أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم الطبيعيةعلم المناخ

أخلاقيات التغير المناخي

أخلاقيات التغير المناخي(*)

إن تقدير أهمية الرخاء الذي نعيشه مقابل احتمال أن التغير المناخي
سيقلل من سعادة أحفادنا، يدعو الاقتصاديين إلى اتخاذ قرارات أخلاقية صعبة.

<J.بروم>

 

 

مفاهيم مفتاحية


ستعاني الأجيال القادمة من معظم التأثيرات الضارة للتغير المناخي العالمي؛ ومع ذلك، في حال نمو الاقتصاد العالمي، ستكون تلك الأجيال أكثر ثراء من جيلنا الحالي.

يجب أن يقرر الجيل الحالي، بمساعدة مشورة من الاقتصاديين، فيما إذا كان ينوي الحد بصورة نهائية من فرص وقوع الأذى أو يترك الأمر لأحفادنا الأكثر ثراء لدرء الأذى عن أنفسهم.

لا يستطيع الاقتصاديون تجنب وضع خيارات أخلاقية من أجل صياغة المشورة التي يتقدمون بها.

إن احتمال وقوع كارثة مطلقة ناجمة عن الاحترار العالمي، حتى لو كان ضئيلا، يثير مشكلات خاصة من أجل مناقشة أخلاقية.

محررو ساينتفيك أمريكان

 

ما هو العمل الذي يجب أن نقوم به بِشأن التغير المناخي؟ إنّها مسألة أخلاقية. يمكن أن يساعد العلم، بما في ذلك علم الاقتصاد، على اكتشاف أسباب التغير المناخي وتأثيراته. ويمكن أن يساعد أيضا على استنباط ما يمكن عمله بشأنه، إلا أن ما ينبغي أن نقوم به في هذا الصدد هو مسألة أخلاقية.

ليست كافة مسائل ما يتعيّن عمله should” questions” هي أخلاقية. فمثلا: كيف يجب أن تدعم ناديا من نوادي الگولف؟ إنّها مسألة لا تمت للأخلاق بصلة. أمّا المسألة المتعلقة بالمناخ فهي مسألة أخلاقية، لأن أي جواب يستند إلى تفكير عميق يجب أن يُرجّح الاهتمامات المتضاربة بين مختلف الناس. وإذا رغب العالم في اتخاذ أي إجراء بشأن التغير المناخي، فعلى بعض الناس ـ خاصة الأغنى في الجيل الحالي ـ تخفيض انبعاثاتهم من غازات الدفيئة، لإنقاذ أجيال المستقبل من احتمال العيش الكئيب في عالم أكثر احترارا. وعندما تتضارب الاهتمامات، فإن مسائل ما يتعيّن عمله هي على الدوام مسائل أخلاقية.

يطرح التغير المناخي عددا من المسائل الأخلاقية. كيف يجب علينا جميعا ـ نحن الذين نعيش الوقت الحاضر ـ أن نقيّم سعادة أجيال المستقبل، مع افتراض حصولهم على سلع مادية أكثر مما يتوافر لدينا حاليا؟ سيلاقي الكثير من الناس ـ بعضهم ممن يعيشون حاليا وبعضهم الآخر لم يولد بعد ـ حتفهم من تأثيرات التغير المناخي. هل كل حالة وفاة سيئة كالأخرى؟ وما هو مقدار الأسى لموتهم جميعا؟ ثمة عدد كبير من الناس سيلاقون حتفهم قبل أن يرزقوا أطفالا. إذن، فالتغير المناخي سوف يحول دون وجود من كان من الممكن ولادتهم. فهل عدم وجودهم أمر سيئ؟ هل جارَ الأغنياء على فقراء العالم من خلال طرح غازات الدفيئة؟ وكيف يجب أن نتصدى لاحتمال ضئيل، لا بل لاحتمال حقيقي في أن يؤدي التغير المناخي إلى كارثة على مستوى العالم بأسره؟

