شحن قوي سريع للدماغ
شحن قوي سريع للدماغ(*)
هل ستكون لدينا يوما أقراص طبية نتناولها مع وجبة الإفطار؛ لتحسين
قدراتنا على التركيز والتذكر، من دون أن تتضرر صحتنا لأمد طويل؟
<G.ستيكس>
مفاهيم مفتاحية
يتناول طلبة الجامعة والموظفون الإداريون الكبار أدوية منبهة؛ لتحسين أدائهم الذهني الروتيني، مع أن هذه المركبات لم يصادق بعد على استخدامها لهذا الغرض. أثار بعض المعنيين بالأخلاقيات وعلماء الأعصاب إمكانية جعل هذه الأدوية متاحة على نطاق واسع لتعزيز القدرات الذهنية لـلأشــخـاص الأصــحـــاء الــذيــــن لا يعانون الخرف. تظل هناك تساؤلات عما إذا كان أي دواء يؤثر في الوظائف الذهنية الأساسية من الممكن أن يصبح مأمونا وفعالا بالقدر الكافي الذي يسمح بتناوله مثل القهوة أو الشاي. محرِّرو ساينتفيك أمريكان |
يستخدم الرمز (+H) من قبل عدد من الاختصاصيين بعلوم المستقبل ككود(1) لنسخة مُحسّنَة للجنس البشري. ولعل هذه النسخة المُحَسَّنَة من الجنس البشري ستقوم بتعميم مزيج من التقانات المتطورة، كالخلايا الجذعية والإنسالات(2) والأدوية المقوية للقدرات المعرفية، من أجل التحرر من القيود النفسية والجسدية الأساسية.
لم تعد فكرة تحسين الوظائف الذهنية من خلال تناول أقراص طبية قادرة على شحذ الذاكرة ورفع درجة التركيز وتعزيز القدرة على التخطيط الاستراتيجي لمجابهة تحديات العيش مجرد ضرب من الخيال الذي يجول في خاطر اختصاصي علوم المستقبل، بل إن هذه الفكرة قد أخذت بالتبلور واقعيا من خلال الإعلان الذي أطلقه الرئيس الأمريكي الأسبق <H.G.بوش> بأن تسعينات القرن الماضي هي عقد الدماغ، ومن خلال ما تلا هذا الإعلان من تطورات حصلت خلال زمن قصير يمكن أن نسميه «عقد الدماغ الأفضل».
يتجلى هاجس مقويات القدرات المعرفية من خلال المقالات الكثيرة الجديدة التي تبشر مهلّلة بقدوم جيل جديد من الأدوية يحمل مُسمّيات مختلفة، مثل الأدوية الذكية smart drugs أو المقويات العصبية (النورونية) Neuroenhancers أو المنشطات الذهنية Nootropics أو حتى فياگرا الدماغ Viagra for the brain. وإذا ما نظرنا إلى الأمور من هذه الزاوية؛ فإنه لن يعترينا الشك بعد الآن في أن عصر التقوية الذهنية قد بدأ. فقد أصبح من المألوف لدى طلبة الجامعات، على سبيل المثال، أن يقترضوا من أصدقائهم الذين يتلقون علاجا بدواء ريتالين Ritalinبعض الأقراص لكي يتمكنوا من مقاومة النعاس أثناء سهرهم. إلى ذلك، فإن كثيرا من المديرين التنفيذيين ومطوري البرمجيات الحاسوبية يحاولون الحفاظ على سبَقهم الذهني عن طريق تناول عقار طبي يُدعى مودافينيل modafinil، وهو أحد الأدوية المنشطة من الجيل الجديد. هذا ويُقسم أتباع هذه العقاقير بأن مفعولها يتجاوز بكثير ما يحدثه مشروب الماكياتو بالكراميل الرافع لدرجة اليقظة، ليشمل فضلا عن ذلك حالة من التركيز الذهني تشبه البؤرة الليزرية اللازمة لامتصاص الفروق الضئيلة بين مركبات الكيمياء العضوية، أو لتفسير الالتزامات الإضافية الخفية للقروض المالية.
ويمكن أيضا أن يُسرِّع عصر التعزيز الذهني ما يبذله العلماء وصناع الأدوية من جهود لتحويل البحث العلمي القائم على الأساس الجزيئي للإدراك إلى مستحضرات دوائية معدة خصيصا لتحسين كفاءة الأداء الذهني، وفي المقام الأول لدى الأشخاص الذين يعانون مرضا من أمراض الخرف. ولكن دواءً يفيد المرضى المصابين بداء ألزهايمر أو داء باركنسون قد يصبح متعذرا على الأطباء اجتناب وصفه على نحو أكثر اتساعا لقطاع من كبار السن يعاني اختلالات ذهنية أخف. والمناظرات بين المؤيدين والمعارضين لأخلاقيات التعزيز الذهني، التي تم الترويج والدعاية لها على نطاق واسع، دعمت الشعور بأن أقراصا قادرة على تحسين الإدراك الذهني سوف تتوافر لدينا جميعا يوما ما.
لقد تساءلت مقالات أكاديمية وصحفية عما إذا كانت معززات القدرات الذهنية قد أعطت بالفعل بعض الطلبة أفضلية خادعة غير منصفة عند اجتيازهم امتحانات القبول للالتحاق بالجامعة، أو عما إذا كان أصحاب الأعمال يتجاوزون الحدود إذا ما طالبوا مرؤوسيهم بتناول هذه المستحضرات الكيميائية لتمكنهم من الوفاء بتسليم إنتاج الشركات في مواعيدها المقررة.
ولكن، حتى عندما نشرت مقالات عن «تحول رئيس العمال إلى انتهازي»، نشأت شكوك حول حقيقة الأدوية المعززة للقدرات الذهنية. فهل العقاقير المتاحة حاليا والتي طورت من أجل مشكلات الانتباه أو النعاس المفرط تتيح بالفعل للطالب أداءً أفضل في الامتحان، أو لموظف إداري كبير أداءً بلا أخطاء في مواجهة استجواب قاسٍ من قِبَل مجلس الإدارة؟ وهل يمكن أن يصبح أي دواء يعبث في وظائف الدماغ الأساسية آمنا أبدا بالقدر الكافي لوضعه على رفوف الصيدليات بجانب مسكنات الألم، ومضادات الحموضة التي يتم صرفها من دون وصفة طبية؟ إن جميع هذه التساؤلات تثير الآن نقاشات حامية فيما بين علماء الأعصاب والأطباء والمعنيين بالأخلاقيات.
