تزامنت شيخوخة <R.فيرخو> [الطبيب وعالم الأعصاب الألماني والناشط السياسي المعروف في القرن التاسع عشر] مع حدثين مثيرين: تفشي مرض التيفوئيد في عام 1847 واندلاع ثورات عام 1848 الفاشلة. من هذين الحدثين استخلص <فيرخو> نتيجتين مهمتين: الأولى تشير إلى أن ثمة علاقة متينة بين انتشار الأمراض وظروف الحياة الصعبة، والثانية تؤكد أن من بيدهم القوة يمتلكون وسائل فعالة لقهرِ من لا حولَ لهم ولا قوة. وتأسيسا على هذه العلاقة المتينة بين الأمراض والفقر أعلن <فيرخو> مقولته الشهيرة: «الأطباء هم المحامون الطبيعيون عن الفقراء.»
فالأطباء والبيولوجيون هم لسان حال المغبونين، لأن الفقر والكثير من الأمراض أمران متلازمان في أغلب الحالات. فالفقر يحتم سوء التغذية ويتسبب في تدهور الظروف المعيشية، وما سوى هذا وذاك من عوامل أخرى كثيرة تشكل مرتعا خصبا لمختلف الأمراض. ولكن هذا لا يعني طبعا أن كافة الفقراء في وضع صحي غير سليم وأن جميع الآخرين يتمتعون بالصحة الجيدة. ومهما كانت الحال، فتسليط الضوء على الحالة الاجتماعية الاقتصادية socio-economicstatus، أي على ذلك المقياس المُركّب من الدخل والمهنة والتعليم والظروف السكنية، يُظهر بوضوح أن الحالة الصحية لفئات المجتمع المختلفة تتناسب مع الوضع الاجتماعي الاقتصادي لهذه الفئات؛ أي إن الحالة الصحية تكون أكثر تدهورا كلما كانت هذه الفئات في وضع اجتماعي اقتصادي أدنى.
نظرة إجمالية/الحالة الاجتماعية
الاقتصادية والصحة البدنية(**)
منذ زمن بعيد، تأكد الباحثون من أن المواطنين الواقعين في أدنى السلم الاجتماعي يكونون، عادة، أكثر تعرضا للإصابة بالأمراض وأن متوسط أعمارهم أقصر من المواطنين الموجودين في أعلى السلم الاجتماعي. ولا تستطيع التفسيرات التقليدية ـ القائلة بأن الفقراء أقلّ اهتماما بالرعاية الصحية وأنهم أكثر استجابة لأنماط الحياة المضرّة بالصحة مثل التدخين والبدانة ـ أن تُعلّل التباين الكبير في الوضع الصحي للفئات المختلفة.
تشير دراسات حديثة إلى أن ما يرافق الفقر من ضغوط نفسية واجتماعية قد يزيد من مخاطر التعرض إلى العديد من الأمراض. فعلى سبيل المثال، قد يزيد الكرب ـ أي الضغط النفسي المزمن، الناتج بسبب العيش في محيط يتصف بالفقر ويسوده العنف ـ من استعداد الفرد للإصابة بانسداد الشرايين التاجية والاكتئاب والداء السكري.
وبيّنت دراسات أخرى أن ثمة ترابطا ملحوظا في الولايات المتحدة الأمريكية بين اللامساواة في توزيع الدخل القومي وتدهور الوضع الصحي. هذا وتعتقد بضعة من الباحثين أن الفقراء يشعرون بأنهم أشدّ فقرا، ومن ثم فإنهم يعانون ضغطا نفسيا أشد في المجتمعات التي تتسع فيها رقعة التباين بين أعلى الدخول وأدناها.
وبعض الدراسات سلطت الضوء على الترابط القائم بين «تدني الوضع الاجتماعي الاقتصادي» من ناحية، واضطرابات الجهاز التنفسي وانسداد أوعية القلب والقرح واعتلال المفاصل الرثيانية rheumatoid disorders والأمراض النفسية وعددا من أمراض السرطان من ناحية أخرى، فتوصلت إلى نتيجة مفادها أن هذا الترابط موجود في جميع المجتمعات الغربية. وغني عن البيان أن هذا الترابط ليس خدعة إحصائية. فعند الانتقال من الفئات الموجودة في أعلى السلّم الاجتماعي الاقتصادي إلى الفئات الموجودة في أدنى هذا السلّم، تزداد مخاطر التعرض لبعض الأمراض بمقدار يبلغ عشرة أضعاف. فالسلّم الاجتماعي الاقتصادي يُظهر في بعض البلدان فارقا يراوح ما بين 5 و 10سنوات في مدة العمر المتوقع لأبناء الفئات الاجتماعية المختلفة. والولايات المتحدة الأمريكية من أكثر الأمم الغربية تطرفا من حيث تباين العمر المتوقع للفئات الاجتماعية المختلفة. فعلى سبيل المثال، أظهرت إحدى الدراسات أن الموت يغشى أفقر الذكور من المواطنين البيض في أمريكا قبل عقد من الزمن مقارنة بنظرائهم الأغنياء.
إذًا ما الأمر الذي يُسبّب هذا الترابط بين الحالة الاجتماعية الاقتصادية والوضع الصحي للأفراد؟ حقا قد يؤدي الوضع الاجتماعي الاقتصادي المتدني إلى تدهور صحة الأفراد، ولكن بالمقابل، قد يؤدي التدهور الصحي ذاته إلى وضع اجتماعي اقتصادي متدنٍ. أضف إلى هذا، أن المرض المزمن قد يؤثر في مستوى التعليم الذي يحصل عليه الفرد المعني وفي مردود عمله. كما يتفاقم الوضع الاجتماعي الاقتصادي تدهورا عندما نضع في الاعتبار أن تدهور الوضع الصحي يحتم على المريض إنفاق الكثير من المال.