من الممكن معالجة العديد من المسائل الأخلاقية بالفطرة السليمة. ونادرا ما نحتاج إلى معرفة رفيعة المستوى. كلٌّ منا قادر، إلى حد ما، على معالجة هذه المسائل المتعلقة بالتغير المناخي. فعلى سبيل المثال، كل واحد منا تقريبا، يقر (باستثناء بعض الأفراد) بالمبدأ الأخلاقي البسيط القاضي بأنه يجب أن لا نقوم بأي عمل يحقق لنا المنافع، في حين يلحق الضرر بشخص آخر. في الحقيقة يصعب أحيانا تجنب ضرر أحد الناس وأحيانا قد تلحق الأذى بشخص ما من غير قصد، لكنه كلما تسببت بضرر تعين عليك أن تقوم بتعويض الضحية.

http://oloommagazine.com/images/Articles/2008/10-11/54.gif

 

ثمة ضرر سوف ينجم عن التغير المناخي: موجات الحر والعواصف والفيضانات سوف تقتل عددا من الناس وتلحق الأذى بعدد كبير من الآخرين. وأمراض المناطق المدارية التي سوف تصبح أوسع انتشارا مع احترار المناخ، سوف تأخذ نصيبها من الحياة البشرية. وسوف تؤدي التغيرات التي تطرأ على الأنماط المطرية إلى نقص محلي في الغذاء ومياه الشرب المأمونة. كما سوف تؤدي الهجرات البشرية الواسعة النطاق والتي تنجم عن ارتفاع منسوب سطح البحر وغير ذلك من الإجهادات التي يسببها المناخ، إلى إفقار عدد كبير من الناس. ولم يوفر سوى عدد محدود من الخبراء أرقاما محددةً بهذا الشأن، ولكن بعض الإحصاءات تشير إلى مدى ما سيسببه التغير المناخي من أذى. فعدد الوفيات نتيجة لموجة الحر التي أصابت أوروبا في عام 2003 يقدر بنحو 000 35 نسمة. وفي عام 1998 ألحقت الفيضانات في الصين الضرر بنحو 240 مليون شخص. وحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، تجاوز عدد الوفيات جرّاء التغير المناخي لغاية عام 2000نحو  000 150 نسمة سنويا.

أثناء ممارسة حياتنا اليومية، يسبب كل منا انطلاق غازات الدفيئة: قيادة السيارة واستخدام الطاقة الكهربائية وشراء أي شيء يستهلك الطاقة أثناء نقله أو تصنيعه، جميع هذه الأنشطة تولد غازات الدفيئة التي تسهم في التغير المناخي. فعلى هذا النحو كل ما نقوم به من أجل منافعنا الخاصة يلحق الضرر بالآخرين. ربّما ليس بإمكاننا تجنب ذلك في الوقت الحاضر، كما أننا لم ندرك ذلك في الماضي. بيد أن المبدأ الأخلاقي الأولي الذي ذكرته آنفا ينبئنا بأنه يجب أن نحاول التوقف عن مثل هذه الأعمال وأن نعوض الناس الذين نلحق الضرر بهم.

والمبدأ نفسه ينبئنا أيضا بأن ما يجب أن نقوم به في مجال التغير المناخي ليس مجرد تقدير المنافع مقابل التكاليف ـ وإن كان الأمر كذلك جزئيا. لنفرض، وفق تقديراتك، أنّ المنافع التي تحصل عليها مع أصدقائك نتيجة إقامة حفلة حتى بزوغ الفجر، تتجاوز الضرر الذي تسببه لجارتك نتيجة إبقائها في حالة يقظة طوال الليل، فإن ذلك لا يقضي بالضرورة أنه يتعين أن تقيم هذه الحفلة. وبالمثل لنتصور أَنّ هناك مشروعا صناعيا يجلب منافع في المستقبل القريب لكنه يطلق غازات الدفيئة التي تلحق ضررا بالناس بعد عدة عقود. ولنفرض أيضا أن قيمة المنافع تتجاوز التكاليف. لا يتبع ذلك بالضرورة المضي بتنفيذ المشروع. وفي الواقع قد يكون ذلك خطأ من الناحية الأخلاقية. فمن يستفيد من هذا المشروع، يجب ألاّ يفرض تكاليفه على من لا يحقق منفعة منه.

