وقاية النسج مدة تكفي لإصلاح ما لحق بها من أذيات. وقد عمل الراحل<P. سافار> وزملاؤه [في جامعة پيتسبرگ] عقدين كاملين على الكلاب لإنجاز عملية غايتها زيادة الوقت المتاح في إيقاف مؤقت لمظاهر الحياة. ووصف فريق <سافار> في السنة الماضية (2004) آخر التجارب التي أجراها في هذا الصدد. فلكي يتوصلوا إلى تكوين حالة حياة معلقة حرضوا توقف القلب لدى 14 كلبا، ومن ثم جرى سحب الدم من أجسادها، مع تسريب محلول ملحي بارد فيها (حيث إن للمحلول الملحي قدرة أقل كثيرا من الدم على نقل الأكسجين)؛ مما أدى إلى إنقاص ملحوظ في كمية الأكسجين في نسج هذه الكلاب. وبعد ذلك، غابت الكلاب عن الوعي ولم تتنفس ولم تنبض قلوبها.
يبدو أن التحول إلى حياة معلقة هو آلية ذات هدف.
ثم عمل فريق<سافار>على فصل الكلاب إلى مجموعة شاهدة (ضابطة) تضم ستة كلاب ومجموعة أخرى تضم ثمانية كلاب أجري لها استئصال جراحي للطحال الذي هو عضو غير أساسي. وبعد ستين دقيقة أمضتها الكلاب في حالة حياة معلقة، جرى إنعاشها بتسريب الدم ثانية فيها. وقد بقيت الكلاب جميعها حية في الاثنتين والسبعين ساعة التالية، ولم تظهر على كافة الكلاب في المجموعة الشاهدة أية تأثيرات مرضية أو عصبية ناجمة عن قضائها وقتا في الحياة المعلقة. وكان أربعة من الكلاب الثمانية التي خضعت للجراحة في حالة سوية، ولكن ظهرت على الكلاب الأربعة الأخرى بعض مظاهر العجز العصبية.
وقد استخدم <P.ري> وزملاؤه [في جامعة الخدمات الموحدة للعلوم الصحية] أسلوبا مشابها لإحداث الحياة المعلقة لدى 15 خنزيرا يوركشاريا بالغا، ثم أجروا جراحة وعائية ترميمية لبعض هذه الحيوانات. وقد أوضح <ري> أن ذاكرة الحيوانات المختبرة جميعها وقدرتها على التعلم لم تتأثر البتة بهذه التجربة التي تعرضت لها.
وبسبب التشابه الكبير بين فيزيولوجية الكلاب والخنازير وبين فيزيولوجية البشر، فقد أثار هذا الاتجاه في الأبحاث افتراضات متحمسة لإمكان استكمال مثل هذه الإجراءات في وقت قريب، واختبارها على مرضى من البشر في غرف الطوارئ.
ومع أن هذه الطريقة قد تكون واعدة، فإن استنزاف الدم(16) عمل بالغ الخطورة، وله الكثير من المضاعفات. لذا، فقد بدأ فريقنا بالبحث عن طرق أقل بضعا(17) لحرمان الخلايا الحية من الأكسجين حرمانا مؤقتا. فعلى سبيل المثال، يمكن في النسج البشرية الخالية من الدم ـ كالأعضاء المستأصلة من متبرعين ـ حث الحياة المعلقة بوضع تلك الأعضاء في أوعية محكمة الإغلاق ومفرغة من الهواء مع إرواء هذه النسج بأحادي أكسيد الكربون، وهذا ما عملناه في أجنة الربداء الرشيقة. وعندما يصبح الأطباء على استعداد لغرس العضو، فلن يتطلب ذلك سوى تسريب الدم إليه ليستعيد الإمداد بالأكسجين. وقد قمنا في مختبرنا بتجربة هذا الأسلوب على عينات من النسج البشرية للحفاظ عليها مما يصيبها عادة من تلف. ونعتقد أن بإمكان هذا الأسلوب إطالة عيوشية viability الأعضاء البشرية المراد غرسها إلى حد كبير.
