دحر الملاريا
دحر الملاريا(*)
يمكن لتداخلات متاحة حاليا أن تُحقّق نجاحات مؤكّدة
في الوقاية من الملاريا ومعالجتها ـ بمجرد أن يطبّقها العالم.
<P.C.دوناکان>
نظرة إجمالية/ أين نحن اليوم من الملاريا(**)
إلا أن التداخلات المتوافرة حاليا يمكنها أن تكافح الملاريا، وتشمل: الناموسيات المعالجة بمبيدات الحشرات ورشّ مبيدات الحشرات داخل المنازل وتوليفات دوائية ترتكز على أعشاب صينية قديمة. تتركز المسألة حول الإرادة والموارد: فالسؤال ينحصر فيما إذا كان العالم متأهبا للتخلص من الملاريا في معاقلها الرئيسية في البلدان الواقعة جنوبي الصحراء الإفريقية في ظل الابتلاءات المنافسة للملاريا، ولاسيما الإيدز؟ |
في سابق الزمان، حدث في گامبيا بغرب إفريقيا، أن شارف طفلٌ اسمه<إبراهيم> في السنة الثانية من العمر على الموت بسبب الملاريا. وبعد عقود من الزمن، لا تزال هذه الذكرى عالقة في ذهن الدكتور <إبراهيم سامبا> كلما نظر في المرآة؛ لأن والدته، التي سبق لها أن فقدت العديد من الأطفال قبل أن يصاب هو نفسه بالمرض، عمدت إلى تشطيب وجهه كمحاولة أخيرة للمحافظة على حياته، وقد كُتِب لهذا الولد أن يعيش، وأن يصبح بعد ذلك واحدا من أكثر القادة في إفريقيا شهرة: المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية.
وغنيٌ عن القول بأن تشطيب الجلد لم يكن هو الذي أنقذ <إبراهيم سامبا>، وهنا يأتي السؤال ما الذي أنقذه؟ هل كان ذلك ذرية خاصة من ذراري الطفيلي التي كانت في دمه في ذلك اليوم؟ أم كانت السِّمات المناعية أو الوراثية الفردية لديه؟ أم حالته التغذوية؟ من الممتع أننا بعد مضيّ قرون من مقارعة الملاريا والتغلب عليها في معظم أرجاء العالم، مازلنا نجهل الكثير عن هذا المرض الموغل في القدم، بل إن جهلنا يمتدّ ليشمل العوامل التي تحدد مَنْ مِنَ الأطفال الذين يعانون مرضا في غاية الوخامة والشدة سيعيش، ومن منهم سيموت. ورغم هذه الأسئلة المتبقية، فإننا نعيش على عتبة الأمل، فالباحثون يدرسون حالة الذين يكتب لهم النجاة من هذا المرض، فيما يقود تَتَبُّع أحوال الكثيرين غيرهم إلى جهود لابتكار اللقاحات، والأمر الأكثر أهمية أن هناك أسلحة أثبتت فعاليتها، وهي بشكل رئيسي الناموسيات المُعالجة بمبيدات الحشرات(1) والاستراتيجيات الأخرى لمكافحة البعوض والتوليفات الجديدة من الأدوية والتي تتضمن عشبا صينيا قديما، وقد انتقلت هذه الأسلحة لتحتل مواقعها في الخطوط الأمامية.
وفي السنوات المقبلة، سيحتاج العالم إلى جميع الأسلحة المضادة للملاريا التي يمكن استعمالها، ومع ذلك فإن أثر الملاريا لا يقتصر على قتل الناس، فهي أيضا تعيق التنمية الاقتصادية والبشرية. ولذا، لاعجب أن يُعتبرَ دحرُها في الوقت الحاضر من الأمور المُحتمة.
أُسُّ البلاء في إفريقيا(***)
إن أربعة من الأنواع الرئيسية من جنس المتصورة Plasmodium، وهو الطفيلي الذي بوسعه أن يسبب الملاريا، تستطيع أن تنقل العدوى للإنسان، ولا يزال واحدٌ من هذه الأنواع على الأقل يسبب وباء يهدد بدرجة كبيرة أو صغيرة جميع القارات، ولا يستثنى من ذلك حتى القطب الجنوبي بدرجةٍ قد تنقص أو تزيد قليلا. وفي زماننا هذا، ومع أن البلدان الواقعة جنوبيّ الصحراء تعتبر أكبر الملاذات المتبقية للمتصورات المنجلية P. falciparum ـ وهي من المتصورات التي تُعدي الإنسان ومن أكثر أنواعها قتلا له ـ فإن هذه البلاد تعتبر أيضا موطن الأنوفيلات الگامبية Anopheles gambiae وهي التي تعتبر من حيث العدوانية أشد أنواع البعوض التي تنقل الملاريا إلى الإنسان والتي يزيد عددها على ستين نوعا. وكل عام يصاب 500 مليون إفريقي بالعدوى (بالمنجليات)، يموت منهم مليون أو مليونان، معظمهم من الأطفال؛ أما المناطق التي تعاني وطأة شديدة للملاريا فقد تكون الملاريا ومضاعفاتها مسؤولة عن 30 إلى 50 في المئة من إدخالات المرضى في المستشفيات(2) ومن زياراتهم للعيادات الخارجية.
إن الصورة السريرية (الإكلينيكية) للملاريا المنجلية في غاية البشاعة سواء كانت لدى الأطفال أو لدى البالغين، ففي أسوأ السيناريوهات تبدأ الملاريا بالحمى والنوافض المميزة لها، والتي تعد بالنسبة لها بمثابة العلامة التجارية المسجلة، يليها فقر الدم الذي يؤدي إلى دوخة ثم اختلاجات وغيبوبة، ثم إلى فشل القلب والرئتين والتي قد تُفضي إلى الموت. أما مَن يُكْتَب له البقيا(3) فقد يعاني الإعاقة العقلية أو الجسدية أو الضعف المُزمن، ولكن هناك أيضا البعض الآخر مثل <إبراهيم سامبا> الذي تعافى من المرض من دون أي تأثيرات متبقية. وهكذا يتواصل بقاء الأحجية التي حيَّرت الباحثين في مؤتمر كبير عُقِد حول الملاريا في تَنزانيا عام 2002، حيث التقيت بالطبيب الجراح الذي أصبح من القادة الملهمين في الصحة العالمية، وذلك بعد مرور أكثر من نصف قرن على صدام الدكتور <سامبا> شخصيا مع المرض.
