تصوير اللامرئي
فوتوغرافيّا بأربعة أبعاد(*)تخيَّلْ فيلما يُظهر العمليّاتِ الحيويةَ داخل خليَّة أو يَعْرِض
آلة نانويةَ القياس في أثناء عملها. ميكروسكوپيةٌ(1)
جديدةٌ تجعل مثل هذا التصوير أمرا ممكنا.
<أحمد زويل>
مفاهيم مفتاحية
ميكروسكوپية (مجهرية)(1) إلكترونية رباعيةُ الأبعاد تَصنع «أفلاما» من عمليات تَحْدُث، على مستوى نانويِّ القياس، في غضون أزمنة متلاشية القِصـَر لا تتجـاوز الفمتوثـوانِ10-15 من الثانية.
تصوغ هذه التقنيةُ كلَّ صورة من الفيلم من آلاف اللقطات الإفرادية التي تؤخَذ في أوقات محدَّدة متناهية الضَّبط.
لهذه التقنية تطبيقات واسعة في مجالات عدة، تشمل علمَ المواد والتقانة النانوية والطب.
محررو ساينتفيك أمريكان
من خصائص العين البشرية أنها محـدودة في درجـة إبصارها؛ فنحـن لا نستطيع أن نرى أشياءً أدقَّ بكثير من الشَّعرة (جزء من المليمتر)، أو أن نستبين حركات أسرعَ من طرفة العين (عُشْر من الثانية). ولا شك في أن التطوُّرَ العلميَّ في ميدان البصريّات والأبحاث الميكروسكوپية على مدى الألفية الماضية قد أتاح لنا النفاذَ إلى ما وراء حدود قدرة العين المجرَّدة على الرؤية، لنعاين صُوَرا بديعة حقّا، من مثل مخطط ميكروي micrograph لڤيروس، أو صورة ستروبوسكوپية (مخيالية)(2) stroboscopicphotograph لطلقة وهي تخترق – بفاصل زمنيّ من رتبة الملّيثانية – مصباحا كهربائيّا. على أننا لو عُرِضَ علينا، حتى عهد قريب، فيلم يصوِّر ذرّات تتواثب، لما خامَرَنا شك في أننا نعاين مشهدا من الرسوم المتحرِّكة، أو نسجا من خيال فنّان مبدع، أو نوعا من المحاكاة المصطنَعة.
وفي غضون السنوات العشر الماضية، استحدثتُ وفريق البحث الذي يعمل معي في معهد كاليفورنيا للتقانة طريقة جديدة للتصوير تكشف عن حركات تَحْدُث على مستوى الذرّات، وفي غضون أزمنة متناهية القصر لا تتجاوزالفمتوثانيةfemtosecond (هي جـزء من مليـون بليون، أي 10-15، من الثانية). وإذ تُمَكّـِنُ هـذه التقنيةُ من التصوير في المكان والزمان في آن معا، وتقوم على استعمال الميكروسكوپ (المجهر) الإلكتروني electronmicroscope، فقد أطلقتُ عليها اسم الميكروسكوپية الإلكترونية الرُّباعية الأبعاد four-dimensional(4-D)electron microscopy، واستعملناها لتمثيل ظـواهر كاهتـزازِ كوابيل(3)cantilevers لا يتجاوز عرضُها بضعَ واحدات من بليون جزء من المتر، وكحركةِ ألواح ذرّات الكربون في الگرافيت وهي تهتزُّ اهتزازَ الطبل لدى «نقرها» بنبضة ليزرية، وكتحوُّلِ المادة من حالة إلى أخرى. وقمنا أيضا بتصوير پروتينات وخلايا فردية مستقلة.
إن مبحث الميكروسكوپية الإلكترونية الرباعية الأبعاد يحمل تباشيرَ تؤْذِن بالإجابة عن تساؤلات في ميادين علمية تقع بين علم المواد وعلم الأحياء: فما السبيل إلى فهم سلوك المواد من بدايته إلى نهايته، من المستوى الذرِّي الدقيق إلى المستوى الماكروسكوپي (العياني) المنظور؛ وكيف تعمل الآلاتُ على المستوى النانوي (NEMS) أو الميكروي (الصِّغري) (MEMS)؛ وكيف تتضامُّ الپروتيناتُ أو مجموعاتُ الجزيئات البيولوجية لتنتظم في بنى أكبر، وهي عملية جوهرية في سياق عمل جميع الخلايا الحيَّة. وبإمكان الميكروسكوپية الرباعية الأبعاد كذلك أن تُظهِر المنظوماتِ الذرِّيَّةَ للبنى النانوية (التي تحدِّد خصائصَ المواد النانوية الجديدة)، وربما تقتفي حركةَ الإلكترونات الطوّافةِ ضمن الذرّات والجزيئات على المقياس الزمني من رتبة آتوثانيةattoseconds (جزء من بليون بليون، أي 10-18، من الثانية). وإلى جانب التقدُّم الكبير الحاصل في العلوم الأساسية، فإن التطبيقات الممكنة واسعة ومتعدِّدة، ومن ضمنها تصميمُ آلات نانوية واستنباط أنواع جديدة من الأدوية.
قطط وذرّات في حالة حركة(**)
مع أن الميكروسكوپية الرباعيةَ الأبعاد هي من أحدث التقنيات التي تعتمد على ليزرات معقَّدة ومفاهيم متقدِّمة في مجال الفيزياء الكمومية، فإن كثيرا من مبادئها يمكن فهمه عن طريق تمثُّل الأسلوب الذي اتَّبعه العلماءُ في تطوير تقنية التصوير الفوتوغرافي بإيقاف الحركةstop-motionphotography منذ أكثر من قرن مضى. وهنا يُذكَر على وجه الخصوص البحث الذي قدَّمه <J-É.ماريه> [الأستاذ في كلية فرنسا Collègede France] في عقد التسعينات من القرن التاسع عشر، عندما درسَ الحركاتِ السريعةَ باستعمال قرص دوّار ذي شقوق طوليَّة وَضَعَه بين الشيء المتحرك واللوحة الفوتوغرافية أو الشريط الفوتوغرافي، فتولَّد من ذلك سلسلة من مقاطع التعرُّض للضوء تشبه ما يجري في تصوير الأفلام السينمائية الحديثة.
ومن بين الدراسات الأخرى ما قام به <ماريه> من استقصاء لما يحدث لِقطةٍ تسقط من علٍ، وكيف أنها تعتدل في أثناء سقوطها من تلقاء نفسها، بحيث تهبط على أطرافها. أنّى للقطة أن تؤدِّي – بالغريزة – هذه الحركةَ البهلوانيةَ البارعة وليس لديها ما تعتمد عليه سوى الهواء، من دون إخلال بقوانين نيوتن في الحركة؟ إن عملية السقوط واضطراب القـوائـم لم تسـتغـرق إلا أقلَّ من ثانية واحدة – أي أسرع بكثير من أن تتمكَّن العينُ المجرَّدةُ من استبانة ما حصل بالضبط. ولكنَّ الصُّوَرَ الفوتوغرافيةَ الخاطفة التي التقطها <ماريه> بطريقة إيقـاف الحركة أعطت الجواب: ذلك أن القطة في حالة السقوط تلوي مقدَّمَها ومؤخَّرَها باتجاهَيْن متعاكسَيْن، مع بسطِ قوائمها وقبضها. وقد أدرك الغوّاصون والراقصون وروّادُ الفضاء هذه الحركة، فهم يتدرَّبون على أداء حركات مماثلة تساعدهم على الدوران.
[آلية العمل]
الميكروسكوپ الإلكتروني الرباعي الأبعاد(***)
يسجِّل الميكروسكوپ الإلكترونيُّ النموذجيُّ صُوَرا ساكنة لعيِّنة نانوسكوپية القياس، وذلك بإطلاق حزمة إلكترونات خلالَ العيِّنة وتركيزها على مكشاف. وباستعمال نبضات وحيدة الإلكترون، يولِّد الميكروسكوپ الإلكترونيُّ الرباعيُّ الأبعاد صُوَرا فيلمية تمثِّل مراحلَ زمنية لا تتجاوز في قِصَرها الفمتوثوانِ (10-15 من الثانية).
تركَّب كلُّ صورة من الفيلم النانوي بتكرارِ هذه العملية آلافَ المرات بالتأخير الزمني نفسِه، ثم ضَمِّ جميع العنصورات من اللقطات الإفرادية. وقد يَستعمِل الباحثون الميكروسكوپ أيضا بكيفيات أخرى، كاستعمال نبضة واحدة بإلكترونات عديدة لكلِّ صورة، وذلك تبعا لنوع الفيلم المراد الحصول عليه. على أن طريقةَ الإلكترون الوحيد تولِّد أدقَّ مَيْز حَيِّزيّ على الإطلاق، وتتلقَّف أقصرَ المساحات الزمنية في كلِّ صورة.
1- تُستثـار العيِّـنـةُ بنبـضـة توقيت – مثل نبضة ليزرية من رتبة الفمتوثانية – لاستهلال انطلاق العملية المطلوبة عند وقت صِفْريّ محدَّد متناهي الضبط.
2- تُطلق نبضة ليزرية مولِّدة للإلكترون بالتزامن مع نبضةِ التوقيت، ولكنها تؤخَّر بقدر متحكَّم فيه.
3- تَخترِق العيِّنةَ نبضة تحتوي على إلكترون وحيد عند وقت (T) غاية في الدقة بعد الوقت صفر.
4- تقوم عدسات مغنطيسية بـ«تركيز» الإلكترون على جهاز اقتران الشحناتcharge-coupleddevice، التي تسجِّله كعنصورة(4) pixleوحيدة تنضمُّ إلى الصورة T من الفيلم النانوي.
كابول بعرض 50 نانومترا، مصنوع من أُشابة (خليط) alloy من النيكل والتيتانيوم، يهتزُّ عقب استثارته بنبضة ليزرية. والمربعات الزرقاء تُبْرِز الحركة. ويُطلِق الفيلمُ الكامل (المتاح على الموقع: ScientificAmerican.com/aug2010/nanomovies) صورة واحدة كلَّ 10 نانوثوان. وقد يكون للخصائص الفيزيائية المستخلصة من هذه الاهتزازات تأثير في تصميم الأجهزة النانوميكانيكية.
واعتمد نهج آخر في التصوير الستروبوسكوپي على إطلاق ومضات ضوئية سريعة لالتقاط أحداث تقع ضمن مساحات زمنية أقصر بكثير مما تتيحه المغاليقُ الميكانيكيةُ لآلات التصوير. فالومضات تجعل الشيء المتحرِّكَ في الظلام مرئيّا لحظيّا للطرف الكاشف، كعين الراصد أو اللوحة الفوتوغرافية. وفي أواسط القرن العشرين كان <لـ.Hإدگرتون> [من المعهد(5) MIT] إسهام كبير في تقدُّم تقنية التصوير الفوتوغرافي الستروبوسكوپي، وذلك بتطوير أجهزة إلكترونية قادرة على توليد ومضات ضوئية موثوقة ومتكرِّرة بفواصل زمنية من رتبة الميكروثانية.
وتجربةُ القطة الساقطة تتطلَّب أن تتاح للمغاليق أو للومضات الستروبوسكوپية أزمنة قصيرة تمكِّن الصُّوَرَ الفوتوغرافية من إظهار الحيوان بوضوح على الرغم من حركته. ولنفترض أن القطة قد اعتدلت بعد نصف ثانية من إطلاقها؛ ففي تلك اللحظة تكون في حالة سقوط بسرعة 5 أمتار في الثانية. ومن ثمَّ لو استعملنا ومضات بفواصل زمنية مقدارها 1ملّيثانية، لكُنّا مطمئنِّين إلى أن سقوط القطة لن يتجاوز مسافةَ5 ملّيمترات في غضون كلِّ تعريض زمني، بحيث لا يتشوَّش جلاءُ صورة القطة إلا شيئا يسيرا بسبب حركتها. ولتقسيم هذه الحركات البهلوانية إلى 10 لقطات خاطفة، يتعيَّن التقاطُ الصُّوَر كلَّ 50 مليثانية.
وإذا ذهبنا نرصد سلوكَ جزيء من المادة بدلا من سلوك قطة، فكم يجب أن تكون سرعةُ ومضاتنا الستروبوسكوپية يا تُرى؟ إن كثيرا من تبدلات البنية الجزيئية أو النسيج المادّي يقتضي تحرُّكَ الذرّات لبضعة أنگسترومات(angstroms1 أنگستروم = 10-10 متر). ورسمُ مثل هذه الحركة يتطلب درجةَ مَيْز مكاني spatialresolution أقل من أنگستروم واحد. ولما كانت الذرّاتُ تتحرَّك في الغالب بسرعات تقارب كيلومترا واحدا في الثانية في حالات التبدُّل هذه، فإن رصدها يحتاج إلى ومضات ستروبوسكوپية لا يزيد أَمَدُها على 10فمتوثانية، مع درجة وضوحdefinition أعلى من0.1 أنگستروم. وقد استعمل الباحثون، منذ زمن يعود إلى ثمانينات القرن الماضي، نبضات ليزرية من رتبة الفمتوثانية لتوقيت العمليات الكيميائية التي تتضمَّن ذرّات تتحرَّك، ولكن من دون تصوير مواضع الذرَّات في الفضاء، علما بأن الطولَ الموجيَّ للضوء أكبرُ مئاتِ المرات من المسافات بين الذرّات في الجزيئات أو المواد [انظر: «ولادة الجزيئات»، مجلة العلوم ، العدد 9 (1992)، ص 60].
وتولِّد الإلكتروناتُ المسرَّعةُacceleratedelectrons صُوَرا ذرِّيةَ المستوى – كما في الميكروسكوپات الإلكترونية – ولكن ذلك يقتصر على الحالة التي تكون فيها الأهدافُ ثابتة في مواضعها ومصوَّرة بفواصل زمنية من رتبة الملّيثانية أو أطول، تبعا لسرعة آلة التصوير. ومن ثمَّ، فإن الأفلام الذرِّية التي سعينا إليها استلزمت درجةَ المَيْز المكاني لميكروسكوپ إلكتروني، ولكن بنبضات إلكترونية من رتبة الفمتوثانية، بغية «إضاءة» الأهداف. تُدعى جيوبُ الإلكتروناتِ المضيئةُ نبضات السَّبْر probepulses.
وثمة مسألة أخرى تتَّصل بتوقيت الحركة – أي تحـديد لحظة بدئهـا؛ إذ لا يمكننا الحصولُ على صُوَر صالحة ذاتِ قيمة إذا جرى التقاطُ نبضاتِ السَّبْر قبل بدء الحركة أو بعد انتهائها. ففي تصوير القطة، يبدأ التسجيلُ لحظةَ تحريرها. وفي حالات التسجيل الفائق السرعةultrafast recording، تتولى نبضة استهلالية من رتبة الفمتوثانية (تسمّى نبضة التوقيت clockingpulse) إطلاقَ المادة أو العملية المراد دراستُها.
[دراسة حالة]
حجر رشيد(6) نانوسكوپي(****)
أظهرت ميكروسكوپية رباعيةُ الأبعاد، لبلورات نانوية من الگرافيت لا يتجاوز سُمكُ بعضِها بضعَ طبقات ذرّية، ثلاثَ طرائق مختلفة للتصوير، وأعطت بيانات عن المادة بـ«لغات» عدَّة. واستقصت الأبحاثُ كيف استجابت البلوراتُ النانويةُ لدى اختراق نبضة ليزرية لها من الأعلى.
تُظهِر صُوَرُ الفيلم بلورةَ الگرافيت النانويةَ وهي تهتزُّ اهتزازَ الطبل، بعد قرعها بنبضة ليزرية. وتبدي الصُّوَرُ مساحة بعرض 24 ميكرونا، بفواصل زمنية تبلغ 250 نانوثانية (أي عند كل خامس صورة من الفيلم). ويُشار إلى أن الالتواء الدقيق الدائم للسطح الگرافيتي يولد الخطوطَ الشريطيةَ الدكناء، التي تتحرك لدى تموُّج السطح. وقد أضيفت مربَّعات حمراء لإرشاد العين. يمكن الاطلاع على الفيلم كاملا في الموقع: ScientificAmerican.com/aug2010/nanomovies
1- أظهرت الأشكالُ الانعراجيةُ حركةَ كلّ من الطبقات الذرِّية للبلورة عند دفعها معا ثم ارتدادها في غضون الپيكوثواني التي تلت اصطدام الليزر في الوقت صفر، وتذبذُبها بعد ذلك نحو الأعلى والأسفل لمئاتِ الپيكوثوانٍ.
2- رَصَدت صُوَرُ البلورة النانوية هذه الذبذباتِ وهي تظهر في مواضع عدة. وعلى مدى عشرات الميكروثوان تحوَّلت حركةُ البلورة – التي كانت في البداية حركة عشوائية مضطربة (أُشيرَ إليها هنا بسهام) – إلى حركة إيقاعية متناسقة لكامل البلورة .
3- أشارت قياساتُ الطاقة المفقودة بفعل تصادُم إلكترونات التصوير وإلكترونات الگرافيت كيف أصبحت روابطُ الكربون في المادة أشبه بروابط الألماس في أثناء انضغاط الطبقات، وأشبه بروابط الگرافين (وهي طبقة معزولة من ذرّات الكربون) في أثناء تمطُّطها.
على أن مسألة التزامن synchronization تبقى ماثلة حتى مع التحكُّم في عمليَّتَي السَّبْر والتوقيت. وهنا ينتفي وجهُ التشابه بين التجربة الفائقة السرعة النموذجية وتجربة القطة. وقد كان بإمكان <ماريه> إتمام تجربته بإسقاط قطة واحدة مرة واحدة، فيما لو سارت الأمورُ وفق الخطة المرسومة؛ فلا ضَيْرَ في أن تبدأ سلسلةُ التعريض الزمني بعد 5 أو10 أو 17 ملّيثانية مثلا من إطلاق الهرَّة. ومع ذلك، فقد تتمكن الميكروسكوپية الفائقةُ السرعة من سَبْر ملايين الذرّات أو الجزيئات لكلِّ نبضة توقيت، أو ربما تُراكِم صُوَرا بتكرار التجربة آلافَ المرات. تصوَّرْ لو أن <ماريه> اقتصرَ على التقاط شريط عموديّ ضيِّق وحيد من حقل الرؤية مع كل عملية سقوط للهرّة، لترتَّبَ عليه – كي يبني السلسلةَ الكاملةَ من اللقطات الخاطفة لحادثة السقوط – تكرارُ التجربة مرات ومرات، والتسجيلُ على امتداد شريط عموديّ مختلف قليلا في كل مرة. ولكي تجتمع الشرائطُ المختلفةُ على نحو منطقي وتؤلِّف صورة تامة ذات معنى، كان <ماريه> بحاجة إلى تهيئة القطة لاتخاذ وضع البدء ذاته عند كل سقوط، ثم إجراء مواءمة تزامنية دقيقة بين تحرير القطة وفتح المغاليق بالطريقة نفسها في كل مرة. (قد تتوقف هذه التقنيةُ على حركة القطة بأسلوب واحد مطَّرد كلَّ مرة. ويساورني شكّ في أن تكون الجزيئاتُ أكثرَ وثوقية من القطط في هذا المساق.)
ولا بدَّ من أن تكون أوضاعُ البدء بالغةَ الدقَّة بالنسبة إلى حجم القطة، كما يجب أن تكون المواءمةُ التزامنيةُ دقيقة، وأقصرَ من الزمن اللازم للمغاليق. وبالمقابل، في حالة التصوير الفائق السرعة للذرّات والجزيئات، يجب تحديد شكل الإطلاق بدرجة مَيْز تصل دقَّتُها إلى ما دون الأنگستروم، وكذلك يتعيَّن أن يكون الضبطُ النسبيُّ للتوقيت ونبضات السبر بالغَ الدقة من رتبة الفمتوثانية. ويتحقَّق ضبطُ نبضاتِ السبر بالنسبة إلى التوقيت عن طريق إطلاق أيّ من هذه النبضات على مسار يكون طولُه قابلا للتعديل. ففي حالة نبضة تنتقل بسرعة الضوء، يكون ضبطُ طول المسار إلى درجة ميكرون واحد من الدقة مقابلا لضبط التوقيت النسبي إلى درجة 3.3 فمتوثانية من الدقة.
بإدماجنا البُعدَ الرابعَ، نحوِّل الصُّوَرَ الساكنةَ إلى أفلام نحتاج إليها في رصد سلوك المادة – من الذرّات إلى الخلايا – وهي تتكشَّف لنا بمرور الزمن.
وكان علينا أن نذلِّل صعوبة أخرى كبيرة وأساسية قبل أن نتمكَّن من صنع أفلام بالإلكترونات. فالإلكترونات، خلافا للفوتونات، جسيمات مشحونة ومتنافرة، إذا حُشِدَ عدد كبير منها في نبضة كان من شأن ذلك أن يُفسِدَ المَيْزَيْن: الزماني والمكاني، لأن تنافُرَ الإلكترونات يفتِّت النبضة. وفي ثمانينات القرن العشرين تمكَّنَ <O.بوستانجوگلو> [من جامعة برلين التقنية] فعلا من استنباط صُوَر باستعمال نبضات تحمل عددا من الإلكترونات لا يتجاوز الـ100مليون، ولكنَّ المَيْز لم يكن أدقَّ من درجة نانوثوان وميكروناتmicrons (ولكنه حقَّقَ فيما بعدُ تحسُّنا ملحوظا ليبلغ مستوى ما دون الميكرون، وذلك على أيدي باحثين من مختبر لورانس ليڤرمور الوطني).
وقد انبريتُ وأعضاء فريقي من الباحثين للتعامل مع هذه الصعوبة عن طريق تطوير تقنية التصوير بإلكترون وحيدsingle-electronimaging، تأسيسا على أعمال أنجزناها سابقا تتعلَّق بانعراج الإلكترونات الفائقة السرعة؛ إذ تحتوي كل نبضةِ سَبْر على إلكترون وحيد، ومن ثمَّ فهي توفِّر «بقعة ضوء دقيقة» واحدة لا غير في الفيلم النهائي. ومن ثمَّ تجتمع البقعُ الضوئيةُ لتؤلِّف صورة للشيء ذات معنى، وذلك بفضل التوقيت الدقيق لكلِّ نبضة، وبفضل خاصية أخرى تُعرَف بتماسُك النبضة. وهناك إنجاز باهر مشابه يُعرَض أحيانا باعتباره من الغرائب المميِّزة لميكانيك الكم: إذ تنتقل الإلكتروناتُ عبر شِقَّيْن، بمرور إلكترون واحد في كل مرة، وتنشأ عن ذلك بقعة دقيقة في موضع غير محدَّد على شاشة كشفdetection screen. ومن ثم تجتمع البقعُ كلُّها لتؤلِّف أشكالا نمطيَّة من الضوء والعتمة، تتميَّز بها الموجاتُ المتداخلة.
أثمرت هذه التقنيةُ صُوَرا لأغشية خلايا بكتيرية وحويصلات(7) پروتينية بدرجة مَيْز من رتبة الفمتوثانية والنانومتر.
وكان التصويرُ بإلكترون وحيد يمثِّل أساسَ الميكروسكوپية الإلكترونية الفائقة السرعة(8) (UEM) والرباعيةِ الأبعاد (4-D)؛ فقد بات بإمكاننا صنعُ أفلام من جزيئات وموادَّ، استجابة لأحوال مختلفة، كاستجابة القطط المذعورة بتلوِّيها في الهواء.
حلُّ غوامض المادة النانوية(*****)
وكان من الأهداف الأولى لمسعانا الگرافيت، وهو المادة «الرصاصية» الموجودة في أقلام الرصاص المتعارَفة. وقد وقعَ اختيارُنا على الگرافيت graphiteلأنه مادة غيرُ اعتيادية، وله تطبيقات في بيئات قاسية كلُبوب(9) المفاعلات النووية، وكذلك لأن له صنوانا تُماثِلُه في تميُّزها. إن الگرافيت يتألف من ذرّات كربون تَنْتَظِم في شكل سداسيّ من صفائح تحاكي الشبكَ السلكي المستعمَل في صنع الأقفاص والأسوِجة. وتتماسك الصفائحُ متكدّسة بواسطة روابط ضعيفة نسبيّا. وتعتمد الكتابةُ بقلم الرصاص المعروف على انفصال قطع من الگرافيت وانتقالها إلى الورق، بحيث يشتمل ما يخطُّه القلمُ على مقادير ضئيلة جدّا من أقسى مادة عرفَها العلم وهي الگرافين graphene، الذي يتألف من صفائح إفرادية معزولة من ذرّات الكربون. ويعكف الباحثون على دراسة مادة الگرافين بهمَّة ونشاط، لِما لها من تطبيقات مختلفة في مجال الإلكترونيات. يضافُ إلى ذلك، أن الگرافيت الليِّن إذا ما أُخضِع لضغط شديد، انتظمت ذرّاتُه من جديد لتكوِّن الألماس، وهو من أشد الموادِّ المعروفة صلابة على الإطلاق.
ولدراسة استجابة الگرافيت للصدمات الميكانيكية، أخذنا بلورات نانوية من المادة – بعضُها لا يتعدّى سُمكُه النانومترات، أو بضع صفائح من الذرّات – وطرقناها بنبضات ليزرية مركَّزة من رتبة الفمتوثانية، أدَّت عملَ نبضاتِ التوقيت للميكروسكوپ الإلكتروني الذي استعملناه. ولوحظَ أن كلَّ نبضة ليزرية قد دَفَعَت طبقاتِ الذرّات الگرافيتية – لحظيّا – لتصبح متراصّة بعضها إلى بعض، مُحدِثة فيها تذبذُبا نحو الأعلى والأسفل [انظر الإطار أعلاه]. وأَرسَل ميكروسكوپنا إلكتروناتهِ خلالَ هذه الطبقاتِ الگرافيتية المتذبذبة ليولِّد نوعَيْن من الصُّوَر: صورة بالحيِّز الحقيقيreal-spaceimage (تشبه كثيرا صورة فوتوغرافية للسطح الگرافيتي)، أو شكلا انعراجيّا يمثِّل مصفوفة منتظمة من النقط تعطي تشكيلتُها الدقيقةُ معلومات عن ترتيب الذرّات وفواصلها في الشبكية الگرافيتية. وقد تمكَّنّا، بوجه خاص، من تتبُّع الطبقات المتذبذبة نحو الأعلى والأسفل عن طريق حركات النقط في الشكل الانعراجي، ووجدنا أن تردُّدات الذبذبات كانت تقع ما بين10 و100 گيگاهرتز (أي1011 – 1010 دورة في الثانية)، علما بأنه لم يسبق أن رَصَدَت تجربةُ تصوير سابقة ترجيعات عاليةَ التردُّد كهذه، تتكشَّف مع الزمن.
واستنادا إلى القياسات التي أجريناها حدَّدنا درجةَ مرونة الگرافيت العمودي على سطوح الذرّات – أي آليةَ استجابة المادة للقوى الضاغطة أو الماطَّة في ذلك الاتجاه. تصوَّرْ أنَّ بلورةَ الگرافيت ركام من الألواح المعدنية الصُّلبة المترابطة بنوابض، وأنَّ النبضةَ الليزريةَ مطرقة ضخمة تضرب اللوحَ الأعلى. وقد قمنا أيضا بقياس خصائص النوابض.
إن القياس على اللوح المعدني قياس منطقيّ ما دامت «آلةُ التصوير» مضبوطة على وضعية القُرب (التكبير)؛ فإذا هي «ابتعدت» (مجازا) بدت بلّورةُ الگرافيت الدقيقة بدرجة أوضح، وباتت المطرقةُ الآن تضرب ناحية واحدة من سطح الصفيحة المعدنية، وصار واضحا أن الصفائح تتعرَّض للانثناء. ويلاحَظ أن الانضغاط والتمطُّط ينتشران اعتبارا من نقطة الصدم على شكل موجات.
وإذا ابتعدنا بآلة التصوير أكثر فأكثر والتقطنا الصُّوَر على نحو أبطأ، ظهرَ لنا نوع آخر من الحركة، فنعاين الآن كيف أنَّ النبضةَ الليزريةَ تحمل كاملَ البلورةِ النانويةِ الدقة على التذبذب (الاهتزاز)، كالطبل يُنقَر بالمقرعة. وقد لاحظنا أن حركة البلورة، في غضون الميكروثوانٍ القليلة الأولى التي تلت نَقْرَ النبضة الليزرية، كانت مضطربة ومشوَّشة، ولكن البلّورة استقرَّت مع مرور الوقت منتظِمة في ذبذبة ترجيعية إيقاعية.
وتكمن الخاصِّيةُ الماديةُ، المسؤولةُ عن إطلاق تردُّد الترجيع (الطنين) في هذه الذبذبات، في مرونة سطوح الگرافيت – أي في مدى استجابتها للتمطط أو الانضغاط في السطح المستوي. وتبيَّنَ لنا أن الگرافيت أكثرُ مقاومة لتغيير شكله في سطوح ذرّات الكربون، منه مقاومة لفصل (مباعدة) تلك السطوح أو دمجها (مقاربتها). ويمكن تفسيرُ النتائج باعتبار أن الروابطَ الكيميائيةَ التي تصل ما بين ذرّات الكربون في كلِّ طبقة سداسية أمتن بكثير من الروابط التي تصل السطوحَ المتجاورةَ بعضَها ببعض.
ومع أن الدراسات التي تُجرى على عيِّنات كبيرة من الگرافيت تفضي إلى بيانات مشابهة فيما يتَّصل بمرونته، فإن المعلومات التي حصلنا عليها تدلنا على أكثر من ذلك بكثير؛ إنها تثير نوعين من التساؤلات المهمة، التي هي الأساس لإدراكنا سلوك المادة على المستوى النانوي: فأولا، عند أيِّ مستوى للطول يتعطَّل توصيفُ مادة فيما يتعلَّق بخصائص لها كالمرونة؟ وثانيا، هل نستطيع أن نستقرئ من استجابة عاملَي الطول والزمن عند المستويات الذرِّية ما نعيد به توليدَ الخصائص الميكروسكوپية المعروفة لمادة ما؟ أما فيما يتَّصل بالگرافيت، فقد وجدنا أن عيِّنات منه، حتى وإن كانت نانوسكوپية الدقة (لا يتجاوز سُمكُها بضعَ عشرات من الطبقات الذرِّية)، تستجيب – وهذا مدهش – بطريقة مماثلة للمادة الكبيرة الحجم. فهل يصحُّ هذا التوصيفُ بالقرب من حدِّ الگرافين؟
هذا وقد اعتمدت أفلامُ الگرافيت التي ذكرتُها حتى الآن جميعُها على تصادُم إلكتروناتِ السَّبْر والعيِّنةِ التي لا تَفقِد فيها الإلكتروناتُ شيئا من الطاقة – بما يشبه كرات مطاطية ترتدُّ من على سطح صُلب. ومع ذلك، فقد يفقد إلكترونُ السبر شيئا من الطاقة عن طريق استثارة إلكترون في ذرّة كربون. وتتوقف كميةُ الطاقة المفقودة على نوع الرابطة التي يدخل فيها إلكترونُ الذرَّة. وبالإمكان قياسُ هذه المفقودات من الطاقة باستعمال تقنية تقليدية قديمة جدّا تدعى طيفيّات فقدان طاقة الإلكتروناتelectron energylossspectroscopy، إذ توفِّر أطيافُ الطاقة المتحصَّلةُ معلومـات عن الترابطbonding في مادة ما والعناصر الكيميائية التي تؤلِّفها. وباستعمال هذه الطريقة مع الميكروسكوپ الإلكتروني الفائق السرعة، أظهرنا أن الترابط ضمن الگرافيت قد انزاح في طور الانضغاط باتجاه نوع الرابط المميِّز للألماس، في حين انزاح ترابطُ الذرّات السطحية في طور التمطُّط باتجاه الرابط المميِّز للگرافين. ويجدر القول إن طيفيّات فقدان طاقة الإلكترونات التقليدية طريقة بطيئة جدّا في رصد هذه التغيُّرات.
جرى تصوير بكتيرة الإشريكية القولونية Escherichia coli في سياق ميكروسكوپية إلكترونية مستحَثَّة بالفوتون وذات حقل كهرمغنطيسيّ قريب. ولَّدت نبضة ليزرية من رتبة الفمتوثانية حقلا كهرمغنطيسيّا متلاشيا في غشاء الخلية عند الزمن صفر. بالاقتصار على جمع إلكترونات التصوير التي اكتَسَبت طاقة من هذا الحقل، تعطي هذه التقنيةُ مَيْزا حيِّزيّا شديدَ التباين للغشاء (الصورة العليا). والرسم الكفافي بالألوان الزائفة يمثِّل الشِّدَّة المسجَّلة. وبإمكان هذه الطريقة تلقُّف الوقائع التي تحدث على مقاييس زمنية قصيرة جدّا، كما يدلُّ التَّلفُ الملحوظ في الحقل بعد مرور 200 فمتوثانية (الصورة الوسطى). يتلاشى المجالُ بعد 2000 فمتوثانية (الصورة السفلى).
[استشراف المستقبل]
رصد آلية انضباط الساعة البيولوجية(******)
يزمع الباحثون إجراءَ ميكروسكوپية رباعية الأبعاد لرصد العمليات الحيوية من مثل انثناء الپروتينات، وذلك باستعمال تقنية تدعى التصوير القَرِّيcryoimaging. وسيُستعمَل جليد زجاجي (غير بلوري) لاحتواء عيِّنة الپروتين. وفي مقابل كل لقطة من الفيلم تَصْهَر نبضة ليزرية الجليدَ المحيطَ بالعيِّنة، مسبِّبة انفتاح (انتشار) الپروتين في الماء الدافئ. وسيسجِّل الفيلمُ عمليةَ انثناء (انكماش) الپروتين من جديد قبل تبرُّد الماء وانجماده ثانية. ويمكن تثبيت الپروتين بالطبقة التحتية لإبقائه في الموضع نفسه عند كل لقطة.
من الكوابيل إلى الخلايا(*******)
أتمَّ فريقُنا البحثيُّ ميكروسكوپية رباعيةَ الأبعاد على عدد من المواد إضافة إلى الگرافيت. فعلى صعيد الحديد، صَنَعْنا صُوَرا انعراجية لتتبُّع ظاهرة تحوُّل البنية البلورية مما يسمّى البنية المكعَّبة الجسميةَ التمركُز(10)body-centeredcubic إلى البنية المكعَّبة الوجهية التمركُز(11)face-centeredcubic، وهي عملية تَحدثُ في تطبيقات صناعية كثيرة عند درجات حرارة عالية، ومن ضمنها إنتاج الفولاذ. وقد عاينَّا بالفعل عمليَّتَيْن ديناميَّتَيْن عندما قمنا بتسخين الحديد اعتبارا من درجة حرارة الغرفة إلى نحو 1500 كلڤن في غضون نانوثانية أو نحو ذلك، فلاحظنا أولا بقعا للطَّور الوجهيِّ التمركز بدأت بالتشكُّل في مواضع معيَّنة من البلورة ببطء نسبي – على مقياس زمن من رتبة النانوثانية – بفعل الحركات اللامترابطة لذرّات الحديد. وثانيا، تنامت هذه المناطق من الطور الجديد بسرعة الصوت، وهذا يعني أن العملية لم تستغرق أكثر من پـيكوثوان(picoseconds 1 پـيكوثانية = 10-12 من الثانية) لاستيعاب الحديد الحارّ. إن عملية التحوُّل السريعة الانتشار هذه تتضمن إزاحةَ عدد كبير من الذرّات بطريقة متناسقة، وهذا نوع غريب لافت من «ظهور» تغيُّر كبير في البلورة بفعل الحركات النانوسكوپية الضمنية التي لا تُحصى عددا. ولعلَّ فهم هذه الظاهرة يقود إلى تحسين طرائق التعامل مع الحديد والفولاذ (وغيرهما من المواد) في العمليات الصناعية.
ومن التطبيقات التي هي أكثر فاعلية وأبعد أثرا لمبحث الميكروسكوپيات الإلكترونية الفائقة السرعة والرباعية الأبعاد (4-DUEM) معاينةُ منظومات نانوية وميكروية في حالة عملها وبالزمن الحقيقي. فعلى سبيل المثال، قمنا بتصوير الذبذبات التردُّدية الترجيعية لكوابيل نانوسكوپية، وهو حدث لم يُسبَق إلى تحقيقه من قبلُ لحركات عالية التردُّد كهذه. وانطلاقا من النتائج التي حصلنا عليها حدَّدنا نطاقا من الكميّات يوصِّفُ الخصائصَ الماديةَ للكوابيل وحركتها، ولاحظنا أن أداءها كان مترابطا ومنسجما في عدد من الذبذبات قاربَ1011 ذبذبة. وبإمكان الباحثين استعمال هذه البيانات لاختبار النماذج النظرية التي توجِّه تصميمَ منظومات ميكروكهرميكانيكية ونانوكهرميكانيكية، وهذه بدورها قد تقود إلى أنواع جديدة من تلك التجهيزات أو إلى استعمالات جديدة لها.
ومن ثم، فإن لتقنية التصوير الرباعي الأبعاد مع الميكروسكوپية الإلكترونية الفائقة السرعة تطبيقات بيولوجية مهمة كذلك. ولكي يتمثَّل الباحثون آليةَ عمل الجسم تمثُّلا كاملا، فلا بدَّ لهم من معرفة بنى الپروتينات المختلفة وغيرها من التكوينات الخلويَّة ذات الصلة، إضافة إلى خصائصها الدينامية – كيف ينثني الپروتين، وكيف يتعرَّف – انتقائيّا – الجزيئات الأخرى، وما هو الدور الذي يؤدِّيه الماءُ المحيطُ به، وهلمَّ جرّا. ومعلوم أن بعض الوظائف البيولوجية تقوم على مراحل فائقة السرعة؛ فمثلا تعتمد آليةُ الرؤية عند الإنسان، وعمليةُ التركيب الضوئي في النباتات، على فوتونات من الضوء تتسبَّب في إطلاق عمليات تستغرق زمنا من رتبة الفمتوثانية. ومع أن كثيرا من الپروتينات تؤدِّي وظائفَها، أو تَقْصُر عن أداء وظائفها، وفقا لمقاييس زمنية أطول من الفمتوثوانٍ بكثير، فإن من شأن الحركاتِ الذرّية والجزيئية أن تحدِّد – في غضون الفمتوثوانٍ الأولى – مآلَ هذه الجزيئات الماكرويـة(12) المنظورة: هل تنثني جيدا في آخر المطاف لتتحوَّل إلى بنية صالحة، أم إلى بنية قد تسبِّب مرض ألزهايمر مثلا؟
وإحدى الدراسات في موضوع انثناء الپروتين تصوِّر نوعَ التقنيات اللازمة والنتائج المحتملة. وقد استقصيتُ مع زملائي في فريق العمل البحثَ في حساب زمن انثناء قطعة قصيرة من الپروتين بمقدار لفَّة واحدة من لولب أو منحن حلزوني helix، وذلك بتسخين الماء الذي غُمِرَ فيه الپروتين – وهو ما يسمى بالقفزة الفائقة السرعة لدرجة الحرارة ultrafasttemperaturejump. (تحـدث هـذه المنحنياتُ اللولبية في پروتينات كثيرة لا حصر لها.) وخلصنا إلى أن اللولبيات القصيرة قد تكوَّنت بسرعة أكبر ألفَ مرة أو يزيد مما كان يعتقد الباحثون؛ فقد ظهرت بمئات الپيكوثوانٍ وعدد قليل من النانوثوانٍ، لا بالميكروثوانٍ كما كان الاعتقادُ سائدا. إن العلمَ بإمكان حدوث مثل هذا الانثناء السريع ربما يفضي إلى فهم جديد للعمليات الكيميائية – الحيوية التي تشمل أيضا تلك العمليات التي تدخل في مساق الأمراض.
وغالبا ما يعتمد التصويرُ البيولوجي، باستعمال تقانتنا الفائقةِ السرعة والرباعيةِ الأبعـاد، على تقانـة راسخة ورصينـة تسمى مبحث الميكروسكوپيات الإلكترونية القَرِّيَّة(13)cryoelectronmicroscopy. وبمقتضى هذه التقنية تُغمَس عيِّنة موجودة في الماء غمسا سريعا في مركَّب الإيثان السائل (الذي يغلي عند الـدرجة – 89 مئوية)، فيتجمَّد الماءُ متحوِّلا إلى مـادة صلبـة زجاجيـة المظهـر لا تسبّب انعراج الإلكترونات أو تُفسِد التصوير (والعيِّنةَ نفسها!) كما تفعل البلوراتُ الجليديةُ الاعتيادية. وبهذه الطريقة حصلنا على صُوَر لخلايا بكتيرية وبلورات پروتينية. ونأمُل بأن نتمكن في المستقبل من رصد پروتينات مبثوثة في مثل هذا الماء الزجاجي مطويَّة (منثنية) ومنشورة: إذ تعمل نبضة توقيت على رفع درجة الحرارة بقدر يكفي لصهر قُطَيْرة دقيقة من الماء المحيط بالپروتين، الذي ما أن ينتشر حتى ينثني مطويّا من جديد. وعندما يبرد الماءُ ويتجمَّد ثانية، فإنه يجعل الجُزَيْءَ مهيَّأ لنبضة توقيت أخرى. وهذا الأسلوبُ ذاتُه قد يتيح لنا معاينةَ الخصائص الدينامية للسِّياط(14)flagella وللطبقات الثنائية ذوات الأحماض الدهنية thefatty acid bilayers، التي تؤلِّف أغشيةَ الخلايا. ولا شك في أن تقنيةَ طيفيّات فقدان طاقة الإلكترونات، شأنَ دراساتِنا المتعلقة بالگرافيت، ستتيح لنا اسكتشافَ ما يطرأ من تغيُّرات في الروابط، مع العلم بأن تلقُّفَ الصورة قبل تحرُّك المنظومة الحيوية أو تفكُّكها حريّ بأن يعطي صورا أكثر وضوحا مما هو متاح حاليّا في الدراسات الميكروسكوپية القرِّيَّة cryomicroscopy.
وثمة أشكال أخرى لمبحث الميكروسكوپيات الإلكترونية الفائقة السرعة، يمكن أن تندرج تحت المقياس النانوي في الدراسات المتَّصلة بعلم التحريك البنيوي، وتحت رتبة الفمتوثانية في تصوير توزُّع الإلكترونات في المادة. فقد قام أعضاءُ فريقي العامل في معهد كاليفورنيا للتقانةCaltech، إلى عهد قريب جدا، بعرض تقنيَّتَيْن جديدتَيْن: أولاهما، وهي ميكروسكوپية إلكترونية فائقة السرعة لحزمة أشعة متقاربة convergent-beamUEM، يقتصر فيها سَبْرُ النبضةِ الإلكترونية على موضع نانوسكوپيّ وحيد في عيِّنة؛ وثانيتهما، وهي ميكروسكوپية إلكترونية فائقة السرعة لحقل قريب near-fieldUEM،تمكِّنُ من تصوير الموجاتِ الكهرمغنطيسية المتلاشية («الپلازمونات»plasmons) المتولِّدة ضمن البنى النانوسكوپية بفعل نبضة ليزرية مركَّزة – وهي ظاهرة تؤسِّس لتقانة جديدة مثيرة تُعرَف باسم الپلازمونيات plasmonics [انظر: «الپلازمونيات ميدان علمي واعد»،مجلة العلوم، العددان 9/10(2007)، ص 70]. وقد أثمرت هذه التقنيةُ صُوَرا لأغشية خلايا بكتيرية وحويصلات پروتينية بدرجة مَيْز من رتبة الفمتوثانية والنانومتر.
وفي السنوات القريبـة المـاضـية، أتـاح <F.كراوس> [من جامعة لودڤيگ ماكسيميليان في ميونيخ] و<P.كوركوم> [من جامعة أوتاوا] وآخرون نظامَ الآتوثانية للدراسات البصرية (المعتمدة على الضوء) باستعمال نبضات ليزرية بالغة القِصَر. وبدورنا اقترحنا – في معهد كاليفورنيا للتقانة – برامج عدةَ في مبحث الميكروسكوپيات الإلكترونية الفائقة السرعة، للتصوير المعتمد على الإلكترونات من رتبة الآتوثانية، ونحن حاليّا بصدد متابعة التحقيق التجريبي للمقترحات، بالتعاون مع <H.باتيلان> [من جامعة نبراسكا – لينكولن].
يشار أخيرا إلى أن الميكروسكوپ الإلكترونيَّ استثنائيُّ القوة، متعدِّدُ جوانب الاستعمال، قادر على العمل في ثلاثة مجالات منفصلة هي: الصُّوَر بالحيِّز الحقيقي، وأنماط الانعراج، وأطياف الطاقة. ويُستعمَل في تطبيقات كثيرة تمتد من علم المواد وعلم المعادن، إلى التقانة النانوية وعلم الحياة، إضافة إلى أنه يجلو البنى السكونيةَ بتفصيل مسهَب. وواقع الأمر أننا، بإدخالنا البُعدَ الرابع في الحساب، نحوِّل الصُّوَرَ الساكنةَ إلى أفلام نحتاج إليها في رصد سلوك المادة – من الذرّات إلى الخلايا – وهي تتكشَّف لنا مع مرور الزمن.
المؤلف
أحمد زويل
نال جائزةَ نوبل في الكيمياء عام 1999 لدراساته في مبحث حالات انتقال التفاعلات الكيميائية باستعمال التحليل الطيفي بزمن من رتبة الفمتوثانية. يعمل في معهد كاليفورنيا للتقانة أستاذا للكيمياء ومديرا لمركز البيولوجيا الفيزيائية وأستاذا للفيزياء فيه. وفي عام 2009 عُيِّنَ عضوا في المجلس الاستشاري الرئاسي لشؤون العلم والتقانة، وأولَ مبعوث علميّ إلى الشرق الأوسط.
مراجع للاستزادة
A Revolution in Electron Microscopy. John M. Thomas in Ange- wandte Chemie International Edition, Vol. 44, No. 35, pages 5563-5566; September 5.2005.
Microscopy: Photons and Electrons Team Up. F. Javier Garcia de Abajo in Nature, Vol. 462. page 861; December 17,2009.
Four-Dimensional Electron Microscopy. Ahmed H. Zewail in Science, Vol. 328. pages 187-193; April 9.2010.
Biological Imaging with 4D Ultrafast Electron Microscopy. David J. Flannigan. Brett Barwick and Ahmed H. Zewail in Proceedings of the National Academy of Sciences USA, Vol. 107. No. 22. pages 9933-9937; June 1.2010.
4D Electron Microscopy: Imaging in Space and Time. Ahmed H. Zewail and John M. Thomas. Imperial College Press, 2010.
(******) Deciphering Nanomatter أو: استكناه المادة النانوية.
(*******) Watching Biology’s Clockwork
(********) From Cantilevers to Cells
(1) تقنية تصوير ميكروسكوپي (مجهري) microscopy .
(2) صورة فوتوغرافية تُلتقَط لشيء دوّار أو مهتزّ، بمنظار خاص يسمى ستروبوسكوپ (مخيال) stroboscope، يُصْدِر ومضات ضوئية متذبذبة تتيح رؤية متقطعة للشيء المتحرك يبدو معها وكأنه ساكن.
(3) جمع كابول: عتبة أو رافدة مثبتة تثبيتا محكما من أحد طرفيها، ومعلَّقة تعليقا حرّا من الطرف الآخر. (التحرير)
(4) عنصورة pixle؛ نحت من عنصر – صورة. (التحرير)
(5) the Massachusetts Institute of Technology
(6) Rosetta Stone: حجر بازلتيّ أسود يعود إلى عام 195 ق.م اكتُشِف بمدينة رشيد المصرية، وساعدت النقوشُ والكتاباتُ الهيروغليفيةُ المصريةُ عليه كلاّ من <شامپوليون> و<توماس يونگ> على حلّ رموز الهيروغليفية المصرية، وهو محفوظ اليوم في المتحف البريطاني.
(7) spectrometer
(8) vesicles أو كيسات.
(9) ultrafast electron microscopy
(10) جمع لبّ. (التحرير)
(11) بنية بلورية تكوِّن الخليةُ النموذجيةُ فيها مكعَّبا، وتتوزَّع فيها الذرّاتُ في مركز الخليّة البلورية ورؤوسها.
(12) شبكة تكوِّن الخليةُ النموذجيةُ فيها مكعَّبا، وتكون النقاطُ الشبكيةُ في مركز كل وجه من أوجه المكعب إضافة إلى رؤوسه. (التحرير)
(13) macromolecules
(14) دراسة الظواهر الإلكترونية الميكروسكوپية عند درجات حرارة منخفضة جدّا. (التحرير)
(15) جمع flagellum (سَوْط): عُضَيَّات حركية في بعض الخلايا، شبيهة بالسَّوط، تستعين بها السوطياتُ على الحركة.