متّهمون جُدد في إحداث الآلام المزمنة
متّهمون جُدد في إحداث الآلام المزمنة(*)
إن الخلايا الدبقية(1) هي بمثابة قـيِّم(2) على الجهاز العصبي
الذي يمكن لرعايته أن تتجاوز ذلك بكثير. وتطويع هذه الخلايا يحمل
آمالا واعدة بالقدرة على تسكين الآلام التي تعجز الأدوية الحالية عن تخفيفها.
<D.R.فيلدز>
مفاهيم مفتاحية
إنّ الألم المزمن الذي يستمر بعد شفاء الأذية، يكون ناجما في معظم الأحيان عن استثارة زائدة للنورونات المسؤولة عن حس الألم والتي ترسل الإشارات من دون وجود منبِّه خارجي. إنّ الأدوية المسكِّنة التقليدية التي تستهدف الخلايا العصبية مباشرةً، لا تفيد إلاّ نادرا في تهدئة هذه الرسائل الألمية الشاذّة، وذلك لأنّ الحساسية المرتفعة للنورونات هنا يتحكَّم فيها نمط مختلف من الخلايا تُدعى الخلايا الدبقية glia cells. تقوم الخلايا الدبقية بمراقبة نشاط النورونات وبضبطه، وتحاول أن تحافظ على هذه النورونات في حالة صحية جيدة تسمح لها بممارسة وظائفها بشكل صحيح وفعّال. ولكنّ ارتكاسات دبقية(3) للألم الشديد، يمكنها في بعض الأحيان أن تطيل أمد هذا الألم.
|
انزلقت قدم <هيلين> اليسرى عن دوّاسة القابض (الدوبرياج)، وهي تحاول الضغط عليها، وأدّى هذا إلى التواء كاحلها عند اصطدامه بأرضية السيارة. وحسبما تتذكر، فقد شعرت حينئذٍ بحدوث وثي sprain بسيط، لكنّ الألم ظل متواصلا لا يهمد، بل بالعكس ازدادت شدته. وفي نهاية الأمر، صار اللمس الخفيف ـ حتى التماس اللطيف مع غطاء السرير القماشي ـ يطلق بارقة تشبه التيار الكهربائي تنطلق صاعدة إلى ساقها. «لقد كان الألم شديدا جدا بحيث منعني حتى من الكلام، وفي الوقت نفسه كنتُ في قرارة نفسي أصرخ بسببه.» هذا ما كتبته تلك السيدة الإنكليزية الشابة في إحدى الصحف الإلكترونية، تصف الحالة الغامضة التي عذَّبتها لمدة ثلاث سنوات تلت الحادثة الأولية.
إنّ الألم المزمن الذي يشكو منه الأشخاص مثل <هيلين>، يختلف عن الصفعة التحذيرية التي يسببها الألم الحادّ، فالألم الحادّ هو أكثر الأحاسيس الشديدة إنذارا للجسم، والهدف منه هو منعنا من إحداث المزيد من الأذى لأنفسنا. وهذا النمط من الألم يُدعى أيضا الألم الپاثولوجي pathological pain، لأنّ ما يسبّبه هو عامل خارجي (مثل حدوث تلَف نسيجي) يُطلِق الإشارات التي تسير عبر الجهاز العصبي إلى الدماغ، وهناك يتم إدراكها وتفسيرها على أنها ألم. ولكن تصوَّر أنّ الألم المبرح بسبب اعتصار الأمعاء الناجم عن أذية حقيقية لا يتوقَّف أبدا؛ حتى بعد شفاء الآفة الأساسية، أو تصوّر أنّ الأحاسيس العادية التي نشعر بها يوميا صارت موجعةً بشكل مفرط: تتذكر <هيلين> حالتها فتقول «لم أكُن قادرة على الاستحمام بواسطة الدُّش (المرشّة) … لأنّ الماء كان يؤلمني كأنه طعنات خناجر. وكانت اهتزازات السيارة أو مشي الأشخاص فوق ألواح الأرضية أو تحدّث الناس مع بعضهم أو هبوب النسيم العليل … تفجِّر الألم الذي لا يمكن السيطرة عليه. والأدوية المسكِّنة الشائعة … حتى المورفينmorphine، لم يكن لها أي تأثير، لقد كان الأمر يبدو وكأنّ عقلي يخدعني ويتلاعب بي.»
ولسوء الحظّ، كانت <هيلين> على صواب في رأيها، فألمها المزمن كان منشؤه خللا وظيفيا في دارات الجسم المتعلّقة بالألم، أدّى إلى إطلاقها المستمر إنذارا كاذبا، وهو ما ندعوه بالاعتلال العصبي neuropathic؛ لأنه ينجم عن سلوك خاطئ للأعصاب نفسها. وعندما تصل الإشارات الكاذبة إلى الدماغ، يكون الشعور بالألم المبرح الذي تحدثه حقيقيا مثله مثل أي ألمّ خطير مهدِّد للحياة، لكنه هنا يبقى ثابتا لا يزول أبدا، ويكون الأطباء في معظم الأحيان عاجزين عن تهدئته.
في نهاية الأمر، تفسّر لنا الأبحاث الحديثة سبب فشل العقاقير التقليدية – في معظم الأحيان – في السيطرة على ألم الاعتلال العصبي: قد تكون الأدوية تلك تستهدف النورونات فقط، في حين يمكن أن يكون المصدر المستبطن للألم هو خلل أداء خلايا لا نورونية(4) وهي الخلايا الدبقية (خلايا الدبق العصبي)، وهي تتوضع في الدماغ وفي النخاع الشوكي. وتبزغ حاليا أفكار وآراء جديدة بشأن معالجة الألم المزمن، نتيجة لما تحقَّق مؤخرا من تنبّه إلى أنّ الخلايا الدبقية – التي تعمـل أسـاسا على رعاية نشاط النورونات وفعاليتها – يمكن أن تُصاب هي نفسها بالاضطراب والخلل، وأن تشوّش وظيفة النورونات وهي نفسها فكرة مبتكرة لعلاج الألم المزمن. وتزودنا أيضا تلك الأفكار بوجهة نظر مفاجئة تتعلّق بالظاهرة المؤسفة التي تلازم المعالجة الراهنة للألم الذي يصيب بعض الأشخاص: وهي ظاهرة الإدمان على المخدِّرات narcotic addiction.