ومع ذلك، فإن مُجمل الحقائق يُشير إلى أن الحالة الاقتصادية التي يتصف بها الأفراد هي التي تؤثر في وضعهم الصحي وليس العكس ـ وإلى أن الحالة الاجتماعية الاقتصادية للمرء في لحظة من لحظات الحياة، تُنبئ بالحالة الصحية التي سيكون عليها الفرد في المستقبل. ومن بين الإيضاحات العديدة لهذه المسألة، هناك دراسة مرموقة عن الراهبات الأمريكيات المُسنّات. فجميعهن كن قد نذرن أنفسهن لحياة الرهبنة وهن في مقتبل العمر وكن قد أمضين العديد من السنين بعد ذلك وهن يتشاركن في نظام غذائي موحد ويخضعن لرعاية صحية متساوية ويتقاسمن المسكن نفسه، أي إنهن كن متساويات من حيث العوامل المحددة لنمط الحياة. ومع هذا، فعندما بلغن الشيخوخة كانت أنماط الأمراض التي صرن يتعرضن إليها والعُته الذي يصيبهن ومتوسط الأعمار المتوقع لهن، من الأمور التي أمكن التنبؤ بها بيسر انطلاقا من الوضع الاجتماعي الاقتصادي السابق، أي الذي كن عليه حين غدونَ راهبات قبل ما لا يقلّ عن نصف قرن من الزمن.
تفسيرات غير كافية(***)
وهكذا، ولكي نستعين بصورة رائعة ومتداولة في هذا الحقل، لا مندوحة لنا من أن نطرح السؤال على النحو الآتي: كيف تتسرب، يا ترى، الحالة الاجتماعية الاقتصادية إلى ما «تحت الجلد» وتترك أثرها في صحة الإنسان؟ ومع أن الجواب عن هذا السؤال يبدو واضحا لا لبس فيه، فحقيقة الأمور تبين أن الكثير من الأجوبة يخالف المنطق. فعلى سبيل المثال، يشير أحد هذه الأجوبة إلى أن الرعاية الصحية أصعب منالا بالنسبة إلى الفقراء وأنها من نوعية متدنية الجودة. ويبدو هذا التفسير مقبولا، لا سيما حين يأخذ المرء بعين الاعتبار أن الكثير من الفقراء في أمريكا محرومون من الرعاية التي يقدمها عادة طبيب الأسرة. فما يحصلون عليه من رعاية طبية يقتصر فقط على النقل بسيارة الإسعاف إلى قسم الطوارئ.
ولكن سرعان ما يتهاوى ذلك التفسير جانبا، لأسباب أوضحتها الدراسات الشهيرة التي قام بها <M.مارموت> [من كلية جامعة لندن] في العقود الثلاثة الماضية بتكليف من قبل الحكومة البريطانية(1). لقد وثّق <مارموت> وزملاؤه منظومة مفزعة للمراتب الاجتماعية الاقتصادية التي يحتلها مواطنون يجسدون فئات المجتمع بشكل مناسب، أعني مواطنين من أعضاء الإدارة المدنية البريطانية (بدءا من عمال الياقة الزرقاء، أي العمال العاديين، وانتهاءً بالمديرين التنفيذيين الذين بيدهم السلطة والسلطان). فالملاحظ، على سبيل المثال، هو أن معدلات وفاة سُعاة المكاتب والحمالين بسبب مرض القلب المزمن أعلى بكثير من المعدلات السائدة بين الإداريين والمهنيين [انظر الشكل العلوي في الصفحة 15]. وفي الواقع، لا يمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى قصور الرعاية الطبية؛ فخلافا للولايات المتحدة، فإن المملكة المتحدة تتوافر على نظام شامل للرعاية الصحية. كما يمكن رصد الترابط بين تدني الحالة الاجتماعية الاقتصادية والوضع الصحي للفرد في بلدان أخرى يتمتع فيها المواطنون كافة بمزايا التأمين الصحي، بما في ذلك الرعاية الطبية، ولا تشكل جنات عدن الاسكندنافية حالة استثنائية في هذا السياق. فهذا الترابط موجود في تلك البلدان على الرغم مما فيها من رعاية صحية فائقة. وتبقى هذه التباينات بين الفئات الاجتماعية المختلفة ذات دلالة مهمة حتى بعدما يدقق الباحثون في القدر الذي يستخدم فيه الأفراد الخدمات الطبية المتاحة لهم.
امرأة لا مأوى لها في سان فرنسيسكو.
وهناك رأي يشير إلى أن السلم الاجتماعي الاقتصادي لا يقوم بأي دور في الأمراض التي لا تتوقف على مقدار الرعاية الصحية التي يتمتع بها الأفراد. فلا عدد الفحوص الطبية الدورية ولا فحوص الدم ولا استخدام الموجات الصوتية العالية في فحص البدن يحول دون احتمال إصابة شخص ما بالنمط 1 من الداء السكري (الذي يبدأ في مقتبل العمر عادة) أو التهاب المفاصل الرثياني. ولكن الواقع يشهد، مع هذا، على أن المرضين المذكورين، أي الداء السكري والتهاب المفاصل، أكثر شيوعا بين الفقراء.
ويُركّز التفسير التالي «الواضح» على أنماط الحياة غير الصحية. فمع هبوط الفرد إلى مواقع متدنية في السُّلّم الاجتماعي الاقتصادي يزداد في المجتمعات الغربية احتمال إفراط المواطنين بالتدخين وإدمان المسكرات والميل إلى البدانة والعيش في محيطٍ يعمه العنف وتسوده بيئة ملوّثة والسكنى في أحياء مكتظة بالسكان. كما تتراجع احتمالات حصول الفقراء على الماء المعقم والغذاء الصحي والنوادي الترفيهية، ناهيك عن الحديث عن حصولهم على تدفئة كافية في الشتاء وتكييف مناسب في الصيف. وهكذا، فإنه لأمر بديهي أن تتغلغل الحالة الاجتماعية الاقتصادية المتدنية تحت الجلد بازدياد العوامل التي تنشأ عنها مخاطر التعرض للأمراض وبتراجع العوامل الضرورية للوقاية من هذه الأمراض. وهذا ما صرّح به <G.R.إيفانز> [من جامعة بريتش كولومبيا]، حينما قال بنحو لاذع «ربما كان شرب ماء المجاري أمرا مضرا حتى بالنسبة إلى بيل <گيتس>.
