ثدييات أمريكا الجنوبية المفقودة
ثدييات أمريكا الجنوبية المفقودة(*)
توضح الاكتشافات الأحفورية المدهشة في جبال الأنديز
التشيلية وجود مجموعة غير متوقّعة من ثدييات فريدة كانت
يوما ما تتجوّل في أمريكا الجنوبية. وقد قلبت هذه الاكتشافات
معرفة كانت راسخة حول التاريخ الجيولوجي لهذه القارة.
<J.J.فلاين> ـ <R.A.وايس> ـ <R.تشاريير>
على أطراف سهل عشبي منبسط يرعى بهدوء وفي غفلة عن قدرها المُهدّد، زوج من الحيوانات الحافرية hoofed grazers التي تشبه الخيول وأحد الحيوانات الحافرية القديمة التي تشبه الظباء والكسلانيات(1) الأرضية ground sloth. ويشاركها الغفلة في الجوار حيوان الشينشيلا(2) chinchilla وحيوان كيسيmarsupial صغير كالجرذ يقضم البذور. وفجأة ينفجر في الأفق بصورة كارثية بركان مغطّى بالثلوج، مرسلا فيضا من الرماد الطيني نحو منحدراته الشديدة. وبعد ذلك يتدفق هذا الطين المضطرب بسرعة عبر الأراضي المنبسطة دافنا في طريقه الحيوانات غير المتنبهة له.
وبقدر ما كان الخراب الناتج من هذا التدفق البركاني مدمرا للكائنات التي دفنها، فإنه قد أصبح هدية لعلم الأحافير (الپاليونتولوجيا). وبعد عشرات ملايين السنين من الموت غير المتوقع لهذه الثدييات، فإن القوى البانية للجبال وعمليات التحات التي تبعتها قد عرّت بقايا هياكلها الأحفورية فأصبحت واضحة في ضوء النهار في مرتفعات جبال الآنديز بأواسط تشيلي. وقد اكتشف فريقنا أول هذه العظام في عام 1988 بينما كنا نفتّش عن بقايا الدينوصورات في أحد الأودية الرافدة لنهر تنگويريريكا Tinguiririca River قرب الحدود مع الأرجنتين. وثبت أن الاكتشاف الأولي لعظام الثدييات كان مثمرا إلى أبعد الحدود، فقد عدنا إلى المنطقة من حينها كل عام تقريبا. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن اكتشفنا أكثر من 1500 أحفورة من الثدييات القديمة من عشرات المواقع في أواسط جبال الآنديز التشيلية.
نظرة إجمالية/ فيض من الأحافير(**)
إن عينات أحافير الثدييات، التي تربو على1500 عينة، المكتشفة في أواسط جبال الآنديز التشيلية تتضمن مجموعة استثنائية من الأنواع الجديدة، إضافة إلى أقدم بقايا القوارض المعروفة في قارة أمريكا الجنوبية. تُجسّر هذه الأحافير، التي يراوح عمرها بين40 مليون و 10 ملايين سنة، الثغرات في التاريخ المعروف لثدييات أمريكا الجنوبية الاستثنائية. توثّق بعض هذه الأحافير وجود مراع يعود عمرها إلى 32 مليون سنة، وهي تسبق أمثال هذه الأنظمة البيئية في أي مكان آخر في العالم بنحو 15 مليون سنة. |
لقد أدّى التحليل المختبري المضني لمجموعة عيناتنا المتنامية إلى إظهار أسرار رئيسية من تاريخ الثدييات القديمة لأمريكا الجنوبية. والشيء المدهش أنّ عمر الأحافير التشيلية يراوح بين 40 مليون و 10 ملايين سنة ـ وهو أحدث كثيرا ممّا توقعناه. وبالفعل، فإن الكثير من العينات يمثل البقايا الثديية لأجزاء فقط من تلك الفترة الزمنية الموجودة في كل مكان في أمريكا الجنوبية. وقد أضاءت بعض هذه الأحافير الفريدة فترة مظلمة سابقا من تاريخ سلالات الثدييات الأصلية في هذه القارة ؛ في حين ساعدت أحافير أخرى على حل الجدل المديد حول منشأ الجماعات المهاجرة الأساسية. وقد صحح هذان النوعان من الأحافير فهمنا للزمن الذي ظهرت فيه بعض النظم البيئية والزمن الذي تشكلت فيه الجبال نفسها ـ في هذا الجزء من العالم.