دارات الألم وفاصلاتها(**)
إنّ فهم المسبِّبات التي يمكن أن تؤدي إلى استمرار الألم بعد شفاء الإصابة الأصلية، يستلزم بعض المعرفة عن مسبِّبات الألم بشكل عام. فمع أنّ الإحساس بالأذية يتمّ إدراكه في نهاية الأمر في الدماغ، فإنّ الخلايا العصبية التي تولده لا تتوضع هناك؛ بل هي في واقع الأمر تترتَّب ضمن النخاع الشوكي، حيث تجمع المعلومات الحسّية من جميع أنحاء الجسم. تمثِّل نورونات عقدة الجذر الظهري (5)(DRG) المرحلة الأولى من دارة الإحساس بالألم المكونة من ثلاثة أقسام، وتحتشد أجسام خلاياها مثل عناقيد من العنب في شقوق مناطق الاتّصال بين فقرات العمود الفقري، فتشبه بذلك – وهي تمتدّ من العصعص حتى الجمجمة – صفّي الأزرار اللذين نراهما على سترة مزدوجة الصدر. وكل نورون DRG – وكأنه رجلٌ باسطٌ ذراعيه المفتوحتين إلى كلا الجانبين – يمتد مجسٌ feeler نحيـلٌ يُعـرَف بالمحوار axon أو الليف fiber باتجاه الخارج ليمسح ناحية ضئيلة المسافة من الجسم في حين يصل في الجهة المقابلة محواره الآخر إلى داخل النخاع الشوكي ليلامس نورونا يعيد بثّ الدفعات عبر المرحلة الثانية في مجموعة دارات الألم، وهي سلسلة من نورونات النخاع الشوكي. وتتعاقب تلك الخلايا الشوكية الناقلة للألم في مهمة إعادة بث الرسائل ضمن النخاع الشوكي انطلاقا من النورونات DRG صعودا إلى المرحلة النهائية، حيث تصل إلى جذع الدماغ وفي نهاية المطاف إلى قشرة المخ. وتعبر إشارات الألم داخل النخاع الشوكي الناشئة من الجانب الأيسر إلى الجهة الأخرى لتنتقل إلى الدماغ الأيمن، في حين تُرسَل إشارات الجانب الأيمن إلى الدماغ الأيسر.
[أساسيات] دارة الألم(***) تسير الأحاسيس من منطقة الإصابة في الجسم عبر ثلاث مراحل من الدارة العصبية، قبل أن يتمّ إدراكها من قبل الدماغ وتفسيرها على أنها ألم. وفي نقطة الإبدال الواقعة في النخاع الشوكي حيث تنتقل الرسائل من المرحلة الأولى إلى المرحلة التالية، تقوم خلايا داعمة تُدعى الخلايا الدبقية glia cellsبمراقبة سلوك النورونات وتنظيمه لتسهيل نقل الإشارات. الإحساس بالألم بعد حدوث أذية ما ـ مثل كسر إصبع في القدم ـ تقوم أعصاب حسّية (1) مسؤولة عن التقاط التنبيهات الضارّة بحمل الإشارات من القدم إلى القرن الظهري للنخاع الشوكي. وفي داخل النخاع الشوكي تعيد تلك الألياف العصبية الحسّية بثّ الرسائل إلى نورونات مخصَّصة لنقل حس الألم تقوم بدورها بحمل الإشارات صعودا ضمن النخاع الشوكي إلى قاعدة الدماغ (2) . وعندما تصل الإشارات إلى قشرة المخ (3)، يتمّ إدراكها وتفسيرها على أنها ألم.
|
ويمكن لمقاطعة سيل المعلومات في أيّ نقطة على طول دارة الألم ذات المراحل الثلاث، أن تؤدي إلى تخفيف الألم الحادّ. وتقوم المبنِّجات الموضعية مثل النوڤوكايين novocain الذي يستخدمـه أطبـاء الأسنان لخلع الأسنان من دون ألم بتخدير نهايـات المحاوير حول موضع الحقن، فتمنع بذلك الخلايا المعنية من إطلاق الدفعات العصبية الكهربائية. والإحصار الشوكي «spinal block» – الذي يُستخدم في كثير من الأحيان لإزالة الألم خلال الولادة – يوقف دفعات الألم عند المرحلة الثانية للدارة، وذلك عندما تدخل حزم محاوير النورونات DRG إلى النخاع الشوكي لتلتقي مع النورونات الشوكية. وهذا الإحصارُ يبقي الأمَّ في حالة وعي تامّ كي تكتسب الخبرة وتتعاون في إنجاز ولادتها لابنها من دون ألم. وتعمل حقنة المورفين في الموضع نفسه، فتنقص نقل النورونات الشوكية لإشارات الألم، في حين تترك تعرّف بقية الأحاسيس غير المؤلمة سليما دون أن تؤثِّر فيه. وفي المقابل، يتدخَّل التخدير العامّ الذي يُستعمَل في العمليات الجراحية الكبرى في طريقة معاملة القشرة الدماغية للمعلومات، فتحرم المريض بشكل كامل من تعرّف أيّ منبّه حسّي يدخل عبر السبُل العصبية خارج الدماغ.
تعمل مسكِّنات الألم الطبيعية الكائنة في أجسامنا على تلك الوصلات الثلاث نفسها ضمن دارة الألم. فيمكن أن يعاني جندي مشحون بالأدرينالين خلال مشاركته في معركة حامية إصابةً خطرة من دون أن يشعر بجرحه، وذلك لأنّ القشرة الدماغية تتجاهل إشارات الألم عندما تتعامل مع أوضاع تتّسم بالانفعال الشديد بسبب تهديدها للحياة. وخلال الولادة الطبيعية للأطفال، يقوم جسم المرأة بإطلاق پروتينات صغيرة تُدعى الإندورفينات endorphins، تقوم بإضعاف نقل إشارات الألم في حين تدخل إلى النخاع الشوكي.