ومع هذا، فإن المدهش أن عوامل الخطر والوقاية هذه لا تفسّر سوى القليل جدا من دور التباين الاجتماعي الاقتصادي. ففي الدراسات المعدة للحكومة البريطانية، يفسّر التحكم في عوامل من قبيل التدخين وممارسة التمارين الرياضية ثُلُث مقدار التباين. وإلى النتيجة نفسها توصلت تلك الدراسات التي أعطت اهتمامهما الأول إلى مقارنة الصحة والغنى بين أمم العالم المختلفة وليس إلى تعرّف العلاقة القائمة بينهما على مستوى الأمة الواحدة. وربما بدا لنا أن من المعقول أن نفترض أنه كلما ازداد بلدٌ ما غِنيً، كانت الموارد المالية التي يمتلكها المواطنون لتأمين وقايتهم من الأمراض ولتفادي مخاطر التعرض إلى هذه الأمراض أكثر وفرة. ولكن واقع الحال لا يدعم هذه الفرضية؛ فلو كان الأمر كذلك، لوجب والحالة هذه أن تتحسّن الأوضاع الصحية بشكلٍ متزايد عند أغنى أمم العالم، وأيضا لدى أولئك المواطنين الذين هم الفئة الأكثر رفاهية على مستوى الأمة المعنية. فعند تسليط الضوء على مجموعة البلدان المتفوقة على باقي دول العالم من حيث الرفاهية الاقتصادية، يتبين بجلاء أنه ليست هناك علاقة ما بين الغنى المادي الذي يتمتع به البلد المعني والصحة البدنية التي يتصف بها مواطنوه.
إن هذه العلاقة ليست خدعة إحصائية. فحينما تقارنُ بين الفئات الموجودة في أعلى السُّلَّم الاجتماعي الاقتصادي والفئات الموجودة في أدنى درجات هذا السلم، تتغيّر مخاطر التعرض للإصابة ببعض الأمراض بمقدار يبلغ عشرة أضعاف.
وهكذا، فإن إتاحة الرعاية الصحية والانتفاع بهذه الرعاية والتعرّض لعوامل الخطر ولعوامل الوقاية لا يفسر انعكاسات الوضع الاجتماعي الاقتصادي على تباين الوضع الصحي بالنحو الدقيق الذي يتوقعه المرء. لهذا فإن على المرء أن يمعن النظر في احتمال آخر، احتمال أن يكون معظم التباين ناشئا عن مجموعة مختلفة من الاعتبارات: التداعيات النفسية التي تفرزها الحالة الاجتماعية الاقتصادية.
الضغوط النفسية الاجتماعية(****)
في الحالة المثلى، يكون البدن في حالة توازن مستقر. بهذا المعنى فإن الحالة المثلى هي تلك الحالة التي تكون فيها المقاييس الحيوية لوظائف أجهزة البدن البشري ـ سرعة القلب، ضغط الدم، مستويات سكر الدم، وغير ذلك ـ ضمن مجالاتها المثلى. إن الضغط النفسي، أي عامل الكرب stressor، هو العامل الذي يهدد بتمزيق حالة الاستقرار هذه. ولكن الكرب الذي تتعرض له أغلب الكائنات الحية هو تحدٍّ مادي ـ أعني أنه تحد يتأتى، على سبيل المثال، من اضطرار ظبي مهدد بخطر داهم لأن يعدو بأقصى سرعة لإنقاذ حياته، أو من مطاردة حيوان مفترسٍ جائع حيوانا آخر بغية افتراسه. فالجسم مُكيّفٌ بشكل رائع للتعامل مع التحديات المخلة بتوازن البدن في الأمد القصير. ففي سياق هذا الاختلال يحشد الجسم جميع ما لديه من طاقة مخزَّنة، بما في ذلك سكر الگلوكوز؛ ومن ناحية أخرى، يزداد جهد أوعية القلب وذلك لتسهيل إمداد العضلات العاملة في جميع الجسم بما تحتاج إليه من وقود. كما يؤدي التحدي المادي المشار إليه آنفا، إلى دفع البدن لأن يكبت جميع السيرورات الفزيولوجية غير الضرورية، في الأمد القصير، للبقاء على قيد الحياة؛ أعني سيرورات من قبيل الهضم والنمو وترميم النُّسُج والإنجاب وما سوى ذلك من سيرورات لا تتوقف عليها الحياة في الأمد القصير. وفضلا على هذا وذاك، يندفع الجهاز المناعي ليعوق الجراثيم من الإضرار بالبدن. وعلى صعيد آخر، يؤدي هذا التحدي المادي إلى شحذ الذاكرة والحواس بشكل يفوق المعتاد.
ولكن الكائنات الحية المتطورة والمُعقّدة معرفيا واجتماعيا، وأعني بها الكائنات الحية من فصيلتنا نحن بني البشر، تعاني بنحو روتيني تحديات مختلفة كلية؛ إنها تعاني تحديات نفسية اجتماعية في المقام الأول. فبالنسبة إلينا، نحن بني البشر، تتأتى معظم التحديات من خلال التفاعلات التي تنشأ بين الواحد منا وبين الآخرين من أبناء فصيلتنا. وبهذا المعنى، فإن اختلال التوازن البدني لدينا، نحن بني البشر، نادرا ما يعود إلى التحديات المادية. وبالمقابل، تنطوي الضغوط النفسية الاجتماعية هذه على توقع تحد وشيك (على توقع أن تكون على حق أو بلا حق). وتتميز هذه الضغوط النفسية والاجتماعية بطابعها المزمن. فعند معظم الثدييات، لا يدوم العامل الضاغط سوى دقائق. أما نحن بني البشر، فإننا قد نقلق بشكل مزمن ولمدة قد تصل إلى ثلاثين عاما، حينما يتعلق الأمر بصك رهن عقاري على سبيل المثال.