اكتشاف مضنٍ(***)
يستند معظم ما يعرفه العلماء عن الثدييات القديمة في أمريكا الجنوبية إلى إشارات اكتشفت في الأطراف الجنوبية البعيدة من القارة وبخاصة في منطقة پتاگونيا(3) Patagonia. تحوي هذه المناطق تكشفات كثيرة لصخور مثالية حاملة للأحافير كالغضار والحجر الرملي وتشكلات أخرى متصلبة ترسبت في بيئة الأنهار وسهولها الفيضية. وقبل زيارتنا الأولى إلى تشيلي، لم يفتّش الباحثون بصورة منهجية عن أحافير الحيوانات البرية في المناطق الجبلية لذلك البلد، لأنّ معظم صخورها صخور بركانية. (إذ من المفترض أن تكون اللابات(4) والمواد المندفعة من البراكين حارة جدا ومخربة لا تتيح حفظ البقايا العضوية).
في هذه اللوحة الفنية تبدو ثدييات غريبة قطنت يوما أمريكا الجنوبية، وهي ترعى غافلة عن فيض عنيف من الرماد البركاني الطيني سيأتي فجأة من بركان مجاور ويؤدي إلى هلاكها. |
ومع ذلك قرّرنا أن نجرّب حظنا في أن وادي «تنگويريريكا» يمكن أن يحوي أحافير خاصة عندما علمنا من تقريرٍ عن وجود آثار أقدام الدينوصورات فيه. كان عمر الصخور هو العمر الصحيح نفسه ـ فقد افترض الجيولوجيون حينذاك أنّ عمر معظم الصخور على امتداد سلسلة جبال الآنديز التشيلية يعود على الأقل إلى ما قبل 65 مليون إلى 100 مليون سنة، أي إلى الجزء الأخير (الأحدث) من حقب الميزوزوي(5) Mesozoic، وهو الزمن الذي وصلت فيه الدينوصورات إلى أوج تطورها. لقد علمنا أنّ أيا من الرواسب التي تحوي آثار أقدام لا بدّ وأن تحوي أيضا بقايا عظمية من الحيوانات التي تركت آثار أقدامها. فإذا كنا محظوظين جدا وراقبنا الأرض جيدا، فإننا قد نجد أحفورة من الثدييات الصغيرة التي عاصرت الدينوصورات والتي لم تكن أكبر من الزبّابة shrew(ثديي من آكلات الحشرات).
وفي اليوم الأخير من رحلة استطلاع دامت أسبوعا عام 1988، انقسم فريقنا المكون من أربعة باحثين لاستكشاف المنحدرات الشديدة المحيطة بجانبي نهر «تنگويريريكا». ومباشرة تقريبا، وصل الاثنان اللذان يعملان شمال النهر إلى طبقة الرواسب التي تحمل آثار الدينوصورات، وتابعا بعد ذلك المسير نحو أعالي الوادي بحثا عن رواسب أخرى يحتمل أن تحوي أحافير. ولكن ما خيّب آمالهم أنّ الأحافير الوحيدة التي وجدوها كانت أحافير الأسماك والأمونيتات ومخلوقات بحرية أخرى ـ ولكنهم لم يجدوا زواحف أو ثدييات. وفي الوقت نفسه عاش أعضاء الفريق الذين يعملون جنوب النهر يوما عصيبا مشابها. ولكن ارتفعت معنوياتهم عند عصر ذلك اليوم عندما لمحوا بضعة أجزاء من العظام والأسنان من بقايا الأحافير تبرز من بقعة كبيرة من رواسب بركانية بنية اللون مائلة إلى الاحمرار تقع على ارتفاع 1000م فوق قاع الوادي. وقد أوضح الفحص أنّ الأحافير كانت لحيوانات فقارية برية بحجم الحصان الصغير تقريبا.
اكتشاف الأحافير(****)
اعطت اكثر من دزينة من المواقع في جبال انديز وشط تشيلي ومن ضمنها المواقع المشار إليها في اليسار (بنقاط)، مئات من أحافير الثدييات منذ أن أن اكتشف المؤلفون في البداية تراكما لعظامها في وادي << تنكويريريكا Tinguiririca >> في عام 1988، وهذه البقايا الثديية القديمة التي يتراوح عمرها ما بين 40 مليون و 10 ملايين سنة هي الأولي التي وجدت في هذه المنطقة من أمريكا الجنوبية. وإن معظم احافير القارة من الثدييات ياتي من منطقة أبعد نحو الجنوب في باتاكونيا Patagonia. وقد حفظت البقايا في رواسب بركانية من تشكيلة أبانيكو Abanico (اللون البني) التي تنكشف علي مساحة آلاف الكيلومترات المربعة من أراض شاهقة شديدة الإنحدار. |
في البداية، حاولنا أن نقحم هذه الأجزاء الأحفورية في الفكرة السائدة عن عمر الصخور ـ حيوانات بهذا الحجم يجب أن تكون دينوصورات أو وحوش ميزوزوية(6) غريبة أخرى. ولكن ثمة قصة مختلفة يكشف عنها وجود الأسنان المتمايزة المعقّدة مع طواحن (أضراس) ذات تيجان مرتفعة مستوية القمة ومتعددة الوجوه التي تمتاز بها بعض الثدييات. لقد كانت هذه الثدييات بكل وضوح كبيرة ومتطورة إلى حد بعيد لا يمكن معه أن تكون قد عاشت قبل 50 مليون سنة. ويبدو أن الجيولوجيين كانوا بعيدين كل البعد في تقديرهم لعمر هذه الصخور. وبالفعل، فقد أثبتت التحاليل اللاحقة أنّ الأحافير الجديدة قد جاءت من حقب السينوزوي(7) Cenozoic، وهي الفترة الزمنية الراهنة من تاريخ الأرض التي بدأت عندما انقرضت الدينوصورات اللاطيرية nonavian قبل 65مليون سنة. (تُعرف الطيور الحالية بأنّها تيروپودات theropods، وبذلك فإنّها تمثّل مجموعة من الدينوصورات التي لاتزال على قيد الحياة).