مَسْرَد ألم الاعتلال العصبي Neuropathic Pain ألم مستمرّ يتطوَّر بعد حدوث تلَف عصبي تالٍ لإصابة مؤذية، ويمكن أن يتضمَّن أحاسيس مزعجة والشعور بنمَل وحرق ودغدغة وحرارة وبرودة وتورّم. والأسباب الأخرى التي تحدث تلفا عصبيا يؤدي إلى ألم الاعتلال العصبي تشتمل على إصابة الأعصاب بخمج (عدوى) ڤيروسي، وأضرار الأعصاب المحيطية الناجمة عن الداء السكري؛ وأذيات الأعصاب التالية لعلاج الأورام الخبيثة بالجراحة أو بالمعالجات الكيميائية؛ والآفات الناجمة عن العوز الغذائي. الألم المخالف Allodynia إدراك حسي مؤلم لمنبهات غير مؤلمة كاللمس أو الحرارة. فرط التألّم Hyperalgesia زيادة في الحساسية تجاه المنبّهات المؤلمة. فرط الحسّ Hyperesthesia زيادة الحساسية تجاه التنبيه (أي إنه فرط تألّم مع ألم مخالف). المذَل (شواش الحسّ) Paresthesia شعورٌ حسّي غير سويّ، مثل الإحساس بحرقٍ استجابةً للمس. |
وتستطيع أيضا الهرمونات والأوضاع الانفعالية والعديد من العوامل الأخرى أن تغيّر بشكل دراماتيكي من شعور الشخص بالألم عن طريق تعديل نقل الرسائل على طول مسارات الألم. إضافةً إلى ذلك، فإنّ الكثير من المواد والعمليات الحيوية التي تبدّل في انسياب وانحسار الجزيئات عبر القنوات الأيونية في الخلايا العصبية المنفردة، تسهم جميعها في تنظيم مدى حساسية الأعصاب نفسها. وحين حدوث إصابة ما تستطيع هذه العوامل أن تسهّل التحكّم في إطلاق النورونات لإشاراتها، وبذلك تمارس تأثيرا ميسِّرا لعمل تلك النورونات المتعلّق بنقل إشارات الألم.
ولكن يمكن لحالة عدم التثبيط تلك أن تدوم أكثر من اللازم، وهذا يُبقي الخلايا DRG مفرطةً في حساسيتها، ويؤدي إلى إطلاقها رسائل ألم من دون وجود منبِّه خارجي. وهذا الوضع هو المسبِّب الأولي لألم الاعتلال العصبي. وتستطيع الحساسية العصبية الزائدة أيضا أن تسبِّب إحساسات شاذّة مثل الشعور بالنخز والحرق والدغدغة والتنمُّل (تشوش الحس paresthesia)، أو يمكن كما حدث في شكوى <هيلين> من تحوّل ماء الدّش (المرشّة) إلى ما يشبه طعنات الخناجر أن تؤدي إلى تضخيم الإحساسات الخفيفة باللمس أو بتغيّر درجة الحرارة بحيث توصلها إلى مستويات مؤلمة (الألم المُخالِف allodynia).
[حلقة الألم] الإفراط في شيء جيِّد(****) بعد حدوث أذية ما، ترتكس الخلايا الدبقية التي تستشعر أنّ النورونات ذات الإطلاق المكثَّف للدفعات هي في ضائقة، وذلك كي تعيد التوازن وتحفز الشفاء. ولكنْ إذا طالت مدة هذه التبدّلات المفيدة، فإنه من الممكن أن تؤدي إلى حدوث فرط تحسّس عصبي مزمن يسبّب بقاء الألم مستمرا حتى ما بعد شفاء الأذية الأصلية. وفي معظم الأحيان، يبدأ ألم الاعتلال العصبي بحدوث تلَف في الأعصاب يثير استجاباتٍ في الخلايا الدبقية، تهيّج بدورها النورونات إلى حدٍّ أكبر. تفعيل الخلايا الدبقية تؤدي الأذية التي تتلف الألياف العصبية إلى إنتاج وابلٍ من الإشارات الألمية في القرن الظهري للنخاع الشوكي، حيث تلتقي الأعصاب الحسية المحيطية مع النورونات الشوكية للألم. ويولِّد النورون الحسّي ذو الإطلاق المكثَّف للدفعات كمياتٍ كبيرةً من النواقل العصبية إلى جانب جزيئات أخرى، تفسِّرها الخلايا الدبقية باعتبارها دلالات على وجود ضائقة(1)، فيُدخِل الخلايا المساعدة في حالة الاستجابة الارتكاسية. وتتخلَّص الخلايا الدبقية في الحالة الطبيعية من فائض النواقل العصبية، ولكنّ الخلايا الدبقية الارتكاسية تنقص من قبطها للنواقل العصبية، وتبدأ بإنتاج جزيئات غايتها إعادة الاستقرار إلى النورونات وشفاؤها (2). وتقوم تلك العوامل الدبقية إمّا بإنقاص القوى المثبّطة للنورونات أو بتنبيه هذه الخلايا، وهذا يسمح لها بأن تطلق دفعاتها بشكل أكثر سهولةً. وتؤدي الضائقة العصبية أيضا إلى تحرير الخلايا الدبقية للسيتوكينات (3)، التي تحثّ على حدوث الالتهاب باعتباره استجابة تساعد على الشفاء والالتئام، لكنها تزيد أيضا تحسيس النورونات بدرجةٍ أكبر.
خلايا دبقية تطيل أمد الألم تستطيع الإشارات الإثارية الالتهابية التي تحدثها الخلايا الدبقية الارتكاسية أن تفعِّل النسيج الدبقي المجاور، وهذا يقود إلى إدامة فرط التحسّس العصبي في النخاع الشوكي وانتشاره. ويبدو الدبق النجمي الخلاياastroglia الشوكي المنشَّط مرئيا في الصورة السفلية (اللون الأخضر الساطع في الصورة اليسرى)، حيث نجده يملأ القرن الظهري الأيمن في الموضع الذي تلتقي عنده النورونات DRG بالنورونات الشوكية لدى جرذ أصيب قبل 10 أيام من ذلك بأذية للعصب الوركي في الطرف السفلي الأيمن للحيوان. وفي المقابل، تبدو الخلايا الدبقية هادئة في الجهة اليسرى للحيوان (الصورة السفلية اليمنى). |
إنّ الجهود التي بُذلت لفهم الكيفية التي تصير وفقها النورونات في دارة الألم مفرطة الحساسية بعد حدوث الإصابة، تركَّزت لفترة طويلة على كشف الخلل في عمل النورونات ذاتها، وقد نتج من ذلك حصولُنا على بعض الأدلة، وليس على صورة مكتملة. وعلى سبيل المثال، بيَّن البحث الذي قمتُ به بنفسي، وكذلك أبحاث العديد من زملائي، أنّ فعل إطلاق الدفعات من أجل إرسال إشارات الألم بذاته يبدِّل في فعالية الجينات داخل نورونات الألم. وإنّ بعض الجينات التي ينظِّمها الإطلاق النوروني للدفعات تكوِّد القنوات الأيونية وكذلك موادَّ أخرى تقوم برفع سوية حساسية الخلايا. وهكذا، يستطيع التفعيل الشديد للخلايا DRG الذي يرافق تأذّي الأنسجة أن يُحدِث تلك الأنماط من التغيّرات التحسيسية في النورونات المعنية التي يمكن أن تؤدي فيما بعد إلى نشوء ألم الاعتلال العصبي. ولكنّ دراستَنا وكذلك الأعمال التي قامت بها مختبرات أخرى، كشفت أيضا أنّ النورونات ليست الخلايا الوحيدة التي تستجيب للإصابات المؤلمة وتطلق المواد المعزِّزة للحساسية العصبية.