لِمَ تعزيز القدرات الذهنية؟(**) إن ما يساعد على تفسير الانبهار بالأدوية المعززة للقدرات الذهنية هو وجود قطاع من كبار السن (الرسم البياني)، وصيدليات الإنترنت التي يوجد بها كل شيء في أي مكان وفي كل وقت، وقوى عاملة وقطاع الطلبة المطوقين بمواعيد نهائية وضغوط الأداء (الصورة).
|
نشاز أخلاقي(***)
إذا وضعنا جانبا ما يدور حول معززات الإدراك من مناظرات ومجادلات بشأن أمان استخدامها ومشروعيته والاستعمال القسري لها، لوجدنا أن الطلب والإقبال على العقاقير المعززة للإدراك التي توصف فيما عدا ذلك لحالات مثل اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD)(3) عالٍ بالفعل. فبناءً على البيانات الحكومية التي تم جمعها عام 2007، تبين أن أكثر من 1.6 مليون شخص في الولايات المتحدة الأمريكية قد استخدموا المنشطات التي تصرف بوصفات طبية لأغراض غير طبية، وذلك خلال الاثني عشر شهرا الماضية. تتضمن الأدوية المشروعة من هذا الصنف المثيل فنيدات (ريتالين)(4)، والأمفتامين أدّيرول(5)، والمودافينيل (بروفيگيل)(6). ولقد رَوَى ربع عدد الطلبة في بعض الجامعات أنهم يستخدمون هذه العقاقير. وقد أظهر تقرير غير رسمي أعدته المجلة Nature(الطبيعة) عن نتائج استفتاء أجرته في العام الماضي لقرائها عبر الإنترنت أن20% من 1427 مجيبا من 60 دولة مستفتى عن استخدامهم الشخصي لتلك العقاقير، قد أقروا باستخدامهم إما الميثيل فنيدات، أو المودافينيل، أو محصرات البيتا(7) (من أجل رهبة المسرح). وعموما، كان تعاطي هذه العقاقير من أجل تحسين القدرة على تركيز الفكر هو المبرر المذكور في أكثر الأحيان. وكثيرا ما ينجح الناس في الحصول على هذه الأدوية عن طريق الإنترنت أو من الأطباء الذين يستطيعون وصف أدوية مجازة لأحد الأغراض لعلاج شيء آخر. (ومع ذلك، لا يستطيع صناع الأدوية من الناحية القانونية الترويج لمثل تلك الاستخدامات غير المذكورة في النشرة الطبية الملصقة على الدواء).
لقد اقترح أحد المعنيين بالأخلاقيات خطة يمكن بمقتضاها أن ينتهي المطاف بعقار الريتالين أن يوضع على رفوف الصيدليات جنبا إلى جنب مع عقار الپيپتو-بيزمول (الفعال ضد التلبك المعدي) وأن يشترى مثله من دون وصفة طبية. |
هذا، ومن المتوقع أن يتنامى معدل تعاطي هذه الكيماويات متوازيا مع تقدم سكان البلاد في العمر، وتزايد اقتصاد البلاد عولمة. فإذا كنت شخصا، كما يقول <Z.لينش> [المدير التنفيذي لمنظمة الصناعة التقانية العصبية] عمره 65 عاما مقيما في مدينة بوسطن وقد تناقصت مدخراتك من أجل تقاعدك تناقصا شديدا، وأصبح عليك أن تظل في سوق العمل وأن تتنافس مع شخص عمره 23 عاما مقيم في مومباي (في الهند)، فربما تشعر أنك مجبر على اللجوء إلى هذه العقاقير لكي تظل نشيطا متيقظا، ولكي تظل كفؤا.
إن الحث الحالي على إصدار دلائل إرشادية أخلاقية يفترض بالطبع أن هذه الأدوية أفضل من الأدوية الغفل (المموهة الإرضائية) placebos، وأنها بالفعل تحسن بعض أوجه الإدراك، ولتكن الانتباه، أو الذاكرة، أو «الوظائف التنفيذية» (التخطيط والمحاكمة العقلية، على سبيل المثال). بناءً على هذا الافتراض، يناقش الكثيرون مسألة أنه يتعين على المعنيين بالأخلاقيات دراسة عواقب تعاظم شعبية هذه الأدوية. وقد أدى هذا المنطق عام 2002 إلى نشأة فرع جديد من المعرفة الأكاديمية أطلق عليه أخلاقيات علم الأعصاب neuroethics يُعْنَى في جزء منه بمواجهة المشكلات الأخلاقية والاجتماعية التي يثيرها استخدام العقاقير والجهائز(8) (الأغراس الدماغية وما شابه ذلك) المعززة للإدراك.
لقد قامت مجموعة من المعنيين بالأخلاقيات ومن علماء الأعصاب متخذة موقفا استفزازيا للغاية بنشر تعليق فى عام 2008 في المجلة Nature يثير إمكانية التحول من المفهوم القائم على كون هذه الأدوية هي في الأصل وفي المقام الأول علاجا لأمراض معينة. وقد اقترح التعليق احتمال جعل المنبهات النفسية(9) متوافرة ومتاحة على نطاق واسع للأكفاء ذهنيا من أجل تحسين أدائهم في الفصول الدراسية أو في اجتماعات مجالس الإدارات، شريطة أن يُقْضَى بمأمونية وفعالية تلك الأدوية إلى حد مقبول بالنسبة إلى الأشخاص الأصحاء. وقد قام الباحثون، مستشهدين ببحث علمي يبين فوائد هذه الأدوية بالنسبة إلى الذاكرة ومختلف أشكال العمليات الذهنية، ويساوي بين التعزيز الصيدلاني بالمستحضرات الدوائية وبين «التعليم والعادات الصحية الجيدة وتقانة المعلومات كوسائل يحاول بها جنسنا البشري المبتكر الفذ تحسين نفسه.»