ولا يعني ذلك أننا لم نتعلّم خلال هذه الفترة شيئا عن الدفاعات المتأصلة والمُكتسبة ضد الملاريا. فعلى سبيل المثال، نحن نعرف اليوم أن الاضطرابات الموروثة للهيموگلوبين (خضاب الدم)، مثل فقر الدم المنجلي، يمكن أن تُقلل من العدوى في مجرى الدم. أضف إلى ذلك أن الخبراء يعتقدون أن الأضداد والخلايا المناعية التي تكونت مع مرور الزمن قد أدّت في نهاية المطاف إلى وقاية الكثير من الأفارقة من هذا البلاء العميم، وما الدكتور <إبراهيم سامبا> إلا مثال حيٌ على مثل هذا التحول الذي يلي العدوى المتكررة. فبعد أن شارف على الموت لم يُصَب بأي هجمة ملاريا، كما أنه لم يتخذ حتى يومنا هذا أي وسيلة وقائية تدفع عنه غائلة المرض (وبالنسبة إليّ، باعتباري طبيبة متخصصة بأمراض المناطق المدارية، فإن كل ما يمكنني قوله: أيها الناس، لاينبغي لكم أن تقوموا برحلات الصيد المدارية إلا إذا كنتم مُمنّعين بمئات لدغات البعوض كل سنة.)
ثمة درس آخر يمكننا أن نستفيده من قصة الدكتور <إبراهيم سامبا>، فهذه القصة تؤكد أن هناك أملا بإمكانية محاكاة الوقاية التي نشأت بشكل طبيعي لدى بعض الناس ـ مثل الدكتور <سامبا> ـ ببعض اللقاحات التي ستُبْتَكَر يوما ما، مما يؤدي إلى إنقاص الوفيات الناجمة عن الملاريا والمضاعفات التي تحدث في المناطق التي تتوطنها الملاريا؛ إذ يمكن للقاحٍ مختلفٍ للملاريا أن ـ يُحصِرَ العدوى لدى جميع الناس، أو على الأقل لفترة قصيرة لدى الزائرين من المسافرين والعاملين في المساعدات أو في جيوش حفظ السلام، أو لدى مَن يحتاج إلى الوقاية لفترة أقصر مما يحتاج إليها غيرهم.
لا تكتفي الملاريا بقتل البشر، بل إنها أيضا تعرقل التنمية البشرية والاقتصادية. |
ومن ناحية أخرى، ينبغي عدم إيلاء اللقاحات أكثر مما تستحق من الآمال، فطفيليات الملاريا أكثر تعقيدا من الکيروسات ومن البكتيرات المسببة للأمراض والتي تتوافر لها في الوقت الحاضر لقاحات ناجعة. ومن المؤكد أن لقاحات الملاريا لن يكون لها ذات التأثيرات التي تحدثها جرعات لقاحات الحصبة أو لقاحات شلل الأطفال والتي تؤمن الوقاية لأكثر من تسعين في المئة ممن تلقوا تلك اللقاحات واستكملوا جميع جرعاتها الموصى بها. وبغياب لقاحٍ للملاريا سيتواصل تأثيرها المدمر بالتفاقم ليشبه الهيدراHydra (الأفعوان الخرافي المتعدد الرؤوس). وتتصدر ذراري المتصورات المنجلية المقاومةُ للأدوية قائمةَ المشكلات التي نواجهها في الوقت الحاضر، (وقد ظهرت أول ما ظهرت في جنوب أمريكا وآسيا قبل أن تنتشر إلى القارة الإفريقية). أما المشكلة التي تليها في الأهمية فهي مقاومة البعوض لمبيدات الحشرات، ثم البنية التحتية المنهارة للصحة العمومية والفقر المُدقع الذي يقوّض الجهود المبذولة للوقاية من انتقال العدوى في بدايتها، وأخيرا مشكلة تفجُّر جائحة الإيدز والعدوى بکيروس العوز المناعي البشري (HIV/AIDS) في إفريقيا، وهي المشكلة التي تنافس الملاريا وتستأثر بالأموال البالغة الأهمية المخصصة للصحة، والتي تثني الناس عن نقل الدم للمصابين بفقر دم وخيم ناجم عن الملاريا.
فإلى أين قادتنا هذه المشكلات؟ نستطيع القول بكل تأكيد أنها قادتنا إلى مواجهة التحديات، إلا أن هذه التحديات ينبغي أن لا تقودنا إلى اليأس ولا إلى التسليم بأن إفريقيا ستبقى على الدوام رهينة للملاريا، فالتاريخ الاقتصادي يعلمنا أن الأمر لن يكون كذلك.
دروس من التاريخ(****)
عندما أبدأ محاضرتي عن الملاريا أمام طلبة الطب والأطباء الآخرين، أحبّ أن أعرض عليهم خريطة توضح الوضعَ الجغرافي الذي كانت عليه الملاريا من قبل. ويصاب معظم الحاضرين بالدهشة عند معرفتهم أن الملاريا لم تكن على الدوام محصورة في المناطق المدارية حتى جاء القرن العشرون، وأن الملاريا كانت تكتسح بعض المناطق التي يصعب أن نأخذها بالحسبان مثل البلدان الاسكندنافية ووسط غرب أمريكا. وتُظهر الأحداث التي أحاطت بخروج الملاريا من المناطق المعتدلة، وفي أيامنا الأخيرة هذه من الأصقاع المترامية في آسيا وأمريكا الجنوبية، ما للروابط الدائمة التي تربط الملاريا بالفقر من أهمية لا تقلّ بحالٍ من الأحوال عن تلك التي تربطها بالبيولوجيا.
تبدأ الدورة المميتة للملاريا بلدغة البعوضة المصابة بالعدوى، والملاريا مرض يقتل مليونا أو مليونين من الناس كل عام ـ معظمهم من الأطفال ـ في البلدان الواقعة جنوبي الصحراء الإفريقية. |
ولنأخذ على سبيل المثال رحلة الملاريا من معقلها الأخير في الولايات المتحدة الأمريكية: في الريف الجنوبي الفقير. فقد بدأت الأحداث تتوالى إثر حصول الانهيار الاقتصادي الكبير في الولايات المتحدة الأمريكية، وعندها بدأ الجيش الأمريكي ومؤسسة روكفلر وسلطات وادي تينيسي Tennessee VA العمل بنَزْح الآلاف من مواقع تفقيس البعوض ورشها بالمشتقات البترولية، وتوزيع الكينين (وهو من الأدوية النباتية المنشأ المضادة للملاريا والذي اكتُشِف أول ما اكتُشِف في أمريكا الجنوبية) لتخليص الناس من الطفيليات التي ستواصل نقل الملاريا إذا بقيت لديهم. ولم تقتصر الجهود على ذلك، فقد جلب المهندسون العاملون في سلطات وادي تينيسي معهم الطاقة الكهربائية إلى الجنوب، كما قاموا بتنظيم تدفق المياه عبر السد لإزاحة يرقات البعوض بعيدا، ووضعوا على النوافذ والأبواب مساحات واسعة تُقدّر بالأكرات (بالفدادين) acres من الشباك التي تمنع مرور البعوض. وما حدث بعد ذلك هو أن الملاريا اندحرت وأن الاقتصاد المحلي ازدهر.