تتفوق الخلايا الدبقية على النورونات من الناحية العددية بمقدار كبير في النخاع الشوكي وفي الدماغ. ولا تقوم الخلايا الدبقية بإطلاق الدفعات الكهربائية مثلما تفعل النورونات، لكنها تتمتّع ببعض الميّزات المهمة والمثيرة للانتباه فيما يتعلّق بالتأثير في إطلاق النورونات لتلك الدفعات. وتحافظ الخلايا الدبقية على مواصفات الوسط الكيميائي الذي يحيط بالنورونات: ففضلا عن تأمين نقل الطاقة التي تدعم الخلايا العصبية، يقوم هذا النسيج بامتصاص النواقل العصبية التي تحرِّرها النورونات عندما تطلق دفعاتها نحو النورونات المجاورة لها. بل إنّ الخلايا الدبقية تقوم أحيانا بتوزيع النواقل العصبية من أجل زيادة أو تعديل نقل الإشارات النورونية. وعندما تُصاب النورونات بالأذية، تحرِّر الخلايا الدبقية عواملَ نمو تساعد على شفاء النورونات وبقائها على قيد الحياة، كما تحرِّر موادَّ تستدعي خلايا تابعة للجهاز المناعي كي تكافح العدوى (الخمج) infection وتشرع في عملية الشفاء والالتئام. ومع ذلك، تكشف الأبحاث الحديثة أنّ تلك الفعاليات التي تقوم بها الخلايا الدبقية بغرض رعاية النورونات وتسهيل نشاطاتها، يمكن لها أيضا أن تطيل أمد حالة التحسيس النوروني(6).
حقائق عن الألم(*****) 10% إلى 20% 59% 18% 15% فقط 41% |
الخلايا الدبقية تصير مشتبها فيها(******)
قبل أكثر من قرن من الزمن، عرف العلماء أنّ الدبق العصبي يستجيب للأذيات. وفي ألمانيا، لاحظ <F.نيسِّل> عام 1894 أنه بعد تعرّض عصب ما للضرر، تبدي الخلايا الدبقية تغيّرات دراماتيكية في البقع الموافقة لأماكن اتّصال الألياف العصبية مع بعضها ضمن النخاع الشوكي أو الدماغ. فالخلايا الدبقية الميكروية microglia تصير أكثر غزارةً، كما أنّ نمطا أكبر حجما من الخلايا – تُدعى بالخلايا النجمية astrocytes بسبب شكل أجسامها الخلوية الشبيه بالنجوم – يصير أكثر امتلاءً مع انتفاخ الخلايا بحزم ثخينة من الألياف الخيطية التي تقوّي هيكلها الخلوي.
عموما، كان فهم الاستجابات الدبقية المذكورة أعلاه على أنها تهدف إلى تعزيز إصلاح الأعصاب بعد تعرّضها للإصابة، لكنّ الكيفية التي تقوم بواسطتها بهذا الأمر كانت غير واضحة. والأكثر من ذلك، أنه إذا كان موقع الإصابة – كما هو الحال مثلا في التواء الكاحل – بعيدا عن دارة الألم الشوكية، فإنّ الخلايا النجمية في النخاع الشوكي يجب أن تستجيب ليس للأذية المباشرة، بل بالأحرى للتغيّرات في إرسال الإشارات في نقطة الإبدال بين الخلايا DRG والنورونات الشوكية. وتعني الملاحظة السابقة أنّ الخلايا النجمية والخلايا الدبقية الميكروية كانت تراقب الخصائص الفيزيولوجية لنورونات الألم.
وعلى مدى العقدين الماضيين تمَّ إظهار أنّ الخلايا تمتلك آليات عدة لاكتشاف النشاط الكهربائي في النورونات، ومن ضمنها قنواتٌ لاستشعار الپوتاسيوم وغيره من الأيونات التي تحرِّرها النورونات عندما تطلق دفعاتها الكهربائية، وكذلك مستقبلاتٌ سطحية تستشعر النواقل العصبية نفسها التي تستخدمها النورونات للاتّصال فيما بينها عبر المشابك synapses. ومن بين النواقل العصبية المهمّة التي تحرِّرها النورونات وتلتقطها الخلايـا الدبقية، نجد الگلوتاماتglutamate وثلاثي فُسفات الأدينوزين ATP وأكسيد النتريك nitric oxide، ولكن هناك نواقل أخرى عديدة. وهذه المصفوفة من المحسات (المشعرات) sensors تسمح للخلايا الدبقية بأن تُجري مسحا للنشاط الكهربائي في الدارات النورونية في كل مكان من الجسم ومن الدماغ، وبأن تستجيب وفقا للأوضاع الفيزيولوجية المتغيّرة [انظر: «النصف الآخر من الدماغ»،مجلة العلوم، العددان2/1 (2004) ، ص 46].
عوامل الخطورة للألم المزمن في العنق أو الظهر(*******)
|
وما أن أدرك العلماء مدى اتّساع استجابات الخلايا الدبقية للفعالية العصبية، حتى عادوا يوجِّهون انتباههم إلى السلوك المشبوه للخلايا الداعمة عند نقاط ترحيل الألم. فإذا كانت الخلايا الدبقية تراقب الانتقالات العصبية للألم، فهل كانت أيضا تؤثر في تلك الانتقالات؟ وبعد مئة عام بالضبط من ملاحظة <نيسّل> لاستجابة الخلايا الدبقية للإصابات المؤذية للأعصاب، تمَّ إجراء تجربة بسيطة لاختبار فرضية أن الخلايا الدبقية يمكن أن تسهم في إحداث ألم مزمن. ففي عام 1994 حقن <T.S.ميلّر> [وزملاؤه في جامعة أيوا] بعض الجرذان بذيفان يقتل بشكل انتقائي الخلايا النجمية، وقاموا بعد ذلك بتقييم ما إذا كانت حساسية تلك الحيوانات للتنبيهات المؤلمة قد نقصت. وفي النتيجة، تبيَّن عدم حدوث ذلك، وهذا ما دلَّ على أنّ الخلايا النجمية ليس لديها دور واضح في عملية انتقال الألم الحاد.
بعد ذلك، قام العلماء بتعريض الجرذان إلى مهيِّج للألياف العصبية، يسبِّب تطوّرا تدريجيا لألم مزمن عند تلك الحيوانات، وهذا يشبه إلى حد بعيد ما اختبرته <هيلين> بعد مدة طويلة من حادث السيارة الذي هيَّج الأعصاب في كاحل قدمها. وقد لوحظ أنَّ الحيوانات المحقونة بالسمّ القاتل للخلايا النجمية، تطور عندها الألم المزمن بدرجة أقلّ، وهذا يبيّن أنّ الخلايا النجمية مسؤولة بطريقة ما عن بدء الألم المزمن بعد إصابات مؤذية للأعصاب. وقد أظهرت الأبحاث التي أجريت لاحقا كيف يتم ذلك.
