أصل الحياة على الأرض
أصل الحياة على الأرض(*)
أدلة جديدة تلمّح إلى كيفية نشوء أولى
المتعضيات(1) (الكائنات الحية) من مادة غير حية.
<A.ريكاردو> – <W.J.زوستاك>
مفاهيم مفتاحية
وجد الباحثون طريقة قد يكون الجزيء الجيني الرنا(2) RNA تشكل من خلالها ابتداءً من كيماويات وجدت على الأرض المتشكلة حديثا. دعمت دراسات أخرى النظرية التي تقول إنه يمكن لخلايا بدائية تحوي جزيئات تشبه الرنا أن تتكون تلقائيا وأن تتكاثر وتتطور معطية بذلك للحياة نشأة. يهدف العلماء الآن إلى تكوين متعضيات صنعية ذاتية(3) التضاعف في المختبر – وبشكل أساسي يهدفون إلى إعطاء الحياة بداية جديدة من أجل فهم الآلية التي يمكن أن تكون قد نشأت عنها لأول مرة. محررو ساينتفيك أمريكان |
إن كل خلية حية، بما فيها أبسط أنواع البكتيريا، تزخر بآلات جزيئية غريبة يحسدها عليها أي عالم تقانات نانوية. ومع اهتزازها أو التفافها أو زحفها المتواصل في أرجاء الخلية، تقطع هذه الآلات، وتلصق وتنسخ جزيئات جينية، وتقوم بنقل المغذّيات من مكان إلى آخر أو تحولها إلى طاقة، وتبني أو تصلح الأغشية الخلوية، وتنقل الرسائل الميكانيكية والكيميائية والكهربائية – والقائمة تطول وتطول؛ كما أن اكتشافات جديدة تضاف دائما إلى هذه القائمة.
إنه لمن المستحيل تقريبا فهم الكيفية التي يمكن لآلات الخلية، وهي في الغالب حفازات catalysts أساسها پروتيني تدعى الإنزيمات enzymes، أن تكون قد نشأت تلقائيا عندما نشأت الحياة للمرة الأولى من مادة غير حية, وذلك منذ نحو 3.7 بليون سنة. وللتأكيد، فإنه تحت الشروط الصحيحة، تتشكل بعض قوالب blocks بناء الپروتينات، وهي الأحماض الأمينية(4)، بسهولة انطلاقا من كيماويات أبسط، وذلك كما اكتشف <L.S.ميلر> و <C.H.يوري> [من جامعة شيكاغو] في تجاربهم الرائدة التي أجرياها في خمسينات القرن الماضي. ومع هذا، فإن الانتقال من الأحماض الأمينية إلى تشكل الپروتينات والإنزيمات مسألة مختلفة تماما.
إن العملية الخلوية التي تؤدي إلى صناعة الپروتين تستخدم إنزيمات معقدة تقوم بفصل جديلتي حلزون الدنا DNA المضاعف، وذلك من أجل استخلاص المعلومات المحتواة في الجينات (وهي البصمة الخاصة بالپروتينات) وترجمتها لتعطي المنتج النهائي. لذلك، فإن شرحا لكيفية بدء الحياة يستلزم التعامل مع مفارقة جدية وهي: إنه من أجل تصنيع الپروتينات يتطلب الأمر وجود الپروتينات نفسها إضافة إلى المعلومات المخزنة في الدنا.
ومن جهة أخرى، فإن هذه المفارقة ستختفي في حال أن المتعضيات الأولى لم تتطلب پروتينات على الإطلاق. وتوحي تجارب حديثة أنه كان ممكنا لجزيئات جينية شبيهة بالدنا أو بالجزيء الشديد القرابة له وهو الرنا أن تتشكل تلقائيا. ولأنه يمكن لهذه الجزيئات أن تلتف على نفسها لتأخذ أشكالا مختلفة وأن تقوم بدور حفازات بدائية، فمن الممكن أنها كانت قد أصبحت قادرة على أن تنسخ ذواتها – أن تتكاثر – من دون الحاجة إلى وجود الپروتينات. ومن الممكن أن أكثر أشكال الحياة بدائية كانت عبارة عن أغشية بسيطة مؤلفة من أحماض دسمة – وهي أيضا بنىً معروفٌ عنها أنها تشكلت تلقائيا – ضمت في داخلها الماء، وهذه الجزيئات الجينية ذاتية التضاعف. وهذه المادة الجينية تكوّد السمات التي ينقلها جيلٌ إلى الجيل الذي يليه، تماما كما يفعل الدنا لدى جميع الأشياء الحية في يومنا هذا. وإن ظهور طفرات بالصدفة وبشكلعشوائي أثناء عملية التضاعف سوف يدفع عملية التطور قُدُما، مما يمكن هذه الخلايا المبكرةearly cells من التأقلم مع بيئتها، وأن تتنافس فيما بينها، لتصل في النهاية إلى أشكال الحياة التي نعرفها.
ربما يكون العلم قد فقد وإلى الأبد أية معلومات حول الطبيعة الحقيقية للمتعضيات الأولى والظروف الدقيقة لنشوء الحياة. ولكن باستطاعة البحث العلمي أن يساعدنا على فهم ما هو ممكن حول المتعضيات الأولى ونشأة الحياة. والتحدي الأساسي هو في بناء متعضية صنعية يمكن لها أن تتكاثر وأن تتطور. إن تكوين حياة من جديد سيساعدنا، بالتأكيد، على فهم كيف يمكن أن تبدأ الحياة، وما هو احتمال أن توجد في عوالم أخرى، وفي نهاية المطاف، معرفة ماهية الحياة.
كان لا بد أن تبدأ في مكان ما(**)
إن واحدا من أكثر الأسرارالمحيطة بنشأة الحياة صعوبة وإثارة هو الكيفية التي يمكن للمادة الجينية أن تكون قد تشكلت فيها ابتداءً من جزيئات أبسط كانت موجودة على الأرض الحديثة التشكل. وإذا ما أخذنا في الاعتبار الأدوار التي يتمتع بها الرنا في الخلايا الحالية؛ يبدو على الأرجح أن الرنا ظهر قبل الدنا. وعندما تصنع الخلايا الحالية الپروتينات، فإنها تنسخ الجينات أولا من الدنا لتصنع منها الرنا وتستخدمه بعد ذلك كبصمة blueprint من أجل صنع الپروتينات. ومن الممكن أن تكون المرحلة الأخيرة هذه قد وجدت في البداية بشكل مستقل، وأن الدنا كان قد ظهر لاحقا كشكل أكثر ديمومة من أجل تخزين المعلومات، وذلك بفضل ثباتيته الكيميائية المتفوقة.