 

[تبسيط مفهوم الحسم]


ما مقدار اهتمامنا بالمستقبل؟(**)


عادة ما يحدّد الاقتصاديون للسلع التي يجري تسلّمها مستقبلا، قيمة أقل من تلك التي يتم تسلّمها في الوقت الحاضر. لكن كم تبلغ هذه القيمة لسلع المستقبل؟ إذا كان معدل الحسم 6 في المئة سنويا، فإن السلع التي تُثمن  بنحو تريليون دولار إذا كانت ستُسلم بعد سنة اعتبارا من اليوم، فإن ثمنها يبلغ نحو 940 بليون دولار في الوقت  الحاضر. (لما كان الحسم يتم بصورة مستمرة من قبل الاقتصاديين، فإن القيمة الحالية الحقيقية هي 941.8بليون دولار). وحديثا توصل الاقتصاديان <N.ستيرن> و<W.نوردهوس> إلى نتائج متباينة بشكل مثير للدهشة يتضمنها معدل الحسم الذي تم استخدامه من قبلهما حول ما سوف يتم إنفاقه اليوم على سلع متاحة فقط للأجيال القادمة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2008/10-11/50.gif

إن معدل الحسم بمعدل 1.4 في المئة الذي حدّده <ستيرن> يثمن عاليا رفاه أجيال المستقبل. فالسلع البالغة قيمتها تريليون دولار والتي سوف يتم تسلّمها بعد مئة سنة من الآن تُقيّم حاليا بنحو 247 بليون دولار. في الحقيقة، يقول <ستيرن>: «يحتاج العالم إلى أن يباشر اليوم باستثمار 1 % من إجمالي إنتاجه أو نحو 500 بليون دولار على أعمال ترمي إلى الإقلال من انبعاثات غازات الدفيئة.»

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2008/10-11/49.gif

إن معدل الحسم البالغ 6 في المئة المحدد من قبل <W. نوردهوس> يعطي قيمة لرفاه أجيال المستقبل أقل بكثير مما تحدده القيمة المقترحة من قبل <ستيرن>. فالسلع التي تبلغ قيمتها تريليون دولار بعد 100 سنة تثمن اليوم بنحو 2.5 بليون دولار فقط. وهذا بالكاد يبرر تكاليف تخفيض كميات غازات الدفيئة المنبعثة بنسبة كبيرة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2008/10-11/134.gif

كيف يُقيّم الحسم لسلع المستقبل؟
يبين المنحني البياني كيف أن القيمة التي يحددها الاقتصاديون اليوم لاستلام سلع يبلغ ثمنها مستقبلا تريليون دولار، تعتمد على معدل الحسم وعلى امتداد الفترة الزمنية حتى موعد استلام تلك السلع.

 


أخلاقيات التكاليف والمنافع(***)

 

بيد أنه حتى وإن كان تقدير التكاليف مقابل المنافع (الفوائد) لا يعطي جوابا حاسما عن السؤال المتعلق بما يجب عمله بشأن التغير المناخي، فإنه يشكل جزءا أساسيا من الجواب. فتكاليف تخفيف التغير المناخي تمثل التضحيات التي يتعين أن يقدمها الجيل الحالي للإقلال من غازات الدفيئة. فعلينا الحد من أسفارنا وعزل منازلنا بشكل أفضل، وعلينا كذلك الإقلال من استهلاك اللحوم وأن نعيش حياةً أقل ترفا. أما المنافع فهي حياة أفضل للناس مستقبلا: لن تكون معاناتهم كبيرة من انتشار الصحاري ومن فقدان بيوتهم لصالح البحر الذي ترتفع مناسيبه، كما أنهم لن يعانوا كثيرا من الفيضانات والمجاعات والتدهور الذي يصيب الطبيعة بشكل عام.