كيف تنتشر الملاريا(*****)
يحتاج طفيلي الملاريا إلى كل من الإنسان والبعوض لكي يتكاثر ويحافظ على حياته. وتعيق حلقة الحياة المعقدة هذه الجهودَ التي تبذل لهندسة لقاح يستطيع الفتك بالطفيلي. وتركز الاستراتيجيات الحالية للأبحاث حول اللقاح على ثلاث مراحل من حياة الطفيلي (a و b و c)، منهما مرحلتان في الإنسان والثالثة في البعوضة.
|
ثم جاءت الأيام الذهبية للمبيد DDT (وتركيبه الكيميائي ثنائي كلورو ثنائي فينيل ثلاثي كلورو الإيثان). وبعد أن استخدمت القوى العسكرية المسحوق القابل للترطيب لرش البعوض من الجو في المواقع المنهكة بالملاريا في المحيط الهادئ خلال الحرب العالمية الثانية، أخذت سلطات الصحة العمومية زمام المبادرة، فبعد خمس سنوات من ذلك أصبح الرش الانتقائي ضمن البيوت محور الجهود العالمية لاستئصال الملاريا. وبحلول عام 1970 حرر رش المبيد DDTوالتخلص من مواقع تفقيس البعوض والتوسع في استخدام الأدوية المضادة للملاريا أكثر من 500 مليون شخص أو ما يعادل ثلث أعداد الناس الذين كانوا يعيشون تحت وطأة تهديد الملاريا.
إلا أن البلدان الواقعة جنوبي الصحراء الإفريقية كانت على الدوام حالة خاصة. فباستثناء عدد قليل من البرامج الارتيادية، لم تبذل جهود متواصلة لاستئصال الملاريا فيها، بل بدلا من ذلك فإن توفير الكلوروكين ـ وهو مركب رخيص الثمن، مصنوع من الكينين وأُدخل حيز الاستعمال بعد الحرب العالمية الثانية ـ مَكَّن البلدان التي تعاني شح الموارد من إحلال العاملين الصحيين الذين يعمل كلٌّ منهم بمفرده محل العمليات الضخمة والتقنية لرش المبيدات. وقد أنقذ العاملون الصحيون المُشاة الملايين من الناس بتوزيعهم الأقراص على كل فرد تقريبا يعاني الحمى في الستينات والسبعينات. إلا أن الكلوروكين بدأ يفشل ببطء تجاه الملاريا المنجلية، وهكذا بدأت موجة عاتية من الوفيات بسبب البنية التحتية الضئيلة المتبقية والخبرات التي لا تكفي لمكافحة البعوض الضاري الناقل للملاريا في إفريقيا.
يلقي كل من الفقر والملاريا بوطأتهما على أرض مشتركة بينهما، فالتكاليف التي يفرضها المرض تزيد كثيرا على ما يُنفق للوقاية وللمعالجة، لتشتمل أيضا على ما يفقد من كل من الدخل وعوائد الاستثمار والسياحة. وقد تراوح النمو الاقتصادي السنوي في البلاد الموطونة بالملاريا في الفترة بين عامي 1965 و 1990 نحو 0.4% من نصيب الفرد من مجمل الناتج المحلي، مقارنة له بنحو 2.3% في بقية أنحاء العالم. |
وهكذا تعلم الاقتصاديون مرة أخرى المزيد من الدروس، فلم يقتصر أثر الملاريا في السكان بإفريقيا على إنقاص الدخل وإهدار الأموال اللازمة لتوفير الاحتياجات الضرورية مثل الطعام وأقساط مدارس اليافعين، بل تجاوز ذلك لإذكاء الخصوبة بما تولّده الملاريا لدى ضحاياها من افتراض أنهم سيفقدون أطفالهم على الدوام بسبب المرض. وعلى الصعيد الإقليمي فإن الملاريا تستنزف ما عند البلدان من استثمارات أجنبية ومن سياحة وتجارة. وعلى صعيد القارة الإفريقية فإن الملاريا تكلف ما يصل إلى 12 بليون دولار أمريكي كل عام، أو 4%من مجمل الناتج المحلي. وباختصار؛ لا تزال الملاريا في كثير من البلدان مترسخة بسبب الفقر، وهي تخلق في الوقت نفسه فقرا دائما.
مكافحة البعوض(******)
قبل عدة سنوات كنت أعتقد أن الجميع يعرف كيف تصيب عدوى الملاريا البشر في الليل بلدغ بعوض الأنوفيل المُحَمَّلة بالطفيليات. أما الآن فإن معرفتي أصبحت أفضل حالا عما كانت عليه من قبل، إذ مازال بعض القاطنين في المجتمعات الموبوءة بالملاريا، ممن هم على مستوى رفيع من الحصافة والذكاء، يعتقدون أن روحا شريرة أو بعض الأطعمة هي التي تسبب الملاريا، وهذا يوضح أهمية تلبية احتياجات مُلِحَّة لم تلبَّ بعد، وهي إتاحة تثقيف أفضل حول الملاريا. على أنه قبل وقت طويل من معرفة <R.روس> و<P.J.گراسي> في نهاية القرن التاسع عشر أن البعوض هو الذي ينقل الملاريا، كان الأذكياء من الناس يبتكرون طرقا لاتقاء لدغات البعوض. فقبل ما يقرب من خمسة قرون من ميلاد السيد المسيح وصف هيرودوتوس في كتابه «التاريخيات» كيف يحمي المصريون الذين يعيشون في الأراضي المنخفضة أنفسهم بشبكات صيد السمك: «إن لدى كل رجل شبكة يستخدمها أثناء النهار في صيد السمك، ولكنه في المساء يجد لها استخداما آخر، إذ يُسجيها فوق فراشه، فإذا كان بإمكان البعوض أن يلدغ من خلال أي غطاء أو بطانية من الكتان، فإنها لا تتجرأ على محاولة اللدغ من خلال الشبكة.» ومن هذا المنطلق، يرى بعض الدعاة لاستخدام الناموسيات أن الشبكات المنقوعة في زيت السمك هي أبكر الأقمشة المُشرّبة بمُنفّرات البعوض ظهورا في التاريخ.