ولدى الباحثين سبب إضافي للاعتقاد أن الرنا ظهر قبل الدنا. إن الشكل الرنوي للإنزيمات، ويدعى الإنزيمات الريبية (ريبوزيمات)(5) ribozymes، يؤدي أيضا دورا محوريا في الخلايا الحديثة. إن البنى structures التي تترجم الرنا إلى پروتين هي آلات هجينة رنوية، وإن الرنا فيها هو الذي يقوم بالعمل التحفيزي(6). وبذلك، يبدو أن كلا من خلايانا تحمل في ريبوزوماتها دليلا أحفوريا fossil على وجود عالَم رنوي بدائي(7).
لذلك، ركز الكثير من الأبحاث على فهم المنشأ المحتمل للرنا. إن الجزيئات الجينية كالدنا والرنا هي پوليميرات (8) polymers مصنوعة من قوالب بناء تدعى النيوكليوتيدات nucleotides. وبدورها، تمتلك النيوكليوتيدات مكونات رئيسية ثلاثة: سكر وفوسفات وأساس نووي. وتأتي الأسس النووية بأشكال أربعة وتشكل الأبجدية التي يكوّد من خلالها الپوليمر المعلومات. وفي نيوكليوتيد الدنا يمكن للأساس النووي nucleobase أن يكـون: A ، G ، C أو T، وهي للدلالة على الأدنين والگوانين والسيتوزين والثايمين؛
وفي أبجدية الرنا يحل الحرف U دلالة على اليوراسيل، محل الحرف T (انظر المؤطر في هاتين الصفحتين). إن الأسس النووية هي مركبات غنية بالنتروجين يرتبط بعضها ببعض وفقا لقانون بسيط: A تقترن بـ U (أو T)، وG تقترن بـ C. تشكل هذه الأزواج القاعدية درجات سُلَّم الدنا المفتول – الحلزون المزدوج المألوف – وازدواجها المميز هذا أساسيٌ من أجل نسخ صحيح وأمين للمعلومات مما يسمح بتكاثر الخلية. وفي الوقت نفسه، تشكل جزيئات السكر والفوسفات الهيكل الأساسي لكل جديلة من الدنا أو الرنا.
يمكن للأسس النووية أن تتجمع تلقائيا، وذلك في سلسلة من الخطوات، ابتداءً من السيانيد والأسيتيلين والماء – وهي جزيئات كانت بالتأكيد موجودة في المزيج الكيميائي البدائي. كذلك من السهل تشكل السكريات ابتداء من مواد ابتدائية. ومن المعروف منذ أكثر من 100 عام أنه يمكن الحصول على خلائط من طرز متعددة من جزيئات السكر عن طريق تسخين محلول قلوي (قاعدي) من الفورمالدهايد formaldehyde، وهو أيضا لا بد أنه كان متوافرا على سطح الكوكب الحديث التشكل. ومع ذلك، فإن المشكلة هي كيف يمكن الحصول على النوع «الصحيح» من السكر-الريبوز، في حالة الرنا – من أجل تصنيع النيوكليوتيدات. يمكن للريبوز، إضافة إلى ثلاثة أنواع من السكر الشديدة القرابـة، أن تتشكل من تفاعل نوعين أكثر بساطة من السكر يضمان – على التتالي – ذرتين وثلاث ذرات كربون. ومع ذلك، فإن مقدرة سكر الريبوز على التشكل بهذه الطريقة لا تحل مسألة الكيفية التي أدت إلى توفره بكثرة على سطح الأرض الحديثة التشكل، حيث يتبين أن الريبوز غير ثابت ويتحطم بسرعة وذلك حتى في محلول قلوي خفيف. وفي الماضي، قادت هذه الملاحظة العديد من الباحثين إلى الاستنتاج أنه من غير الممكن أن تكون الجزيئات الجينية الأُولى
[قوالب البناء] الجزيئات الجينية الأولى(***) إن الكينونات الأولى على سطح الأرض والقادرة على التطور والتكاثر حملت معلوماتها الجينية على الأغلب في هيئة جزيء شبيه بالرنا، وهو قريب جدا من الدنا. وإن كلا من الدنا والرنا هي سلاسل من وحدات تدعى النيوكليوتيدات (مشار إليها في اليمين)، لذلك فالسؤال الرئيسي هو كيف أمكن للنيوكليوتيدات أن تنشأ للمرة الأولى من كيميائيات أبسط. ويمكن لكل من مكونات النيوكليوتيد الثلاث – الأساس النووي والفوسفات والسكر – أن يتشكل تلقائيا. ولكنها لا ترتبط تلقائيا ببعضها بعضا بالشكل الصحيح (انظر المركز). ولكن تجارب جديدة أظهرت أن طرازين على الأقل من نيوكليوتيدات الرنا، تلك التي تحوي أُسسا نووية nucleobases تدعى C و U، يمكن أن تكون قد نشأت من خلال طريق مختلف (أقصى اليسار). (في المتعضيات الحديثة، تتكون الأسس النووية للرنا من أربعـة أنواع هي A و C و G و U، وهي الأحرف الأبجدية الجينية). نيوكليوتيدات فاشلة كان الكيميائيون لفترة طويلة غير قادرين على إيجاد طريق أمكن من خلاله للأسس النووية والفوسفات والريبوز (السكر الذي يدخل في تكوين الرنا) أن تتحد بشكل طبيعي لتشكل كميات من نيوكليوتيدات الرنا. طريق جديد بوجود الفوسفات، فإن المواد الأولية للأسس النووية وسكر الريبوز تشكل أولا مركب «2- أمينوأوكزازول»، وهو جزيء يحوي جزءا من السكر وجزءا من أحد الأسس النووية C أو U. وتعطي التفاعلات اللاحقة وحدة كاملة من الريبوز-الأساس ribose-base وبعد ذلك نيوكليوتيد كامل. كما تنتج التفاعلات ائتلافات «خاطئة» للجزيئات الأصلية، ولكن بعد التعرض للأشعة فوق البنفسجية تنجو فقط الأشكال الصحيحة من هذه الائتلافات وهي النيوكليوتيدات. |
ما هي الحياة؟(****) لقد جهد الباحثون طويلا لإيجاد تعريف «للحياة» بطريقة شاملة بما يكفي لتضم الأشكال غير المكتشفة منها بعد. ونورد هنا بعضا من العديد من التعاريف المقترحة: 1- اقترح الفيزيائي <E.شرودنگر> أن صفة معرِّفة للأنظمة الحية هي أنها تتجمع ذاتيا مخالفة بذلك نزوع الطبيعة إلى الفوضى، أو ما يدعى الإنتروپية entropy. 2- إن التعريف الذي صاغه الكيميائي <G.جويس> والذي تبنته وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، هو أن الحياة هي «نظام كيميائي قادر على الاستمرار ذاتيا وعلى التطور وفقا للتطور الدارويني Darwinianevolution.» 3- إن التعريف السيبراني cybernetic الذي صاغه <B.كورزينيوسكي> ينص على أن الحياة هي شبكة من آليات التغذية الراجعةfeedback mechanisms. |
فـي الشـهـر 5/2009 أجاب <J.سذرلاند> ومعاونوه [من جامعة مانشستر في إنكلترا] عن سؤال في مجال الكيمياء السابقة لنشوء الحياة بقي من دون إجابة لفترة طويلة، وذلك من خلال إثباتهم أنه بإمكان النيوكليوتيدات أن تتشكل من تفاعلات كيميائية تلقائية (يبدو <سذرلاند> في الصورة في الأسفل (الثاني من اليسار) مع أفراد من مختبره). |
قد ضمت الريبوز كجزء من تركيبها. ولكن أحدنا (<ريكاردو>) مع آخرين اكتشفوا طرائق يمكن من خلالها جعل سكر الريبوز ثابتا ومستقرا.
إن جزء الفوسفات من النيوكليوتيدات يقدم أحجية أخرى مثيرة للفضول والاهتمام. فالفوسفور – وهو العنصر المركزي في مجموعة الفوسفات – متوافر بغزارة في قشرة الأرض، حيث يفترض أن الحياة كانت قد نشأت. لذا، فإنه من غير الواضح كيف يمكن أن تكون الفوسفات قد وصلت إلى المزيج ما قبل الحيوي الذي هيّأ لنشوء الحياة. ويمكن لدرجات الحرارة العالية لفوهات البراكين أن تحوّل مواد معدنية محتوية على الفوسفات إلى أشكال من الفوسفات المنحلة، ولكن الكميات التي تتشكل، على الأقل قرب البراكين الحديثة، صغيرة. وهناك إمكانية توفر مصدر مختلف لمركبات الفوسفور يتمثل بمادة شريبرسيت(9) schreibersite، وهي معدن يوجد عموما في نيازك معينة.
في عام 2005 اكتشف كل من <D.لوريتا> و <M.پاسيك> [من جامعة أريزونا] أن تآكل (صدأ) الشريبرسيت في الماء يحرر جزأه الفوسفوري. وهذا المسار يبدو واعدا؛ لأنه يحرر الفوسفور في شكل أكثر انحلالا بكثير في الماء من الفوسفات، وأكثر تفاعلية مع المركبات العضوية (ذات الأساس الكربوني).
بعض التركيب مطلوب(*****)
إذا اعتبرنا أن لدينا على الأقل مخططا لمسارات محتملة تقود إلى تشكيل الأسس النووية والسكريات والفوسفات, فإن الخطوة المنطقية التالية ستكون ربط هذه المكونات فيما بينها بالشكل المناسب. ولكن هذه الخطوة كانت السبب في أشد الإحباطات التي واجهتها أبحاث كيمياء ما قبل الحياة prebioticchemistry خلال العقود القليلة الماضية. فمجرد مزج المكونات الثلاثة بالماء لا يقود إلى التشكل التلقائي للنيوكليوتيد، وهذا يعود بشكل أساسي إلى أن كل تفاعل ربط يتضمن أيضا إطلاق جزيء ماء، وهذا ما لا يحصل غالبا بشكل تلقائي في محلول مائي. ومن أجل تشكل الرابطة الكيميائية اللازمة لارتباط هذه الجزيئات يجب تأمين طاقة، على سبيل المثال، عن طريق إضافة مركبات غنية بالطاقة لتساعد على حدوث التفاعل. ومن الممكن أن العديد من هذه المركبات كان قد وُجِد على سطح الأرض الحديثة التشكل. ولكن في المختبر، كانت التفاعلات التي غذتها مثل هذه الجزيئات بالطاقة غير فعالة في أحسن أحوالها، كما لم تكن ناجحة البتة في معظم الأحوال.
في ربيع عام 2009، وفي عمل ولّد إثارة كبيرة بين العاملين في هذا المجال من الأبحاث، أعلن <J.سذرلاند> ومساعدوه [من جامعة مانشستر في إنكلترا] أنهم وجدوا طريقة أكثر مصداقية توضح كيفية تشكل النيوكليوتيدات، وهذه الطريقة تتجاوز موضوع عدم استقرار
بدائل لنظرية «الرنا أولا»(******) PNA أولا: إن پپتيد الحمض النووي (پنا) (10)PNA هو جزيء ترتبط فيه أسس نووية بهيكل أساسي شبيه بالپروتين. وبسبب كون پپتيد الپنا PNA أبسط وأكثر ثباتا كيميائيا من الرناRNA، يعتقد بعض الباحثين أنه قد يكون الپوليمير الجيني لأشكال الحياة الأولى على الارض. الأيض أولا: إن الصعوبات في شرح الكيفية التي تشكل فيها الرنا ابتداءً من مادة غير حية قادت بعض الباحثين إلى التنظير بأن الحياة نشأت في البداية كشبكات من محفزات تعالج الطاقة. پانسپيرميا Panspermia: نظرا إلى أن عددا قليلا من مئات ملايين السنين تفصل تشكل الأرض عن ظهور أول أشكال الحياة عليها، فقد اقترح بعض العلماء أن المتعضيات الأولى على سطح الأرض قد كانت زائرة أتت من عوالم أخرى. |
سكر الريبوز. لقد تخلى هؤلاء الكيميائيون المبدعون عن التقليد المتبع في محاولة تصنيع النيوكليوتيدات بربط أساس نووي وسكر وفوسفات بعضها ببعض. تعتمد مقاربتهم على المواد الابتدائية البسيطة نفسها التي وُظّفت سابقا، مثل مشتقات السيانيد والأسيتيلين والفورمالدهايد. ولكن بدلا من تشكيل الأسس النووية وسكر الريبوز بشكل منفصل ومن ثم محاولة ربطهما معا، مزج فريق البحث المكونات الابتدائية مع بعضها بعضا، بوجود الفوسفات. أنتجت سلسلة معقدة من التفاعلات – أدى فيها الفوسفات دور حفّاز أساسيا في العديد من خطواتها – جزيئا صغيرا يدعى «2- أمينو أوكزازول» 2-aminooxazole، والذي يمكن اعتباره جزءا من سكر مرتبط بقطعة من أساس نووي [انظر المؤطر السابق].
إن سمة حاسمة من صفات هذا الجزيء الصغير والمستقر هي أنه شديد التطاير volatile. ومن المحتمل أن كميات صغيرة من «2- أمينو أوكزازول» تشكلت مع مزيج من كيماويات أخرى في بركة صغيرة على سطح الأرض الحديثة التشكل؛ وعندما تبخر الماء، تطايرت جزيئات «2- أمينو أوكزازول» لتتكثف في مكان آخر بشكل منقّى. وهناك في ذلك المكان ستتجمع لتشكل خزانا من هذه المادة، جاهزة للدخول في تفاعلات كيميائية إضافية تؤدي إلى تشكل سكر مكتمل وأساس نووي مرتبطين معا.
هناك وجه آخر مهم ومرضٍ لهذه السلسلة من التفاعلات، وهو أنّ بعضا من النواتج الثانوية التي تنشأ في مرحلة مبكرة تسهل التحولات التي تطرأ على العملية في المراحل المتأخرة منها. ومع أن المسار أنيق، إلا أنه في بعض الحالات لا يولد حصريا الشكل «الصحيح» من النيوكليوتيدات: ففي بعض الحالات لا يعطي ارتباط السكر بالأساس النووي التركيب الحيّزي spatialالمناسب. ولكن من المدهش، أن التعرض للأشعة فوق البنفسجية – وقد كانت إشعاعات فوق بنفسجية شديدة تسقط من الشمس على المياه الضحلة المتشكلة على سطح الأرض الحديثة التشكل – يخرب الأشكال «غير الصحيحة» من النيوكليوتيدات ويبقي على الأشكال «الصحيحة». والنتيجة النهائية هي طريق نظيف بصورة فائقة لتشكيل نيوكليوتيدات السيتوزين C واليوراسيل U. وبالطبع، نحن ما زلنا بحاجة إلى طريق من أجل تشكيل الگوانين G والأدينينA، وهكذا تبقى أمامنا بعض التحديات. ولكن، ما يقوم به فريق <سذرلاند> البحثي هو خطوة أساسية باتجاه توضيح الكيفية التي أمكن من خلالها لجزيء بتعقيد الرنا أن يتكون على الكرة الأرضية الحديثة التشكل.
[من الجزيئات إلى المتعضيات] على الطريق إلى الحياة(*******) بعد أن خلقت التفاعلات الكيميائية أولى وحدات البناء الجينية والجزيئات العضوية الأخرى، قامت عمليات جيوفيزيائية بجلبها إلى بيئات جديدة وقامت بتكثيفها (بتركيزها). وتجمعت هذه الكيماويات معطية جزيئات معقدة تلاها تشكيل خلايا بدائية. ومنذ نحو 3.7 بليون سنة قد تكون الجيوفيزياء هي أيضا التي دفعت هذه الخلايا الأولية إلى التكاثر. مناطق تكاثر الرنا في المحاليل المائية، كانت لدى النيوكليوتيدات، التي تشكلت ضمنها، فرصة قليلة لتنضم مُشكِلةً جدائل طويلة قادرة على تخزين المعلومات الجينية. ولكن تحت الشروط الصحيحة – فمثلا، إذا جلبتها قوى الالتصاق الجزيئية بالقرب من بعضها بين طبقتين ميكرويتين من الغضار (الصورة أعلاه) – فإنه يمكن للنيوكليوتيدات أن تنضم إلى بعضها مشكلة جدائل منفردة شبيهة بالرنا الذي نعرفه اليوم. التكاثر بالمساعدة بمجرد تحررها من الغضار، قد تغدو الپوليميرات الحديثة التشكل محاطة بأكياس مملوءة بالماء حيث تصطف الأحماض الدهنية تلقائيا لتشكل أغشيةً. وفي الغالب، احتاجت الخلايا الأولية تلك إلى بعض التحفيز الخارجي لكي تبدأ بمضاعفة مادتها الجينية، ومن ثَمّ البدء بالتكاثر. وفي واحدٍ من السيناريوهات المحتملة (في اليسار) دارت هذه الخلايا الأولية بين الأنحاء الباردة والساخنة لبركة ما، والتي قد تكون متجمدة جزئيا على أحد جوانبها (كانت الأرض الحديثة التشكل في غالبها باردة) وذائبة على جانبها الآخر بفعل حرارة بركان. وعلى الجهة الباردة من البركة، أدت جدائل منفردة من الرنا (1) دور مرصافات شكلت عليها النيوكليوتيدات الجديدة أزواجا قاعديةً (حيث شكلت الأسس As أزواجا مع الأسس Us، وكذلك Cs مع Gs) مما نتج منه جدائل مزدوجة (2). والحرارة، على الجهة الحارة من برْكة الماء، ستؤدي إلى فصل الجدائل المزدوجة عن بعضها بعضا (3). ويمكن للأغشية أيضا أن تنمو ببطء (4) إلى أن تنقسم الخلايا الأولية إلى خلايا أولية «بنات» للخلايا الأصلية (5)، والتي سيكون بإمكانها بدء هذه الدورة من جديد. بمجرد انطلاق دورات التكاثر، أقلعت آلة التطور – تقودها طفرات عشوائية – وفي نقطة ما من العملية حصلت الخلايا الأولية على القدرة الذاتية على التكاثر. وولدت الحياة. |
قارورة صغيرة دافئة(********)
وبمجرد أن تتشكل لدينا النيوكليوتيدات، فإن الخطوة الأخيرة في عملية تشكل الرنا هي البلمرة polymerization: حيث يشكل السكر في أحد النيوكليوتيدات رابطة مع مجموعة الفوسفات في النيوكليوتيد الذي يليه بحيث تشكل النيوكليوتيدات سلسلة متصلة. مرة ثانية، لا يمكن تشكل مثل هذه الروابط تلقائيا في الماء، وهي، بدلا من ذلك، تحتاج إلى بعض الطاقة الخارجية. ومن خلال إضافة كيماويات متنوعة إلى محلول يضم أشكالا فعالة كيميائيا من النيوكليوتيدات، تمكن الباحثون من إنتاج سلاسل قصيرة من الرنا، يتراوح طولها بين 2 و 40 نيوكليوتيد. وفي أواخر تسعينات القرن العشرين بَيَّنَ <J.فيريس> ومساعدوه [من معهد رينسلير للتقانات المتعددة] أن المعادن الغضارية(11) تعزز من هذه العملية، مؤدية إلى إنتاج سلاسل من الرنا تصل حتى 50 من النيوكليوتيدات أو ما يقاربها (علما بأن جينا نموذجيا في عصرنا الحالي يبلغ طوله ما بين آلاف وملايين النيوكليوتيدات). إن المقدرة المتأصلة في المعادن الغضارية على الارتباط بالنيوكليوتيدات تمكّنها من وضع جزيئات نشطة كيميائيا قرابة بعضها بعضا، مما يمكّن بالتالي من تشكيل الروابط الكيميائية فيما بينها [انظر المؤطر السابق].
لقد عزز هذا الاكتشاف الاقتراح الذي تقدم به بعض الباحثين بأن الحياة يمكن أن تكون قد بدأت على سطوح معدنية، وغالبا في الطين الغني بالغضار في أسفل أحواض الماء التي شكلتها الينابيع الحارة(12).
تصميم دعامة على شكل قرص العسل (الأزرق) توجه انتظام خلايا قلب جرذ، حيث لونت أليافها القابضة بالأخضر. تقوم عضلة القلب البشري بالانقباض والانبساط 300 مليون مرة خلال متوسط عمر الإنسان دون كلل أو تعب. وقد صمم كل من <L.فريد> و<G.أنغلماير> [وكلاهما من مؤسسة ماساشوسيتس للتقانة] دعامة خاصة تمكن من الحصول على المرونة الشبيهة بالمرونة الطبيعية في سعيهما لنسخ التلقين الميكانيكي المعزز للقدرة على الانقباض. وقد استعملا أشعة الليزر لإحداث ثقوب قرص العسل في مادة من المطاط البيولوجي، وهو مادة مرنة طورها <Y.وانغ> و <R.لانكر>. |
[من عالم الرنا إلى البكتيريا] رحلة إلى الخلية الحديثة(*********) بعد بدء الحياة، دفع التنافس بين أشكال الحياة باتجاه استمرار ظهور متعضيات أكثر تعقيدا. وقد لا نعرف أبدا التفاصيل الدقيقة لعملية التطور التي حدثت بعد بداية الحياة، ولكن إليكم تسلسلا معقولا لبعض الأحداث الأساسية التي قادت من الخلايا الأولية(13)protocells الأولى إلى الخلايا التي تعتمد الدنا كالبكتيريا. (1) التطور يبدأ: الخلية الأولية الأولى هي عبارة عن كيس من الماء ورنا ويحتاج إلى محفز خارجي (كأن تكون هناك دورات من الدفء والبرودة) من أجل التكاثر. ولكنها بعد فترة قصيرة ستكتسب صفات جديدة. (2) تحفيز رنوي: ظهور الإنزيمات الريبية (ريبوزيمات) ribozymes – وهي جزيئات رنا مثنيّة مشابهة للإنزيمات ذات الأساس الپروتيني – وتَوَليها مهام مثل تسريع التكاثر وتقوية الغشاء الخلوي. ونتيجة لذلك، تبدأ الخلايا بالتكاثر اعتمادا على ذاتها. (3) الأيض يبدأ: تحفز إنزيمات ريبية أخرى عملية الأيض – وهي سلسلة من التفاعلات الكيميائية تمَكِّن الخلايا الأولية من التزود بالمغذيات من البيئة. (4) ظهور الپروتينات: تبدأ أنظمة معقدة من محفزات الرنا بترجمة خيوط من أحرف الرناRNA (جينات) إلى سلاسل من الأحماض الأمينية (پروتينات). وتثبت الپروتينات لاحقا أنها محفزات أكثر فاعلية وقادرة على تنفيذ مهام متنوعة. (5) استيلاء الپروتينات: تتولى الپروتينات مهام واسعة داخل الخلية. وتدريجيا تحل محفزات ذات أساس پروتيني، أو الإنزيمات، محل معظم الإنزيمات الريبية. (6) ولادة الدنا: تبدأ إنزيمات أخرى بصناعة الدنا. وبفضل ثباتيته المتفوقة، يتولى الدنا دور الجزيء الجيني الأساسي. وتصبح الآن المهمة الرئيسية للرنا هي أن يقوم الرنا بدور جسر بين الدنا والپروتينات. (7) عالم البكتيريا: متعضيات شبيهة بالبكتيريا الحديثة، تتكيف للعيش عمليا في أي مكان على الأرض، وتسيطر من دون أي منازع لبلايين السنين، إلى أن يبدأ بعضها بالتطور إلى متعضيات أكثر تعقيدا. |
ومن المؤكد أن اكتشاف الطريقة التي نشأت فيها الپوليميرات الجينية لأول مرة لن يحلّ مشكلة أصل الحياة. ولكي تكون المتعضيات حية يجب أن تكون قادرة على المضي في التكاثر، وهي عملية تتضمن نسخ المعلومات الجينية. ففي الخلية المعاصرة تقوم الإنزيمات، وهي جزيئات ذات طبيعة پروتينية، بوظيفة النسخ هذه.
ولكن يمكن للپوليميرات الجينية إذا قُدّر لها أن تُصْنع من التسلسلات النيوكليوتيدية الصحيحة، أن تنثني على بعضها لتأخذ أشكالا معقدة ويمكن لها أن تحفز تفاعلات كيميائية، تماما كما تفعل الإنزيمات المعروفة في عصرنا الحالي. لذلك، يبدو معقولا أنه كان بإمكان الرنا الذي وجد في أولى المتعضيات التحكم في تضاعفه الذاتي. وقد ألهمت هذه الفكرة تجارب عدة في كل من مختبرنا ومختبر <D.بارتيل> في المعهد MIT، حيث «طورنا» في هذه التجارب إنزيمات ريبية جديدة.
لقد بدأنا بتريليونات من تسلسلات رنوية عشوائية. ومن ثم، اخترنا منها التسلسلات التي امتلكت خصائص تحفيزية، وصنعنا نسخا منها. وفي كل جولة نسْخ رنا أُخْضِعت بعض جدائل الرنا الجديدة إلى طفرات حولتها إلى محفزات أكثر فاعلية، ومرة أخرى اخترنا تلك التي امتلكت الفعالية التحفيزية الأعلى من أجل إخضاعها للجولة الثانية من النسخ. وقد تمكنا عن طريق هذا التطور الموَجَّه من إنتاج إنزيمات ريبية يمكنها تحفيز نسخ جدائل قصيرة نسبيا من جزيئات رنا أخرى، مع أن هذه الإنزيمات الريبية لم تكن قادرة على نسخ پوليميرات بالاعتماد على تسلسلاتها النيوكليوتيدية بحيث تعطي تسلسلات رنا وليدة.
مؤخرا، حصل مبدأ التضاعف الذاتي للرنا على دعم من <T.لينكولن> و <G.جويس> [من معهد سكريپس للأبحاث] حيث قاما بتطوير اثنين من إنزيمات الرنا الريبية، يمكن لكل منهما أن يصنع نسخا من الآخر وذلك عن طريق وصل جديلتي رنا أقصر إحداهما مع الأخرى. ولسوء الحظ، تطلب نجاح هذه التجارب توفر قطع رنا كانت موجودة أساسا، وهي أطول وأكثر تعقيدا من أن تكون قد تشكلت تلقائيا. ومع ذلك، فإن النتائج توحي أن الرنا يمتلك القدرة التحفيزية الصرْفة التي تمكنه من تحفيز تضاعفه الذاتي.
معضلة بناء متعضية من مواد غير حية(**********) يتطلع العلماء الذين يدرسون نشوء الحياة إلى بناء متعضية ذاتية التضاعف وذلك انطلاقا من مواد غير حية تماما. والتحدي الأكبر في هذا المضمار هو إيجاد جزيء جيني genetic molecule قادر على التضاعف الذاتي تلقائيا. ويقوم المؤلفان والمتعاونون معهما بتصميم وتركيب صيغ معدلة من الرنا والدنا بحثا عن هذه الخاصية المحيرة. وربما لا يكون الرنا بذاته هو الحل: فضفائره المضاعفة لا تنفصل بسهولة لتصير جاهزة للتنسخ (للتضاعف)، إلا إذا كانت قصيرة جدا. |
هل هناك بديل أبسط؟ نستكشف الآن مع آخرين طرقا كيميائية لنسخ جزيئات جينية من دون مساعدة المحفزات. ففي تجارب حديثة، بدأنا باستخدام «مرصاف» template من جدائل مفردة من الدنا؛ (استخدمنا الدنا لأنه أقل تكلفة وأسهل في العمل، ولكن كان بإمكاننا استخدام الرنا بالفاعلية نفسها أيضا). لقد مزجنا المرصافات بمحلول يحوي نيوكليوتيدات معزولة، وذلك لنرى إن كانت النيوكليوتيدات سترتبط بالمرصاف وذلك من خلال مزاوجة أسس متممة(14) بعضها ببعض (A ترتبط بـ T و C ترتبط بـ G)، وبعد ذلك تتبلمر معطية بذلك جديلة مضاعفة كاملة. وسيكون ذلك الخطوة الأولى باتجاه التضاعف الكامل: بمجرد تشكل جديلة مضاعفة، فإن انفصال هذه الجدائل عن بعضها سيسمح لكل جديلة متممة أن تقوم بدور المرصاف من أجل نسخ الجديلة الأصلية. وهذه العملية هي بطيئة جدا في حالة الدنا والرنا النموذجيين. ولكن إجراء تغييرات طفيفة على البنية الكيميائية لمكون السكر في النيوكليوتيد – استبدال زوج واحد من الأكسجين/ هيدروجين بمجموعة أمينو (مكونة من نتروجين وهدروجين) – جعل عملية الپلمرة أسرع بمئات المرات، بحيث تشكلت الجدائل المتممة خلال ساعاتٍ بدلا من أسابيع. وسلك الپوليمير الجديد مسلكا شبيها بالرنا النموذجي وذلك على الرغم من احتوائه على روابط بين النتروجين والفوسفور بدلا من روابط الأكسجين والفوسفور العادية.
قضايا حدودية(***********)
إذا افترضنا للحظة بأنه سيجري في يوم ما ملء الثغرات الموجودة في فهمنا لكيمياء أصل الحياة، فإنه يمكن لنا البدء بالتفكير في الكيفية التي أمكن فيها للجزيئات أن تتفاعل فيما بينها بحيث تجمعت لتأخذ بنىً شبيهة بالخلايا أو ما يعرف بـ «الخلايا الأولية».
إن الأغشية التي تحيط بجميع الخلايا الحديثة تتكون أساسا من طبقة مزدوجة من الليپيدات: غطاء مضاعف من جزيئات زيتية كالفوسفوليپيدات والكوليستيرول. وتحافظ الأغشية على مكونات الخلايا مجتمعة مع بعضها في حيز فراغي واحد، كما أنها تشكل حاجزا أمام المرور غير المنضبط للجزيئات الضخمة. وتتصرف پروتينات معقدة التركيب منغرسة في هذه الأغشية كحراس بوابات، كما تقوم بضخ الجزيئات من وإلى الخلية، في حين تساعد پروتينات أخرى على بناء وإصلاح الغشاء الخلوي. ولكن، كيف يمكن لخلية أولية غير متطورة، تفتقر إلى الآليات الپروتينية، أن تقوم بهذه المهام؟
وعلى الأغلب، فإن الأغشية المخاطية كانت قد صنعت من جزيئات أبسط، كالأحماض الدسمة (وهي أحد مكونات الفوسفوليپيدات الأكثر تعقيدا). وقد بينت دراسات أجريت في أواخر السبعينات أنه بإمكان الأغشية الخلوية بالفعل أن تتجمع تلقائيا ابتداءً من أحماض دسمة صرْفة، ولكن الشعور العام كان أن هذه الأغشية قد تشكل حاجزا صعبا أمام عبور النيوكليوتيدات والمغذيات الأخرى المعقدة التركيب إلى داخل الخلية. وقد أوحت هذه الفكرة أنه من أجل أن تتمكن الخلايا من تصنيع النيوكليوتيدات الخاصة بها كان لا بد من تطور الأيض (الاستقلاب) الخلوي أولا. ولكن، أظهر عمل نُفِّذ في مختبرنا أنه في الحقيقة يمكن لجزيئات بضخامة النيوكليوتيدات أن تنسل عبر الغشاء الخلوي شريطة أن يكون كل من الأغشية والنيوكليوتيدات ذات أشكال أبسط وأكثر بدائية من نظائرها الموجودة حاليا.
لقد أتاح لنا هذا الاكتشاف إجراء تجربة بسيطة تنمذج مقدرة الخلايا البدائية على نسخ المعلومات الجينية باستخدام مكونات غذائية ذات مصدر بيئي. وقمنا بتحضير حـويصلات غشائيـة membrane vesicles أساسها الأحماض الدسمة وتحتوي بداخلها على قطعة قصيرة من الدنا الوحيد الجديلة. وكما في السابق، يقوم الدنا هنا بدور مرصاف من أجل إنشاء جديلة جديدة متممة. وبعد ذلك، قمنا بتعريض هذه الحويصلات لأشكال فعالة كيميائيا من النيوكليوتيدات. وقد عبرت النيوكليوتيدات الغشاء تلقائيا، وما أن أصبحت داخل ما يمثل الخلية الأولية (الحويصلة) حتى انتظمت على جديلة الدنا الموجودة داخل الخلية وتفاعلت كل واحدة منها مع الأخرى مشكِّلة جديلة جديدة متممة. وتدعم هذه التجربة فكرة أن الخلايا الأولية الأولى احتوت الرنا (أو على شبيه له) ولا شيء آخر غيره، وأنها كانت تضاعف (تنسخ) مادتها الجينية من دون وجود لأية إنزيمات.
ليكن هناك انقسام(************)
حتى تتمكن الخلايا الأولية من التكاثر، عليها أن تكون قادرة على النمو وأن تضاعف محتواها الجيني، ومن ثم تنقسم إلى خلايا بناتٍ للخلية الأم المتساوية في الحجم. وقد أظهرت التجارب أن الحويصلات البدائية يمكنها النمو على الأقل بطريقتين مميزتين. وفي إطار عمل رائد أجري في التسعينات، قام <L.P.لويزي> وزملاؤه [من المعهد الفيدرالي السويسري للتقانة في زيورخ] بإضافة أحماض دهنية جديدة إلى الماء المحيط بهذه الحويصلات. وقد استجابت أغشية الحويصلات بالسماح بدخول هذه الأحماض الدهنية عبر أغشيتها، ونمت مساحتها السطحية نتيجة لذلك. ومع استمرار الدخول البطيء للماء والمواد المنحلة فيه إلى داخل الخلايا ازداد أيضا حجمها.
وفي مقاربة ثانية، جرى استكشافها في مختبرنا من قبل طالبة الدراسات العليا حينذاك <I.تشين>، تضمنت التنافس بين خلايا أولية؛ حيث أصبحت خلايا أولية نموذجية منتفخة نتيجة ملئها بالرنا أو بمادة شبيهة، وهو تأثير حلولي osmotic ناتج من محاولة جزيئات الماء دخول الخلايا ومعادلة تركيزها داخل وخارج هذه الخلايا. وبذلك, فإن غشاء مثل هذه الحويصلات المنتفخة تعرّض لتوتر، وهذا التوتر أدى إلى النمو، وذلك لأن إضافة جزيئات جديدة تُهدئ من التوتر الحاصل على الأغشية، مخفضة بذلك طاقة المنظومة. في الحقيقة، إن الحويصلات المنتفخة نمت عن طريق سرقة الأحماض الدهنية من الحويصلات المسترخية المجاورة، والتي انكمشت نتيجة لذلك.
في عام 2008، لاحظ <T.زهو> [وهو طالب دراسات عليا في مختبرنا] نمو خلايا أولية نموذجية إثر تغذيتها بأحماض دهنية أضيفت حديثا. ولدهشتنا، فإن الحويصلات التي كانت أساسا كروية الشكل لم تنمُ بحيث صارت أكبر حجما؛ وإنما قامت، بدلا من ذلك، بمد استطالات رفيعة استمرت بالنمو طولا وازدادت ثخانتها، محولة الحويصلة برمتها تدريجيا إلى أنبوب طويل ورفيع. وقد كانت هذه البنية حساسة، بحيث إن اهتزازا خفيفا (كذلك الذي يمكن أن يحدث عندما تولّد ريح خفيفة موجات على سطح بركة ماء) تسبب في تفتت الحويصلة إلى عدد من الخلايا البنات البدائية الصغيرة الحجم والكروية الشكل، والتي نمت بدورها لتصبح أضخم وتعيد تكرار الدورة السابقة نفسها [انظر الصورة الميكروية سابقا].
إذن، عند توفر قوالب البناء المناسبة، فإن تشكل الخلايا الأولية لا يبدو أمرا صعبا: فالأغشية تتشكل ذاتيا والپوليميرات الجينية تتشكل ذاتيا أيضا، ويمكن جمع هذين المكونين معا بطرائق متنوعة، مثلا، كأن تتشكل الأغشية حول پوليميرات موجودة أصلا. كذلك، فإن هذه الأكياس من الماء والرنا ستنمو أيضا، وتمتص جزيئات جديدة، وتتنافس على الغذاء، وتنقسم. ولكنها، من أجل أن تغدو حيةً فإنها ستحتاج أيضا إلى أن تتكاثر وتتطور. وعلى الأخص، فإنها تحتاج إلى فصل جديلتي الرنا الموجودتين في داخلها إحداهما عن الأخرى بحيث تتمكن كل جديلة منفردةً من أداء دور مرصاف لتشكيل جديلة جديدة يمكن توريثها إلى خلية ابنة للخلية الأم.
لا يمكن أن تكون هذه العملية قد بدأت من تلقائها، ولكن يمكن أن تكون قد جرت بقليل من المساعدة. تخيل، مثلا، منطقة بركانية على سطح الأرض الحديثة التشكل الذي تعُمُّه البرودة (في ذلك الوقت، كانت قوة الشمس الإشعاعية على سطح الأرض تعادل 70% من قوتها الإشعاعية الحالية). لقد كان من الممكن حينذاك وجود برك صغيرة من الماء البارد، وربما المغطى جزئيا بالجليد وبقي معظمه في شكله السائل بتأثير تماسه مع الصخور الساخنة. والفروقات الحرارية ستتسبب في تشكيل تيارات حمل حراري، بحيث إنه بين الحين والآخر ستتعرض الخلايا الأولية الموجودة في الماء إلى دفقة من الحرارة أثناء مرورها بالقرب من الصخور الحارة، ولكنها ستعود وتبرد لحظيا مرة أخرى نتيجة لاختلاط الماء الساخن بالكتلة الأكبر من الماء البارد. كما أن التسخين المفاجئ سيتسبب في انفصال الحلزون المزدوج إلى جديلتين منفردتين. ولدى عودتها إلى المنطقة الباردة، ونتيجة لقيام الجدائل المنفردة بدور مرصافات يمكن أن تتشكل جدائل مزدوجة جديدة – هي نسخ من الجدائل الأصلية [انظر المؤطر في الأعلي].
وما أن دفعت البيئة الخلايا الأولية نحو التكاثر، انطلق التطور. وعلى الأخص، حدثت في لحظة ما طفرات على بعض تسلسلات الرنا، محولة إياها إلى إنزيمات ريبية سرّعت عملية نسخ الرنا مضيفة بذلك ميزة تنافسية. مما أدى في النهاية إلى بدء الإنزيمات الريبية بنسخ الرنا من دون الحاجة إلى أي مساعدة خارجية.
ومن السهل نسبيا تخيل الكيفية التي تطورت من خلالها خلايا أولية أساسها الرنا [انظر المؤطر في الأعلي]. يمكن أن يكون الأيض قد نشأ تدريجيا، مع تمكين الإنزيمات الريبية للخلايا من تصنيع المواد المغذية داخليا ابتداءً من مواد أولية أبسط وأكثر وفرةً. وبعد ذلك، يمكن أن تكون المتعضيات قد أضافت صناعة الپروتين إلى جعبة الخدع الكيميائية التي تمتلكها.
ونتيجة لمقدراتها المدهشة؛ فلابد أن الپروتينات كانت قد استولت على دور الرنا في المساعدة على النسخ الجيني والأيض. وفيما بعد، «تعلمت» المتعضيات كيفية صناعة الدنا مكتسبة بذلك ميزة امتلاك حامل للمعلومات الجينية أكثر صلابة وقوة. في تلك اللحظة، أصبح عالمُ الرنا عالما للدنا، وبدأت معه الحياة كما نعرفها الآن.
المؤلفان
Jack W. Szostak – Alonso Ricardo | ||
<ريكاردو> ولد في كولومبيا، وهو باحث زميل في معهد هاوارد هيوز الطبي بجامعة هارڤرد. لديه اهتمام كبير بأصل الحياة وهو يدرس الآن الأنظمة الكيميائية الذاتية التضاعف.
<زوستاك> هو أستاذ علم الوراثة في جامعة هارڤرد. واهتمامه بالإنشاء المختبري للبنى البيولوجية كوسيلة لاختبار فهمنا حول كيف تعمل عمل البيولوجيا، يعود إلى إنشاء الكروموسومات الصنعية، التي كان قد وصفها في العدد 11/1987 من مجلة ساينتفيك أمريكان. |
مراجع للاستزادة
Synthesizing Life. Jack Szostak , David P. Bartel and P. Luigi Luisi in Nature, Vol. 409. pages 387-390;January 2001.
Genesis: The Scientific Quest for Life’s Origins. Robert M. Hazen. Joseph Henry. 2005.
The RNA World. Edited by Raymond F. Gesteland, Thomas R. Cech and John F. Atkins. Third edition. Cold Spring Harbor Laboratory Press. 2006.
A Simpler Origin for Life. Robert shapiro in Scientific American , Vol.296, No.6, pages 24-31 ; June 2007.
Peter Nielsen in scientific American, Vol 299, No 6. Pages 36- 43. December 2008.
Exploring life’s Origins. Multimedia project at the Museum of Science. http://exploringarigins.org
(*)ORIGIN OF Life on Earth
(**)Got to start Somewhere
(***)First Genetic Molecules
(****)What is Life?
(*****)Some Assembly Required
(******)Alternatives To «RNA FIRST»
(*******)On The Way To Life
(********)Some Warm, Little Vial
(*********)Journey to the Modern Cell
(**********)Life, Redux
(***********)Boundary Issues
(************)Let There Be Division
(1) organisms
(2) the genetic molecule RNA
(3) self-replicating artificial organisms
(4) the amino acids
(5) ج: ريبوزيم ribozyme: شدفة رنا لها القدرة الذاتية على الانكسار من الجزيء الكبير وتكوين روابط مشتركة عند نهايتيها لتكوين حلقة.
(6) catalytic work
(7) a primordial RNA world
(8)لدائن؛ أي صفوف من جزيئات أصغر. (التحرير)
(9) هي مادة معدنية منشؤها الرئيسي نيزكي ومكونة من فوسفيد الحديد والنيكل [Fe,Ni)3P)]. (التحرير)
(10) Peptide nucleic acid
(11) clay minerals
(12) انظر: «Life’s Rocky Start,» by Robert M. Hazen;Scientific American, April 2001
(13) أو بادئات الخلايا، أو الخلايا البدائية. (التحرير)
(14) complementary base pairing