إن بدننا يتكيف مع عامل الإرهاق الجسماني الحادّ، لكنه للأسف يميل إلى المرض تجاه الضغط (الكرب) النفسي الاجتماعي المستديم. ويؤدي ازدياد معاناة القلب وأوعية القلب التوتراتِ المزمنة إلى ارتفاع ضغط الدم. وتؤدي محدودية الطاقة البشرية على تحمل الكرب والضغوط النفسية إلى ازدياد مخاطر التعرض لأمراض من قبيل الداء السكري 2 (أي الداء السكري الذي يصاب به المتقدمون في السن عادة). ويؤدي استمرار سوء الهضم واختلال النمو وقصور الجسم عن ترميم النسج التالفة tissue repair وتعثر سيرورة التناسل إلى ازدياد مخاطر التعرض لأمراض تعصف بالجهاز الهضمي وإلى تأخر النمو عند الأطفال وعجز النساء عن الحمل والخلل الوظيفي للانتصاب عند الذكور. وتكون الاستجابة المناعية للكرب الطويل المدى في النهاية على شكل كبتٍ للمناعة واختلال في الدفاعات ضد الأمراض. أضف إلى هذا أن الاستجابة المزمنة للكرب وتفعيل هذه الاستجابة بنحو دائم يُضعِفان ملكة الإدراك ويتسببان في تدهور صحة الفرد المعني ولا يؤديان فقط إلى قصور في وظيفة بعض أنواع العصبونات neurons فحسب، بل وإلى الحد من قدرتها على البقاء حية ناشطة.
لقد أثبت كمٌ كبير من الأدب الطبي البيولوجي أن بعض الأفراد مهيؤون أكثر من غيرهم للاستسلام للكرب، وأنهم من ثم معرضون لخطر الإصابة بالمرض الناشئ عن الكرب؛ أولا، إذا تولَّد لديهم شعور بأنهم عاجزون عن التحكّم في عوامل الكرب. ثانيا، إذا انتابهم شعور يوحي لهم بأنهم لا يتوافرون على معلومات تنبئ بمدة عامل الكرب وشدته. ثالثا، إذا كان لديهم القليل من القنوات التي يستطيعون من خلالها التنفيس عن مشاعر الإحباط الناجمة عن عامل الكرب. رابعا، إذا فسروا عامل الكرب كدليل على أن ظروفهم تزداد سوءا. وخامسا، إذا انعدمَ العون الاجتماعي للتغلب على عوامل الكرب.
تُظهِر دراسات الحكومة البريطانية أن فئة الموظفين المدنيين البريطانيين من المراتب الدنيا (أي مراسلو المكاتب والموظفون الآخرون المساعدون) معرضة للموت من جراء مرض القلب بنسبة تزيد على ضعف النسبة المتعارف عليها بين فئة الإداريين من العمر نفسه. أما اختلافات عوامل الخطر ـ أعني عوامل من قبيل ارتفاع نسبة المدخنين بين أفراد الهيئة الإدارية المساعدة ـ فإنها تفسّر أقلّ من نصف الفرق في معدلات الوفيات.
لقد طُلِبَ إلى المشاركين في إحدى دراسات الحكومة البريطانية أن يبينوا مكانتهم في المجتمع من خلال سلّم متباين الدرجات. وقد ذكر أكثر أولئك الذين هم في أدنى السلّم بأن صحتهم كانت إما سيئة أو مقبولة. فالترابط القوي بين التقدير الشخصي للحالة الصحية وبين الأعراض الصحية يشير إلى أن «الشعور بالفقر» قد يزيد من مخاطر التعرض للمرض.
لا تتوزع عوامل الكرب النفسية الاجتماعية بالتساوي على أفراد المجتمع. فكما ينال الفقراء حصة كبيرة بشكل غير متكافئ من عوامل الإرهاق الجسماني (الجوع والعمل اليدوي المرهق والحرمان المزمن من النوم ومزاولة أكثر من عمل لتدبير متطلبات العيش والوسادة الرديئة التي لا يستطيع أن يستبدل بها أخرى مريحة)، فإنهم ينالون أيضا حصة كبيرة وبشكلٍ غير متكافئ من عوامل الكرب النفسية الاجتماعية. فالملل الناجم عن عمل يفرض على العامل المتخصص بأداء حركة يدوية واحدة طوال ساعات العمل وقضاء العمر في مهنة تقتصر على تلقّي الأوامر يقوض لدى العمال الشعور بأنهم قادرون على التحكم في ذواتهم. وعلى صعيد آخر، فإن السيارات غير الصالحة للاستخدام والتي قد لا يمكن تشغيل محركها في الصباح، والبطاقات المصرفية التي قد لا تدوم صلاحيتها للشهر كله، تؤديان إلى تفاقم القلق من المستقبل المجهول. ونادرا ما يسمح الفقر بممارسة نشاطات قادرة على التخفيف من حدة الكرب، أعني نشاطات من قبيل العضوية في النوادي الترفيهية، وممارسة هوايات باهظة التكلفة ولكن فعالة من حيث التخفيف من وطأة التوتر العصبي، أو الانتفاع بالإجازات الأسبوعية كفرص مهمة لإعادة التفكير ببعض ما لدى المرء من أولويات. وعلى الرغم من الإشفاق الذي نكنّه عادة «للفئة الفقيرة ولكن الودودة»، فإن العمال الفقراء يحظون عادة بتشجيع وعون اجتماعيين أدنى من التشجيع والعون الاجتماعيين اللذين تحصل عليهما الطبقات الاجتماعية الوسطى والعليا. وأَنّى لهم أن يحصلوا على التشجيع والعون، إذا كانوا مجبرين على ممارسة العمل الإضافي وقضاء فترات طويلة متنقلين بوسائل النقل العامة والقيام بأعباء أخرى لا حصر لها.