ثم كان علينا أن ننتظر حتى جاءت الحرب العالمية الثانية، حينما غمست القوات الأمريكية في جنوب المحيط الهادئ الشبكات والأرجوحات الشبكية في المبيد DDT بتركيز 5%، وعندها توطّدت الشراكة الرسمية بين مبيدات الحشرات والأقمشة. وبعد تأرجح في وجهات نظر العامة ضد المبيد DDT، كانت الخطة المنطقية التالية هي معالجة الناموسيات بصنف من مبيدات الحشرات التي تتفكك بيولوجيا وهو مركبات الپيريثْرويْدات pyrethroids. وقد ثبت بعد ذلك أنه إنجاز عظيم. فاستخدام الناموسيات المعالجة بمركبات الپيريثرويدات لأول مرة على نطاق واسع مع الأدوية المضادة للملاريا، وهو الأمر الذي أُبْلِغ عنه عام1991، قد أدى إلى نقص في الوفيات بين الأطفال دون سن خمس سنوات في گامبيا إلى النصف، فيما نجم عن استخدام تلك الناموسيات المُعالجة بمركبات الپيريثرويدات لوحده من دون أدوية مضادة للملاريا في غانا وكينيا وبوركينافاسو تأكيدُ هذا الاتجاه الذي ينقذ حياة الناس إلى جانب تحقيق مكاسب مهمة في صفوف الحوامل من النساء، ومما زاد على ذلك أنه بتوسيع الاستخدام لدرجة كافية فإن جميع الأسر والمجتمعات استفادت من الناموسيات، حتى أولئك الذين لا ينامون تحتها.
DDT: رمز لخطأ مضى(*******)
في خمسينات القرن الماضي، شملت حملة لاستئصال الملاريا جميع أرجاء العالم واتخذت من رش البيوت بالمبيد DDT (ثنائي كلور ثنائي فنيل ثلاثي كلور الإيثان) دعامة رئيسية لها. وخلال ما يقل عن عقدين من الزمان، مكَّن هذا المبيد للهوام(6) الكثير من البلدان من مكافحة المرض. ففي الهند، على سبيل المثال، انخفض عدد الوفيات الناجمة عن الملاريا من800000 في السنة إلى الصفر تقريبا، لفترة زمنية ما. ثم في عام 1972 حظرت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية استخدام المبيد DDT في رش المحاصيل، مع استثناء استخدامه في الصحة العمومية وبعض الاستخدامات الضئيلة الأخرى. ويقال إن سبب الحظر هو الكتاب الجيد العرض الذي ألفته <R.كارسون> بعنوان الربيع الصامت والذي طُبِع قبل عقد من ذلك الزمان، إذ تتبعت فيه <كارسون> بدهاء ودقة الطريق الذي يسلكه المبيد DDT وصولا إلى السلسلة الغذائية وبتراكيز متزايدة، وكيف يقتل المبيد DDT الحشرات وبعض الحيوانات قتلا سريعا، فيما يسبب تخريبا وراثيا لبعضها الآخر. وهكذا أصبح المبيد DDT رمزا لأخطار العبث بالطبيعة. وبما أن البلدان المتقدمة كانت قد تخلصت من الملاريا داخل حدودها، فقد سارعت إلى التخلص من المواد الكيميائية. وقد سار معظم البلدان الأوروبية على خطى الولايات المتحدة الأمريكية في حظر مبيدات الهوام في التطبيقات الزراعية في سبعينات القرن الماضي. أما في البلدان الواقعة جنوبيَّ الصحراء الإفريقية، حيث لا تزال الملاريا في عنفوانها، فإن اتخاذ مثل هذه القرارات كان بمثابة فقدان سلاح مهم. ولكن معظم تلك البلدان لم يعد يستعمل المبيد DDT، ليس بسبب حظر استخدامه فيها ـ وفي الحقيقة كان المبيد DDT مسموحا باستخدامه في الصحة العمومية في معظم بلدان العالم التي تتوطن فيها الملاريا ـ ولكن بسبب أن البلدان والمنظمات الغنية والمانحة تقاوم تمويل مشاريع يُرَشّ فيها المبيد DDT، حتى لو كان الرش بطريقة مسؤولة. ويعتقد الكثير من الباحثين أنه ينبغي النظر إلى المبيد DDT بطريقة أخرى، فقد لاحظوا أنه إلى جانب كونه ساما للبعوض، فإنه ينأى بالحشرات بعيدا عن الجدران المرشوشة وخارج البيوت وقبل أن تلدغ، مما يعيق دخولها إلى البيوت بشكل رئيسي؛ فهو إذًا بمثابة ذيفان سام ومهيج ومُنفّر في مادة واحدة. والأكثر من ذلك أن تأثيره يدوم ضعف مدة دوام البدائل الأخرى، وتكاليفه لا تزيد على ربع تكاليف أرخص مبيدات الحشرات التي تليه في قائمة الأسعار. وتترسخ الجذور القاتلة للمواد الكيميائية عن طريق السلسلة الغذائية في الرش الزراعي (وبشكل رئيسي في حقول القطن)، وهي تختلف عن استعمالاتها الأكثر اعتدالا والتي تستخدم داخل المنازل لتنفير البعوض. إن تعفير 100 هكتار من حقول القطن يتطلّب 1100كيلوغرام من المبيد DDT ترش خلال أربعة أسابيع (في حين يتطلب رش السطوح الداخلية للمنزل بالمقابل نصف كيلوغرام تقريبا تطبّق مرة أو مرتين في السنة). إن المبيد DDT وحده لن ينقذ العالم من الملاريا. فعلى سبيل المثال، إن رش المنازل يفيد فقط ضد البعوض الذي يلدغ داخل المنزل ولكن الأدوية الفعالة لمعالجة المصابين بالعدوى أمر ضروري لا يقل أهمية عن الإجراءات الأخرى لمكافحة البعوض، إلا أن معظم المهنيين الصحيين العاملين في الملاريا يدعمون الاستخدام الموجَّه للمبيد DDT كجزء مهم من مجموعة الأدوات. هيئة التحرير
تناقصت حالات الملاريا بشكل واضح في كوازولوذناتال عندما رشت حكومة جنوب إفريقيا المساكن بالمبيد DDT، ثم عالجت في وقت آخر المرضى بتوليفة من الأدوية التي تضم الأرتميسينين (المخطط). ولأنها واحدة من قلة قليلة من البلدان الإفريقية التي تمتلك الثروة الكافية لتمويل برامجها، لم يكن عليها أن تعتمد على المانحين الذين يمانعون استخدام المواد الكيميائية. وتقدم الثغرات الكثيرة في البيت الإفريقي النموذجي، مثل تلك التي تظهر في الصورة المرفقة، العديد من نقاط دخول البعوض |
إلا أن استخدام الناموسيات المعالجة بمبيدات الحشرات يواجه بعض العوائق، فهي لا تفيد إلا في اتقاء لدغات البعوض داخل المنازل وخلال ساعات النوم، وهو سلوك لا يتسم بالشمول. وقد تُعَرِّض الناموسيات النائمين للحرارة، مما يثنيهم عن استخدامها. وحتى وقتنا الحاضر، ورغم توافر نوعين من الناموسيات المُشَرَّبة بالمركبات الطويلة الأمد من الپيريثرويدات وهما پيرمانتPermaNet وأوليسيت Olyset، فإنه ينبغي غمس هذه الناموسيات كل 6 إلى 12شهرا في تلك المركبات حتى تبقى فعالة. وأخيرا فإن تكلفة تبلغ 2 إلى 6 دولارات أمريكية لكل شبكة مع أو من دون تكاليف مركبات مبيدات الحشرات هي تكلفة غير ميسورة لكثير من الناس. وقد أوضحت دراسة أجريت مؤخرا في كينيا أن21% من السكان كان لديهم ناموسية في وقت ما من حياتهم، ومن بين تلك الناموسيات كان 6% مُعالجا بمبيدات الحشرات. فيما توصل تلخيص 34دراسة مسح نُفِّذَتْ بين عامَي 1999 و 2004 إلى نتائج أكثر إحباطا مفادها أن ما لا يتجاوز 3% من اليافعين الأفارقة قد استفادوا من الحماية التي تقدمها الناموسيات المُعالجة بمبيدات الحشرات، هذا مع أن التقارير الميدانية تشير حاليا إلى أن استخدام الناموسيات في ازدياد متسارع.