مجموع حيواني جزيري(*****)
يعد اكتشاف أي نوع من الأحافير أخبارا عظيمة لنا. فإن كانت من الثدييات ـ وبصورة غير متوقعة من الثدييات الحديثة ـ كان ذلك أكثر من كاف لحفزنا إلى أن نركز موسمنا الميداني التالي على تلك البقعة بعينها. لقد عدنا ثانية إلى وادي تنگويريريكا في الصيف الجنوبي من عام 1989، بعد أن ذابت ثلوج الجبال العالية بصورة تتيح للسلطات المحلية إعادة بناء طريق الوصول الضيقة التي تتهدّم كل فصل ربيع تقريبا. وفي هذه الرحلة وصلنا إلى موقع الأحافير صباح يوم مشمس صاف من أيام الشهر الأول من العام، مع طاقم مؤلّف من سبعة علماء وتجهيزات حملة كاملة. وبسرعة أنزلنا حمولة الحيوانات ونصبنا الخيام بالقرب من نهر صغير وبدأنا بالتفتيش عن الأحافير.
ومما أبهجنا ظهور كُسارات عظمية رائعة وأسنان، وكان ذلك بعد دقائق من بداية تمشيط منحدر التل. فقد برزت، عند طرفي عقيدة من الصخر بحجم حبة البطاطا، جمجمة أكيدة لحيوان ثديي، بدليل وجود عظمتي فكها السفلي المفردتين، من بين صفات أخرى. (تتألّف الفكوك السفلى في الزواحف من عظام منفصلة كثيرة). وفيما بعد، سنصف ذلك الكائن رسميّا بأنّه نوع جديد من الحافريات القديمة notoungulate، وهي مجموعة غير متجانسة من الحافريات العاشبة يتراوح حجمها بين الأرنب وفرس النهر، وقد انقرضت قبل أقل من مليون سنة. ويحتمل أنّ هذا النوع الجديد يشبه قليلا الظبي antelope. فقد كشفت الأسنان التي وجدناها في السنة السابقة أنّها تعود إلى أحد الحافريات القديمة الشبيهة بوحيد القرن. ومجمل القول، إنه في أثناء الفصول الثلاثة الأولى من العمل الحقلي في تنگويريريكا، أحضرنا أكثر من 300 عينة تتضمّن جرابيات (كيسيات) marsupials وأوائل كسلانيات early sloth ومدرّعا armadillosوأحد القوارض الشبيه بالشينشيلا chinchillalike.
جماعة ممثلين(******)
في أثناء خمسة فصول من استكشاف وادي «تنگويريريكا» بأواسط تشيلي، اكتشف فريقنا أحافير 25 نوعا تقريبا من الثدييات. عاشت هذه الحيوانات القديمة قبل نحو 32 مليون سنة، ومعظمها جديد على العلم. وتعرف كمجموعة باسم حيوانات التنگويريريكا، وتضم أكثر من300 عينة فردية تمثّل قوارض أمريكا الجنوبية الأقدم بما في ذلك شكل شبيه بحيوان الشينشيلا لم يُسم بعد (1). وتعد أحافير نوع جديد من حيوان شبيه بالحصان إيومورفيپوس (2) Eomorphippus وسانتياگوروثيا تشيلّيانسيس (3) Santiagorothia chiliensis الممثل الأقدم لمجموعتين صغيرتين من الحافريات القديمة، آكلات عشب حافرية أصبحت منقرضة في العشرين ألف سنة الماضية. ويتضمّن المجموع الحيواني أيضا أكبر تنوّع في أمريكا الجنوبية من الحافريات القديمة المعروفة باسم أركيوهيراكوئيدس archaeohyracoids، من بينها أركيوتيبوتيريوم تينگويريريكاينس (4) Archaeotypotheriumtinguiriricaense . تنفرد منطقة تنگوريريكا بوجود بسيدوكليپتودون تشيلنسيس (5) Pseudoglyptodon chilensis النسيب الأقرب المعروف للكسلانيات والحيوان الشبيه بالزبابة: كلوهنيا شارييري (6) Klohniacharrieri الجرابي الوحيد من نوعه.