لقد أظهر <مارموت>، أن المرء يظل معرضا لخطر الإصابة بأمراض معينة، حتى وإن تجاهلنا الحالة الاجتماعية الاقتصادية، وذلك لأن أوعية القلب تكون أسوأ حالا كلما كانت حرية الإنسان على مزاولة عمله بنحو مستقل أدنى. إضافة إلى هذا، وانطلاقا من العينات التي شكلت محور دراسات الحكومة البريطانية المذكورة آنفا، يفسّر تدني القدرة على التحكّم في مكان العمل نحو خمسين في المئة من أهمية تباين الحالة الاجتماعية الاقتصادية بالنسبة إلى تعرض الإنسان لمرض انسداد شرايين القلب.
الشعور بالفقر(*****)
وهناك ثلاثة اتجاهات في البحث العلمي تُقدّم المزيد من التأكيد على ما للكرب النفسي الناشئ عن الحالة الاجتماعية الاقتصادية من تأثير في تفاوت الوضع الصحي بين الأفراد. وكانت السيدة <N.آدلر> [من جامعة كاليفورنيا في سان فرنسيسكو] قد قامت، على مدى العقد السابق، باستقصاء الفرق ما بين الحالة الاجتماعية الاقتصادية المتحققة موضوعيا والمُتَخيلة في المنظور الشخصي وعلاقة كل واحدة منهما بالصحة [انظر الشكل السفلي في الصفحة15]. فقد عُرِضَ على المشاركين في الاختبار استبيان مُبسطٌ لسلّم ذي عشر درجات، وتمّ سؤالهم من ثم: «بناءً على ما تمارس من نشاط في المجتمع، في أي مرتبة من مراتب هذا السلم توجد أنت يا ترى؟» وكان طرح السؤال بهذا النحو المفتوح قد أتاح للشخص الفرصة لأن يحدّد بمحض إرادته وانطلاقا من أحاسيسه الذاتية المجموعة التي ينتمي إليها اجتماعيا.
وكما بيّنت <آدلر>، يأخذ التقييم الشخصي للحالة الاجتماعية الاقتصادية بعين الاعتبار المقاييس الموضوعية (التعليم، الدخل، المهنة، ومكان الإقامة) ومقاييس القناعة والرضا عن العيشة التي درج عليها الفرد ومدى القلق بالنسبة إلى المستقبل. والأمر المثير في دراسة <آدلر> هو أن التقييم الشخصي للحالة الاجتماعية الاقتصادية قد كان بنفس ما ينطوي عليه التقييم الموضوعي للحالة الاجتماعية الاقتصادية من كفاءة في التنبؤ بسلامة أوعية القلب أو عدم سلامتها من ناحية، والتنبؤ بمقاييس التغيرات الكيميائية في الخلايا الحية (الاستقلاب metaboilsm)، واحتمالات التعرض للبدانة ومستويات هرمونات الكرب من ناحية أخرى ـ بهذا المعنى فإن الدراسة المذكورة تؤكد أن المشاعر الشخصية تساعد على تفسير النتائج الموضوعية.
وتتأكد هذه الحقيقة من خلال المقارنة بين الأمم المختلفة انطلاقا من اختلاف الحالات الاجتماعية الاقتصادية وتباين الأوضاع الصحية فيما بينها. فقد يتلقى شخص فقير نسبيا من مواطني الولايات المتحدة موردا ماليا لتأمين الرعاية الصحية وعوامل الوقاية من الأمراض أكثر من المورد المالي المتاح لشخص غني نسبيا في بلد أقلّ تطورا؛ ومع ذلك، يظل العمر المتوقع للمواطن الأمريكي الفقير مقارنة بالمستوى المعيشي السائد في الولايات المتحدة الأمريكية، أقصر في المتوسط on average من العمر المتوقع للشخص الغني بحسب المستوى المتعارف عليه في البلد الأقل تطورا. وكما يؤكد <S.بيزروشك> [من جامعة واشنطن]، فإن المواطنين في اليونان يكسبون، في المتوسط، نصف دخل الأمريكان، إلا أن أعمارهم المتوقعة تظل مع هذا أطول، في المتوسط، من الأعمار المتوقعة لنظرائهم الأمريكان. ومتى ما توافرت الحدود الدنيا من الموارد الضرورية لتأمين الحد الأدنى من المتطلبات الخاصة بالسلامة الصحية وذلك من خلال توافر الفرد على طعامٍ كافٍ ومأوى، فإن المستويات المطلقة للدخل تكون ذات أهمية ضئيلة جدا بالنسبة إلى الصحة. ومع أن دراسة <آدلر> توحي بأن الحالة الموضوعية لكون الإنسان فقيرا تؤثر بشكل ضار في الصحة، فإن لبّ تلك النتيجة يتوقف على ما ينتاب الإنسان من شعور شخصي بالفقر.
ثمة ما يدفع للشعور بالفقر(******)
ويبين جزء مهم من البحث العلمي أن العوامل النفسية الاجتماعية تتوسّط معظمَ العلاقة القائمة بين الحالة الاجتماعية الاقتصادية من ناحية وتباين الأوضاع الصحية من ناحية أخرى، بحسب ما يقوله <R.ويلكنسون> [من جامعة نوتينگهام البريطانية]. وكان هو وزملاؤه قد أكدوا، طوال الخمسة عشر عاما الماضية، أن نسبة اللامساواة في توزيع الدخول في مجتمع معين تمنح إمكانيات عظيمة للتنبؤ بالأوضاع الصحية التي تفرزها الحالة الاجتماعية الاقتصادية السائدة. بكلمة أخرى، إذا تركنا المستويات المطلقة جانبا، فإن التفاوت الكبير في الدخول التي يحصل عليها أفقر الفقراء وأغنى الأغنياء في مجتمع معين ينبئ بوضع صحي أسوأ في المتوسط (لقد اكتشفتُ و<D.آبوت>[من مركز ويسكونسين الوطني لدراسة المخلوقات Wisconsin National PrimateResearch Center]، وكذلك لفيف من زملائنا، ظاهرةً مشابهة إلى حد ما عند الحيوانات؛ فعند فصائل عديدة من المخلوقات غير البشرية تتناسب البنى الاجتماعية الأقل مساواةً مع مستويات أعلى من هرمون الكرب الرئيسي، أي إن الهرمون المجسد للحالة الصحية المتدهورة يكون عند الحيوانات الضعيفة الإرادة، أي الأقل مرتبة اجتماعيا، أعلى مما هو عند الحيوانات القوية الإرادة، أي الأعلى مرتبة اجتماعيا.)