تحرّر الخلايا الدبقية أنماطا عدة من الجزيئات تستطيع أن تزيد حساسية الخلايا DRG والنورونات الشوكية التي تعيد بثّ إشارات الألم إلى الدماغ، وهذه الجزيئات تتضمَّن عواملَ نمو وبعضا من النواقل العصبية نفسها التي تنتجها النورونات ذاتها. وتوصَّل العلماء إلى إدراك حقيقة أنّ الخلايا الدبقية تفسِّر الإطلاق السريع للدفعات العصبية والتبدّلات العصبية الناجمة عن ذلك، باعتباره علامة تدلّ على ضائقة تمرّ بها النورونات. واستجابةً لما سبق، تطلق الخلايا الدبقية الجزيئات التحسيسية من أجل تخفيف الشدة المفروضة على النورونات عن طريق تسهيل إرسالها لإشاراتها ولتبدأ عملية شفائها.
وهناك فئةٌ أخرى من الجزيئات ذات الأهمية القصوى تولِّدها الخلايا الدبقية استجابةً لضائقة النورونات أو تلفها، وهي السيتوكينات cytokines التي استمدَّت اسمها من اختصار كلمة «سيتوكينيتيك» cytokinetic التي تعني الحراك الخلوي. وهذه السيتوكينات تعمل كمرشدات كيميائية قوية، تتبعها خلايا الجهاز المناعي كي تصل إلى موقع الإصابة المؤذية. خذ في الاعتبار مثلا المشكلة الجسيمة – الشبيهة بإيجاد إبرة ضمن كومة قش – التي تواجهها خلية من جهازك المناعي، عندما تريد إيجاد شظية ضئيلة مطمورة في نهاية إحدى أصابعك. إنَّ الخلايا التي أوقعت الشظية الضرر بها تقوم بتحرير سيتوكينات قوية، ترشد خلايا الجهاز المناعي الموجودة في الدم واللمف lymphكي تسرع إلى نهاية إصبعك من أجل مكافحة العدوى (الخمج) والشروع في عملية الترميم والإصلاح. وهذه السيتوكينات تحثّ أيضا على حدوث تبدّلات في الأنسجة وفي الأوعية الدموية الموضعية، بحيث تسهِّل عمل الخلايا المناعية وتعزِّز الشفاء والالتئام، لكنها تسبِّب كذلك احمرارَ المنطقة وتورّمها. وتُدعى التأثيرات الناجمة عن إشارات السيتوكينات بشكل إجمالي باسم التهاب inflammation.
يوضِّح مثال الشظية مدى فعالية السيتوكينات في توجيه الخلايا المناعية نحو جرح ما، لكنْ ما يثير قدرا أكبر من التعجّب هو كيف تستطيع شظية صغيرة جدا أن تكون مؤلمة إلى هذه الدرجة: فالألم الناتج بعيد تماما عن أن يتناسب مع المقدار الضئيل من التلف النسيجي الذي يشكو منه المصاب. كذلك سرعان ما تصير المنطقة المحيطة بالشظية متورّمة وحساسّة ومؤلمة، مع أنّ هذه الخلايا الجلدية المجاورة لم تُصَب هي بذاتها بأيّ أذى. وينجم الألم الذي يحيط بالإصابة عن فعل آخر للسيتوكينات الالتهابية: إنه قيامها بالتضخيم الشديد لحساسية ألياف الألم. وفرط تحسيس الكشّافات الحسية للألم في المناطق المجاورة لإصابة ما، هو طريقة الجسم في جعلنا ندَع ذلك الموقع وشأنه، وهذا ما يمنحه الفرصة للشفاء.
[التحمّل الدوائي] الدبق العصبي (الخلايا الدبقية) يناوئ الأفيونيات(********) كان من الاكتشافات المذهلة التي حصلت في السنوات الأخيرة ظهورُ أنّ الدبق العصبي يؤدي دورا مسبِّبا فقدان مسكِّنات الألم الأفيونية لفعاليتها. فقد بيَّنت <R.L.واتكينز> [من جامعة كولورادو في بولدر] أنّ المورفين والميثادون وأفيونيات أخرى على الأرجح تفعِّل بشكل مباشر الدبق العصبي في النخاع الشوكي، فتؤدي إلى حدوث استجابات دبقية تعاكس تأثيرات تلك الأدوية المسكِّنة للألم. تبدأ الخلايا المساعدة المفعَّلة بالتصرف بشكل يشابه إلى حدٍّ بعيد ما تقوم به بعد إصابة العصب بالأذية، حيث تأخذ بلفظ السيتوكينات الالتهابية وغيرها من العوامل التي تفعل فعلها المتمثّل بتحسيس النورونات بشكلٍ مفرط. وأظهرت <واتكينز> أنّ التأثير المذكور يبدأ خلال أقلّ من خمس دقائق بعد الجرعة الدوائية الأولى. عبر جعل النورونات مفرطة القابلية للاستثارة، يتغلب فعل الخلايا الدبقية على التأثيرات المُخمِدة للنورونات التي تقوم بها تلك الأدوية في الحالة العادية، وهذا ما يفسِّر لماذا يحتاج المرضى في معظم الأحيان إلى جرعات دوائية متزايدة بشكل متواصل لتفريج آلامهم. ومن المُحتمَل أن تكون الآلية نفسها مسؤولة أيضا عن الفشل المتكرر للأفيونيات في إزالة ألم الاعتلال العصبي المزمن، عندما يكون الدبق العصبي الارتكاسي هو الذي يقف خلفه. |
وكقاعدة عامة, لا تَصدر السيتوكينات في الجهاز العصبي عن نورونات، فالخلايا الدبقية هي ذلك المصدر. وتماما كما تستطيع أن تقوم به السيتوكينات عندما تجعل نهايات الأعصاب المحيطة بالشظية في طرف إصبعك مفرطة الحساسية، تتمكَّن السيتوكينات المتحرِّرة من الخلايا الدبقية في النخاع الشوكي استجابةً للإفراط في إشارات الألم أن تنتشر إلى الألياف العصبية المحيطة، فتجعلها هي أيضا مفرطة الحساسية. وهكذا، يمكن أن تتشكَّل حلقة تبدأ بنورونات زائدة التحسيس تطلق دفعاتها بشكل مُبالَغ فيه، حيث ينقل ذلك الخلايا الدبقية إلى حالة الاستجابة الارتكاسية، ومن ثَمّ تقوم هذه الخلايا بصبّ المزيد من العوامل التحسيسية ومن السيتوكينات، محاوِلةً عن طريق ذلك أن تخفّف ضائقة النورونات، ولكن مؤدِّيةً في النهاية، بدلا من ذلك، إلى زيادة مدة تلك الضائقة، وعندما يحدث الأمر السابق يمكن أن يتولَّد الألم ضمن النخاع الشوكي من ألياف عصبية لم تُصَب بشكلٍ مباشر بالأذية.
إنّ الاستجابات الأولية للخلايا الدبقية مفيدةٌ من أجل الشفاء عند حدوث إصابة، ولكن في حال كانت هذه الإصابة شديدة للغاية أو دامت كثيرا، فإنّ نتيجة ذلك تكون نشوء ألم مزمن لا يتوقَّف أبدا. وقد أكَّدت بشكل موثَّق مجموعات عدّة تقوم بالأبحاث وجودَ حلقات ارتجاعية(7) feedback loops، يمكن أن تسبِّب إطالة زمن تحرير الخلايا الدبقية للعوامل التحسيسية وإشارات الالتهاب، وهذا ما يقود إلى حدوث ألم الاعتلال العصبي. ويجري العديد من تلك المجموعات حاليا تجاربَ هدفها إيجاد الطرق الكفيلة بعكس مسار تلك العمليات. وقد قادت أبحاث هذه المجموعات إلى اكتشاف طرق تفيد في جعل استعمال المخدِّرات في معالجة الألم الحادّ أكثر كفاءةً.
إيقاف الألم عند مصدره(*********)
في الماضي كانت جميع علاجات الألم المزمن تتوجَّه نحو إخماد فعالية النورونات، لكن لم يكُن بالمستطاع التغلّب على الألم في حال استمرار الخلايا الدبقية بتحريض خلايا الأعصاب. وتقودنا حاليا آراء بصيرة جديدة حول كيفية دخول الخلايا الدبقية في حلقتها المعيبة المحسِّسة للأعصاب إلى مقاربات حديثة تستهدف الخلايا الدبقية المختلّة الوظيفة، وهي تأمل بأن تتمكَّن في ذلك من إيقاف مصدر أساسي لألم الاعتلال العصبي. ولهذا فإن الجهود التجريبية لمعالجة ألم الاعتلال العصبي عن طريق تعديل حالة الخلايا الدبقية تتركز على تهدئة هذه الخلايا، وذلك من خلال حصر الإشارات والجزيئات المثيرة للالتهاب ونقل إشارات مضادّة للالتهاب.
وفي التجارب الحيوانية, على سبيل المثال، قامت <A.J.ديليو> وزملاؤها [من المدرسة الطبّية في دارتموث] بإظهار أنّ مادة كيميائية تُدعى پروپينتوفيللين propentofylline تثبّط تفعيل الخلايا النجمية، ومن ثم تخمد الألم المزمن. ويمنع المضاد الحيوي (الصاد) antibiotic المدعو مينوسيكلين minocyclineكلا من النورونات والخلايا الدبقية من أن تصنع السيتوكينات الالتهابية وأكسيد النتريك، كما ينقص هجرة الخلايا الدبقية الميكروية باتّجاه مواقع الإصابات، وهذا يقترح إمكانية قيام الدواء المذكور بمنع حدوث فرط تنشيط الخلايا الدبقية.
[الأدوية] تهدئة الدبق العصبي (الخلايا الدبقية) المفرط الارتكاس(**********) هناك العديد من المواد التي تبيَّنت قدرتها على تعديل فعالية الدبق العصبي، ويُجرى اختبارها حاليا كمعالجات ممكنة لتدبير ألم الاعتلال العصبي أو لإنقاص تحمّل الأفيونيات ومتلازمة سحبها. (تدل العلامات النجمية على الأدوية التي سبق تسويقها لاستعمالات أخرى).
|
تركِّز مقاربة مشابهة على مستقبلات شبيهة بقرع الناقوس(8) (TLRs)، وهي پروتينات سطحية موجودة على الخلايا الدبقية، تقوم بتعرّف مؤشِّرات محدَّدة تدلّ على الخلايا التي هي في حالة ضائقة، وتحثّ الخلايا الدبقية على البدء بنفث السيتوكينات. وقـد أظهرت <R.L.واتكينز> وزملاؤها [من جامعة كولورادو في بولدر] أنه إذا استعملنا لدى الحيوانات مركَّبا تجريبيا يحصر نمطا جزئيا subtype خاصّا من المستقبلات TLR يُدعى TLR-4 على الخلايا الدبقية في النخاع الشوكي، فإنّ ذلك يُبطِل ألم الاعتلال العصبي الناشئ عن أذية العصب الوركي. ومن المثير للاهتمام أنّ النالوكسون naloxone وهو دواء يُستعمَل لتخفيف آثار الأفيونيات opiates خلال معالجة الإدمان يحصر أيضا الاستجابات الدبقية لتفعيل المستقبلات TLR-4. وقد أوضحت <واتكينز> أنّ النالوكسون يستطيع لدى الجرذان أن يبطل تماما ألم الاعتلال العصبي المتطوِّر.
وهناك دواء آخر موجود حاليا هو في الحقيقة مادة استُخدمت منذ عهود قديمة للغاية من أجل تسكين الألم حيث تنجح في ذلك عندما تفشل مواد عديـدة أخرى وهو الحشيش marijuana الذي صار استعماله في الأمور الطبية قانونيا في بعض الولايات. فالمواد الموجودة في الحشيش تحاكي مركّبات طبيعية موجودة في الدماغ تُدعى الكانابينويدات cannabinoids، وهذه المركّبات تفعِّل مستقبلات معيّنة على النورونات وتنظِّم انتقال الإشارات العصبية.
ولكن لا بد من الانتباه إلى أن هناك نمطين من مستقبلات الكانابينويد في الدماغ والجهاز العصبي: المستقبلات CB1 والمستقبلات CB2، ولكلٍّ منهما وظيفة مختلفة عن وظيفة النمط الآخر. ويؤدي تفعيل المستقبلات CB2 إلى إزالة الألم في حين يُحدِث تفعيل المستقبلات CB1 التأثيرات ذات المفعول النفسيpsychoactive للحشيش. وبشكل لافت للنظر، لا تظهر المستقبلات CB2 المزيلة للألم على نورونات الألم، بل نجدها على الخلايا الدبقية. وعندما ترتبط الكانابينويدات بالمستقبلات CB2 على الخلايا الدبيقية، تقلّل هذه الخلايا إرسالها لإشارات الالتهاب. وقد وجدت الدراسات الحديثة أنه مع تطوّر الألم المزمن، يزداد عدد المستقبلات CB2 على الخلايا الدبقية الميكروية، وهذه علامة على أنّ الخلايا تحاول بإقدام أن تلتقط مقدارا أكبر من الكانابينويدات من المناطق المجاورة لها، كي تؤمِّن التفريج المسكِّن للألم. وحاليا تسعى شركات صناعة المستحضرات الدوائية جاهدة من أجل الحصول على أدوية يمكن استعمالها للسيطرة على الألم عن طريق التأثير في المستقبلات CB2 الدبقية من دون أن يؤدي ذلك إلى رفع مزاج من يستعملها من الأشخاص.
لقد أدّى أيضا حصر السيتوكينات الالتهـابية بواسـطـة الأدويـة المضادة للالتهاب الموجودة حاليا – مثل الأناكينرا anakinra (كينيريت Kineret) والإيتانيرسيپت etanercept (إينبريل Enbrel) – إلى تخفيف ألم الاعتلال العصبي في النماذج الحيوانية. وإلى جانب إيقافها إشارات الالتهاب، بيَّنت مجموعات عديدة من الباحثين أنّ إضافة سيتوكينات مضادة للالتهاب (مثل الإنترلوكين10-والإنترلوكين2-) تستطيع أن تقمع ألم الاعتلال العصبي عند الحيوانات. ويوجد حاليا دواءان هما الپنتوكسيفيللين pentoxyfilline وAV411 يثبّط كلاهما الالتهاب بواسطة حثّ الخلايا على إنتاج الإنترلوكين10-. إضافة إلى ذلك، استطاعت مجموعات تقوم بأبحاث منسَّقة أن تبطل ألم الاعتلال العصبي لمدة وصلت إلى أربعة أسابيع، عن طريق نقل الجينات المسؤولة عن إنتاج الإنترلوكين10-والإنترلوكين2- إلى داخل عضلات الحيوانات أو نخاعاتها الشوكية.
لم يُستخدَم سوى عدد قليل من الأدوية السابقة في التجارب عن الألم التي أجريت على البشر [انظر الجدول السابق أعلاه]، ومن بين هذه الأدوية القليلة نجد الدواء AV411 الذي سبق أن تمَّ إدخاله في اليابان كعلاج مضاد للالتهاب في تدبير السكتات الدماغية. وأظهرت تجربة أجريت في أستراليا أنّ المرضى المتألمين أنقصوا بشكل طوعي مقدار جرعاتهم من المورفين خلال تلقّيهم ذلك الدواء، وفي هذا دلالة على أنّ الدواء AV411 يسهم في تفريج آلامهم. ولكن من المُحتمَل أن يكون الدواء AV411 يقوم بعمله هذا عن طريق آلياتٍ تتجاوز مجرَّد تهدئة الألم الناجم عن الالتهاب، وهذا ما يسلِّط الضوء على انعطافٍ مفاجئ في حكاية الخلايا الدبقية والألم.
استعادة التوازن(***********)
يُعتبَر المورفين من بين أكثر مسكِّنات الألم المعروفة قوةً، ولكنّ الأطباء يحذرون من استعماله بسبب خواصه الشيطانية، إلى درجة أنّ العديد منهم سوف يستخدمونه بشكل أقلّ من اللازم حتى لمعالجة المرضى المصابين بأورام سرطانية في مراحلها النهائية. يشبه المورفين الهيروين heroin والأفيون opiumوالمخدِّرات الحديثة مثل الأوكسي كونتين OxyContin في أنه يخفِّف الألم عن طريق إضعاف الاتصال بين نورونات النخاع الشوكي، وبذلك يقلِّل انتقال إشارات الألم.
ولسوء الحظ، سرعان ما تتلاشى قدرة المورفين وبقية المخدِّرات على إحصار الألم مع الاستعمال المتكرر، وهذه الظاهرة تُسمّى التحمّل الدوائي tolerance. وهكذا، نحتاج إلى جرعات بمقدار أعلى وتواتر أكثر من أجل تحقيق الأثر نفسه. ويمكن أن يصير المرضى المصابون بألم مزمن مدمنين على المخدر، فيتفاقم وضعهم البائس بسبب هذا الاعتماد على المخدر drug dependency. ونتيجة خوف الأطباء من أن يُشتبَه في كونهم لا يصفون للعلاج تلك الكميات الكبيرة من المخدِّرات بل يتاجرون بها، فإنهم في معظم الأحيان يُجبَرون على تحديد جرعات المرضى وفق مستويات لم تَعُد فعّالة في إزالة آلامهم المبرحة. ويلجأ بعض المرضى إلى الجريمة للحصول على وصفات غير شرعية من أجل تخفيف ألمهم غير المُحتمَل؛ بل يصل الأمر بقلّة منهم إلى الانتحار لإنهاء معاناتهم الهائلة. وبيَّنت الأبحاث التي تدور حول تقاطع تفريج الألم مع عمل الخلايا الدبقية ومع الإدمان على المخدرات ظهورَ دليلٍ حديثٍ على أنّ الخلايا الدبقية مسؤولة عن توليد ظاهرة التحمّل الدوائي في حالة الهيروين والمورفين.
وقد بدأت الشكوك حول تورّط الخلايا الدبقية في ظاهرة تحمّل المخدِّرات بالظهور لأول مرة، عندما لوحظ أنّ المرضى المعتمدين على مسكِّنات الألم من النوع المخدِّر يعانون تماما مثلما يحدث عندما ينقطع شخص مدمن على الهيروين عن تعاطيه بشكل فوري غير تدريجي cold turkey الأعراض المؤلمة لمتلازمة الامتناع (السحب) withdrawal المعهودة، إذا توقَّفوا فجأةً عن تلقّي أدويتهم. فأولئك المرضى (وكذلك المدمنون على الهيروين) يصيرون مفرطي الحساسية إلى درجة كبيرة، بحيث إنه حتى الضوء أو الصوت العادي يصيران بالنسبة إلى أولئك المرضى مؤلمين وموجِعَين للغاية. والتشابه بين هذه الأعراض وفرط الحسّ hyperesthesia الذي يلاحظ في ألم الاعتلال العصبي، أوحى باحتمال وجود سبب مشترك لكلتا الحالتين.
في عام 2001 اختبر <P.سونگ> و<Q.Z.تزهاو> [من معهد شانگهاي للفيزيولوجيا] ما إذا كانت الخلايا الدبقية تتدخَّل في تطوّر تحمّل المورفين. وقد لاحظ الباحثان أنه عند إعطاء الجرذان جرعاتٍ متكررة من المورفين، فإنّ عدد الخلايا النجمية الارتكاسية في النخاع الشوكي يزداد. وكانت تبدّلات الخلايا الدبقية الناجمة عن حقن المورفين المتكرر مماثلة للتبدلات الملحوظة في النخاع الشوكي بعد الإصابة بالأذية أو لدى تطوّر ألم الاعتلال العصبي. وبعد ذلك، قام العالمان بالتخلّص من الخلايا النجمية باستخدام السمّ نفسه الذي استعمله <ميلّر> لإخماد تطوّر الألم المزمن عند الجرذان. فكانت النتيجة أنّ تحمّل المورفين في تلك الحيوانات نقص بسرعة ووضوح، وهذا ما يشير إلى إسهام الخلايا الدبقية بطريقةٍ أو بأخرى في حدوثه.
ومنذ ذلك الحين، حاولت مجموعات عديدة من الباحثين أن تحصر إشارات متنوّعة بين النورونات والخلايا الدبقية (على سبيل المثال عن طريق تعطيل مستقبلات نوعية للسيتوكينات على الخلايا الدبقية)، وأن تختبر ما إذا كان تحمّل المورفين يتأثّر بذلك. وأظهرت هذه الأبحاث أنّ إحصار إشارات الالتهاب الآتية إلى الخلايا الدبقية أو المنطلقة منها لا يغيّر على الإطلاق أيّ شيء في الإحساس الطبيعي بالألم الحادّ، ولكن عندما حُقنت الحاصرات سويةً مع المورفين، فإنّ جرعات أقلّ من المورفين تمَّ الاحتياج إليها للحصول على تفريج الألم نفسه وكذلك كانت مدة هذا التفريج مضاعفة. ودلَّت هذه الاكتشافات بقوة على أنّ الخلايا الدبقية تمارس فعلا معاكسا لتأثير المورفين المزيل للألم.
إنّ أعمال الخلايا الدبقية المقوِّضة لفعالية المورفين تتوافق مع الوظيفة الأساسية لهذه الخلايا في المحافظة على النشاط المتوازن في الدارات العصبية. فعندما تخفِّف المخدِّرات حساسية دارات الألم، تستجيب الخلايا الدبقية لذلك بإطلاق موادّ فعّالة عصبيا تزيد قابلية استثارة النورونات، كي تعيد المستويات الطبيعية للفعالية في الدارات العصبية. ومع مرور الوقت يؤدي تأثير الخلايا الدبقية إلى رفع درجة الحساسية في نورونات الألم، وعندما يزول التأثير المخفِّف الذي يطبّقه فجأة على دارات الألم الهيروين أو الأدوية الأخرى المخدِّرة للألم، في حال التوقف السريع عن تلقي الدواء، فإنّ النورونات تطلق دفعاتها بشكلٍ مكثَّف، وهذا ما يسبِّب أعراض الحساسية الفائقة والأعراض المؤلمة لمتلازمة السحب. وفي التجارب على الحيوانات تمكَّن الباحثون من إنقاص مثير للألم الناجم عن السحب في حالة الإدمان على المورفين وذلك بواسطة الأدوية الحاصرة لاستجابات الخلايا الدبقية.
وهكذا، فإن إثبات أنّ تعديل فعالية الخلايا الدبقية هو مفتاح رئيسي ليس في تسكين الألم المزمن فحسب، بل أيضا في تقليل احتمال تحوّل الأشخاص المعالجين بالمخدِّرات المسكِّنة للألم إلى مدمنين عليها. فما أعظم الهبة التي سوف تمنحها الأدوية التي تستهدف الخلايا الدبقية إلى أولئك الذين سعوا منذ فترة طويلة إلى السيطرة على هذين المصدرين الكبيرين (الآلام المزمنة وإدمان المخدرات) للبؤس والتعاسة لدى البشر. ففي الماضي، فاتت العلماء ملاحظة الصلات بين النورونات والألم والإدمان وذلك بسبب تجاهلهم الشريك الأساسي للنورونات، ألا وهو الخلايا الدبقية.
المؤلف
R. Douglas Fields | |
رئيس تحرير مجلة بيولوجيا الخلايا النورونية والخلايا الدبقية NeuronGlia Biology، وقد كتب مقالات عدة في مواضيع العلوم العصبية لمجلة ساينتفيك أمريكان، كان آخرها في الشهر 3/2008 عن دور المادة البيضاء في الدماغ. وفي كتابه المُزمَع صدوره قريبا «الدماغ الآخر» The OtherBrain (الناشر Simon & Schuster) نجد وصفا لآراء بصيرة جديدة عن كيفية قيام الخلايا الدبقية بتنظيم وظائف الدماغ في حالتي الصحة والمرض. |
مراجع للاستزادة
Could Chronic Pain and Spread of Pain Sensation Be Induced and Maintained by Glial Activation?
Elisabeth Hansson in Acta Physiologies, Vol. 187, No. 1-2, pages 321-327; published online May 22f 2006.
Do Glial Cells Control Pain?
Marc R. Suter et al. in Neuron Glia Biology, Vol. 3. No. 3. pages 255-268; August 2007.
Proinflammatory Cytokines Oppose Opioid-lnduced Acute and Chronic Analgesia. Mark R. Hutchinson et al. in Brain, Behavior, and Immunity, Vol. 22. No. 8, pages 1178-1189; published online July 2.2008.
Pathological and Protective Roles of Glia in Chronic Pain. Erin D. Milli- gan and Linda R. Watkins in Nature Reviews Neuroscience, Vol. 10, pages 23-36; January 2009.
(*) NEW CULPRITS IN CHRONIC PAIN
(**) Pain Circuits and Breakers
(***) PAIN CIRCUITRY
(****) TOO MUCH OF A GOOD THING
(*****) PAIN FACTS
(******) Glia Become Suspect
(*******) RISK FACTORS FOR CHRONIC NECK OR BACK PAIN
(********) Glia Oppose Opiates
(*********) Stopping Pain at Its Source
(**********) QUIETING OVERACTIVE GLIA
(***********) Restoring Balance
(1) يضم الجهاز العصبي المركزي نوعين من الخلايا العصبية (العصبونات) neural cells: الخلايا النورونية (النورونات ومفردها نورون neuron) والخلايا الدبقية glial cells (أو glia) أو الدبق العصبي. انظر في هذا العدد: «المحافظة على خلايا الدماغ الجديدة.»
(2) ج: قيِّم caretakers
(3) glial reactions
(4) nonneuronal cells
(5) Dorsal root ganglion
(6) neural sensitization
(7) أو: حلقات تغذية راجعة.
(8) Toll-like receptors