ويمكن لمقاومة البعوض لمبيدات الحشرات أيضا أن تُقلّل من فعالية الناموسيات كحلٍ طويل الأمد؛ فالبعوض يستطيع تعطيل مركبات الپيريثرويدات وراثيا، وقد اتضح ذلك في العديد من المواقع ومنها كينيا وجنوب إفريقيا، كما أن بعض بعوض الأنوفيل يتمكّن من البقاء وقتا أطول قبل أن يموت متأثرا بمركبات الپيريثرويدات، وهو سلوك تلاؤمي يبعث على القلق ويعرف بالمقاومة للموت. ونتيجة لوجود قلة قليلة من مبيدات الحشرات الثمينة التي يراد لها أن تستخدم في الصحة العمومية خلال وقت قريب (ويعود ذلك بشكل كبير إلى تدني الحوافز الاقتصادية التي تدفع الباحثين إلى ابتكار المزيد منها) فإن أحد الحلول المقترحة يتمثل في استخدام مبيدات الحشرات الزراعية ضمن الناموسيات بشكل متناوب. ومن المجالات الأخرى للأبحاث التي قد تنتج سلعا إضافية من بين المنفّرات الجديدة يحتَلُّ فك الكود (رموز الشفرة) الشمّية التي تجذب البعوض للبشر المقام الأول (ومما يدعو للعجب فإن التغير في رائحة الجسم الناجم عن وجود طفيليات المتصورات المنجلية في الدم قد يجتذب لدغات البعوض. فوفقا لتقرير صدر في كينيا مؤخرا، فإن أطفال المدارس الذين تتجول في دمائهم عرسيات gametocytes الملاريا ـ وهي إحدى مراحل تطور الملاريا التي يمر بها البعوض ـ يتعرضون لأعداد من اللدغات تزيد بمقدار الضعف على ما ينال نظراؤهم غير المصابين بالعدوى من تلك اللدغات).
لا يزال هذا المرض القديم، والذي يمكن توقّيه ومعالجته، يقتل ما لا يقلّ عن مليون إنسان كل عام. |
ولكن ماذا عن تسخير هذه المخلوقات الصغيرة المُجَنَّحة لقتل طفيليات الملاريا؟ من الناحية النظرية البحتة، يمكن للهندسة الوراثية أن تقمع تكاثر الطفيليات، وهي من وحيدات الخلية، قبل أن تغادر الغدد اللعابية للحشرات. فإذا استطاعت مثل هذه الحشرات، التي لا تستطيع الطفيليات التكاثر فيها، أن تحلّ محلّ أقربائها الطبيعية في البراري فقد تستطيع عندئذٍ أن تعيق انتشار طفيليات الملاريا إلى الناس. وقد أمكن مؤخرا تعرّف الجينات الأصلية التي تعيق تكاثر الملاريا ضمن بعوض الأنوفيل. ويتم في الوقت الحاضر التحضير لإعادة الهندسة الوراثية لذرارٍ من أنواع عديدة ومختلفة. وما إن تستكمل تربيتها في المختبر حتى تطلق هذه الحشرات الطروادية Trojan في العالم الحقيقي لتواجه مجموعة مكتملة وجديدة من التحديات التي من بينها التحديات الأخلاقية.
وفي الوقت الحاضر وباختصار، فإن رش ثمالات DDT داخل المنازل، وهي من الطرق القديمة للمكافحة، يُعدّ أداة قيمة من أدوات الصحة العمومية في العديد من المواقع في إفريقيا ومناطق أخرى من العالم [انظر الإطار في الصفحة المقابلة]. وعند رش المبيد DDT على السطوح فإنه يبقى فيها لفترة ستة أشهر أو أكثر. ويؤدي المبيد DDT إلى إنقاص التماس بين الناس والبعوض بآليتين رئيسيتين هما تنفير بعض البعوض حتى قبل أن يدخل المبنى، وقتل بعضه الآخر إذا ما حط على الجدران المعالجة بالمبيد DDT بعد تناوله طعامه. ومن الأمثلة المذهلة لفعالية رش ثمالات DDT ما لوحظ في كوازولو-ناتال عامي 1999و 2000. فمنذ أعوام عديدة، ومنذ الشروع في هذه الولاية من ولايات جنوب إفريقيا في تنفيذ برنامج مكافحة الملاريا، قاد فشل الأدوية إلى جانب وجود الأنوفيلات الفونستية A. funestus إلى ظهور أعداد كبيرة من حالات الملاريا المنجلية، وقد أدت إعادة إدخال الرش الثمالي للمبيد DDT مع أدوية جديدة وفعالة إلى إنقاص 91% من الحالات خلال سنتين.