[على رفوف الصيدليات] أهي حقا معززات (مقويات) للدماغ؟(****) لقد أصبح شائعا في الكتابات العلمية وفي الصحافة الرائجة أن ترد الأدوية المذكورة أدناه والمصادق عليها لعلاج الاضطرابات العصبية، كأدوية تتمتع بإمكانية تحسين أداء الوظائف الذهنية لدى الأشخاص الأصحاء الذين لا يعانون أية اضطرابات. ولكن الأدلة على ذلك متفاوتة بلا جدال, وحتى لو ثبتت فائدة هذه الأدوية، فإن المخاطر التي يمكن أن تنشأ عن استخدامها قد تمنع الشركات المصنعة لها من الحصول على الموافقة من قِبل المنظمين لتسويقها إلى الأفراد الأصحاء.
|
عقب ذلك بستة أشهر، ذهب أحد مؤلفي ذلك المقال وهو <J.هاريس> المعني بالأخلاقيات البيولوجية بجامعة مانشستر بإنكلترا إلى أبعد من ذلك في مقال يعبر فيه عن رأيه ونُشر في المجلة الطبية البريطانية BMJ. فقد أشار <هاريس> [وهو رئيس تحرير مجلة الأخلاقيات الطبية JME ومؤلف كتاب تعزيز التطورEnhancing Evolution] إلى أنه نظرا لاعتبار الميثيل فنيدات مأمونا بما يكفي لاستخدامه في الأطفال، فينبغي اعتباره غير ضار بما يكفي للاستهلاك من قبل البالغين الراشدين المهتمين بشحن أدمغتهم بقوة وبسرعة. وفي حديث صحفي لاحق، قال <هاريس> إنه تنبأ بتحرر تدريجي من القيود، وبأن هــذا الدواء (لا يزال يخضع للرقابة في الولايات المتحدة الأمريكية) يمكن أن يصبح في النهاية شيئا يُشترى من دون وصفة طبية مثل الأسپرين، ما لم تنشأ مشكلات تتعلق بمأمونية استعماله.
ولكن هذه الاستشرافات لم تمر بسلام من دون أن تواجه بالاعتراض والارتياب، حيث تساءل باحثون آخرون عما إذا كانت الأدوية التي تعدل العمليات الذهنية قد تحظى يوما ما بمأمونيةٍ وسلامةٍ تبرر صرفها بالطريقة نفسها التي يصرف بها مُسكِّن للألم من دون وصفة طبية، أو التي تباع فيها القهوة أو الشاي.
[آليات] كيف يعمل اثنان من الأدوية المعززة للقدرات الذهنية(*****) تعمل بعض المعززات المزعومة للقدرات الذهنية مثل الميثيل فنيدات والأمفتامينات، على تعديل نشاط الناقل العصبي الدوپامين عند المشابك العصبية، وهي الوصلات بين العصبونات. ويمكن أن يؤدي تعزيز إشارات الدوپامين إلى تحسين عملية التعلم عن طريق تركيز الانتباه والاهتمام على المهمة المراد إنجازها. النشاط الطبيعي للمشبك العصبي عندما يكون عصبون منتج للدوپامين نشيطا فإن الحويصلات الموجودة في هذا العصبون المرسل للإشارات العصبية تُطلق الناقل العصبي (1). وتجتاز بعض جزيئات الناقل العصبي الفجوة البالغة الصغر أو الشق فيما بين العصبونين وترتبط بالمستقبلات الموجودة على العصبون (التالي للمشبك) المستبقل للإشارات العصبية منشطة إياها (2)، ومنظمة بذلك انطلاق الدفعات العصبية من الخلية المرتبطة. ثم تجذب مضخات موجودة على الخلية المرسلة للإشارات العصبية الدوپامين من الشق ليعود إلى الخلية المرسلة للإشارات العصبية (3).
|
يقول <J.سوانسون> [الباحث بجامعة كاليفورنيا]، الذي كان مشتركا في التجارب الإكلينيكية (السريرية) الخاصة باستخدام عقاري الأدِّيرال(10)والمودافينيل(11) في حالات الاضطراب ADHD: «إن الناس يقولون إن تعزيز الإدراك يشبه تماما تحسين قوة الإبصار بارتداء النظارات.» كما يقول: «إنني لا أعتقد أن الناس مدركون للمخاطر التي ستحدث عندما تصبح لدينا أعداد كبيرة من الناس لها حرية استعمال هذه العقاقير، فسوف تصبح نسبة صغيرة منهم على الأرجح مدمنة لها، وقد يشهد بعض الناس بالفعل تدهور أدائهم الذهني وكل ذلك يجعلني أعارض شيوع استخدام هذه العقاقير.» إزاء كلمات هذه الرسالة القصيرة، تنتظر الوزارة البريطانية الرئيسية وهي وزارة الشؤون الداخلية تقريرا من هيئة من المستشارين عما إذا كان الضرر المحتمل من الاستخدام غير الطبي لمعززات الإدراك يقتضي سَنَّ قوانين جديدة تنظم استعمالها.
ويؤكد علماء آخرون أن الجدل القائم يمكن أن يصبح غير ذي أهمية عملية؛ لأن تحسين الذكاء قد لا يكون ممكنا بأية وسيلة سوى التدريب العقلي المضني على حسن استخدام المعلومات التي نحشو بها أدمغتنا للتمكن مثلا من اجتياز امتحان في مادة التفاضل والتكامل. ويشكك بعض الذين حاولوا تطوير عقاقير لاستعادة الذاكرة التي تضمحل في حالات الخرف، في إمكانية تعزيز القدرات الذهنية لدى الأصحاء، ويرون أنها لا تزيد عن كونها احتمالا ضئيلا بعيدا. ويقول <R.بورتشولادزي> [مؤلف كتاب مشهور عن علم الذاكرة وباحث أَسْهَمَ في العمل البحثي الذي أدى إلى استحقاق <R.E.كاندال> لجائزة نوبل عام2000] إنه لن يقلق كثيرا بشأن ما ينطوي عليه استخدام معززات الإدراك لدى الأصحاء؛ لأنه لا يوجد أصلا معززات إدراك لننزعج بشأنها، وأنه من المبكر جدا الحديث عن تعزيز الإدراك، وقد لا نتوصل إطلاقا في المدى المنظور إلى إنتاج هذه العقاقير، وأن هناك ضجة أكثر مما ينبغي حول هذا الموضوع.