قد يفسّر الضغط النفسي المزمن كيف أن الفقر «يتسرّب تحت الجلد» ويفعل فعله الضارّ بالصحة. ويزداد خطر التعرض للأمراض الناشئة عن الضغوط النفسية حين لا يحصل الأفراد على الدعم الاجتماعي الكافي، وعندما لا تكون لديهم قنوات ينفسون من خلالها عن إحباطهم وعن شعورهم بأن ظروفهم تسير إلى الأسوأ ـ أي حينما يرزحون تحت وطأة ذات الظروف التي يعيشها العديد من الفئات الفقيرة في الولايات المتحدة.
إن كَشفَ <ويلكنسون> الذكي والمُحكم قد سبّب جدلا كبيرا. ودارت أهم مناحي الجدل حول مدى أحقية<ويلكنسون> في تعميم النتائج التي توصل إليها. فقد أشار عمله الأصلي إلى أن عدم تساوي الدخل كان ذا دلالة وأهميةrelevant بالنسبة إلى الأوضاع الصحية في العديد من البلدان والمجتمعات الأوروبية والأمريكية الشمالية. ولكن الأمر الواضح هو أن هذه العلاقة تنسحب فقط على ذلك البلد المتطوّر الذي يظهر فيه أكبر قدْرٍ من عدم المساواة في توزيع الدخول، ألا وهو الولايات المتحدة الأمريكية.
التأثيرات الجيدة والسيئة للكرب(*******)
إن جسم الإنسان رائع في استجابته للكرب الحاد الناجم عن تحدٍّ جسماني، مثل مطاردة فريسة أو الهرب من وحش كاسر؛ إذ يعبئ الأجهزة الدموية والعصبية والمناعية، في حين تُكتَبُ سيرورات الهضم والتناسل. ومع ذلك، فإذا تحول الكرب إلى ظاهرة مزمنة، فإن التكرار الدائم لهذه الاستجابات يسبب ضررا كبيرا.
فسواء دققنا على مستوى المدن أو الولايات الأمريكية المختلفة، فإن عدم تساوي الدخول يُنبئ بمعدلات الوفيات عبر جميع الأعمار في الولايات المتحدة الأمريكية [انظر الشكل في الصفحة 19]. ولكن، لماذا لا نلاحظ هذه العلاقة في كندا أو الدانمرك على سبيل المثال لا الحصر؟ للإجابة عن هذا السؤال يمكن للمرء أن يسوق احتمالات كثيرة، من جملتها أن ما في هذه البلدان من تباين في توزيع الدخول هو على ذلك القدر من الضآلة بحيث لا يفضي(5) إلى هذا الترابط.
لقد شكّك بعض النقّاد فيما إذا كان الترابط بين عدم تساوي الدخول وسوء الصحة هو مجرد خدعة quirk حسابية. والأمر الأكيد هو أن العلاقة ما بين الحالة الاجتماعية الاقتصادية والصحة تتجسد من خلال ما يسمى في الرياضيات الخط المُقارِب(6) asymptotic، فالهبوط من الدرجة الأعلى في السلم الاجتماعي إلى الدرجة التي تليها يُخفض سنوات العمر المتوقع والمقاييس الأخرى بمقدار أقلّ بكثيرٍ من الهبوط من الدرجة الواقعة فوق القعر مباشرة إلى الدرجة الواقعة في قعر السلم. وتفسير هذا يكمن في أن المجتمع الذي يتصف بمستوياتٍ عالية من عدم تساوي الدخول يضم عددا كبير نسبيا من الأفراد الموجودين في أدنى درجة من درجات السلم الاجتماعي، ومن ثم ستكون الأوضاع الصحية رديئة لدرجة أن متوسط العمر المتوقع في المجتمع ككل يكون بصورة حتمية inevitably أدنى مما هو سائد في مجتمع أكثر مساواة egalitarian، أي إن متوسط العمر المتوقع سيكون أدنى لسبب لا علاقة له بالعوامل النفسية الاجتماعية. لكن <ويلكنسون> أظهر أن تناقص عدم المساواة في توزيع الدخول ينبئ بتحسّن الصحة عند الفقراء والأثرياء معا. وعلى نحو جلي، تبين هذه النتيجة أن العلاقة المتينة بين المرض وعدم المساواة علاقة حقيقية ملموسة وليست خدعة حسابية artifact إطلاقا.
إن التفاوت في توزيع الدخول يزيد، على ما يبدو، من شدّة الضغوط النفسية الناشئة عن الفقر. فكلما اتسع التفاوت بين الأثرياء والفقراء أصبح الفقراء أقل حظا في الحصول على الدعم والعون الاجتماعي وأشد معاناة من مشاعرهم بالخيبة.
من ناحية أخرى كان <ويلكنسون> وآخرون قد برهنوا، منذ زمن بعيد، على أن الكرب النفسي الاجتماعي يزداد تفاقما عند الفقراء، كلما كان توزيع الدخول أكثر تفاوتا في المجتمع المعني. فتفاقم اللامساواة في توزيع الدخول يزيد من حِدّة هرمية المجتمع ويجعل الدعم الاجتماعي أقلّ توافرا؛ فالدعم المتساوق مع الحاجة فعلا والمتبادل بين الأفراد والمتأتي من الجمعيات التعاونية يتحقّق فقط ما بين الأنداد. أضف إلى هذا، أن أَنَفتك من فقرك غالبا ما تؤدي إلى خفض إحساسك بالتحكم في مسيرة حياتك، وإلى تفاقم الإحباط الناجم عن الفقر وإلى تقوية الشعور بازدياد الحياة سوءا.