معالجة المرضى(********)
ليس بمقدور الإجراءات التي تُتَّخَذ لمكافحة البعوض لوحدها أن تربح الحرب ضد الملاريا، إذ الحاجة ماسّة إلى أدوية أفضل وخدمات صحية أفضل تقدَّم كل عام لملايين من الفتيان والبالغين ممن ينؤون عن الرعاية الطبية، وهم في ذلك يناورون كأنهم بهلوان يمشي على الحبل، فبعضهم يثقُ بالعَشَّابين(7) من القرويين أو بالدجالين المتجولين، فيما يتناول البعض أقراصا لا يُعرَف مصدر صناعتها ولا جودتها أو نجاعتها (ويشمل ذلك التزييف(8))، وهي معالجات يشتريها أفراد الأسرة أو الجيران من مصادر غير خاضعة للوائح والتشريعات. وهكذا فإن 70% من مضادات الملاريا المستخدمة في إفريقيا تُسْتَمَدّ من القطاع الخاص غير الرسمي؛ وبعبارة أخرى من بائعين صغار يقفون على جانب الطريق، وليس من عيادات أو صيدليات مرخصة.
ونظرا إلى ما يتمتع به الكلوروكين من نجاعة مباشرة ومن رخص الثمن الذي لا يتجاوز بضعة بنسات لتغطية تكاليف دورة علاجية كاملة، فإنه لا يزال يحتل موقع الصدارة في مبيعات المستحضرات الصيدلانية من مضادات الملاريا في إفريقيا. ويليه في قائمة الأدوية الميسورة التكلفة في إفريقيا السلفادوكسين-پيريميثامين، وهو من المضادات الحيوية التي تتداخل في تركيب الطفيليات لحمض الفوليك. ولسوء الحظ يمكن للمتصورات المنجلية في إفريقيا وفي أصقاع أخرى من العالم أن تتجنب تأثير هذا المركب باكتسابها طفرات متعاقبة تنتهي بجعل الدواء عديم الفعالية.
وبالنظر إلى تعاظم طيف المقاومة لأدوية الملاريا، فهل يمكن للدروس المستفادة من الأمراض المُعْدِيَة الأخرى أن تدلّنا على استراتيجيات مستقبلية لتقوية المعالجة الدوائية للملاريا؟ ففي العقود الحالية، أدت الذراري من العوامل المسببة للسل والجذام والإيدز والعدوى بکيروس العوز المناعي البشري والتي تتسم بمقاومتها للأدوية إلى التحوّل إلى نُظُم علاجية تتألف من دواءين أو ثلاثة أدوية معا، مما ساعد على إحباطٍ استباقي لظهور المزيد من «الجراثيم الفائقة» superbugs. وفي الوقت الحاضر، يعتقد معظم الخبراء أن بمقدور المعالجة بأدوية متعددة أن تدحر أيضا مقاوَمة المتصورات المنجلية للأدوية، ولا سيما إذا ما تضمّنت تلك الأدوية أحد أشكال الأرتِميسا الحَوْلية Artemisia annua، وهو أحد الأعشاب الطبية الذي كان يستخدم علاجا عاما للحمى في الأزمنة الغابرة في الصين؛ إذ تقهر الأدوية المشتقة من الأرتِميسا (والتي تدعى بشكل عام مركبات الأرتِميسينين) طفيليات الملاريا بسرعة تزيد على ما تفعله أي معالجة أخرى، كما تكسر حلقة السراية من البشر إلى البعوض. ونظرا إلى هذه المزايا التي لا تضاهى، فقد كان من البديهي أن تُضَمّ مركبات الأرتميسينين إلى الأدوية الفعالة الأخرى المضادة للملاريا توخيا لاتقاء أو تأخير ظهور المقاوَمة للأرتميسينين. ولم يقتصر ذلك على البلدان الإفريقية، بل امتدّ ليشمل العالم بأجمعه. ومع ذلك كله، لن يكون هناك ضمانة أن الملاريا لن تعود يوما إلى مكامنها القديمة. فنحن نعلم أنها تستطيع أن تفتك بالمسافرين في مختلف أرجاء العالم. وفي السنوات الأخيرة، تسللت المتصورات المنجلية عبر رحلات الخطوط الجوية، لتنقل العدوى إلى الأصحاء من المارة على بعد أميال قليلة من المطارات البعيدة عن المأوى الطبيعي للملاريا.
إلا أن للتوليفات العلاجية الجديدة مشكلاتها وعقباتها؛ فتكاليفها في الوقت الحاضر أكثر بمقدار 10 إلى 20 ضعفا من تكاليف الأدوية التي اعتاد الإفريقيون على استخدامها، مع أن فعاليتها تتضاءل باستمرار. وهذه التكلفة ليست ميسورة لمعظم ضحايا الملاريا ولا لمعظم البلدان التي تعاني معاناة شديدة الوطأة من الملاريا. وحتى لو كانت أسعار هذه التوليفة الجديدة أكثر اعتدالا فإن الإمداد من مركبات الأرتِميسينين على الصعيد العالمي أقل بكثير من مستويات الحاجة إليها. والحاجة ماسة إلى إسهامات المانحين للبدء بتطوير دورة إنتاجية تستغرق 18 شهرا تشتمل على زراعة النبات وقطافه وتصنيعه. وقد لا يتاح للشركة نوکارتِس Novartis ـ وهي أول شركة تعاقدت معها منظمة الصحة العالمية لصناعة توليفة مشتركة تضم الأرتميسينين (الأرتِميثير مع اللوميفانترين) ـ التمويل الكافي والمواد الخام لإنتاج جزء من الكمية التي كان يؤمل تقديمها في عام 2006 والتي تقدر بنحو 120 مليون دورة علاجية.
ولكن هل من أنباء سارة؟ نعم، فنحن نلمح في الأفق الأدوية المخلَّقة (المصنَّعة) والأرخص ثمنا والتي تحتفظ بالتركيبة الكيميائية المميزة لمركبات الأرتِميسينين المشتقة من النباتات (وهي رابطة البيرأوكسيد ضمن حلقة كيميائية)، والتي ربما تصبح في متناولنا خلال 5 إلى 10 سنوات. وقد تمّ إنتاج أحد النماذج الأولية من خلال الأبحاث التي أجريت في نهاية التسعينات من القرن الماضي، وفي عام 2004 دخل مرحلة التجارب على البشر. ومن المناورات التكتيكية الأخرى التي يُرجَى نفعُها والتي يمكنها أن تتجاوز الاستخلاص من النباتات أو التخليق الكيميائي معا هي تضفير جينات نبات الأرتميسا الحولية مع جينات خمائر yeast تُدَسّ ضمن بكتيرات(9) الإشريكية القولونية، ثم استخلاص المواد الدوائية التي تتمخض عنها البكتيرات. وقد كان للباحثين في جامعة كاليفورنيا في بيركيلي فضل الريادة في هذا الأسلوب.
وتكتسب الوقاية مناصرة كبيرة لا تقلّ أهمية عن معالجة المصابين المعرضين لأخطار شديدة، وهم بالدرجة الأولى من الأفارقة من الأطفال والحوامل. وقد وجد في ستينيات القرن الماضي أن إعطاء جرعة منخفضة من مضادات الملاريا لوقاية الحوامل في نيجيريا أدى للمرة الأولى إلى زيادة أوزان المواليد عند الولادة. وفي الوقت الحاضر، حلّ إعطاء دورة علاجية كاملة من السلفادوكسين-پيريميثامين تُكرّر عدة مرات خلال الحمل وفترة الرضاعة محل إعطاء الجرعات المنخفضة، ويستعمل حاليا بشكل متزايد عند زيارات تمنيع الأطفال. ويبدو أن هذه الخطة العلاجية ناجحة حتى يومنا هذا في خفض العدوى وفقر الدم، ولكن السؤال الذي سوف يُطرَح عندما تغطي المقاومة للأدوية كامل القارة الإفريقية هو: ما المعالجة الوقائية التي ستحلُّ محلّ السلفادوكسين-پيريميثامين؟ ومع أن الجواب المنطقي لأول وهلة قد يكون جرعة وحيدة من الأرتِميسينين، فإن هذه المركبات غيرملائمة للوقاية، لأن مستواها في الدم يتناقص بسرعة كبيرة، كما أن إعطاء جرعات متكررة من الأرتميسينين للنساء والأطفال ممن لا يشتكي أي منهم من أي أعراض يُعدّ ممارسة لم تخضع للتجربة حتى الآن ، هذا إلى جانب أنها قد تؤدي أيضا وبلا شك إلى تأثيرات جانبية. وفي العالم المثالي فإن الوقاية تعني اللقاحات.
أين نحن حاليا من اللقاحات؟(*********)
لقد اتضح ومن دون أدنى شك أن ابتكار لقاحات تؤمن وقاية طويلة الأمد من الملاريا هو أمر أكثر صعوبة مما كان العلماء يتخيلون في البداية، وذلك رغم التقدم المحرز خلال العقود العديدة الماضية. ويأتي في جذور هذه المعضلة ما تتسم به دورة حياة الملاريا من تعقيد، فهي تضم مراحل متعددة في كل من البعوضة وفي الإنسان. وإذا كان اللقاح فعالا في القضاء على إحدى المراحل فإنه لن يستطيع تثبيط مراحل أخرى. وثمة تحد آخر يتمثل فيما تتسم به الملاريا من تشكيلة جينية مُعقّدة، إذ إن من بين 5300 من الپروتينات التي يكوِّدها الجينوم(10) للمتصورات المنجلية، هناك ما يقلّ عن 10% منها تؤدي إلى إحداث استجابة واقية في الفرد المُعَرّض بشكل طبيعي لها. وهذا سيثير السؤال عن أي من هذه الپروتينات سيدور الحديث؟ ففي مقدمة العملية ينبغي لأسلحة متعددة للنظام المناعي البشري (وهذه الأسلحة هي الأضداد والخلايا اللمفية، التي تتخذ من الطحال منطلقا لها) أن تعمل معا على تحقيق استجابة مثالية للتلقيح (للتطعيم) ضد الملاريا. وحتى عند الناس الذين يتمتعون بالصحة، فإن مثل هذه الاستجابة لا تحدث إلا لدى عددٍ قليلٍ من السكان الذين سبق لهم التعرض للملاريا وللأمراض الأخرى.
< إبراهيم سامبا>، الذي تقاعد مؤخرا من منصبه مديرًا إقليميا لمنظمة الصحة العالمية ـ الإقليم الإفريقي، لا يزال يحمل على وجنتيه شقوقًا وعلامات مخططة ومتوازية منذ كان في الثانية من عمره، عندما شارف على الموت بسبب الملاريا الوخيمة. |
وحتى الآن، فإن معظم اللقاحات المضادة للمتصورات المنجلية تستهدف واحدة فقط من المراحل البيولوجية الثلاث للملاريا وهي: البائغة sporozoiteوالأقسومة merozoite والعِرسيّة gametocyte [انظر الإطار في الصفحة 22]، وذلك مع أن التخطيط قد تضمن في حسبانه أيضا لقاحات تستهدف مراحل متعددة، وهو ما يمكن أن يبرهن على فعالية أكثر في نهاية المطاف. وقد بدأت بعض الرؤى التي ظهرت في المراحل الأبكر حول مهاجمة البوائغ (وهي مرحلة من دورة حياة الطفيلي تدخل جسم الإنسان من خلال خطم (خرطوم) البعوضة)، وذلك عندما اكتشف باحثون من جامعة ماريلاند في السبعينات من القرن الماضي أن البوائغ المنجلية المُضْعَفَة بتعريضها للأشعة السينية قد أدّت إلى وقاية المتطوعين من البشر، ولو أن ذلك كان لفترة قصيرة. ويفترض أن اللقاح يعمل على تحريض الجهاز المناعي لتعديل الطفيليات التي تدخل بشكل طبيعي، وذلك قبل أن تهرب ـ وخلال ساعة من دخولها ـ إلى محطتها التالية وهي الكبد.
إن إثبات أن الأضداد المُخلّقة (المنتجة صنعيا) ضد البوائغ يمكنها أن تقي من الملاريا قد حضّ على المزيد من العمل. فبعد ثلاثة عقود، أثمرت الجهود في عام2004، عندما أدى اللقاح المضاد للبوائغ إلى إنقاص هجمات الملاريا الوخيمة إلى النصف لدى ألفين من الأطفال في أرياف موزامبيق، ممن تراوح أعمارهم بين سنة واحدة وأربع سنوات، وهي الفترة التي يكون فيها الأطفال الإفريقيون أكثر تعرضا للموت بسبب الملاريا. واشتملت الصيغة formula التي استخدمت في هذه الدراسة السريرية (الإكلينكية) (وهي أكثر الصِيغ التي يُرجى نفعها) نسخا متعددة من شدف (قطع) پروتينية لبوائغ المتصورات المنجلية مرتبطة بالپروتين الکيروسي لالتهاب الكبد البائي الذي أضيف إليها بغرض اكتساب المزيد من القوة. ومع ذلك فقد كان الأشخاص الذين خضعوا للدراسة بحاجة إلى ثلاثة تمنيعات منفصلة، وكانت فترة الحماية أقصر (لم تتجاوز ستة أشهر). وفي الواقع فإنه ما إن تتوافر النسخة المُحَسَّنة من اللقاح المعروف بـ RTS,S (أو إحدى النسخ الشقيقة له والتي يزيد عددها على الثلاثين نسخة قيد التطوير السريري حاليا) حتى تظهر في الأسواق خلال السنوات العشر القادمة، وعليها بطاقة توضح السعر، حتى تحقق للشركة Big Pharma المنتجة قفزة كبيرة. ونظرا إلى التكاليف المتوقعة فإن شراكات بين القطاعين العام والخاص، مثل مبادرة لقاح الملاريا الذي تتخذ من سياتل مركزا لها، تعمل حاليا على المساعدة على تمويل هذه التجارب المتواصلة.
وهناك شيء آخر إضافي لابد من أخذه بالحسبان حول لقاحات الملاريا. وهو أنه حتى عندما تتوافر مثل هذه اللقاحات، وإذا ما ترافق ذلك بحسن الحظ، فإن الحاجة عاجلا أو آجلا ستبقى ماسة إلى كل من المعالجة الفعالة والاستراتيجيات المضادة للبعوض. فما السبب؟ أولا وقبل كل شيء، لأن معدلات الحماية لن تصل أبدا قريبا من 100% لدى من يتلقون اللقاح. كما أن أفرادا آخرين لديهم الاستعداد للإصابة بالملاريا ولاسيما من الفقراء في الريف الإفريقي قد لا يتاح لهم أبدا الحصول على اللقاح. ومن هنا فإن جميع الإجراءات الوقائية والاستنقاذية يجب أن تبقى، في الأفق المنظور، بمثابة ترسانة واقية.
استثمار في الملاريا(**********)
مرة أخرى يجد العالم نفسه متقبلا للحقيقة حول الملاريا؛ فالعدو القديم لايزال يقتل ما لا يقلّ عن مليون شخص كل عام. وفي الوقت نفسه، يسبب هذا العدو صعوبات بدنية ونفسية واقتصادية. فإذا أخذنا بالحسبان ما لدينا من أدوات وأسلحة تلوح في الأفق وتحمل معها وعودا، فإننا سنقول إن الوقت قد حان لكسر شوكة الملاريا.
لقد شهد العقد الماضي تحقيق مراحل مهمة في مكافحة الملاريا، ففي عام1998 أسست منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي شراكة دحر الملاريا. وفي عام2000 اعتبرت الدول الثماني الكبرى الملاريا واحدة من ثلاث جائحات تأمل كبح جماحها، هذا إذا لم تتمكن من دحرها والتخلص منها تماما؛ ثم أنشأت الأمم المتحدة بعد ذلك الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا مع التزامها بصدّ المدّ المتصاعد للملاريا وحسره خلال 15 عاما. وقد أعلن البنك الدولي هجوما جديدا على الملاريا، كما أعلن الرئيس <جورج دبليو بوش> حزمة قوامها 1.2 بليون دولار أمريكي لمكافحة الملاريا في إفريقيا خلال السنوات الخمس القادمة، وتتضمن استخدام الناموسيات المعالجة بمبيدات الحشرات ورش مبيدات الحشرات داخل المنازل والمعالجة بتوليفات من الأدوية. ومؤخرا بدأ البنك الدولي بالبحث عن طرقٍ للتعويض عن أثمان المعالجة بتوليفة من الأدوية تتضمن الأرتميسينين. وبإرسال هذا العدد من إلى المطبعة فإن مؤسسة بيل وميليندا گيتس أعلنت عن ثلاث منح مجملها 258.2 مليون دولار أمريكي لدعم التقدم المحرز في ابتكار لقاح للملاريا وأدوية جديدة مضادة لها وتحسين طرق مكافحة البعوض.
وعلى الرغم من هذه الخطوات الإيجابية، فإن الأموال المتوافرة لا تكفي لأداء المهمة المطلوبة. وفي الوقت نفسه، إلى جانب الإعلان الصادر عن مؤسسة گيتس، لاحظت تحليلات ضخمة وجديدة لتمويل الأبحاث والتنمية لمواجهة الملاريا على الصعيد العالمي، أن أقلّ من 323 مليون دولار فقط قد أُنْفِق عام 2004. وهذا المبلغ أقل بكثير من المبلغ المقدر بنحو 3.2 بليون دولار، الذي يلزم كل عام لخفض عدد الوفيات الناجمة عن الملاريا إلى النصف بحلول عام 2010. وربما حان الوقت لاستنهاض الخبراء والعاملين الميدانيين، بل وعامة الشعب. فيمكنك بدفع 5 دولارات، وهو المبلغ الذي يكفي لشراء وجبة طعام في الولايات المتحدة الأمريكية، أن تقطع مرحلة متقدمة في شراء ناموسية معالجة بمبيدات الحشرات، وفي دفع تكاليف دورة علاجية تستمر ثلاثة أيام وتشتمل على توليفة تتضمن الأرتميسينين لمعالجة الأطفال الإفريقيين.
وقد يتذكر القراء، وهم يأخذون بالحسبان ما سيعود عليهم من فوائد من هذا الاستثمار، ذلك الطفل الصغير الذي تعلو الندبات خديه، بعد أن نجا بجلده من أتون الملاريا، ثم كرّس حياته، وهو بالغٌ، لمكافحة الملاريا. وكم من الأطفال الآخرين الذين ستُنقذ حياتهم، سيحققون إنجازات رائعة وهم كبار؟
المؤلفة
Claire Panosian Dunavan
مختصة في طب المناطق المدارية في كلية طب داکيد گيفين بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. وقد شاركت في تحرير التقرير الذي صدر مؤخرا عن المعهد الطبي بعنوان: إنقاذ الحياة؛ كسب الوقت، اقتصادات أدوية الملاريا في عصر المقاومة. وقد تخرجت في جامعة ستانفورد وكلية طب الجامعة الشمالية الغربية وكلية لندن للصحة وطب المناطق المدارية، وهي مُدَرِّسة متميزة وممارِسة سريرية (إكلينيكية) متشوقة للمعرفة، أمضت في مهنتها الثانية (الصحافة الطبية) نحو عشرين عاما.
مراجع للاستزادة
What the World Needs Now is DDT. Tina Rosenberg in New york times Magazine, pages 38-43; April 11,2004.
Medicines for Malaria Venture: www.mmv.org/
World Health Orginization, Roll Back Malaria Department: www.who.int/malaria
(*)TACKLING MALARIA
(**)Overview/ Where We Stand Today
(***)A Villain in Africa
(****)Lessons of History
(*****)How Malaria Spreads
(******)Battling the Mosquito
(*******)DDT: A Symbol Gone Awry
(********)Treating the Sick
(*********)Where We Stand on Vaccines
(**********) Investing in Malaria
(1) insecticide
(2) أو المشافي (جمع مشفى)
(3) البقاء على قيد الحياة
(4) وجمعها أمعاء
(5) altruistic gametocyte-based vaccines
(6) pesticide
(7) المعالجين بالأعشاب
(8) counterfeits
(9) ج: بكتيرة
(10) أو المجين (المجموع الجيني الموروث)