إنّ تقييم المنافع لبعض الناس مقابل التكاليف التي يتحملها الآخرون هو مسألة أخلاقية؛ لكنّ جزءا من التكاليف والمنافع التي تجنى من تخفيف وطأة التغير المناخي، تصاغ بتعابير اقتصادية؛ إذ إنّ علم الاقتصاد يتميز بطرائق مجدية لتقدير المنافع مقابل التكاليف في الحالات المعقدة، ومن ثم باستطاعة الاقتصاد أن يكون في خدمة الأخلاقيات.

 

إلى أي مدى ينبغي أن نضحي اليوم من أجل تحسين حياة الناس في المستقبل وهم أكثر ثراء مما نحن عليه الآن؟

 

 

وحديثا تناول تقرير رئيسي، باهتمام، الأساس الأخلاقي لاقتصاديات التكلفة والمنفعة. وقد تم إعداد هذا التقرير من قبل <N.ستيرن> وزملائه [لدى وزارة المالية بالمملكة المتحدة] وصدر تحت عنوان «مراجعة <ستيرن> حول اقتصاديات التغير المناخي(1)». تركزت مراجعة <ستيرن> بشكل رئيسي على مقارنة التكاليف بالمنافع، وخلصت إلى أن الفائدة التي تتحقق من تخفيض انطلاق غازات الدفيئة ستكون أكبر بكثير من تكلفة هذا التخفيض. وقد ولّد تقرير <ستيرن> ردود فعل عنيفة عند الاقتصاديين لسببين: أولا: يعتقد بعض الاقتصاديين أنه يجب ألا تبنى النتائج الاقتصادية على اعتبارات أخلاقية. ثانيا: ثمة اتجاه في التقرير لاتخاذ إجراءات صارمة فورية للحد من الانبعاثات، في حين خلصت دراسات اقتصادية أخرى كتلك التي أُجريت من قبل <W. نوردهوس> [من جامعة ييل] إلى أن الحاجة إلى التحرك بهذا الشأن ليست مُلِحة بدرجة كبيرة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2008/10-11/47.gif

إن التعرية الساحلية المدمرة في قرية شيشماريف في آلاسكا ـ الناجمة عن فقدان التربة المتجمدة وبحر الجليد المُخفِّف لحدة العواصف والناتج من احترار المناخ السريع ـ تجبر القرويين على هجر منازلهم في الجزر والاستيطان مجددا على البر الرئيسي.

 

ثمة علاقة تربط ما بين هاتين المسألتين. فنتائج <ستيرن> تختلف بشكل رئيسي عن تلك التي خَلُصَ إليها <نوردهوس> باستخدامه «معدل حسم» discount rate أقل من المعدل الذي يستخدمه <نوردهوس> استنادا إلى أسس أخلاقية. ويُقيّم الاقتصاديون عموما سلع المستقبل بأقل من سلع الوقت الحاضر. وفضلا عن ذلك، فكلما أصبح المستقبل الذي تتوافر فيه السلع أكثر بعدا، ازدادت قيمة الحسم لهذه السلع. فمعدل الحسم هو قياس لسرعة تناقص قيمة السلع بدلالة الزمن (انظر المؤطّر في الصفحة المقابلة). يحسم <نوردهوس> بمعدل 6 في المئة سنويا، في حين يحسم <ستيرن> بمعدل 1.4 في المئة في السنة. فمفعول ذلك هو أن <ستيرن> يحدد مبلغ 247 بليون دولار كقيمة حالية لسلع ذات قيمة مالية تساوي تريليون دولار بعد قرن من الآن. أما <نوردهوس> فيقدر قيمة الحصول على السلع نفسها عام 2108 بما لا يزيد على 2.5 بليون دولار حاليا؛ ومن ثم، فإن تقديرات <ستيرن> لأي مستوى من التكاليف والمنافع التي سيحصل عليها بعد مئة عام ستبلغ مئة ضعف، تقريبا، وهو ما يقدره <نوردهوس> للمستوى نفسه من التكاليف والمنافع.

يعتبر الفارق بين معدل الحسم لهذين الاقتصادييْن كافيا لتفسير تباين نتاج كل منهما. يجب أن يُحمل معظم التكاليف اللازمة للتحكم في التغير المناخي في المستقبل القريب عندما يُلْزَمُ الجيل الحالي بتقديم تضحيات تتمثل بجزء من استهلاكه. وعلى الأغلب، سيظهر معظم المنافع بعد قرن أو قرنين من الآن. ونظرا إلى أن تقديرات <ستيرن> للقيمة الحالية لهذه الفوائد تفوق تقديرات <نوردهوس>، فيمكن ل<ستيرن> اليوم تبرير إنفاقٍ يتجاوز ما يمكن أن ينفقه <نوردهوس> للحد من التغير المناخي.

 

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2008/10-11/135.gif

ثمة خلاف بين نظريات التقييم حول القيمة الاجتماعية لتوزيع منافع متساوية للأغنياء والفقراء. فمبدأ الأولوية يعطي قيمة اجتماعية عُليا لزيادة محددة في الرفاه إذا حصل عليها شخص فقير، في حين يمنح مبدأ المنفعة القيمة الاجتماعية نفسها بصرف النظر عن طريقة توزع المنافع.

 

المستقبل الأكثر ثراء(****)

 

لماذا نقوم بحسم السلع المستقبلية أصلا؟ السلع في هذا الصدد هي خدمات وسلع مادية يستهلكها الناس ـ درّاجات، غذاء، خدمات مصرفية… وغيرها. فوفق معظم سيناريوهات التغير المناخي سيستمر الاقتصاد العالمي بالنمو. وعليه، سيمتلك الناس مستقبلا سلعا أكثر مما يمتلكونه حاليا. وكلما توافر لديك أصلا المزيد من السلع، تدنت قيمة ما تحصل عليه من سلع إضافية. ولذا، فإن المنطق الاقتصادي السليم يقتضي حسم هذه السلع. فوجود حمام واحد في منزلك يعتبر تحسّنا كبيرا في حياتك، ومن دواعي سرورك أن يكون لديك حمام آخر، إلاّ أنّ ذلك لن يغيّر مجرى حياتك. وللسلع «قيمة حدية متناقصة»(2) حسب تعبير الاقتصاديين.

بيد أنه قد يكون هناك سبب ثانٍ أساسي: سبب أخلاقي محض لحسم السلع discounting goodsالتي يحصل عليها الأغنياء نسبيا. فوفقا لنظرية أخلاقية تتبنى مبدأ الأولوية prioritarianismعندما يحصل شخص غني على منفعة ـ وأعني بذلك زيادة رفاهية الفرد ـ يجب اعتبارها ذات قيمة اجتماعية أدنى من قيمتها عندما يحصل عليها شخص فقير. فمبدأ الأولوية يعطي الأولوية إلى الأقل ثراءً. لكن بموجب نظرية أخلاقية بديلة تتبنى مبدأ المنفعة utilitarianism، تحتفظ المنفعة بالقيمة نفسها بصرف النظر عَمّن سيحصل عليها. وببساطة، يجب أن يهدف المجتمع إلى تعظيم مجمل الرفاه لدى الناس بصرف النظر عن توزعه بين السكان (انظر المؤطّر في الصفحة 13).

ماذا يجب أن يكون معدل الحسم؟ وماذا يحدّد سرعة تناقص قيمة السلع في المستقبل عندما يكون الزمن المستقبلي بعيدا؟ يتوقف ذلك في المقام الأول على عوامل لا علاقة لها بالأخلاق، منها معدل نمو الاقتصاد الذي يقيس، على وجه التقريب، إلى أي مدى سيكون الناس في المستقبل في حال أفضل مقارنة بوضعهم الحالي، ومن ثم يحدّد إلى أي مدى تكون المنافع التي يكتسبها الناس مستقبلا من السلع المادية الإضافية أقل من المنافع التي يكتسبها الناس حاليا من السلع نفسها. فالمعدل السريع للنمو يؤدي إلى معدل حسم مرتفع.