|
قد تحتاج معرفة الأهمية الكاملة لمكتشفاتنا إلى سنوات، ولكنّنا عرفنا مباشرة أنّنا أمام شيء عظيم. احتوت هذه الأحافير الجديدة بكل وضوح على الكثير من المعلومات حول تاريخ ثدييات أمريكا الجنوبية الحالية المتميّزة ـ من بينها الكسلانيات والنسانيس وآكلات النمل والشينشيلاّنيات. وقد تطورت أسلاف هذه الحيوانات الحالية التي تشمل الكثير من المخلوقات التي وجدناها في وادي تنگويريريكا، عندما كانت قارة أمريكا الجنوبية جزيرة. وبسبب حركة الصفائح الأرضية، بقيت أمريكا الجنوبية منفصلة عن الكتل القارية الأخرى معظم 80 مليون السنة التي أعقبت تقطّع قارة بنجيا Pangaea العملاقة وقسمها الجنوبي، قارة گوندوانا Gondwana. وقد شجعت فترة الانعزال الجغرافي هذه على تطور ثدييات أصلية تكيّفت مثاليا مع ظروف هذه الجزيرة وكل شيء غريب مثل الحيوانات الفطرية (الأصلية) indigenous في الجزر الحديثة كأستراليا (مثال الپلاتيبوس ذي منقار البط ودب الكُوال) ومدغشقر (المشهورة بليموريّاتها). وتتضمن أسلاف مجموعات أمريكا الجنوبية الحديثة الاستثنائية الجُرابيات القافزة؛ والجرابي السيفي الأسنان «القطط الزائفة»pseudocats، وأقرباء المدرّع المجهّز بذيل ضخم على شكل هراوة مرصّع بأشواك؛ وقوارض بحجم الدببة؛ وكسلانيات كبيرة بحجم الفيلة؛ وكسلانيات تسبح في البحر (الكسلانيات السابحة).
جُمعت المعلومات عن أسلاف الثدييات الحالية التي تعيش في أمريكا الجنوبية، من الاكتشفات الأحفورية السابقة في پتاگونيا Patagonia ومناطق أخرى، غير أنّ المعلومات الحاسمة عن الكثير من هذه الأسلاف بقيت محيّرة. فقد عرف علماء الأحافير مثلا أن الكسلانيات وآكلات النمل قد بدأت قبل 40 مليون سنة كما فعلت عدة سلالات شاذّة هي الآن منقرضة (تتضمّن بعض الجرابيات والحافريات القديمة). ولكن لم تّكتشف على الإطلاق أحافير تُمثّل الانتقال إلى المرحلة الثانية من تاريخ الثدييات في أمريكا الجنوبية ـ منذ قرابة 40 وحتى 30مليون سنة. والشيء الأكثر إثارة لنا في السنين القليلة الأولى من عملنا، كان في تنامي تحققنا من أن الحيوانات التي وجدناها في وادي تنگويريريكا عاشت في أثناء هذه الفترة من تاريخ مجهول سابقا.
لقد ساور علماء الأحافير الشك في أنه في أثناء هذه الثغرة الغامضة في السجل الأحفوري، فإن الكثير من السلالات الفريدة بأمريكا الجنوبية دخلت في عملية تنوّع سريع جدا. وبالفعل، تحوي عيناتنا أقدم تسجيل لعدة مجموعات من الحافريات القديمة وتمثّل على الأقل 25 نوعا من الثدييات وجميعها تقريبا أنواع جديدة لم يكتشفها العلم من قبل [انظر المؤطّر في هذه الصفحة]. وقد شهدت هذه الفترة أيضا وصول القوارض والرئيسات(8)، وكلاهما لم يكن من الثدييات الأصلية التي كانت تقطن أمريكا الجنوبية.
القوارض التي ركبت البحار(*******)
ومن بين اكتشافاتنا الأكثر أهمية في وادي تنگويريريكا، أحفورة أقدم قارض عُرف في أمريكا الجنوبية، هذه اللقية تعطي دليلا قويا للجدل الدائر حول منشأ خنازير الماء والشينشيليات الحالية. وهذه المخلوقات، المعروفة برتيبة قوارض كافيومورفا(9) Caviomorpha، وأقرباؤها المباشرون، تؤلّف سلالة قوارض أمريكا الجنوبية الأكثر قدما (وهي متميّزة من سلالة القوارض الأحدث المكونة من الجرذان والفئران والمخلوقات ذات القرابة التي وصلت من الشمال (أمريكا الشمالية) قبل نحو 3.5 مليون سنة عندما اتصلت الأمريكتان لأول مرة ببرزخ پنما). ويتفق علماء الأحافير على أنّ قوارض «الكافيومورفا» الأولى قد وصلت في وقت ما في أثناء الفترة الزمنية الطويلة (من 55 مليون إلى 25 مليون سنة)، بينما كانت أمريكا الجنوبية جزيرة. ولقد ألمحت أحافير «الكافيومورفا» الأحدث إلى أنّ الأسلاف أتت من إفريقيا، غير أنّ الكثير من الباحثين وجدوا أنّه من الأسهل أن نتصوّر أنّ القوارض المهاجرة قامت برحلة أقصر، أي من أمريكا الشمالية، وربّما عن طريق سلسلة من الجزر الكاريبية.
|
وللمساعدة على حل هذا النقاش، قارنا التفاصيل التشريحية لحيوان التنگويريريكا ببقايا القوارض التي وجدت في أمكنة أخرى من العالم. وقد جاءت المعلومات الأكثر دلالة من شكل الأسنان الصغيرة التي لاتزال في أمكنتها على الفك السفلي (الفك العلوي والأضراس «الطواحن» لم يعثر عليها حتى الآن). ويدل ذلك الشكل على أنّ أضراس الفك العلوي لحيوان التنگويريريكا تحوي خمس حدبات متميّزة على سطحها ـ كما هي الحال في أضراس الفك العلوي في القوارض الإفريقية التي عثر عليها في الفترة الزمنية نفسها. وبالمقابل فإنّ الأضراس العليا لأنواع القوارض القديمة في أمريكا الشمالية بها أربع حدبات فقط. وتوحي هذه المقارنات بوجود علاقة وثيقة وقوية بين قارض التنگويريريكا وحيوانات إفريقيا. ويعد عدم وجود أسلاف حيوانات «الكافيومورفا» في طبقات الأحافير الأقدم في أمريكا الشمالية، الذي يبدو مقبولا، دليلا داعما أيضا لنظرية المنشأ الإفريقي لهذه الحيوانات.
يبدو أن مستعمرة «الكافيومورفا» الأصلية قد ارتحلت من إفريقيا إلى أمريكا الجنوبية على أجزاء من جذوع الأشجار أو أطواف من كتل الأخشاب ـ للاطلاع على أفضل تخمينات العلماء عن كيفية ارتحال حيوانات ونباتات استثنائية متنوعة إلى الكثير من المناطق المنعزلة جغرافيا [انظر: «أسرار حقب الحياة الوسطى في مدغشقر»، مجلة العلوم، العددان (2003) 5/4، ص 56]. قد تكون فكرة الرحلة عبر المحيط، التي يصعب تصديقها، غير محتملة الحدوث، ولكنّها أكثر احتمالا في إطار البيئة العالمية قبل نحو 32 مليون سنة. وفي ذلك الزمن، كان عرض المحيط الأطسي الجنوبي في أضيق نقاطه نحو 1400 كم ـ أي نصف عرضه الحالي ـ وكانت التيارات البحرية من الشرق نحو الغرب في المناطق المدارية قوية بصورة عرضية.
ربّما تكون هذه الظروف قد سمحت برحلة مدتها قرابة أسبوعين ويمكن أن تكون الحيوانات قد دخلت خلالها في سبات (سكون وأيض منخفض إلى أبعد الحدود خلال أوقات الإجهاد). إضافة إلى ذلك كان مستوى سطح البحر في ذلك الزمن ينخفض (بسبب تشكّل مسطحات جليدية على القطب الجنوبي وما جاوره)، ومن ثم، يمكن أن تكون جزيرة بركانية أو أكثر قد شكّلت نقاط ارتكاز، وهي الآن مغمورة، ممّا جعل عملية العبور أكثر سهولة.
أنظمة بيئية واعدة(*********)
باستخدام طريقة تحديد أعمار جديدة ودقيقة جدا تعتمد على تحليل كميات ضئيلة من غاز الأرگون المحتبسة داخل بلورات الصخور المحتوية على الأحافير، حدّدنا أنّ قوارض وثدييات «تنگويريريكا» الأخرى تعود إلى ما قبل 33 مليون إلى 31.5 مليون سنة. ويشير نمو مسطحات جليد القارة الجنوبية وظواهر أخرى إلى أنّ المناخ العالمي قد صار أكثر برودة وجفافا. فإذا عرفنا أن تغيّرا مناخيا رئيسيا قد حدث تماما عندما كانت ثدييات تنگويريريكا تزدهر، فقد دفعنا ذلك إلى تحرّي ما إذا كانت الحيوانات وبيئاتها قد تجاوبت مع تلك التغيّرات.