وفقا لهذا التصور، فإن الذاكرة تتشكل من مزيج معقد يتكون من إشارات كيميائية وإنزيمات وپروتينات تعمل معا لتشغيل الذاكرة وفق نظام ذاتي التنظيم يقاوم الأداء بغير براعة ما لم يعطله مرض. ويمكن مواجهة الضعف التدريجي في عمليات التفكير والإحساس بالهوية، الذي يحدث مع الخرف، بتعويض الفقد الذي يحدث في المواد الكيميائية الرئيسية، ويمكن أن يعرض ذلك المريض لخطر الأعراض الجانبية المعاكسة غير المواتية من جراء التدخل بالعلاج الدوائي. ولكن إفساد استتباب هذا الاتزان الهش في الأصحاء يمكن أن يترتب عليه عواقب غير مقصودة. فالتعزيز الدوائي للذاكرة الطويلة المدى (وهي المكان الذي تكمن فيه ذكريات الطفولة وإجازة السنة الماضية) قد يُعاكس تناقص سعة الذاكرة العاملة (وهي دفتر تدوين الملاحظات الذهني الذي يخزن فيه دماغك رقم هاتف ما بصفة مؤقتة).
[قصة طويلة] معاون صغير للمحارب(******)
إن فكرة أن حبة دواء يمكن أن تحسن الأداء الذهني والبدني لدى الأصحاء، اكتسبت تصديقا واعتمادا أثناء الحرب العالمية الثانية. فطرفا النزاع استهلكا الملايين من أقراص الأمفيتامينات، مثل هذه الحبوب المنبهة التي كان يوزعها ضابط طبيب في القوات المسلحة الملكية البريطانية على أحد أعضاء طاقم طائرة قاذفة للقنابل.
|
إن بعض النقاد الذين يتجادلون في أخلاقيات التعزيز العصبي يعزون التضارب الحالي في الآراء إلى ما يسمونه الأخلاقيات التخمينية(12). وهذه النزعة تهاجم أيضا تقانة النانو والمحاولات التقانية الأخرى التي يُلَهَى عنها المعنيون بالأخلاقيات والعلماء وصناع السياسات بما يدور من مناقشات حول الآثار الاجتماعية التي يمكن أن تنطوي عليها أنواع من التقانة لم تبتدع بعد، مثل الانتشار الاجتياحي بلا ضابط للأقراص الذكية، والإنسالات النانوية(13). وتشير <M.تشيرمر> وزملاؤها بجامعة Erasmus بروتردام في مجلة Neuroethics(الأخلاقيات العصبية) إلى أن جزءا كبيرا من الجدل القائم حول التعزيز البشري يعاني توقعات مبالغا فيها، وانخداعا بالإمكانات التقانية.
تاريخ خاضع لتقلبات متواصلة(*******)
يرجع الاعتقاد أن أدوية موجودة بالفعل يمكن أن تعزز القدرات المعرفية لدى الأصحاء إلى ما يقرب من قرن. وقد ترتب على هذا الاعتقاد نتائج غير قاطعــــة، فيها التباس. فقـــد قـــدم الكيميـــائي <G.أليز> عقار الأمفيتامين(14) للاستخدام الطبي عام 1929، وهو عقار تخليقي مماثل كيميائيا للعشب الصيني الإفيدرين(15)، (وقد صمم <أليز> أيضا العقار إكتازي(16)، وهو نوع آخر من الأمفيتامين). وقد تم توزيع هذه العقاقير على الطرفين المتحاربين أثناء الحرب العالمية الثانية لإبقاء الجنود متيقظين ومنتبهين لتزكية وتدعيم روح الاستبسال فيهم. وقد كان الألمان واليابانيون يتناولون الميثامفتامين في حين كان البريطانيون والأمريكيون يستخدمون عقار البنزيدرين الشبيه بالأديرول(17).
وسريعا، سعى العلماء إلى معرفة ما إذا كان النفع الملاحظ في الأداء حقيقيا غير زائف. والتقييمات النفسية التي أجراها كل من البريطانيين والأمريكيين أثناء الأربعينات من القرن الماضي بينت أن مستخدمي هذه العقاقير قد بالغوا في تقديرهم الذاتي لأدائهم في الاختبارات التي كانت تقيس سرعة القراءة والعمليات الحسابية كعملية الضرب وغيرها من العوامل. ولكن مجموع النقاط التي أحرزوها في اختبار معظم المهام لم يكن أفضل من تلك التي استحقها أشخاص يتناولون الكافئين فقط. بل ويمكن في الواقع أن يتدنى الأداء في المهام الأكثر تعقيدا. ويقول <N.راسموسين> [وهو مؤرخ ملم بتاريخ العلم والمعرفة بجامعة نيو ساوث ويلز في سيدني ومؤلف كتاب (على عجل) On Speed]: إن الأمفيتامينات تنزع إلى أن تجعلنا نشعر بأننا نُبْلي بلاء حسنا على نحو استثنائي في حين لا يحدث هذا في الواقع، وذلك لما لهذه العقاقير من تأثير في رفع الروح المعنوية، وتحسين المزاج. فهي ترفع مجموع النقاط التي تُحْرَز في الاختبارات السهلة جدا التي تقيس مستوى الأداء في المهام المضجرة بزيادتها للقدرة على بذل الجهد والإتقان؛ ولكن ذلك يختلف بالتأكيد عما تتطلبه اختبارات كلية الحقوق، أو قيادة طائرة حربية أثناء معركة.
لقد ظهر العقار ميثيل فنيدات(18)، وهو مادة كيميائية وثيقة الصلة بالأمفتامينات، عام 1956 كشكل أخف وألطف من المنبهات كما كان مفترضا («الوسيط الموافق لمقتضى الحال في التنبيه النفسي العضلي»، على حد قول صُنّاع الأدوية)، ولكن كلا من آثاره الكيميائية الحيوية والنفسية مماثلة للآثار المعتادة للمنبهات عند الحصول على الجرعة المضبوطة منه. أما العهد الذهبي للأمفتامينات فيرجع إلى ما يقرب من أربعين عاما، وقد بلغ ما تم استهلاكه منها في الولايات المتحدة الأمريكية نحو 10 مليارات حبة في أواخر الستينات من القرن الماضي قبل أن تصبح إدارة الغذاء والدواء FDA أكثر صرامة، وتقوم بتصنيفها كمواد خاضعة للرقابة ويقتضي صرفها وصفة طبية خاصة. ويتذكر عالم الأعصاب <S.M.گازانيگا> [بجامعة كاليفورنيا، وهو أحد مؤلفي تعليق المجلة Nature] أن والده كان يرسل إليه دواء البنزيدرين ليساعده على الاستذكار أثناء دراسته الجامعية في أوائل ستينات القرن الماضي.
يمكن أن تُسْتَمَد عقاقير جديدة معززة للقدرات الذهنية من العمليات الكيميائية الحيوية التي تشكل أساس تشكل الذاكرة.
والاستخدام المتنامي للميثيل فنيدات في علاج الاضطراب ADHD في منتصف التسعينات من القرن الماضي، استحث الباحثين على نشر تقنيات جديدة لتصوير الدماغ، واختبارات نفسية عصبية(19) متطورة لفحص تأثيرات هذا الدواء في الأشخاص الأصحاء، مما أمدنا بقيمة قاعدية للمقارنة بالمرضى المصابين بالاضطراب ADHD، والاضطرابات العصبية النفسية الأخرى. وفي بحث نُشِر عام 1997 في مجلة علم الأدوية النفسية(20)، بَيَّن مؤلفوه <B.ساها كيان> و <T.روبينز > وزملاؤهما [في جامعة كامبريدج] أن الميثيل فنيدات قد حَسَّن الأداء الإدراكي في قياسات عدة (وبالذات الذاكرة العاملة المكانية ورسم الخطط) في مجموعة في حالة الراحة من الذكور الشباب الأصحاء، وليس في قياسات أخرى ومنها الانتباه وطلاقة اللسان اللغوية). ومع توالي الاختبارات وارتقائها، بدا أن المتطوعين يرتكبون مزيدا من الأخطاء في استجاباتهم، ربما بسبب الاندفاع الحادث من تأثير الدواء.
والباحثون أنفسهم وجدوا لهذا الدواء فائدة إدراكية ضئيلة في كبار السن من الذكور الأصحاء؛ ولكن في عام 2005، لم تستطع مجموعة بحثية [في كلية الطب بجامعة فلوريدا] إثبات حدوث أي تعزيز للقدرات الذهنية إثر إعطاء الدواء لعشرين من طلبة الطب تم حرمانهم من النوم. وثمة عائق آخر يحول دائما دون وضع الميثيل فنيدات بجانب حبوب النودوز NoDoz، والكافئين كأدوية يمكن صرفها من دون وصفة طبية، وهو إمكان تسبُّبِه في حدوث اضطراب في نظم القلب وخطر الإدمان عليه كدواء استجمامي. ومع أن حدوث الإدمان نادر مع الجرعات العادية من عقار الميثيل فنيدات، إلاّ أنه كان من المعتاد في السبعينات من القرن الماضي أن يصبح مستخدموه مدمنين له، استنشاقا أو حقنا، وكانوا يسمونه «الساحل الغربي».
الدواء الذي يجعل الذهن دائم التوقد(********)
إن تركة الأمفيتامينات الخاضعة لتقلبات متواصلة قد استحثت علماء الأعصاب والأطباء على الترحيب بقدوم المودافينيل كعامل معزز للتيقظ ذي تأثيرات جانبية أكثر تحملا وخطر إدمانه أقل مقارنةً بالأمفيتامينات. وقدرة المودافينيل (الذي وضع قيد الاستعمال في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1998) على جعل الناس يتمكنون من العمل لفترات زمنية طويلة من دون الحاجة إلى أخذ فترات راحة قصيرة قد حولته إلى دواء يضبط نمط حياة الأشخاص الذين يعانون تلكؤ النفاثة(21) الذين يحاولون العيش في أربع مناطق زمنية في وقت واحد.
لقد استطاع <J.كاسيو> [زميل معهد «للمستقبل» في پالو ألتو بكاليفورنيا] أن يحصل على وصفة طبية بالمودافينيل من طبيبه المعالج بعد أن سمع عنه من أصدقائه الذين يسافرون كثيرا. وقد لاحظ أن هذا الدواء لا يجعله يشعر فقط بأنه أكثر تيقظا وانتباها، بل يجعله أيضا أذكى وحاد الذهن أكثر. وقد قال <كاسيو> الذي كان قد نوه بهذا الدواء في بعض المقالات التي كتبها: «لقد كانت زيادة التركيز الإدراكي والصفاء الذهني التي لاحظتها أقرب ما تكون إلى المفاجأة، ولكنها مفاجأة سارة جدا.» كما قال: «إن تجربتي لم تكن أني أصبحت شخصا حادّ الذكاء، ولكنها كانت أشبه بتجربة الانسياب إلى حالة من التدفق الإدراكي، حالة تكون فيها قادرا على العمل من دون شرود ذهني.»
لقد أكدت الاختبارات بعضا من انطباعات <كاسيو>، فقد وجد <ساهاكيان> و <روبينز> عام 2003 أن أداء 60 متطوعا من الذكور الأصحاء الذين تم اختبارهم قد تحسن في بضعة قياسات نفسية عصبية مثل تذكر المتتاليات العددية، ولكن ظلت نتائجهم في قياسات أخرى كما هي. كما اكتشف الباحثون في أماكن أخرى كذلك فوائد لهذا الدواء، إلا أنه، كما لاحظ <كاسيو> لن يجعل من الغبي عبقريا. فضلا عن ذلك، لم تختبر دراسة واحدة من هذه الدراسات التأثيرات الطويلة الأمد لهذا الدواء في القدرات الذهنية.
[في الطريق] الإمكانات المرتقبة لمعززات القدرات الذهنية(*********) إن صناع الأدوية لديهم خطط لمواجهة مختلف أشكال الخرف، التي تتراوح بين الخرف في داء ألزهايمر وفقدان الذاكرة الشائع الذي يحدث مع التقدم في السن والهرم (اختلال الذاكرة المصاحب للتقدم في السن). وتُعرض هنا مجموعة مختارة من هذه المركبات التي لا يزال على العديد منها بلوغ المراحل المتقدمة من التجارب والاختبارات السريرية والتي يمكن في آخر الأمر أن يستخدمها الأشخاص الأصحاء الذين يرغبون في تحسين أدائهم الذهني، مع أنه لا تزال هناك تساؤلات بشأن مدى مأمونيتها وفعاليتها بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يعانون أية نقائص في قدراتهم الذهنية.
|
ويظل توافر وتداول كل من المودافينيل أو الميثيل فنيدات بلا ضوابط تنظم استعمالهما أمرا مستبعدا لأنهما ينزعان إلى التأثير في الأفراد بطرق مختلفة. إذ يبدو أن مستخدمي المودافينيل ذوي معدلات الذكاء الأقل يستمدون منه زيادة كبيرة في الأداء الذهني، في حين يُظهر أولئك الذين يتمتعون بقدرة ذهنية فطرية أعلى، استفادةً ضئيلة أو معدومة. أما الذين يستخدمون الميثيل فنيدات، فقد تحسنت حالة الذين يعانون ذاكرة عاملة ضعيفة عند اختبارهم، في حين أظهر الذين يتمتعون فطريا بسعة ذاكرة أكبر استفادة أقل بكثير.
وكما حدث مع الأمفيتامينات، لم ينبثق المودافنييل من فهم أساسي للبيولوجيا الضمنية لكيفية عمل الدماغ. ولكن الأبحاث الحالية تبين أن هذا الدواء يؤثر، على ما يبدو، في نواقل عصبية متعددة، أي المواد الكيميائية التي تثير عناقيد معنية من العصبونات لإطلاق الدفعات العصبية؛ إلا أن آلية عمل هذا الدواء بالضبط لا تزال تحتاج إلى توضيح. ولكن مؤخرا قامت <D.N.ڤولكو> [مديرة المعهد القومي لدراسات الإدمان الدوائي وزملاؤها] باكتشاف أن أحد تلك النواقل العصبية هو الدوپامين، أي المادة الكيميائية نفسها التي تفرزها الأمفيتامينات والتي تصبغ تلك الأدوية بقدرتها الكامنة على إحداث الإدمان، وقد قالت <ڤولكو>: يبدو أن الميثيل فنيدات والمودافينيل متشابهان جدا في تأثيرهما في «منظومة الدوپامين» في الدماغ، وذلك على عكس ما كان يُعْتَقَد. إلا أنها أضافت أنه ليس من العملي تدخين أو ابتلاع المودافينيل لإحداث شعورٍ قوي بالثمالة والابتهاج، ومن ثمّ فإن احتمال إساءة استعماله وإدمانه أقل. وقد ظهرت عقبة أخرى في طريق انتشار استخدام المودافينيل على نطاق أوسع عام2006، عندما رفضت إدارة الغذاء والدواء هذا الدواء كعلاج للاضطراب ADHD لدى الأطفال، وذلك بسبب ورود تقارير عن إحداثه أنواعا خطيرة من الطفح الجلدي.
إن إعادة تصنيف الأدوية المقوية للانتباه على أنها معززات للقدرات الذهنية تصلح للطلبة وكبار الموظفين الإداريين ومصممي البرمجيات الحاسوبية يمكن أن تكون لها فوائد هامشية فقط مقارنة باحتساء قدح كبير من قهوة الإكسپرسو. والتساؤل عن التعريف الصحيح لمعزز لقدرات ذهنية، حث مجموعة من المختصين في الكلية الأمريكية لعلم الأدوية النفسية والعصبية على عقد اجتماعات لمناقشة المعايير التي يجب أن يفي بها أي دواء كي يتم تصنيفه كمعزز للقدرات الذهنية؛ لا سيما وأن أدوية لهذا التعزيز يمكن أن ترد من مجال بحثي آخر. فالتبصرات في الكيفية التي نحول بها صورة طفل رضيع أو اسم صديق لنا إلى ذكريات دائمة قد أرست الأساس لأدوية جديدة مصممة خصيصا لتحسين الوظائف الذهنية لدى المصابين بداء ألزهايمر أو بأشكال الخرف الأخرى.
ينبع التفاؤل بشأن جيل جديد من المستحضرات الدوائية في جزء منه، من التقدم الذي حدث في الأبحاث الأساسية في العمليات الكيميائية الحيوية التي تشكل أساس تكوين الذاكرة. فأكثر من 30 نوعا من الفئران المعدلة الجينات قد ثبتت قدرتها على اكتساب المعلومات، وكذلك تخزينها في الذاكرة الطويلة الأمد على نحو أفضل من الفأر العادي. يقول <A.J.سيلڤا> [أستاذ البيولوجيا العصبية في جامعة كاليفورنيا]: «إن هذه هي المرة الأولى في تاريخ علم الأعصاب التي استطعنا فيها تحديد الأساس البيولوجي الجزيئي للذاكرة، وما يعنيه هذا للمجتمع هو أننا أصبحنا نستطيع لأول مرة تسخير نتائج هذه الأبحاث للشروع في تغيير الكيفية التي نتعلم ونتذكر بها.
[صنع ذكريات أفضل] أدوية لتقوية الذاكرة(**********)
لقد ظل الباحثون يعملون في مرحلة واحدة استغرقت ما يقرب من 20 عاما على أدوية تعزز القدرات الذهنية بإحداث تأثير أو تغيير على الجزيئات المشاركة في صنع الذاكرة المديدة. لقد افترض علماء الأعصاب أن الذاكرة المديدة تتضمن ارتباط الناقل العصبي بنوعين من المستقبلات على العصبونات المتلقية للإشارات العصبية. فبعدما تصبح مستقبلةAMPA مرتبطة (1)، فإنها تقود المستقبلة المرتبطة الأخرى من النمط NMDA إلى فتح قناة تسمح باندفاق الكالسيوم (2). ويفجر الكالسيوم سلسلة من الإشارات التي تُنشِّط جزيء أحادي فسفات الأدينوزين الحلقيCyclic AMP الذي يشغل بدوره جزيئات أخرى تهاجر إلى نواة الخلية وتشغل الپروتين(CREB (3. يؤثر الپروتين(CREB (4 في الدنا DNA بطريقة تنبه تكوين الپروتينات التي تعود بعدئذٍ إلى المشبك العصبي وتقوي الارتباط بالإشارات بين العصبون المُصْدِر للگلوتامات والعصبون المُتَلَقِّي للگلوتامات (5). وإن العقاقير التي تجعل هذه العملية أكثر فعالية – إما بتعزيز انتقال الإشارات العصبية عبر المستقبلات AMPA أو بإبقاء أحادي فسفات الأدينوزين الحلقي عاملا لفترة زمنية أطول ــ لم تمر إلا باختبارات سريرية قليلة. |
لكن الأرجح أن الطريق لا يزال طويلا جدا حتى نتمكن من إنتاج أدوية فعالة بحق لتقوية الذاكرة، وذلك في جزء منه بسبب التحديات العلمية، إذ إن معظم الطفرات الجينية المائتين التي أدخلها الباحثون في الفئران على النطاق العالمي قد سببت أنواعا مختلفة من العجز. ويذكر <سيلڤا> أن أحد فئران مختبره قد ظهرت عليه المعوقات المحتملة للتسويق التي سيواجهها الباحثون أثناء تطويرهم دواء مقويا للذاكرة. كانت الفئران المعدلة جينيا تتعلم أسرع من الفئران الطبيعية غير المعدلة، ولكنها كانت عاجزة عن إتمام ترتيب أجزاء أحجية أعدها الباحثون بعناية. ويقول <سيلڤا>: «إنك إذا علمتها شيئا بسيطا، فإنها تكتسبه أسرع، ولكنها لا تستطيع اكتساب أي شيء أكثر تعقيدا.» ويقدر <سيلڤا> أن ابتكار أدوية من هذا البحث للاستخدام الروتيني الاعتيادي يمكن أن يستغرق عقودا من الزمن.
كما أن تحديات السوق مروعة ومثبطة للهمم. فقد تداعت عدة شركات من أوائل الشركات التي دخلت معترك السبق الدوائي، ومنها تلك التي أسسها أكاديميون مرموقون. وقد ذكرت المجلة Science عام 2004 أربع شركات جديدة كأمثلة لهذه النزعة، وهي سانشون وكورتكس للمستحضرات الدوائية ومِيموري للمستحضرات الدوائية وهليكون للمداواة. أما شركة سانشون فقد توقفت عن العمل، وشركة كورتكس تداعت وتبحث يائسة عن شريك. كما قامت شركة هوفمان-لاروش عام 2008 بشراء شركة ميموري بسعر بخس أقل من دولار أمريكي للسهم، وكان قد شارك في تأسيسها <كاندال> الحائز جائزة نوبل، بعدما عانت اضطرارًا، عدة مرات، لتسريح عمالها تسريحا مؤقتا، وفشل عدد من تجاربها السريرية (الإكلينيكية). أما شركة هليكون, فقد كتب لها النجاة والاستمرار في العمل بفضل سخاء الملياردير <K.دارت> ذي المكانة المرموقة، والذي جذبته إمكانية تصنيع دواء لتقوية الذاكرة؛ حيث كانت الشركة تطور عقارا يمكن أن يعدل مسارا متعلقا بالگلوتاميت(23)، وهو ناقل عصبي يبث إشعارات خلوية معقدة تؤثر في تشكيل الذاكرة الطويلة الأمد [انظر الإطار في هذه الصفحة].
وتقوم حاليا شركة دارت لعلم الأعصاب Dart NeuroScience (الشركة الشقيقة لشركة هليكون) بتطوير عدة أدوية جديدة مرشحة كأدوية للتذكر، تاركة مهمة إجراء الاختبارات السريرية لشركة هليكون. وقد تلقت شركة هليكون حتى الآن أكثر من مئة مليون دولار أمريكي كاعتماد مالي مخصص لهذا الغرض، ولكن الاختبارات السريرية التي تجريها لم تَبْلُغ بعد المرحلة قبل النهائية من هذه الاختبارات لأي دواء من أدويتها المرشحة لأن تصبح من الأدوية المعززة للذاكرة. يقول <T.تولي> [رئيس قسم الأبحاث العلمية بشركة هليكون والذي شارك في تأسيسها عندما كان يعمل في شركة معامل گولد سپرنگ هاربور]: «إن الطريقة التي أود بها أن أشرح ذلك لجمهور الحضور عندما ألقي محاضراتي هي أنه عندما تأسست شركة هليكون كنت أعتقد أنني أصنع معززات للذاكرة من أجل والِديَّ، ولم يكن عندي حينذاك أي شعر رمادي. ولكنهما توفيا، وأنا قد شاب شعري كلية، وأصبحت مدركا تماما لحقيقة أني أخوض هذا السباق ليس من أجلهما، وإنما من أجلي أنا.»
ويضيف <تولي> البالغ من العمر 55 عاما أنه لا يتوقع أن تصبح الأدوية التي ابتكرها هي الأكثر رواجا ومبيعا مثلها مثل عقاري الڤياگرا والپروزاك، وإن ما تحب وسائل الإعلام أن تتجاهله تماما هو ما يمكن أن تسببه هذه الأدوية من آثار جانبية، فهي تسارع إلى التكهن الجامح بأن تصبح هذه الأدوية عقاقير محسنة لنمط الحياة. وإني أعتقد أنهم أخفقوا في إدراك الحقيقة وهي أن هذه العقاقير يمكن أن تساعدك إذا كان لديك شكل موهن من اختلال الذاكرة، ولكنها على الأرجح ستكون خطيرة للغاية لأي شخص آخر يستخدمها في سياق مختلف.
وعلى الرغم من هذه الروايات التحذيرية، يستمر صناع الأدوية بمحاولاتهم تطوير عقاقير داعمة للقدرات المعرفية تستخدم في علاج داء ألزهايمر وغيره من أشكال الخرف [انظر الجدول في الصفحة 35]. ومن ضمن المركبات الدوائية التي تخضع للبحث أدوية تغير تأثيرات نواقل عصبية أخرى غير الگلوتامات، بما في ذلك المستقبلات التي يحرضها النيكوتين الموجود في التبغ (إلا أنه ليس النوع المرتبط بالإدمان)؛ فأحد أسباب إقبال الناس على التدخين هو أن النيكوتين يساعد على زيادة درجة الانتباه.
ويمكن أن تؤدي الدروس المستفادة من الأدوية التي تم تطويرها لعلاج حالات الخرف إلى إنتاج عقاقير تخفف المشكلات الإدراكية الأقل شدة المصاحبة للتقدم الطبيعي في السن، على افتراض أن هذه الأدوية لن تجيء مثقلة بآثار جانبية غير محتملة. وإذا كانت حميدة بالقدر الكافي، فإنها ستجد طريقها إلى المدن الجامعية، وأجنحة إقامة كبار الموظفين التنفيذيين. ويقول <B.P.راينر> [أستاذ أخلاقيات علم الأعصاب بجامعة كولومبيا البريطانية]: يرى العاملون في مجال الصناعة الدوائية، أن نجاح أحد الأدوية المقوية للقدرات المعرفية سيصبح المستحضر الصيدلاني الأكثر مبيعا على الإطلاق في أي وقت من الأوقات.
يقترب من طرحه في الأسواق(***********)
بقدر ما يمكن أن يكون اكتشاف أدوية معززة للقدرات المعرفية من خلال الوصف التفصيلي للعمليات الجزيئية التي تشكل أساس هذه القدرات، مُرْضِيا للباحثين من الناحية العلمية، إلا أن المركبات الجديدة الأولى التي تصل إلى السوق لمعالجة حالات الخرف والاضطرابات الأخرى للقدرات المعرفية، قد لا تنبثق من التبصر العميق في الوظيفة العصبية، ولكن من الاكتشاف مصادفة. فبعض المركبات التي قد تم التصديق عليها لغرض آخر كان لها تأثير في القدرات المعرفية. فهناك، على سبيل المثال، دواء مرشح ليكون معززا للقدرات المعرفية قد دخل مؤخرا مراحل الاختبار الأخيرة لاختلال الوظائف المعرفية في داء ألزهايمر، وهو في الأصل دواء تم تطويره في روسيا كمضاد للهستامين لعلاج حمى القش (حمى الكلأ)(24)، ومن ثم تبين فيما بعد أن له خصائص مضادة للخرف. لقد أدى الإقبال الهائل المتوقع على شراء معززات القدرات الذهنية إلى أن تتخذ بعض الشركات طرقا غير تقليدية لتسويق منتجاتها، مثل الرجوع إلى أحد الأدوية التي أثبتت التجارب فشلها، أو إلى أحد الأدوية التي لم تستكمل بعد اجتياز الاختبارات السريرية وبيعه على أنه مكمل غذائي، أو أنه «غذاء طبي» يخضع لقوانين أقل صرامة تنظم صرفه.
وبالمثل، يمكن أن تطرح في الأسواق أدوية جديدة؛ لأن الإدارات الحكومية المسؤولة عن تنظيم تداول الأدوية أصبحت تصادق على توسيع مجال الاستخدامات المسموح بها بالنسبة إلى الأدوية التي من المعروف بالفعل أنها تؤثر في القدرات الذهنية. وقد سلكت شركة سيفلون Cephalon المصنعة لعقار المودافينيل هذا السبيل، وحصلت على ترخيص من الإدارة FDA يسمح بوصفه للموظفين الذين يعملون بشكل دوري في الليل والنهار، والذين يشكلون مجموعة أكبر بكثير من مجموعة المتغفقين(25) (الذين يعانون نوبات نوم يتعذر التحكم فيها) التي كان الترخيص أصلا من أجلها. (كما دفعت أيضا شركة سيفلون ما يقرب من 444 مليون دولار إلى ولايتين، وإلى الحكومة الفدرالية لقيامها بالترويج لثلاثة أدوية، ومنها المودافينيل، غير المرخص استخدامها). وإن الحافز إلى تحسين القدرات الذهنية ــ إما لتقوية التركيز الذهني أو للمساعدة على تذكر رقم هاتف أحد الأصدقاء ــ يمكن أن يتكشف أنه مُِلحٌ لكلٍ من صناع الأدوية والمستهلكين، لدرجة تحجب المخاطر التي يتعذر اجتنابها من جراء العبث بمجموعة الدوائر العصبية التي تشيع فينا حسّنا الأساسي بذاتيتنا.
المؤلف
<G.ستيكس>
كاتب في ساينتفيك أمريكان
مراجع للاستزادة
Memories Are Made of This: How Memory Works in Humans and Animals. Rusiko Bourtchouladze Columbia University Press, 2002.
Towards Responsible Use of Cognitive-Enhancing Drugs by the Healthy. Henry Greely et al. in Nature. Vol. 456, pages 702-705; December 11,2008.
The Molecular and Cellular Biology of Enhanced Cognition.
Yong Seok Lee and Alcino J. Silva in Nature Reviews Neurowence. Vol. 10. Pages 126-140, February 2009.
The Future of Psychopharma- cological Enhancements: Expectations and Policies.
Maartje Schermer et al. in Neuro- ethics. Vol. 2. pages 75 -87; July 2009.
(*) Turbocharging the brain، العنوان الأصلي: شحن تُربيني للدماغ.
(**) Why Enhance?
(***) Ethical Dissonance.
(****) Brain Boosters – Really?
(*****)How Two Enhancers Work
(******) A Warrior›s Little Helper
(*******) A Checkered History.
(********)The always-On Drug
(*********)Prospects for Enhancers
(**********)Drugs to Remember
(***********)Near to Market
(1) code
(2)إنسالة نحت من إنسان-آلي robot. (التحرير)
(3)attention deficit hyperacitivty disorder
(4)methylphenidate (Ritalin).
(5)the amphetamine Adderall
(6)modafinil (Provigil)
(7)beta blockers
(8)devices
(9)psychopharmacology
(10)Adderall
(11)modafinil
(12)speculative ethics
(13) nanorobots، إنسالة نحت من إنسان-آلي robot.
(14)amphetamine
(15)ephedrine.
(16)ecstasy
(17) Adderall
(18) methylphenidate
(19) neuropsychological
(20)Psychopharmacology
(21)Jet-lag (تلكؤ النفاثة هو حالة من الإعياء البدني والتوهان الزمني المكاني تنشأ عن الاختلاف الذي يولده اختلاف الوقت في النظم البيولوجية للجسم عند الطيران السريع من منطقة إلى أخرى). (التحرير)
(22)الحمض الريبي النووي المنزوع الأكسجين.
(23)glutamate
(24)hayfever
(25)narcoleptics