استخدم <روث> وزملاؤه الحجرات الزجاجية المحكمة الإغلاق والمفرغة من الهواء، لإعطاء جرعات غير مميتة من غاز سلفيد الهدروجين (H2S) لفئران المختبر، من الأنماط الموضحة في الصورة وذلك لمدة تصل إلى ست ساعات. وقد أظهرت التجارب أن درجة حرارة جسم الحيوان وسرعة انخفاضها ومعدل الاستقلاب لديه مرتبطة جميعا بتركيز سلفيد الهدروجين في الحجرة؛ مما يعزز نظرية الباحثين حول قدرة سلفيد الهدروجين على تحريض حالة شبيهة بالحياة المعلقة، وشبيهة بالإشتاء الطبيعي، وذلك لدى ثدييات لا تدخل في هذه الحالة على نحو طبيعي. |
ويمكن أن تنعكس بسهولة تأثيرات أحادي أكسيد الكربون من الأعضاء المغروسة، مع أن هذا قد لا يكون صحيحا بالنسبة إلى الكائنات الحية التي يجول الدم في أجسامها. ولما كانت جزيئات أحادي أكسيد الكربون سترتبط ارتباطا محكما بخلايا الدم الحمر في المواضع التي يرتبط بها الأكسجين في الحالة الطبيعية، فإن استخدام هذا الغاز لدى ضحايا الرضوح سيكون متعذر التطبيق عمليا. ولذا، نقوم أيضا باختبار محاكيات بديلة للأكسجين.
وتعد معظم المواد التي اختبرناها، كأحادي أكسيد الكربون، سموما للبشر؛ لأنها تستطيع فعليا إحصار قدرة الخلايا على استخدام الأكسجين. فعلى سبيل المثال، تعد جيوب غاز سلفيد الهدروجين(18) (H2S) خطرة ومميتة للعاملين في الكثير من المواقع الصناعية، مثل مجاري الصرف الصحي أو حقول «الغازات الحارقة» في الصناعات البتروكيميائية. ولهذا السبب حددت أبحاث السلامة المهنية الجرعات المميتة من سلفيد الهدروجين وفقا لدراسات استخدمت فيها القوارض. وكان هذا العمل نقطة انطلاق مفيدة للبدء باختبار جرعات غير مميتة من سلفيد الهدروجين على فئران المختبرات لمعرفة ما إذا كان من الممكن إحداث حالة عكوسة(19) لحياة معلقة.
وفي حجرة مغلقة، عرّضنا الفئران لجو يتضمن 80 جزءا في المليون من سلفيد الهدروجين. وقد لاحظنا في ذلك المستوى نقصا مقداره ثلاثة أمثال المنتج من ثنائي أكسيد الكربون خلال الدقائق الخمس الأولى عما كان عليه قبل ذلك، كما بدأت الحرارة الداخلية للفئران بالانخفاض. وتوقفت جميع الحركات لدى هذه الحيوانات، وبدأت بفقدان الوعي. واستمر معدل الاستقلاب (الأيض) بالانخفاض طوال الساعات المتعاقبة في هذه البيئة، وذلك بقياس المنتج من ثنائي أكسيد الكربون، ليصل في النهاية إلى عشرة أمثال ما كان عليه. وقد تباطأت سرعة التنفس فانخفضت لأقل من عشر مرات في الدقيقة بعد أن كانت في الحالة الطبيعية 120 مرة في الدقيقة.
الحياة في الميزان(*******)
بدأت أبكر أشكال الحياة الأحادية الخلية بالتطور قبل أربعة ملايين سنة، في جو كاد أن يكون خاليا من الأكسجين، ولكن ربما كان مفعما بجزيئات تتضمن الكبريت، مثل سلفيد الهدروجين (H2S). وقد بدأت تلك الكائنات البدائية بتوليد إمداداتها من الطاقة باستخدام سلفيد الهدروجين بالطريقة نفسها التي تستخدم فيها معظم الكائنات المعاصرة الأكسجين. وفي الحقيقة يبدو أن العديد من المكونات الأساسية لسبيل الفسفرة المؤكسدة قد تطور من هذه الآلية التنفسية المبكرة المعتمدة على الكبريت. وعلى سبيل المثال، إن أكسيداز السيتوكروم c، وهو أحد المكونات في جهاز الفسفرة المؤكسدة الذي يرتبط بالأكسجين على نحو طبيعي، يشبه إلى حد كبير المركب المضاهئ في التنفس المعتمد على الكبريت، ويستطيع الارتباط بسلفيد الهدروجين.