لقد سمحت لنا قرائن متعدّدة من الأدلة غير المباشرة بإعادة بناء موطن ثدييات التنگويريريكا، مع أنّنا لم نجد قط أحافير نباتية من الصخور نفسها. وكشف التحليل المبكر لأسنانها عن أنّ حيوانات «التنگويريريكا» لا بدّ وأنّها عاشت في نظام بيئي مختلف تماما عن النظام الذي عاشت فيه أسلافها المباشرة. ومعظم ثدييات أمريكا الجنوبية الأقدم والمعروفة في الفترة الواقعة بين65 و 34 مليون سنة حيوانات من آكلات العشب كانت ترعى النباتات الغابية الخضراء النموذجية، مثل أوراق الأشجار والأعشاب. (في الواقع، تُؤكّد الأحافير النباتية أنّ الغابات المورقة كانت تُغطي على ما يبدو مساحات واسعة من أمريكا الجنوبية في أثناء تلك الفترة). فالثدييات التي تأكل هذه الأغذية الطرية، بما فيها البشر، تتمتّع بأسنان قصيرة التاج(11) مع غطاء رقيق من المينا الواقي يغطي السن إلى الخط الفاصل مع اللثة.
|
وعلى النقيض من ذلك، تمتلك معظم حيوانات «التنگويريريكا» العاشبة أسنانا ذات تاج طويل جدا مع ميناء يمتد ما بعد الخط الفاصل مع اللثة إلى نهاية الجذر تقريبا، وهذه حالة معروفة باسم الأسنان الطويلة التاج hypsodonty. ويجعل مينا السن الإضافي (مينا السن أقسى من عاج السن في باطنه) الأسنان طويلة التاج أكثر مقاومة للاهتراء من الأسنان القصيرة التاجbrachyodonty. وبكل تأكيد تقريبا طوّرت حيوانات «التنگويريريكا» العاشبة مثل هذه الأسنان استجابة للجسيمات الساحجة الموجودة ضمن الأغذية التي كانت تأكلها، كما فعلت الماشية والظباء والخيول والحيوانات الأخرى التي تأكل العشب الرملي في المروج المفتوحة والسافانا في أمكنة أخرى من العالم. ومن الجدير بالملاحظة أيضا أنّ أسنان ثلثي جميع أنواع حيوانات «التنگويريريكا» كانت ذات تاج طويل. وتزداد نسبة الكائنات التي تيجان أسنانها طويلة مقارنة بالأنماط السنية الأخرى، بازدياد نسبة الموطن المفتوح، ثم إن نسبة أسنان حيوانات «التنگويريريكا» ذات التيجان الطويلة قد تجاوزت حتى المستوى الملاحظ لدى الثدييات الحالية في المواطن المفتوحة مثل «السهول العظمى»Great Plains في أواسط أمريكا الشمالية.
تقضي هذه النتائج أنّ العواشب في «تنگويريريكا» كانت ترعى في مروج العشب المفتوحة وليس في الغابات، ولكن الأسنان ليست هي الدليل الوحيد في هذا الاستنتاج. فقد زودنا خرّيجنا السابق في الدراسات العليا <D.كروفت> [وهو حاليا أستاذ في جامعة كيس وسترن ريزرف] باستنتاجين مستقلين آخرين حول كمية الأمطار السنوية والغطاء النباتي اللذين كانا سائدين في النظام البيئي القديم في وادي «تنگويريريكا». فقد كشفت التحاليل الإحصائية (تحاليل سينوگرام والموطن الكبير) لعدد من الأنواع مصنفة حسب أحجامها في مجموعات، أنّ حيوانات «التنگويريريكا» تتشابه، إلى حد بعيد، مع المجموع الحيواني الحالي الذي يعيش في سهول العشب الجاف مع رقع من الغابات مثل أجزاء السافانا في إفريقيا أو مواطن «كاتينگاز» Caatingas (منطقة شمال شرق البرازيل) و«شاكو» Chaco (منطقة شمال شرق الأرجنتين) في أمريكا الجنوبية.
|
وبشيء من الاستغراب، قوبل استنتاجنا بأنّ موطن «تنگويريريكا» القديم كان مفتوحا وجافا نسبيا ويحتوي على أعشاب وفيرة، ذلك لأنّ جميع الأدلة السابقة تشير إلى أنّ السهول العشبية المفتوحة الأولى (الأقدم) على القارات الأخرى لم تظهر إلاّ قبل نحو 18 مليون سنة. وظهور سهول تنگويريريكا العشبية قبل ذلك بنحو 15 مليون سنة قد يكون نجم عن اتجاه المناخ العالمي ليصبح جافا وباردا في ذلك الزمن ـ وربّما ازداد الوضع حدة بسب ظاهرة ظل المطر الناتجة من ارتفاع جبال الأنديز. ويبدو أن السهول العشبية كانت أفضل تلاؤما مع المناخ الأكثر برودة وجفافا من الغابات المورقة التي عاشت في أثناء آلاف السنين السابقة. وحتى الآن، ومع ذلك، فإنّ الاشتباه في أنّ السهول العشبية نتجت من التبريد العالمي يحتاج إلى إنعام أكثر للنظر. ويشكّل اختبار إضافي للعلاقة السببية المباشرة وسيلة للبحث في المستقبل.
لا توجد نسانيس هنا وهناك(************)
بعد أن تم اكتشاف مثل هذا الكنز الدفين والغني بالمعلومات الأحفورية والبيئية في مواقع متعدّدة من وادي «تنگويريريكا»، بدأنا نفكر فيما إذا كان هذا الجزء من جبال الآنديز «ضربة حظ» أحفورية. وبعد ذلك وبسرعة قادنا عائق غير متوقّع إلى الجواب. كانت إعادة بناء الطريق المؤدية إلى وادي «تنگويريريكا» في ربيع عام 1994 بطيئة على نحو استثنائي، ولكنّنا لم نعلم شيئا عن هذا العائق حتى وصولنا إلى مسرح الحدث. لقد تحولنا من الإحباط إلى اغتنام الفرصة، وبدأنا بالاستكشاف خارج الوادي.
فقد استكشفنا أودية رئيسية أخرى تُبدي التكشّفات نفسها من الصخور الرسوبية البركانية المنشأ التي تغطي آلاف الكيلومترات المربّعة من المناطق الجبلية. لقد حدّدنا خلال السنوات المتتالية من العمل الحقلي أنّ أحافير الثدييات لم تكن في الحقيقة مقتصرة على وادي «تنگويريريكا» وأنّ سيل الحمم البركانية الذي أغرق المروج القديمة لم يكن كارثة منعزلة ولمرة واحدة. وفي الواقع، إنّ أحداثا مدمّرة كهذه حصلت بصورة متكرّرة إذا نظر إليها عبر ملايين السنين. وفي كل حادثة، تُدفن الرواسب الأقدم تحت طبقات كثيرة من المواد البركانية الاندفاعية الإضافية (وما تحويه من عظام) بصورة دائمة إلى أعماق أكبر. وفي النهاية فإن ثخانة هذا التراكم المتطبّق من الرواسب (وتحولت إلى صخور) مع الحمم البركانية (اللابات) تربو على 3 كم. وفيما بعد ضَغَط تقارب صفائح القشرة الأرضية (التكتونية) هذا الركام الصلب بشدة نحو الأعلى.
وإن تحاليلنا المستمرّة للمجموعات الحيوانية المتعدّدة التي يراوح عمرها بين 10 ملايين و40 مليون سنة، تكشف عن أفكار جديدة حول تاريخ المنطقة. وأحد مكتشفاتنا الحديثة والأكثر أهمية، من موقع يبعد 100كم شمال منطقة «تنگويريريكا» في حوض تصريف نهر كاشاپوال Cachapoal River، كان الجمجمة الأكثر كمالا حتى الآن لنسناس مبكر من العالم الجديد. وهذه الجمجمة التي يبلغ طولها 5سم، مع ما تحمله من أَوْقاب(12) وأسنان كاملة محفوظة حفظا جيدا في الفك العلوي، تنتمي إلى نسناس صغير يزن على الأكثر نحو 1 كغ. وهذا المخلوق، الذي دعي شيليسيباس كارّاسكوانسيسChilecebus carrascoensis، كان يشابه نسانيس العالم الجديد الحالية، مثل نسناس المارموسيت marmoset والتامارين tamarin. وكما حدث مع قوارض «الكافيمورفا»، فالخبراء يناقشون منذ مدة طويلة فيما إذا كانت نسانيس العالم الجديد قد نشأت في أمريكا الشمالية أو في إفريقيا. ولكن التفصيلات التشريحية لجمجمة النسناس «شيليسيباس» وأسنانه تنم عن إرثه المشترك مع مجموعة الرئيسات التي نشأت في إفريقيا. ومثل ما حصل مع قوارض «الكافيمورفا» يبدو أنّ أسلاف النسناس «شيليسيباس» قامت بطريقة ما بعبور المحيط الأطلسي قادمة من إفريقيا.