وإذا كان عمل <آدلر> يبيّن ما للشعور بالفقر من آثار مضرة بالصحة، فإن دراسة <ويلكنسون> لآثار التوزيع غير المتساوي للدخول توحي بأن الطريقة الوثقى للشعور بالفقر هي أن نجعل الفقير يشعر بفقره ـ أن نجعلك، وأنت لا تمتلك شيئا ذا بال، تعي بشكل مستديم بعظمة الثروة التي يمتلكها الآخرون. وفي قريتنا العالمية، تدفعنا الأوضاع دفعا قويا لأن نعي دائما وأبدا عظمة ما لدى سلاطين المغول والمشاهير والنجوم من ثروات عظيمة تشهد، عند المقارنة، على تفاهة ما لدينا من موارد مالية.
وحديثا، اقترح كلٌ من <J.لينش> و<G.كاپلان> [من جامعة ميشيگان] طريقة أخرى لجعل الناس يشعرون بأنهم فقراء. إن تفسيرهم «المادي الجديد»neomaterialist لظاهرة عدم تساوي الدخول ـ وهو تفسير بارع معقول، لكنه مثير للحزن في نهاية المطاف ـ هو: أن إنفاق المال على البضائع العامة (أي على وسائط النقل العامة وعلى الرعاية الصحية الشاملة على سبيل المثال لا الحصر) هو أحد السبل المتاحة لتحسين جودة الحياة للشخص المتوسط الحال. ولكن بحسب التعريف، كلما كان توزيع الدخول على أبناء المجتمع الواحد أكثر تفاوتا، ازداد التفاوت بين دَخلي المواطن المتوسط الحال والمواطن الغني. ومن ثم، فإن ازدياد هذا التفاوت يؤدي إلى تناقص ما يحصل عليه المجتمع من الأغنياء لتمويل النفقات المهمة لهذا المجتمع. ولن نبالغ كثيرا إذا قلنا بأن الأغنياء غالبا ما ينجحون في التهرب من دفع الضريبة محبذين إنفاقها على رفاهيتهم الخاصة ـ سائقٌ أفضل، خدم وحشم، مياه معبأة بالقناني، مدارس خاصة، تأمين صحي خاص. وهكذا، فكلما ازداد تفاوت الدخول في مجتمع ما، ازداد حافزُ الأغنياء للتهرب من المشاركة في تمويل الإنفاق العام الذي يخدم صحة المجتمع ككل. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، كلما ازداد تباين توزيع الدخول، ازدادت قوة الأغنياء في مقاومة الإنفاق العام. وبحسب رأي الاقتصادي الخبير في شؤون الصحة< إيفانز>، يقود هذا السيناريو في النهاية إلى «غنى فاحشٍ لدى البعض وفقرٍ مدقع لدى عامة الناس.»
وقد يؤدي «اعتزال الأغنياء عن المشاركة في متطلبات الحياة الاجتماعية» إلى تفاقم سوء الحالة الاجتماعية الاقتصادية وتباين الأوضاع الصحية بطريقتين: تارة من خلال زيادة وخامة الظروف في المجتمعات المنخفضة الدخل (وهي زيادة تفسر جزءا من ارتفاع تعرض الفقراء للأمراض)، وتارة أخرى من خلال عوامل الكرب النفسية الاجتماعية. وإذا ما تضافرت عوامل الكرب النفسية الاجتماعية مع الشعور بالفقر ومع إدراك ما لدى الأغنياء من ثراء مادي، فإنها تصبح أشدّ إثارة للكرب، لا سيما حين يبذل الأغنياء قصارى جهدهم لخفض أرزاق الفقراء وتقليص الخدمات العامة المخصصة لذوي الدخول المحدودة.
إن أوثق طريقة للشعور بأنك فقير هو جعلك واعيا باستمرار بأنك محروم مما يملكه الآخرون.
الرأسمال الاجتماعي(********)
وكان <I.كاواشي> [من جامعة هارفرد] قد قدم لنا اتجاها ثالثا من التفسيرات النفسية للعلاقة القائمة بين تفاوت الدخول والأوضاع الصحية. فتفسيره لهذه الظاهرة ينطلق من مفهوم «الرأسمال الاجتماعي». ومع أن هذا المفهوم لم يحدد بعدُ تحديدا دقيقا كمقياس قابل للاستخدام، إلا أن بإمكاننا القول بأن الرأسمال الاجتماعي يشير، عموما، إلى عمق الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع والى كفاءتهم في خدمة المجتمع المعني. فهل يثق الناس عموما واحدهم بالآخر وهل يسعف واحدهم الآخر ويساعده؟ هل يشعر الناس بحافزٍ للمحافظة على سلامة الموارد العامة (أي هل لديهم، مثلا، الاستعداد لمحو الرسوم والخربشات عن جدران المتنزهات والأبنية العامة؟). وهل يشعر الناس بأن منظماتهم ـ مثل الاتحادات وجمعيات المنازل المستأجرة ـ لها تأثير فعلي؟ وتستخدم معظم دراسات الرأسمال الاجتماعي مقياسين بسيطين، فهي تسعى تارة إلى تعرف عدد المنظمات التي ينتمي إليها المواطنون، وتريد تارة أخرى التحقق من الجواب الذي سيعرب عنه المواطنون عندما يطرح عليهم المرء سؤالا من قبيل: «هل تعتقد أن معظم الناس سيحاولون استغلالك إذا سنحت لهم الفرصة إلى ذلك؟»
وتوصل <كاواشي> وآخرون، سواء على مستوى الولايات والمحافظات أو على مستوى المدن والجيران، إلى أن الرأسمالَ الاجتماعي المنخفض ينبئ بسوء الوضع الصحي ورداءة التبليغ عن المرض وعن معدلات عالية للوفيات. وانطلاقا من أسلوب إحصائي معقّد، يدعى تحليل المسار path analysis، أظهر <كاواشي> أنه (متى ضبط الإنسان تأثيرات الدخل المطلق)، فإن المقاييس الاجتماعية الرئيسية هي أدق المعايير لمعرفة العلاقة بين عدم تساوي الدخول وتدهور الوضع الصحي ـ وذلك لأن الدرجات العالية من عدم تساوي الدخول تفرز مستويات منخفضة من الثقة والتكافل. وغني عن البيان أن هذه أمور تسبب تفاقم الكرب وتدهور الوضع الصحي للأفراد.