ولكن قد يتشارك استقلاب الأكسجين واستقلاب الكبريت في أكثر من علاقة سليفة بسيطة. وحتى في هذا اليوم، فإن سلفيد الهدروجين يتم إنتاجه بشكل طبيعي في أجسامنا، الأمر الذي قد يبدو غير منطقي، انطلاقا من أن ارتباط سلفيد الهدروجين بأكسيداز السيتوكروم c سيثبط قدرة الأكسجين على الارتباط؛ ولكن من الممكن أنه ببدء الكائنات القديمة تحولها إلى التنفس الأكسجيني، فإن سلفيد الهدروجين أخذ دورا جديدا كمضاد أساسي للأكسجين. إن جزيئي الأكسجين وسلفيد الهدروجين شديدا التفاعل فيما بينهما؛ كما أن التبادل المستمر للإلكترونات بينهما هو أمر أساسي لأشكال الحياة جميعها؛ فبعض الذرات تتخلى عن إلكتروناتها بسيرورة تدعى الأكسدة oxidation؛ في حين يأخذ بعضها الآخر الإلكترونات عن طريق «إرجاع» (تخفيض) الإمداد الذي تقدمه بعض الجسيمات الأخرى. إن سيرورات الإرجاع-الأكسدة، أو ريدكس “redox”، تكمن وراء إنتاج الطاقة في النظم البيولوجية جميعها، وتبحث معظم الكائنات عن بيئة تبلغ فيها تفاعلات الإرجاع والأكسدة أقصى درجاتها. ففي مياه المحيط الهادئة، على سبيل المثال، حيث تمتزج الغازات المنحلة بشكل رئيسي بوساطة الانتشار، ينفذ الأكسجين، الناتج من التركيب (البناء) الضوئي لدى الكائنات التي تعيش قرب السطح، نحو العمق أثناء النهار، ويعود أثناء الليل؛ فيما يتواصل انتشار سلفيد الهدروجين من الأسفل كأحد النواتج النهائية لاستقلاب بعض الكائنات التي تعيش على المواد المتحللة في قاع المحيط. إن المعركة المستمرة بين هذين الغازين تولد دوامة غير مستقرة من الناحية الكيميائية، حيث تتم مقايضة الإلكترونات بمعدل يثير القلق. ويعد هذا المدروج gradient هو تماما الموقع الذي تختاره للعيش الكائنات التي تستضيف غيرها، مثل البكتيرات المهدبة المتحركة التي تدعى الباكيات البيضاء Beggiatoa alba، إضافة إلى العديد من أحاديات الخلية من حقيقيات النواة eukaryotes. ويمكن أن تصبح كثافة هذه المخلوقات كبيرة إلى درجة تشكل فيها طبقات واسعة، يمكنها أن تهبط إلى العمق أو ترتفع إلى الأعلى مع دورة الأكسجين وسلفيد الهدروجين اليومية. وقد تشبه أجسامنا، وأجسام الكائنات الأخرى التي تتنفس الأكسجين، الطبقات الميكروبية التي تسعى إلى تحقيق التوازن بين الأكسدة والإرجاع. فنحن لا نعيش قرب مصدر لسلفيد الهدروجين، إلا أننا نصنع سلفيد الهدروجين الخاص بنا، والذي يمكّن خلايانا من البقاء في بيئة غير مستقرة من الناحية الكيميائية، وهي البيئة التي تطورنا فيها. وأظن أن قدرة سلفيد الهدروجين على الارتباط بإنزيم أكسيداز السيتوكروم c ربما سبب في جعله جزءا من برنامج خلوي داخلي يبطئ أو يوقف، على نحو طبيعي، الفسفرة التأكسدية بوجود الأكسجين. وستكون هذه الآلية الواقية مفيدة في تلك الأوقات التي تتعرض فيها الخلايا لأذية ذاتية، وهي تكافح لإنتاج الطاقة واستعمالها في ظروف ينعدم فيها الأكسجين، أو في حالات معاكسة لذلك، عندما يسبب التعرض لجرعات مفرطة من الأكسجين زيادة في عمل المولدات الخلوية، مما قد يؤدي إلى «حرق» الخلية. فإذا كان سلفيد الهدروجين محرضا طبيعيا للتوقف البيولوجي الواقي، استطعنا تفسير نجاحنا في توظيفه لتحريض حالات تشابه الإشتاء عند الطلب. «هف ليشوگويلا» في نيومكسيكو هي إحدى المناطق العديدة المحوطة، كالثقوب البركانية في أعماق البحار، حيث لاتزال تزدهر البكتيرات المؤكسدة والكبريتية التي ربما تشبه الحياة البدئية على الأرض. |
وتواصل انخفاض درجة الحرارة الداخلية عما كانت عليه في الحالة الطبيعية، وهو 37 درجة سيلزية، حتى وصلت إلى مستوى يزيد درجتين تقريبا على درجة حرارة الوسط المحيط، بغض النظر عما كانت عليه هذه الدرجة. وقد نجحنا في تخفيض متوسط درجة حرارة الجسم حتى 15 درجة سيلزية بتبريد الحجرة فقط. وفي الحيوانات التي تدخل في الإشتاء بشكل طبيعي، من الشائع أن يتماشى هذا الميل ذاته لارتفاع درجة حرارة الجسم أو انخفاضها، مع درجة حرارة الوسط المحيط.
وفي الواقع، إن المعالجة بسلفيد الهدروجين قلبت فئراننا التي نجري عليها تجاربنا من حيوانات ذات دم حار إلى حيوانات ذات دم بارد؛ وهو ما يحدث بالضبط للحيوانات أثناء الإشتاء. وقد احتفظنا بالفئران في هذه الحالة مدة ست ساعات قبل أن نعيد إليها حياتها الطبيعية، ثم قمنا بمجموعة من الاختبارات لمعرفة ما إذا كانت تجربة الحياة المعلقة التي مرت بها قد تركت لديها أية تأثيرات ضارة سلوكية أو وظيفية، ولكن بدت الفئران جميعها بحالة طبيعية تماما.
من الفئران إلى الإنسان(********)
وحاليا نتابع هذا الاتجاه في الأبحاث على الحيوانات الأكبر حجما، معتقدين أن سلفيد الهدروجين قد يمثل نقطة البدء السليمة لإحداث الحالات الشبيهة بالحياة المعلقة لدى الحيوانات التي لا تدخل في حالة إشتاء في وضعها الطبيعي، بما في ذلك البشر. ومع أن سلفيد الهدروجين يعد مادة سامة فإن إنتاجه يجري في أجسامنا في الحالة الطبيعية. وفي الواقع قد يكون لسلفيد الهدروجين دور فريد ومجهول في تنظيم إنتاج الطاقة الخلوية في الكائنات التي تتنفس الأكسجين؛ إذ إنه أدى يوما ما الدور الجزيئي للأكسجين في الاستقلاب وذلك عندما كان كوكبنا فتيا وكان حينها الأكسجين شحيحا (انظر الإطار في الصفحة المقابلة). وثمة أسئلة أخرى عديدة لاتزال بحاجة إلى إجابات قبل أن يصبح بالإمكان دراسة الحياة المعلقة المحرضة بسلفيد الهدروجين، على البشر.
في الواقع، إن المعالجة حولت الفئران التي أجرينا عليها التجارب من
حيوانات ذات دم حار إلى حيوانات ذات دم بارد.
ولعل أكثر تلك المعضلات المبهمة أهمية هي معرفة ما إذا كان بمقدور الإنسان دخول حالة حياة معلقة. وتشير الدلائل المقنعة بكل تأكيد إلى أن البشر يستطيعون في بعض الأحيان الصمود ساعات عديدة من دون أكسجين، ومن الأمثلة على ذلك ما حدث منذ سنوات، عندما تم إنقاذ متزلجة في الريف النرويجي بعد تعرضها لحادث تركها تحت ماء شديد البرودة كالجليد مدة تزيد على الساعة. وعندما عثر عليها فريق الإنقاد كانت في حالة موت سريري (إكلينيكي)؛ إذ لم تكن تتنفس ولم يكن قلبها ينبض وكانت درجة حرارة جسمها 14 درجة سيلزية (57 درجة فهرنهايت). ومع أن جسمها قد تطلب تسع ساعات من الإنعاش، فإن إشفاءَها كان، كما يقول أطباؤها، «ممتازا».
وقد أجرى<H.B.والپث> [من جامعة برن في سويسرا] تحليلا لاثنتين وثلاثين حالة أخرى من حالات الانخفاض الشديد في درجات حرارة تفاوتت بين 17 و 25 درجة سيلزية، كان العديد من ضحاياها قد فقدوا مظاهر الحياة عند إنقاذهم. وقد وجد <والپث> أن نحو نصف عدد هؤلاء ـ 15 مريضا ـ قد شفوا من الرضح من دون أن يصابوا بأي عجز طويل الأمد.
لا ريب في أن عدم تنفس هؤلاء المصابين قد خفض كثيرا مستويات الأكسجين في نسجهم، مما يشير إلى أن لدى جسم الإنسان في بعض الظروف مرونة تمكنه على نحو عكوس من إبطاء أو إيقاف النشاط الخلوي استجابة لشدة من الشدائد. ولكن ما هي هذه الظروف؟ وما هي المتغيرات التي تسمح لبعض الناس بالعيش في هذه الظروف فيما يموت غيرهم فيها؟ إن فهم الروابط بين الحياة المعلقة (الإيقاف المؤقت لمظاهر الحياة) بشكل طبيعي وتلك المحرضة لدى الحيوانات من جهة، والحالات غير المفسرة لدى المرضى من البشر الذين بقوا على قيد الحياة من جهة أخرى، قد يكشف عن أن ثمة قدرة كامنة فينا جميعا على الدخول في حالة وقائية من الحياة المعلقة. ■
المؤلفان
Mark B. Roth – Todd Nystul
بحثا معا الآليات الخلوية والتأثيرات الواقية للحياة المعلَّقة، في الفترة التي كان فيها نيستل طالب دراسات عليا في مختبر روث بمركز <F. هتشنسون> لأبحاث السرطان. وقد تناولت أعمال روث العديد من السيرورات الخلوية الأساسية، مثل كيف تنظم الخلايا حجومها، وتعبير جيناتها وتخصصها الوظيفي. أما نيستَل فقد حصل على الدكتوراه من جامعة واشنطن عام 2004 ويعمل حاليا بمنحة دراسية لما بعد الدكتوراه في مؤسسة كارنيگي ببالتيمور، حيث يدرس تنظيم الخلايا الجذعية في ذبابة الفاكهة «الدروسوفيلا». إضافة إلى حفظ الأعضاء من المتبرعين ووقاية مرضى الأذيات الخطرة، يعتقد روث و نيستل أن فهم آليات الحياة المعلقة قد يلقي الضوء على كل من مقدرة الخلايا الجذعية على البقاء في حالة همود، وعلى بعض خلايا الأورام السرطانية التي تقاوم الإشعاع، لأنها موجودة في حالة مشابهة من نقص الأكسجين وانخفاض الطاقة.
مراجع للاستزادة
Ecology and Evolution in Anoxic Worlds. Tom Fenchel and Bland J. Finlay. Oxford University Press, 1995. .
Oxygen: The Molecule That Made the World. Nick Lane. Oxford University Press, 2004.
Carbon Monoxide-Induced Suspended Animation Protects against Hypoxic Damage in Caenorhabdltla elsgans. Todd G. Nystul and Mark B. Roth in Proceedings of the National Academy of Sciences USA, Vol. 101, No. 24, pages 9133-9136; June 15, 2004.
Hydrogen Sulfide Induces a Suspended Animation-like State in Mice. Eric Blackstone, Mike Morrison and Mark B. Roth in Science, Vol. 308, page 518; April 22, 2005.
Scientific American, June 2005
(*) BUYING TIME IN SUSPENDED ANIMATION
(**) Beating The Clock
(***) Survival of the Slowest
(****) Overview/ Putting Life on Pause
(*****) Lessons from a Worm
(******) Lethal Middle Ground
(*******) Life In Balance
(********) From Mice to Men
(1) suspended animation: تعبير اصطلاحي يعني إيقافا مؤقتا لمظاهر الحياة.
(2) أو الأيض.
(3) ischemic damage
(4) أو الربيان (القريدس).
(5) sea monkeys
(6) estivation أو السبات الصيفي.
(7) tissue death
(8) physical traumas
(9) oxidative phosphorylation
(10) arctic ground squirrels
(11) residual oxygen
(12) embryogenesis
(13) nematodes
(14) cytochrome c oxidace
(15) exsanguination
(16) invasive
(17) hydrogen sulfide
(18) reversible state