|
بدءا من المجموع الحيواني في منطقة «تنگويريريكا» وانتهاء بالنسناس «شيليسيباس» والمكتشفات المستمرة الأخرى عبر أواسط تشيلي، تُبرهن الرواسب البركانية، التي أُهملت في السابق عند التفتيش عن الأحافير، أنّها تحوي عظاما محفوظة حفظا جيدا، وأنّها تتضمّن الآن السجل الرئيسي لتطوّر ثدييات أمريكا الجنوبية. ومع مر السنين، توصلنا إلى إدراك واضح لمظهر الصخور الواعدة، حتى إنّنا كنا قادرين أحيانا على تعرفها من عدة كيلومترات. لقد حصلنا على هذه الأحافير بجهود كبيرة، ومع ذلك فقد بُذلت هذه الجهود لتخطّي صعاب التضاريس الشديدة الانحدار والمسافات البعيدة للكثير من المواقع. وتقع بعض المواقع ضمن بضعة كيلومترات من الطرقات الحصوية والممرّات الرملية، ولا يمكن الوصول إلى المعظم الآخر إلاّ بعد سير طويل على الأقدام أو ركوبا على الخيول أو حتى باستخدام الطوافة (الهليكوبتر). ونشير هنا، مازحين، إلى «مقولة <آندي>» (سمّيت كذلك تكريما لـ<آندره وايس>) التي تذكر أنّ الصعوبة في الوصول إلى موقع تكون متناسبة مع كمية ونوعية الأحافير التي سوف نجدها.
إن الأحافير التي اكتشفت في جبال الآنديز التشيلية في طبقات يعود عمرها إلى حقب السينوزوي، تساعد على توضيح تطوّر الثدييات، إضافة إلى توضيح التحوّلات البيئية في أمريكا الجنوبية، وهي القارة التي يمثّل انعزالها المديد على شكل جزيرة اختبارا طبيعيا رائعا لدراسة الظواهر التطورية الكبيرة.
المؤلف
John J. Flynn – André R. Wyss – Rwynaldo Charrier
في العشرين سنة الماضية، تحرّى المؤلفون معا التاريخ الأحفوري المدفون في جبال الآنديز التشيلية. <فلاين> هو رئيس وأمين متحف فريك Frick التابع لقسم علم الأحافير في متحف التاريخ الطبيعي الأمريكي بمدينة نيويورك وعميد مدرسة الدراسات العليا الجديدة التابعة لهذا المتحف. <وايس> أستاذ علوم الأرض في جامعة كاليفورنيا. أمّا <تشاريير> فهو أستاذ الجيولوجيا في جامعة تشيلي بسانتياگو. ويشكر المؤلفون معدّي الأحافير المتخصّصين لدعمهم الاستثنائي لهذا البحث، كما يشكرون المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في سانتياگو والمجلس الوطني للنصب التذكارية في تشيلي ومؤسسة العلوم الوطنية في الولايات المتحدة وإدارة الطيران والفضاء الأمريكية (ناسا) واللجنة الوطنية للأبحاث التقانية والعلمية في تشيلي.
مراجع للاستزادة
Splendid Isolation: The Curious History of South American Mammals. George Gaylord Simpson.
Yale University Press, 1980.
Cenozoic Environmental Change in South America as Indicated by Mammalian Body Size Distributions [Cenograms]. Darin A. Croft in Diversity and Distributions, Vol. 7, No. 6, pages 271-287; November 2001.
The Tinguiririca Fauna, Chile: Biochronology, Paleoecology, Biogeography, and a New Earliest Dligocene South American Land Mammal “Age.” J. J. Flynn,A. R. Wyss, D. A. Croft and R. Charrier in Palaeogeography, Palaeoclimatology, Palaeoecology, Vol. 195, No. 3/4, pages 229-259;June 15, 2003.
For more details about the mammal lineages that inhabited South America when it became geographically isolated, visit www.dcpaleo.org/Research/SAMammals/SAMammals.html
(*) South America’s Missing Mammals
(**) Overview/ Fossils Galore
(***) Tantalizing Discovery
(****) Finding Fossils
(*****) Island Menagerie
(******) Cast of Characters
(*******) Seafaring Rodents
(********) African Immigrants
(*********) Emerging Ecosystems
(**********) The fossil mammals of the Chilean Andes
(***********) The fossil mammals of the Chilean Andes
(************) No Monkeying Around
(1) الكسلانيات: ثدييات تعيش على الأشجار وتنتمي إلى رتبة الدرد.
(2) حيوان من القوارض بحجم أرنب وله ذنب طويل، يعيش في أمريكا الجنوبية.
(3) الجزء الجنوبي من الأرجنتين. (التحرير)
(4) لابة Lava جمعها لابات.
(5) حقب الحياة المتوسطة. (التحرير)
(6) تنتمي إلى حقب الحياة المتوسطة.
(7) حقب الحياة الحديثة. (التحرير)
(8) رتبة في الثدييات تتضمّن بواكر النسانيس والنسانيس والقردة والإنسان.
(9) رتيبة من القوارض عاشت في أمريكا الجنوبية من عصر الأوليگوسين حتى العصر الحالي. (التحرير)
(10) Chilecebus carrascoensis
(11) ذات تاج سني قصير. (التحرير)
(12)ج: وَقْب eye socket وهو نُقْرَة العين. (التحرير)