وفي الواقع، لا يثير أي واحد من هذه التفسيرات العَجَب لدينا. فالولايات المتحدة الأمريكية أهملت، كثقافة قائمة بحد ذاتها، الاهتمام بسلامة شبكات الرعاية الاجتماعية وسهلت للأكثر نجاحا أن يتربعوا على قمة أهرامات عدم المساواة. إضافة إلى ذلك، فإننا آثرنا هدر الرأسمال الاجتماعي المتعارف عليه بين الجماعات التي تسودها علاقات وطيدة وآثرنا الركون إلى خيارات جديدة لا تحتم على المواطنين الانتقال والنزوح إلى أمكنة ومواقع عمل غريبة عنهمmobility فحسب، بل تتسبب أيضا في جعل المواطنين أغْرابا لا يعرف الواحد منهم شيئا عن الآخر anonymity. وتأسيسا على هذا التطور السلبي، لا غرو أن تزداد مقاييس الأوبئة الاجتماعية سوءا في الولايات المتحدة الأمريكية. فمقارنة بباقي البلدان الغربية، تتصف أمريكا بأكبر قدر من اللامساواة في توزيع الدخول (فواحد في المئة من السكان يسيطرون على أربعين في المئة من الثروة) وبأكبر تفاوت ما بين النفقات على الأغراض الصحية (فمقارنة بباقي بلدان العالم تحتل أمريكا المرتبة الأولى) وبين متوسط العمر المتوقع (إذ احتلت أمريكا المرتبة 29 في عام 2003).
تصنيف معدلاتُ الولايات المتحدة الأمريكية
مؤشر روبِن هود هو مقياس لعدم تساوي الدخول، وهو النسبة المئوية التي ينبغي أخذها من الأثرياء [أي من أولئك الذين يزيد دخلهم على متوسط دخل الفرد الواحد] وإعطاؤها إلى الفقراء [أي إلى أولئك الذين يقل دخلهم عن متوسط دخل الفرد الواحد] لتحقيق التوزيع المتساوي بين أفراد المجتمع الواحد. ففي الولايات الأمريكية (النقاط الزرقاء) التي يكون فيها مؤشر روبن هود عاليا، غالبا ما تكون فيها معدلات الوفيات عالية.
إن أهمية العوامل الاجتماعية النفسية في تفسير الترابط القائم بين الحالة الاجتماعية الاقتصادية وتباين الأوضاع الصحية بين المواطنين تؤدي إلى نتيجة تدعو إلى التأمل؛ فبقدر تعلق الأمر بالصحة، فإن الفقر يؤثر في الوضع الصحي بقدر يفوق بكثير التأثير الناجم عن عدم امتلاك ما يكفي من المال. (فكما صرّح <إيفانز> في إحدى المرات، «فإن معظم الطلبة الخريجين أحسوا، من حين لآخر، بأنهم لا يملكون إلا القليل من المال، لكنهم لم يشعروا بالفقر قط. فعدم امتلاك المال الكافي والفقر أمران مختلفان جدًا.») وكان بعضهم قد اتهم المدرسة النفسية الاجتماعية بأنها تتبنى آراء مضادة للتقدم مفادها: لا تشغلوا بالكم بالرعاية الصحية الشاملة وبالأدوية المتاحة وبالإجراءات الأخرى المفيدة، فالترابط المتين بين الحالة الاجتماعية الاقتصادية وتباين الوضع الصحي سيظل على ما هو عليه حتى بعد إجراء جميع هذه الإصلاحات. ولكن الدرس المكتسب من هذا البحث لا يجيز لنا أن نحجم عن إجراء التغير الاجتماعي المطلوب ولا يسمح لنا بأن نكتفي بهذا التغيير. فالأمر بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير؟
المؤلف
Robert Sapolsky
أستاذ علوم الأحياء وعلوم الجهاز العصبي في جامعة استانفورد الأمريكية وباحثا مشاركا في متحف كينيا الوطني. وهو يركز جهوده، في المختبر الخاص به، على دراسة الطريقة التي يؤدي بها الضغط النفسي (الكرب) إلى الإضرار بالمخ وعلى تعرف أهمية علاج الجينة بالنسبة إلى أمراض الجهاز العصبي. إضافة إلى هذا كله، يدرس <ساپولسكي> مجموعات من القرود البرية في شرق إفريقيا وذلك لتعرف العلاقة بين المنزلة الاجتماعية التي يحظى بها القرد ومستوى سلامته الصحية. وآخر مؤلفاته هو بعنوان: «عواطف الحب عند القرود ودراسات أخرى حول حياتنا كحيوانات» Monkeyluv and Other Essays onOur Lives as Animals (Scubner, 2005).
مراجع للاستزادة
Mind the Gap: Hirarchies, Health and Human Evoluation. ricjard Willkinson. Weidenfeld and Nicolson, 2000.
The Heatlh of Nations: Why inequality is Harmful to Your Health. Ichiro Kawachi and Bruce P. Kennedy. New press, 2002.
The Statues Syndrome. Michael Marmot. Henry Holt and Company, 2004.
Why Zebras Don’t Get Ulcers: A guide to Stress, Stress-Related Diseases and Coping, Robert Saposky. third edition. Henry Holt and Company, 2004.