ويتوقف معدل الحسم أيضا على عامل أخلاقي. كيف يجب أن نثمن منافع هؤلاء الأغنياء مقارنة بقيمة منافعنا؟ إذا كان مبدأ الأولوية صحيحا، فإن القيمة التي تقدر لمنافع سكان المستقبل يجب أن تكون أقل من قيمة منافعنا. وإذا كان مذهب المنفعة سليما، فإنه يجب أن تكون قيمة منافع الناس في المستقبل مساوية لقيمة منافعنا. فمبدأ الأولوية يقود إذن إلى معدل حسم مرتفع، في حين يؤدي مبدأ المنفعة إلى معدل حسم منخفض.

 

 ما هو الأكثر سوءا: وفاة طفل في عام 2108 أو وفاة طفل في الوقت الحاضر؟

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2008/10-11/52.gif

 

يتجه الحوار بين مبدأي الأولوية والمنفعة في هذا الصدد نحو منعطف دقيق أو حتى نحو منعطف حاد. فمعظم المناظرات يُجرى حول موضوع عدم المساواة بين الأغنياء نسبيا عند النظر إلى ما يتعين تقديمه من تضحيات إلى الفقراء نسبيا. ولكنه عندما نوجه اهتمامنا إلى الناس الذين سيعيشون في المستقبل، فإن اهتمامنا ينصب على ما يجب أن نقدمه فيما بعد نحن الفقراء نسبيا إلى الأغنياء نسبيا. وتكون عادة متطلبات مبدأ الأولوية من الدول النامية أكثر من متطلبات مبدأ المنفعة. في هذه الحالة، إنها تتطلب أقل من ذلك.

مسافة زمنية(*****)

 

هناك عامل أخلاقي آخر يؤثر في معدل الحسم. يرى بعض الفلاسفة أنه يجب أن نوجه اهتماما أكبر إلى الناس الذين يعيشون خلال فترة زمنية أقرب إلى الفترة التي نحياها، من الناس الذين يعيشون في المستقبل البعيد، لمجرد قربهم زمنيا إلينا. فإذا صح اعتقاد هؤلاء الفلاسفة، يتعين حسم رفاه المستقبل لمجرد كونه في المستقبل. ويُطْلَقُ على هذا الوضع «الحسم الصافي»pure discounting ويشير إلى أنه يجب إعطاء اهتمام أقل لوفاة طفل عمره عشر سنوات يحيا بعد مئة عام من وفاة طفل عمره عشر سنوات يعيش حاليا. وثمة رأي مخالف بالنسبة إلى البُعد الزمني يتمثل في أنه يتعين أن نكون على الحياد من الناحية الزمنية بحيث نصر على أن تاريخ حدوث الضرر لا يكفي وحده لتحديد قيمته. فالحسم الصافي يمهد الطريق لمعدل حسم مرتفع نسبيا، أما الحياد الزمني(3) فإنه يؤدي إلى تدنّي معدل الحسم.

إذن، من أجل تحديد معدل الحسم الصحيح ينبغي أن يجيب الاقتصادي عن سؤالين أخلاقيين على الأقل. فما الذي ينبغي قبوله: مبدأ الأولوية أو مبدأ المنفعة؟ وهل يجب تبني «الحسم الصافي» أو نكون على الحياد من الناحية الزمنية؟

ليست هذه الأسئلة أمورًا تنتمي إلى المباديء الأخلاقية الأولية. فهي تطرح مسائل معقدة في مجال الفلسفة الأخلاقية. والفلاسفة الأخلاقيون يعالجون مثل هذه الموضوعات بالربط ما بين الحجج التحليلية المعمقة وحساسية الحدس الأخلاقي. فقلما يتوصل الجدل في مجال الفلسفة الأخلاقية إلى نتائج حاسمة، ويعزى ذلك إلى أن لكل منا حدسا غير متساوق تبادليا mutuallyinconsistent. فكل ما أستطيع عمله كفيلسوف هو تقديري للحقيقة، وذلك بتقديم أفضل ما لدي من حجج لدعم تقديراتي. ولا يتسع المجال هنا لتوضيح هذه الحجج، لكنني توصلت إلى أن مبدأ الأولوية هو مبدأ خاطيء، وأنه ينبغي لنا أن نكون مُحايدين من الناحية الزمنية(4).

معدلات الحسم السوقي؟(******)

 

لقد خلص <ستيرن> إلى هاتين الأخلاقيتين نفسيهما. ولما كانت كلتاهما تحبذان معدل حسم منخفض القيمة، فقد قاده ذلك ـ إلى جانب نمذجة ستيرن الاقتصادية ـ إلى المعدل 1.4  في المئة الذي اقترحه. ومن ذلك خلص إلى نتيجته العملية: ثمة حاجة ماسة إلى أن يتخذ العالم إجراءات صارمة للتحكم في التغير المناخي.

لا ينكر الاقتصاديون المعارضون لـ <ستيرن> بأن نتيجته العملية هذه مستمدة من موقفه الأخلاقي، وهم يعارضون هذا الموقف. ومع ذلك يتجنب معظمهم تبني أي موقف أخلاقي خاص بهم على الرغم من أنهم يفضلون معدل فائدة أعلى من معدل <ستيرن>. وكما أوضحت سابقا يتوقف معدل الحسم الصحيح على اعتبارات أخلاقية. وعليه كيف يمكن أن يبرر الاقتصاديون أي معدل حسم من دون أن يكون لهم موقف أخلاقي معين؟

إنهم يقومون بهذا العمل من خلال استخلاصهم لمعدل حسم مرتفع من السوق المالي، حيث يقوم الناس بمقايضة عملات المستقبل بعملة الحاضر أو بالعكس. ويقومون بتبني معدل فائدة السوق المالي واعتبار معدل الفائدة هذا المعدل الخاص بهم. فكيف يمكن تبرير ذلك؟

أولا: تحدد بعض القيم وفق أذواق الناس. فالقيمة النسبية للتفاح والبرتقال تحدد بالأذواق التي تظهر في سوق الفاكهة، لكن القيم التي تعتبر قياسا لرفاه أجيال المستقبل لا تحدد بالمذاق، إنها قضية أخلاقية.

فهل يفصح السوق المالي عن أحكام الناس حول قيمة سعادتهم؟ أشك في ذلك، فالدلائل تشير إلى أنه عندما يقترض الناس ويُقرضون، تعطى غالبا أهمية أقل للرفاه في حياتهم المستقبلية منه في حياتهم الحالية. ولا تصل الغالبية العظمى منا إلى درجة من الحماقة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن سعادتنا هي نوعا ما أقل قيمة في سن متقدمة من سعادتنا في سن الشباب. وفي المقابل، يعكس سلوكنا بكل بساطة نفاد صبرنا للتمتع بأية منفعة في الوقت الحاضر. ويطغى ذلك على أية تقديرات يمكن أن نصل إليها حول أهمية مستقبلنا الشخصي، ولا مناص من أن يطغى نفاد صبرنا على أي حجة مقنعة قد نطرحها لصالح سعادة أجيال المستقبل.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2008/10-11/46.gif

إنّ انزياح المناخ باتجاه طقس جاف على نحو منقطع النظير، إلى جانب تحويل المياه من أجل الري، قد نجم عنه تحويل هذا الحوض الضخم السابق في مقاطعة مينكين في الصين إلى صحراء.

 

لنفترض، لمجرد مناقشة هذه المسألة، أن السلوك السوقي للناس يعكس بصورة واقعية تقديراتهم للقيم. فعندئذ كيف يمكن أن يبرر الاقتصاديون إعلانهم عن موقف أخلاقي حيادي وعن استخلاص معدل الحسم من وضع السوق؟ يقومون بذلك بادعائهم أن ذلك يرتكز على أسس ديمقراطية ـ تاركين الأحكام الأخلاقية للجمهور عوضا عن توجيهها لأنفسهم. ويَدّعي الاقتصاديون الذين ينتقدون <ستيرن> أنه يستند إلى أسس ديمقراطية راسخة ويوجهون له اتهاما بأنه يسعى، بغطرسة، إلى فرض معتقداته الأخلاقية على الآخرين.

إنهم يسيئون فهم الديمقراطية. فالديمقراطية تتطلب حوارا ومداولات، كما تستلزم التصويت. فليس بإمكان الاقتصاديين ـ وحتى <ستيرن> ـ فرض آرائهم على أي كان. فما يمكنهم هو فقط صياغة توصيات والدفاع عنها. ويتطلب تحديد معدل الحسم الملائم نظرية متطورة؛ ونحن كأفراد من الجمهور لا نستطيع أن نقوم بذلك دون المشورة التي يقدمها الخبراء. فدور الاقتصاديين في العملية الديمقراطية هو استنباط هذه النظرية. فعليهم أن يقدموا أفضل توصياتهم مُدعمة بأقوى الحجج. ويجب أن تكون لديهم الرغبة في مناقشة بعضهم بعضا بشأن الأسس الأخلاقية لنتائجهم. عندئذ ينبغي أن نتخذ قراراتنا كأفراد من الجمهور بمساعدة الخبراء. فمن دون مساعدتهم، ستكون خياراتنا غير مُدعّمة ولا قيمة لها تقريبا.

وبعد اتخاذ قراراتنا من خلال العملية الديمقراطية، يستطيع المجتمع أن يقوم بعمله، لأن هذا العمل ليس من شأن الاقتصاديين. فتوصياتهم تشكل مدخلات inputs  لهذه العملية ولا تشكل مخرجاتها outputs. فالتصور بأنك المقرر النهائي لهذه العملية الديمقراطية يعتبر الغطرسة بعينها.

ولا يمكن تجنب الاعتبارات الأخلاقية عند تحديد معدل الحسم. والتغير المناخي يطرح أيضا عدة مسائل أخلاقية أخرى. وثمة حاجة إلى عمل جدي في مجال الأخلاق لنقرر ماذا ينبغي أن نقدمه من تضحيات لتخفيف التغير المناخي. فأخلاقياته هي من الأمور البالغة الصعوبة. ومازال هناك العديد من الأمور التي يتعين إيجاد الحلول لها. إننا نواجه مشكلات أخلاقية وعلمية أيضا، ويجب أن نعمل على حلها.

 

المؤلف

 John Broome
 أستاذ كرسي الفلسفة الأخلاقية في جامعة أكسفورد، وزميل في كلية كورپاس كريستي. كان سابقا أستاذ الاقتصاد في جامعة بريستول وهو زميل الأكاديمية البريطانية، وزميل جمعية إدنبره الملكية، وهو عضو أجنبي في أكاديمية السويد الملكية للعلوم، وحاصل على زمالة أبحاث ليکرهولم الرئيسية. تشمل كتبه: تقييم السلع، احتساب تكاليف احترار الكرة الأرضية، الأخلاق المستمدة من الاقتصاد، تقدير أهمية الحياة. http://oloommagazine.com/Images/Articles/2008/10-11/53.gif

  مراجع للإستزادة

Rational Behavior and Bargaining Equilibrium in Games and social Situations. John C. Harsanyi . Cambridge University press, 1977.

 

Managing the Global Commons: The Economics of climate Change. William D. Nordhaus. MIT press, 1994.

 

A Review of the Stern Review on the Economics of Climate Change, Martin L. Weitzman in journal of Economic Literature,

 Vol. 45, No.3, pages 703-724; September 2007.

 

Climate Change 2007. Fourth Assessment Report of the Intergovernmental panel on Climate Change.

Cambridge University press, 2007. Available at www.ipcc.ch

 

Stern Review on the Economics of Climate Change. Nicholas Stern et al. Cambridge University press, 2007. Available at www.hm-treasury.gov.uk/independent_reviews/stren_review_economics_climate_change/stern_review_report.cfm

 

(*)THE ETHICS OF CLIMATE CHANGE
(**)How Much Do We Care About The Future?
(***)Ethics of Costs and Benefits

(****)The Richer Future
(*****)Temporal Distance

(******)Market Discount Rates?

(1) Stern Review on the Economics of Climate Change
(2) marginal value
(3) temporal impartiality
(4) [لمزيد من التفاصيل انظر الفصل العاشر من كتابي Weighing Goods، وأيضا الفقرة 4.3 من كتابي Weighing Lives (2004)].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى