أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الدماغعلم الأعصاب

البيولوجيا العصبية للثقة


البيولوجيا العصبية للثقة(*)

إن ميلنا إلى الثقة بشخص غريب ينجم إلى حد كبير عن تعرضنا لجزيء

 معروف بقيامه بمهمة مختلفة تماما: إنه يطلق المخاض عند المرأة الحامل.

 <P.زاك>

 

 

لو طُلب إليك أن تسقط إلى الخلف بين ذراعي شخص مجهول، فهل تثق بأن هذا الشخص سيمسك بك؟ هذا الوضع، وهو تمرين تقليدي في المعالجة الزُمْرَوية(1)، متطرفٌ قليلا. ولكننا في معظمنا نضع ثقتنا كل يوم بأناس لا نعرفهم. وخلافا للثدييات الأخرى، فإننا نمضي كثيرا من الوقت مع أشخاص ليسوا مألوفين لدينا. مثلا، يتجول سكان المدينة بانتظام بين مجهولين وهم عازمون على تحاشي بعض الأفراد الذين يمكن أن يؤذوهم ولكن يشعرون بالأمان بالقرب من آخرين.

 

ُتكتسَب هذه القابلية لتمييز الأشخاص الذين يمكن الوثوق بهم تدريجيا وعلى الأطفال أن يتعلموها. وهكذا، في «كتاب الغابة» Le livre de la Jungle، لا يبدو أن الفتى < ماوكلي> قد فهم بعد أنه لا يمكن الوثوق بالجميع (انظر الشكل1).

 

لماذا يثق الإنسان بمن حوله؟ قبل عدة سنوات، اكتشف علماء البيولوجيا العصبية كيف يستدل الدماغ البشري على الأشخاص الموثوقين. فثمة جزيءmolecule يصنعه الدماغ ومعروف منذ زمن طويل ـ «الأوسيتوسين»(2) oxytocin ـ يؤدي دورا رئيسيا في هذه الآلية. قد يفتح ذلك آفاقا جديدة لفهم وعلاج اضطراباتٍ تتميز بخلل في وظيفة التآثرات الاجتماعية interactions sociales.

 

من أين تأتي الثقة؟(**)

 

لنر كيف انتهيتُ إلى دراسة العلاقة بين «الأوسيتوسين» والثقة. في عام1998، تساءلت مع <S.كنيك> [وهو خبير اقتصادي في «مركز أبحاث البنك الدولي من أجل التنمية»]: لماذا تتباين الثقة بين الأفراد من بلد إلى آخر (انظر الشكل 2). وقد طورنا حينذاك نموذجا رياضياتيا يصف البيئات الاجتماعية المختلفة، التشريعية والاقتصادية القادرة على إحداث اختلافات مستوى الثقة. وبينّا أن الثقة هي أفضل مؤشر يتنبأ بثراء بلد ما؛ فالمجتمعات التي يكون مستوى الثقةِ لديها ضعيفا، تكون فقيرة، لأن أفرادها لا يوظفون استثمارات كافية إلى أمد طويل، وهو ما يحدث الوظائفَ ويزيد العائدات. وترتبط هذه الاستثمارات بعلاقة الثقة التي تقوم بين مختلف الأطراف.

 

ومع ذلك بقي سؤال مطروح: كيف يُقرِّر شخصان أن يثق أحدهما بالآخر؟ كانت دراسات عديدة قد بينت أن أشخاصا موجودين في الوضع نفسه لا يضعون ثقتهم بالضرورة بالفرد ذاته، غير أن أحدا لم يكن قد وصف آلياتٍ توضح العمليات الدماغية للثقة.

 

وقد أُشيرَ لدى الحيوان إلى ضلوع «الأوسيتوسين» في ذلك؛ إذ يُصنع هذا الپروتين الصغير، أو الپپتيد peptide، المشكل من تسعة حموض أمينية فقط، في الدماغ، حيث يسهم في إرسال الإشارات signalisation بين العصبونات ـ فهو ناقل عصبي، وهو يمرّ عبر الدم أيضا ليترك تأثيرَه في النسُج المختلفة، مما يجعل منه هرمونا. وكان <V.دو کينيو> [من كلية طب «ويل كورنل» في نيويورك] هو الذي عزل هذا الجزيء، ثم اصطنعه، عام 1953. وفي تلك الفترة كان معروفا أن «الأوسيتوسين» ينبه إنتاج الحليب عند المرأة المرضع ويسرّع المخاض حين الوضع؛ واليوم، يتلقى نصف عدد النساء الحوامل في الولايات المتحدة «الأوسيتوسين» التركيبي (المسمى «پيتوسين» pitocine) لتقوية التقلصات الرحمية في أثناء الولادة. ومن المعروف أيضا أن تراكيز «الأوسيتوسين» تكون في حدها الأقصى لدى الرجل والمرأة حين الإيغاف orgasme. وقد أكسَبَه دورُه المفترض في التعلق الذي يحدث بعد الجماع مباشرة نعتَ هرمون العناقhormone du câlin. ولكن كان من الصعب تحديد تأثيراتٍ أدق لهذا الپپتيد، لأن تركيزه في الدم ضعيف ويتدرَّك (يتلف) بسرعة. ومع ذلك، يسهّل «الأوسيتوسين» التعاونَ ـ الذي يتضمن الثقة ـ لدى بعض الثدييات، وهناك جزيء مشابه له، هو «الکازوتوسين» vasotocine، يشجع التآثرات الودية لدى بعض الأنواع الحيوانية.

 

هرمون العناق(***)

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/3&4/46.gif
الشكل 1. سيثق <ماوكلي> ب<كا> التي تحاول أن تبهره، بأن تغني له «ثِق بي، صدقني إني أستطيع أن أهتم بك»؟ في فيلم «كتاب الغابة»، المقتبس عن قصة <R.كپلينگ>. كاد <ماوكلي>، لفرط ثقته، أن ينقاد ل<كا>. والأطفال ـ وبعض الراشدين ـ يجب أن يتعلموا اكتشاف الخُدَع التي يلجأ إليها ذوو النوايا السيئة، للإيحاء بالثقة.

 

 وفقا لبيولوجيي التطور، ظهر «الکازوتوسين» عند الأسماك قبل نحو 100مليون سنة. وهو يسهل التكاثرَ الجنسي، بتقليله خوف الإناث من اقتراب ذكرٍ منها خلال فترة التكاثر. ويُعتقد أن آلية منقصة لهذا الخوف كانت قد تطورت لكون فوائد التكاثر الجنسي ـ من ذُرية وتنوّع جيني كبير ـ تفوق خطر التعرض للأكل من قبل الذكر.

 

 لقد تطور «الکازوتوسين» عند الثدييات إلى پپتيديْن اثنين قريبينapparentés: «الأوسيتوسين» و«الأرجينين-کازوپريسين» arginine-vasopressine. وكان الباحثون قد بينوا، في نهاية السبعينات، أن هذين الجزيئين يشجعان القوارض على التآثر مع الآخرين. وعلى سبيل المثال، اكتشف <C.پردرسِن> وزملاؤه [من جامعة ساوث كارولينا، بالولايات المتحدة] أن «الأوسيتوسين» يعزز سلوكَ تربية الصغار عند القوارض.

 

 بعد ذلك بفترة قصيرة، درس عالما الحيوان <S.كارتر> و<L.كِتز> [من جامعة إيلينوي بالولايات المتحدة] «الأوسيتوسين» لدى نوعين من فئران الحقلcampagnols المتقاربة جينيا وجغرافيا. تتساكن فئران حقل المروج الذكور مع شريكها طوال حياتها، وتعيش في جماعات اجتماعية، وهي آباء حريصة. وعلى النقيض منها، فلدى فئران الحقل الجبلية الذكور سلوكيات غير مسؤولة (لامبالية)، فهي منعزلة solitaires ولا تكترث بذريتها.

 

وقد أظهر <كارتر> و <كتز> أن فارق السلوك الاجتماعي بين هذين النوعين قد يكون ناجما عن تموْضُع مستقبلات «الأوسيتوسين» و«الأرجينين-کازوپريسين» الدماغية لديها. ترتبط هذه الجزيئات، كي تمارس تأثيرَها في الدماغ، بمستقبلات نوعية تقع على سطح العصبونات. ووحدها فئران الحقل هي التي تمتلك هذه المستقبلات في المناطق الدماغية التي تجعل الزواج الأحادي محمودا، لأن تنشيط المستقبلات يزيد من تحرير أحد النواقل العصبية، وهو «الدوپامين» dopamine، الذي يعزز التعايش والعناية بالصغار عند الذكر.

 

 

 

ممارسة لعبة الثقة(****)

 

من أجل دراسة دور «الأوسيتوسين» في الثقة، طلب المؤلف وزملاؤه إلى عدد من الأشخاص المشاركة في لعبة الثقة. ومن خلال هذه التجربة تبين لهم أن رسالة الثقة تولِّد ازديادا في تركيز «الأوسيتوسين» في الدم (وهذا ما يتوافق وقيام الدماغ بزيادة إنتاجه). لا يشجع «الأوسيتوسين» الثقة confiance فحسب، ولكن يشجع أيضا الأمانة. وفي  المقابل، ينطوي دماغ بعض الأشخاص غير الموثوق بهم على عيب في منظومة «الأوسيتوسين» الدماغية.

 

اللعبة

يتم شرح القواعد للاعبين لا يري أحدهما الآخر تقدم إليهما عشرة دولارات، وهو ما يجري تسجيلة لحسابهما في الحاسوب.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/3&4/0004%20copy%20copy.gif
 

التحليل:

إذا أعطى «الشخص 1» مالا وأعاد إليه «الشخص 2» قسما كافيا مما كسبه، فإنه يربح اللاعبان.

إذا خان «الشخص 2» «الشخصَ 1»، وأعطى قليلا من المال للشخص 1، فإن الأخير يمكن أن يفقد مالا.

تقدَّر ثقة «الشخص 1» بالمبلغ المحوَّل إلى «الشخص 2». وتقاس أمانة «الشخص 2» بالمبلغ المعاد.

النتائج:

ينبه ارتفاعُ «الأوسيتوسين» الثقةَ:

بعد أن استنشق «الأشخاص 1» «الأوسيتوسين» المصنّع على شكل بخاخ أنفي، أرسلوا مبلغا إضافيا من المال نسبته 17 في المئة، مقارنة بأفراد المجموعة الشاهدة الذين استنشقوا دواء غُفْلا.

 نحو نصف عدد الأشخاص الذين تناولوا «الأوسيتوسين»، أعطوا مالَهم بكامله إلى شركائهم.

 

يزيد «الأوسيتوسين» لدى شخص من جدارته بالثقة:

أرجع «الأشخاص 2» الذين لديهم التراكيز الأعلى من «الأوسيتوسين» في الدم، المقدارَ الأكبر من المال إلى شركائهم.

 

ربما كانت شذوذاتٌ في ارتكاس الدماغ ل«الأوسيتوسين» تفسر بعضَ اضطرابات

السلوك الاجتماعي:

لم يقم بعض «الأشخاص 2»، الذين لديهم تراكيز عالية من «الأوسيتوسين»، بإرجاع أي شيء إلى «الأشخاص 1». وربما كان سلوكهم هذا ناتجا من اختلال قد يكون مرضيّا في منظومة «الأوسيتوسين» الدماغية.

 

كانت أهمية «الأوسيتوسين» في العلاقات الحيوانية توحي بأنه يمكن أن يكون ضالعا أيضا في الثقة confiance، التي بإمكاننا أن نفترض أنها شرط لازم للحميمية intimité. وكنت قد عزمت على العمل على هذا الموضوع بمجرد أن يتم اكتشاف كيف تقاس، سريعا وبوثوقية، الاختلافات الضئيلة في تركيز «الأوسيتوسين» في عينات الدم.

 

لدى الحيوان، نعرف أن رسائل اجتماعية غير مُهدِّدة تُطلِق إنتاج «الأوسيتوسين» في دماغ الأفراد الذين يتلقونها، فهل يحدث الشيء نفسه عند الإنسان؟ لذا عزمنا على أن نختبر ما إذا كان من شأن اقتراب أناس مجهولين، يبعثون إشارات إيجابية، أن يُنبه إطلاق «الأوسيتوسين»، وما إذا كان إنتاج هذا الهرمون يحوِّر السلوكَ الاجتماعي للإنسان.

 

وقد بقي أن نجد وسيلةَ قياسِ مستوى الثقة بين شخصين لا يعرف أحدُهما الآخر. لقد كان يكفي مع القوارض إدخال حيوان مجهول إلى قفص حيوان آخر كي نرى ما إذا كانت سلوكياتٌ غير مهدِّدة تُنبه إطلاقَ «الأوسيتوسين»؛ غير أن قدرة البشر على تقييم أوضاع اجتماعية ما، مهيأة بشدة لهذا النمط من الإجراء التجريبي. وتتعلق ردود أفعال الأشخاص بعوامل عدة، كالمظهر البدني والثياب،… . ومع ذلك، كان علماء الاقتصاد <J.بيرگ> [من جامعة إيوا] و<J.ديكهوت> و<K.ماكيب> [من جامعة مينيسوتا] قد ابتكروا في تسعينات القرن الماضي اختبارا يفي بالغرض. ويمكن للمشاركين في هذه المهمة، المسماة لعبة الثقة jeu de confiance، إعطاء إشارة إلى أنهم يثقون بشخص مجهول، وذلك بأن يجودوا بمالهم عليه. ويفعلون ذلك، لأنهم يعتقدون أن هذا المجهول سيفعل الشيء نفسه وسيرد لهم مالا أكثر مما أُعطي.

 

الثقة والجدارة بالثقة(*****)

 

 هاكم كيف نفذنا لعبة الثقة في مختبرنا: طوَّع معاونيّ أشخاصا يكسبون عشرة دولارات إذا قبلوا قضاء ساعة ونصف الساعة معنا (انظر المؤطر أعلاه). وقد جمعنا المشاركين أزواجا بطريقة عشوائية، من دون أن يروا بعضهم بعضا أو أن يتواصلوا. وفي كل زوج هناك «شخص 1» و«شخص 2». شرحنا لهم في البداية كيف تجري اللعبة. وفي البداية يطلب حاسوب إلى «الشخص 1»  أن يقرر إرسال، أو عدم إرسال، جزء من مكافأته العشرة دولارات إلى الشخص الآخر. يضاعَف المبلغ المرسَل ثلاث مرات ويضاف إلى حساب «الشخص 2». مثلا، إذا تخلى «الشخص 1» عن 6 دولارات، ليصبح مجموع ما لدى «الشخص 2» 28دولارا (العشرة التي حصل عليها في البداية يضاف إليها 6×3 )،  ولا يبقى لدى «الشخص 1» سوى 4 دولارات.

 

  في المرحلة التالية، يُطلع الحاسوب «الشخص 2» على التحويل النقدي ويسمح له بأن يعيد مبلغا معينا إلى «الشخص 1»، موضحا له أنه غير ملزَم بأن يعيد له ولو سنتيما واحدا؛ فضلا عن ذلك، يعرف المشاركون أن هويتهم وقراراتهم تبقى سرية. إن ما يعطيه «الشخص 2» إلى «الشخص 1»  يقيَّد على حسابه، والمبلغ الذي يتلقاه هذا الأخير هو المبلغ المرسَل نفسه (أي إنه غير مضاعف ثلاث مرات ). والغش غير ممكن في هذه المعاملات ـ فالمدفوعاتُ مطابقة للخيارات. وحالما يتخذ المشاركون قراراتهم، نأخذ عينات من دمهم لقياس تركيز «الأوسيتوسين» فيها.

 

  ويعتبر علماء الاقتصاد أن المعاملة transaction الأولى تقيس الثقة، في حين تُقدّر الثانية الأمانة (الوفاء) loyauté. وكثيرا ما استخدمت لعبة الثقة هذه في العديد من البلدان وفي رهانات أكثر أهمية.

 

  في تجاربنا، أرسل نحو 85 في المئة من الأشخاص الذين اضطلعوا بدور «الشخص 1» مالا إلى شريكهم، وأعاده 98 في المئة من «الأشخاص 2» الذين حصلوا على المال. وقد تبين لنا أنه لم يكن بوسع هؤلاء الأشخاص أن يفسروا لماذا كانوا واثقين أو أمناء. إلا أننا افترضنا أن عملية حصولهم على ثقة «الشخص 1» أطلقت ازديادا في «الأوسيتوسين» في دماغ «الأشخاص 2»، وأنه كلما كانت المبالغ التي يتلقاها هؤلاء الأشخاص كبيرة، كان لا بد من أن تكون زيادات «الأوسيتوسين» لديهم كبيرة.

 

   في الواقع، أظهرنا أن دماغ «الأشخاص 2» ينتج الپپتيد عندما يتلقى هؤلاء المشاركون المال؛ إذ يشعرون بأن المجهولين يثقون بهم. إضافة إلى ذلك، يطلق دماغُ الأشخاص الذين نبدي لهم ثقة أكبر (نعطيهم مالا أكثر) قدرا أهم من «الأوسيتوسين». وكي نكون متأكدين من أن ازدياد تركيز «الأوسيتوسين» ناشئ فعلا عن شعور الثقة، أدخلنا مجموعة شاهِدة من المشاركين الذين يتلقون مالا على نحو عشوائي، وليس لأن أحدا ما وثق بهم. في الحقيقة، لم يفرز دماغ هذه المجموعة «الأوسيتوسين»، وهو ما يؤكد أن إطلاق «الأوسيتوسين» غير ناجم عن المال. فضلا عن ذلك، اكتشفنا أن «الأشخاص 2» الذين لديهم تراكيز عالية من «الأوسيتوسين» هم أكثر أمانة، أي إنهم يعيدون مالا أكثر مما تلقوه إلى «الأشخاص 1».

 

الكثير من الأوسيتوسين في الدماغ(******)

 

  كيف نفسر إطلاق «الأوسيتوسين»؟ من وجهة نظر التطور، بما أن لدى الكائنات البشرية فترة مراهقة adolescence طويلة، فربما كان الانتقاء (الاختيار) الطبيعي قد فضل الأشخاصَ الذين يتعلقون بشدة ولوقت طويل بأولادهم حتى يكبروا ويتمكنوا من أن يصيروا مستقلين. ويبلغ أبناء عمنا الأقرب، الشمپانزيles chimpanzés، نضجهم الجنسي في سن السبع أو الثماني سنوات؛ في حين يلزم الإنسان مِثليْ هذه المدة من أجل ذلك؛ وطوال هذا الوقت كله، يحتاج الطفل إلى الرعاية الوالدية كي ينمو جيدا (ويبقى على مقربة من والديه). وإحدى نتائج الرعاية طويلة المدة هذه هي أن الكائنات البشرية تميل إلى تعلق بعضها ببعض، بحيث إنها تتعلق أيضا بأشخاص غير أقرباء يصبحون أصدقاء وجيرانا أو أزواجا.

 

  إضافة إلى ذلك، لم نلاحظ عملية إطلاق ل«الأوسيتوسين» إلا لدى «الأشخاص 2» الذين تلقوا رسالة ثقة. ولم يُبدِ «الأشخاص 1» الذين ابتدؤوا التجربة بتراكيز مرتفعة من «الأوسيتوسين» ثقةً أكثر بالآخرين (ولم يعطوا مالا أكثر ل«الأشخاص 2»). وهذه الملاحظة لا تتناقض مع سابقاتها؛ فقد أظهرت الدراسات المجراة على الحيوانات أن «الأوسيتوسين» لا يتحرر إلا عندما يكون الأفراد في تماس اجتماعي. وإن ارتفاع تركيز «الأوسيتوسين»، وليس مستواه الأساسي، هو الأمر المهم.

 

  إذن، ماذا يحدث لو أننا زدنا تراكيز «الأوسيتوسين» اصطناعيا؟ إذا كانت فرضيتنا صحيحة، فإن من شأن ذلك أن يعزز الثقة التي يوليها «الأشخاص 1» لشركائهم (فيعطونهم مالا أكثر). في عام 2005، ومن أجل دراسة هذه المسألة، مع فريق عالم الاقتصاد <E.فهر> [في جامعة زيوريخ بألمانيا] طلبنا إلى نحو 200مستثمر من الذكور أن يستنشقوا «الأوسيتوسين» المركّب على شكل بخاخ أنفي (مما يمكّنه من الوصول إلى الدماغ). وقارنا سلوكهم بسلوك أفراد مجموعة شاهدة استنشقوا دواء غُفْلا placebo. وهكذا، فإن المستثمرين الذي تناولوا «الأوسيتوسين» أعطوا 17 في المئة زيادة من المال لشركائهم. وعبّر ضِعفُ عدد «الأشخاص 1» ممن استنشقوا «الأوسيتوسين» (ما يقرب من نصف مجموعهم) عن ثقة قصوى، حيث أرسلوا مالهم جميعه.

 

 

أوسيتوسين في الدماغ(*******)

 

تطلق بنى دماغية عديدة (باللون الأخضر) «الأوسيتوسين» وتتفعل استجابةً لازدياد تركيزه. وتمتلك هذه البنى ثلاث خواصّ مشتركة: لديها العديد من مستقبلات «الأوسيتوسين»، التي تنقل رسائل الپپتيد إلى العصبونات؛ وتضبط الانفعالات والسلوك الاجتماعي؛ وتحوّر إطلاقَ «الدوپامين» في الدماغ المتوسط، الذي يمنح الشعور بالهناء والمكافأة. ومع أن تأثيرات «الأوسيتوسين» ذات الصلة بالثقة ناشئة عن نشاطه في الدماغ، فإن الجزيء يُنشط أيضا مواضع أخرى من الجسم. وبعضُ عصبونات النخامى تفرز هذا الجزيء في الدورة الدموية، بحيث يؤثر في الأعضاء المختلفة، كالرحم والغدد الثديية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/3&4/0006.gif

 

 

 ووفقا لهذه التجربة، فإن ارتفاع تركيز «الأوسيتوسين» في الدماغ يُنقص القلقَ الطبيعي تجاه شخص مجهول. ومع ذلك، لم يكن بعض المشاركين من الذين تناولوا «الأوسيتوسين» أكثر ثقة. ويبدو أن ازدياد «الأوسيتوسين»، بالنسبة إلى بعضهم، غير كاف للتغلب على القلق الذي يسببه المجهولون.

 

ولكن اطمئنّوا، فإن هذه التجربة لا تثبت أن بالإمكان التلاعب على الآخرين. لن يستطيع التجار ولا رجال السياسة تبخير «الأوسيتوسين» في الهواء أو وضعه في الطعام أو في الشراب لانتزاع ثقة مخاطبيهم؛ إذ يتلَف «الأوسيتوسين» في الجهاز الهضمي، حيث إن تناوله عن طريق الفم لا تأثير له في الدماغ. فضلا عن ذلك، فإن إعطاءه عبر الوريد أو عن طريق الأنف سهلُ الكشفِ، وربما لا يتيح استنشاقه من خلال الهواء زيادةً كافية في تركيزه الدماغي.

 

 في إحدى التجارب غضبت امرأة، لأنها لم تتلق سوى مبلغ ضئيل من شريكها الذي عدّته بذلك غير أمين. ما الذي يحدث عندما نرتاب في الناس؟ يُدار العديد من النظم الدماغية البالغة الأهمية بقوى متعاكسة. فمثلا، إن تناول الأطعمة يدار بوساطة هرمونات ترسل إشارات عندما ينبغي أن نبدأ بالأكل، ثم عندما يجب أن نتوقف عنه. والسلوكيات الاجتماعية مضبوطة بالطريقة نفسها. ويمثل «الأوسيتوسين» الجانب الإيجابي من التآثرات الشخصية: نشعر بالارتياح عندما يبدو لنا أن أحدهم يثق بنا، ويحثنا وعي ذلك على المعاملة بالمثل. وكما ذكرنا فيما سبق، فمن أجل تحريض الأمهات على الاهتمام بصغارهن، يسبب «الأوسيتوسين» إطلاق «الدوپامين» في باحات من الدماغ مرتبطة بسلوكيات تحث على المكافأة récompense. وقد جعلتنا دراسات لاحقة نعتقد بوجود جانب مقابل، أو سلبي، لآلية تشكُّل الثقة، على الأقل بالنسبة إلى الذكور من الأشخاص.

 

الجانب المظلم للثقة(********)

 

   عندما لا يوثق ب«الأشخاص 2» من جنس الذكور (يتلقون قليلا من المال)، يلاحظ لدى هؤلاء ازدياد في تركيز «الديهيدروتستوستيرون» dihydrotestostérone(DHT)، أحد مشتقات «التستوستيرون» (الهرمون الرئيسي المولِّد للخواص الذكورية). ونجد التراكيز الأعلى من الهرمون DHT لدى الرجال الذين نوليهم  الثقة الأدنى. هذا الجزيء هو نوع من «التستوستيرون» الفائقsupertestostérone، يطلق تغيراتِ البلوغ المدهشة، المتمثلة في نمو الشعر وازدياد الكتلة العضلية وثخانة الحبال الصوتية. تنبه التراكيز المرتفعة من الهرمونDHT  أيضا رغبةَ المجابهة في الظروف الاجتماعية الصعبة. تبين نتائجُنا أن لدى الرجال ارتكاسا عدوانيا عندما لا نوليهم الثقة.

 

   يتفق الرجال والنساء في ناحية واحدة وهي: إنهم لا يحبون أن نرتاب فيهم، غير أن النساء لا يرتكسن بالطريقة نفسها. فمعظمُ الرجال، الذين اضطلعوا بدور «الأشخاص 2» والذين تم الارتياب فيهم، لم يعيدوا شيئا إلى شركائهم، في حين حولت أغلبية النساء مبلغا مماثلا تقريبا للمبلغ الذي أعطي لهن. ومع ذلك، فإننا نجهل الآليات الفيزيولوجية التي تكمن وراء هذا التباين. ومن الممكن أن ارتكاسا عدوانيا على رسالة ارتياب يتيح لنا أن نثق أكثر بالآخرين.

 

   لقد تبين ـ من خلال تسجيل النشاط الدماغي الوظيفي، بالتصوير بالرنين المغنطيسي MRI، في أثناء لعبة الثقة ـ أن إيلاء شخص مجهول الثقة ينبّه نواحي عميقةً من الدماغ المتوسط mésencéphale، حيث يوجد «الدوپامين»، مما يسهم في شعور المكافأة. وربما لهذا السبب يرغب «الأشخاص 2»، الذين يتلقون المال، في إرجاعه ل«الأشخاص 1»، على الرغم من أن الأمر لا يعود عليهم بالفائدة. إن هذه المشاعر الإيجابية ـ الناشئة عن تنشيط هذه المنظومة الدماغية المسماة المكافأة، والتي يحس بها «الأشخاص 2»، عندما يبدون الثقة بدورهم ـ تكافِئهم نفسيا وتعزز رغبةَ الأمانة عندهم.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/2009/3&4/0007.gif
الشكل 2. تتباين مستويات الثقة وفقا للبلدان. أراد المؤلف أن يعيّن الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المسؤولة عن هذه الاختلافات عندما يُطلَب إلى أشخاص أن يجيبوا عن السؤال التالي: «هل تعتقد أنه يمكننا أن نثق بمعظم الناس؟» فبيّن أن الثقة هي المؤشر الذي يجعلنا نتوقع بالشكل الأفضل ثراء بلد ما، لكن هذا العمل قاده أيضا إلى دراسة دور «الأوسيتوسين» في الثقة. ربما كان ازدياد تراكيز «الأوسيتوسين» يحث على الثقة.

 

    وعلى الرغم من أن معظم الأشخاص كانوا موثوقين، فإن اثنين في المئة من «الأشخاص 2» في دراساتنا غير أهل للثقة ـ فقد كانوا يحتفظون بالمال الذي أُرسل إليهم جميعه أو جُله ـ في حين أن لديهم تراكيز عالية من «الأوسيتوسين». وتشير هذه النتيجة إلى أن لدى هؤلاء الأفراد مستقبلات «أوسيتوسين» في نواحٍ دماغية غير ملائمة ـ وبخاصة في باحات لا تزيد إطلاقَ «الدوپامين» ـ أو أن مستقبلاتها ليست وظيفية. وفي الحالة الأخيرة، ربما لا تستجيب العصبونات neurones لانطلاق «الأوسيتوسين»، أيا كانت الكمية المنتَجة. وقد تبيَّن لنا أن لدى المشاركين في دراساتنا ـ من الذين هم إلى حد كبير غير الجديرين بالثقة ـ سماتٍ شخصية تشبه سمات المعتلين اجتماعيا sociopathes، وهم أفراد لا مبالون بمعاناة الآخرين.

 

أمراض عوز الأوسيتوسين؟(*********)

 

   نسعى اليوم إلى معرفة ما إذا كانت حالات أعواز النشاط الأوسيتوسيني في الدماغ تسهم في الاضطرابات التي تتميز باختلال التآثرات الاجتماعية. فمثلا، لدى الأشخاص الذين يعانون التوحد autisme تراكيز ضئيلة من الأوسيتوسين. إلا أن من فرق الدراسة من أشار إلى أن العلاجات القائمة على تعويض هذا الپپتيد لا تؤدي إلى أي تحسن في انخراطهم الاجتماعي. وعلى غرار المشاركين غير الجديرين بالثقة في لعبة الثقة، يمكن أن يكون لدى هؤلاء المصابين بالتوحد مستقبلات «أوسيتوسين» غير وظيفية non functionnels.

 

   كذلك الأمر، يعاني المصابون بأذيات في نواحٍ دماغية غنية في الأحوال الطبيعية بمستقبلات «الأوسيتوسين» صعوباتٍ في تحديد من يبدو جديرا بالاعتماد ممن هو ليس كذلك. ويشتمل كثير من الاضطرابات العصبية والنفسية، مثل الفُصام والاكتئاب وداء ألزايمر واضطرابات الرهاب الاجتماعيphobie social ومرض هنتينگتون Huntington، على شذوذات anomalies في التآثرات الاجتماعية. ويمكن أن تؤدي منظومة «الأوسيتوسين» الدماغية المَعيبة دورا في هذه الأمراض. وربما يسهم فهم أفضل لهذه المنظومة في تطوير علاجات جديدة.

   يتميز «الأوسيتوسين» بتأثيرات دينمية (ديناميكية) كثيرة في الجسم: يتآثر الپپتيد مع هرمونات أخرى ونواقل عصبية neurotransmetteurs  تتباين  تراكيزها من دقيقة إلى أخرى طوال الحياة. وهكذا، تزيد «الإستروجينات»estrogènes ـ هرمونات جنسية ـ عدد مستقبلات «الأوسيتوسين» في بعض النسُج: الرحم بشكل خاص؛ في حين ينقصه «الپروجسترون» progestérone، وهو هرمون جنسي آخر. وتوحي هذه التأثيرات إلى أن عوامل فيزيولوجية وبيئية في الوقت نفسه تتحكم في رغبتنا بالتآثر الاجتماعي، مما يجعلنا نفترض أيضا أن الخبرات المعيشة تؤثر في آلية «الأوسيتوسين» وتغيِّر تركيزه الأساسي “de base”  خلال الحياة؛ وعلى هذا، فإن مستوى ثقتنا بالآخرين لن  يكون ثابتا.

 

   ربما يكون من شأن العيش في بيئة آمنة أن يحث على إطلاق كمية أكبر من «الأوسيتوسين» حين يولينا أحدهم الثقة. بينما تعاكس حالات الكرْب stressوالشك والانعزال إطلاق هذا الهرمون. ونتطلع إلى فهم أفضل للكيفية التي يتيح هذا الپپتيد البسيط للناس الشعور بالتعاطف empathie ووضع الثقة في من يُحيطون بهم.

 

المؤلف

Paul Zak

  أستاذ اقتصاد، يرأس مركز الدراسات الاقتصادية في جامعة كليرمونت بكاليفورنيا. وهو أيضا أستاذ طب الأعصاب في المركز الطبي الجامعي «لوما ليندا» بجنوب كاليفورنيا.

  مراجع للاستزادة 

 

P. ZAK et al., Oxytocin increases generosity in humans, in PloS ONE, Vol. 2, P. 1128, November 2007.

 

P. ZAK et al, Oxytocin is associated with human trustworthiness, in Hormones & Behavior,

 Vol. 48, pp. 522-527, Decembre 2005.

 

M. KOSFELD et al., Oxytocin increases trust in humans, in Nature, Vol, 435, pp. 673-676, Juin 2005.

 

C. PEDERSEN, How love evolved from sex and gave birth to intelligence and human nature, in Journal

of Bioeconomics, ol. 6, pp. 39-63, 2004.

 

R. SMITH, Le dėclenchement de l’accouchement, in pour la science n259, Mai 1999.

 

(*) الفرنسيةوهي إحدى أخوات مجلة العلوم الثماني عشرة التي تترجم مجلة ،Pour la science وقد صدرت في عدد الشهر 8/2008 من مجلةUne molécule de la confiance:هذه ترجمة للمقالة بعنوان 

     Scientific American.

(**) D’où vient la confiance?    

(***) L’hormone du câlin

(****) Jouer de la confiance       

(*****) Confiance et loyauté

(******) Beaucoup d’ocytocine dans le cerveau

(*******) D’ocytocine dans le cerveau

(********) Le côté obscur de la confiance

(*********) Des maladies de l’ocytocine?

 

 

(1) group therapy

(2) هرمون عديد الپپتيد polypeptide يصنعه الفص الخلفي من النخامى، يعمل على تحريض تقلصات الرحم خلال الوضع.    (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى