أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الأعصاب

صلابة التحمل الحَقَّة


صلابة التحمل الحَقَّة
من منظور علم الأعصاب(*)

عندما تحلُّ بنا مصيبة، فمن المدهش أن معظمنا يعود في نهاية
الأمر ليستأنف مسار حياته المعتاد على نحو جيد. فمن أين تأتي
مثل هذه القدرة على استعادة التوازن والحيوية(1) بعد تلك المصيبة؟

<G. ستكس>

 

باختصار

   كان السائد تقليديا بين علماء النفس أن القدرة النفسية على استعادة التوازن والحيوية(1)، في مواجهة الإجهادات النفسية الشديدة التي تسببها ضغوط الحياة، هي حدث نادر اعتياديا، وأنها ناتجة إما من جينات محظوظة أو من تزاوج موفق بين أبوين.

ولكن الأبحاث في شأن حالات فقد الأب أو الأم أو الولد(2)، وفي شأن الكوارث الطبيعية، قد أظهرت في الأعوام الأخيرة أن صفة استعادة التوازن والحيوية إثر التعرض لمصيبة، إنما هي، في واقع الأمر، صفة مألوفة ومعتادة نسبيا.

وإن البشر يستجيبون بسلوكيات متنوعة لما تحمله الحياة إليهم من مصائب أو كوارث. وبعض هذه السلوكيات يمكن تصنيفه على أنه نرجسي أو غير متوافق وظيفيا في ناحية أخرى.

إلا أن أشكال السلوك هذه، وهي التي أَطلق عليها أحد الباحثين «المواجهة السيئة مع المشكلات»(3)، تقوم في نهاية المطاف بدور مساعد على التكيف في أزمة.

وهكذا يُطرح التساؤل حول ما إذا كانت التدخلات العمدية لتعليم القدرة على استعادة التوازن والحيوية – وهي برامج مطبقة بالفعل في بعض المدارس وفي الجيش الأمريكي – ستُعين حقا إذا كان الناس قادرين على مواجهة أزماتهم الحادة بأنفسهم.

 

في خريف عام 2009، حدث أن كانت <B .J. ميلّر> في سيارتها مع زوجها عائديْن إلى المنزل، بعد زيارة والدتها في منطقة شلالات نياگارا، بولاية نيويورك؛ ومرت على حاجز للشرطة على الطريق بالقرب من مدخل مجمع جامعة نياگارا، وبينما كانت أضواء عربة إسعاف تلمع أمامها، خطر لها أن عليها أن تتوقف، وتطلب إلى أحد مساعدي الإسعاف الموجودين في الموقع أن يتحرى عما إذا كانت السيارة المصابة تحمل على لوحتها علامة ”J Mill“، فقد كانت السيدة <ميلّر> تعرف أن ابنها «جوناثان»، البالغ من العمر 17 عاما قد غادر المنزل بسيارته. وبعد دقائق قليلة رأت شرطيا وقسيسا يقتربان منها فأدركت، حتى من قبل أن يصلا إليها، ما سوف يقولانه لها.

لقد كانت وفاة ولدها بهذا الحادث، نتيجة لمشكلة طبية لم تُشخّص، وتسببت في وفاته الفجائية حتى قبل اصطدام سيارته بشجرة. وقد كان لوفاته أثر مدمر فيها. «كان الزمن لا يكاد يتحرك في الأيام التي تلت مباشرة موت <جوناثان>. وكانت تقول: «إن الأسبوع الأول كان أشبه شيء بالأبدية، فقد كنت أعيش دقيقة بدقيقة، وليس ساعة بساعة. وكان يحدث أن أستيقظ فجأة ولا أفكر في أي شيء يتعدى ما هو أمامي.»

لقد جاءها العون والمساندة من جهات متعددة، بما في ذلك قراراتها الشخصية هي نفسها. فقد شارك في جنازة <جوناثان> وتحية جثمانه خمسمئة من زملاء مدرسته الثانوية، وقد ساعد تعبيرهم هذا عن مشاعرهم تجاه ولدها على تسكين الألم عندها. كما أنها وجدت عزاء لها في عقيدتها الكاثوليكية المخلصة. وبعد انقضاء أسبوعين رجعت إلى عملها كخبيرة في شؤون الموظفين، كما استطاعت، بعد بضعة أشهر إثر الحادث، أن تزور المطعم الذي تناولت فيه آخر إفطار لها بصحبة ولدها في يوم وفاته. ولم يتذبذب مطلقا العون والمساندة اللذان كانت تتلقاهما من جيرانها وأصدقائها. وقد احتُفِل بتكريم ذكرى <جوناثان> بمناسبة تخرج دفعة مدرسته الثانوية، كما أن صفحة <جوناثان> على «الفيسبوك» بعنوان <(جوناثان ”J Mill“ ملّر)>، تستقبل بانتظام زوارا جددا؛ ويقدم مقهى محلي قهوة ”76“، في ذكرى عضو فريق كرة القدم المتقاعد الآن. وقد استمرت، خلال سنة إثر وفاة ولدها تبكي كل يوم، إلاّ أنها وجدت طرقا كثيرة للتغلب على أحزانها.

إن ما يحدث عندما تحل كارثة، مثلا، وفاة في العائلة أو هجوم إرهابي أو وباء لمرض فتّاك أو خوف يشل قوى المرء وسط معركة ما، هو أننا نحس بشعور من الصدمة العميقة ونتيه حيارى. ولكن علماء الأعصاب وعلماء النفس الذين قاموا بدراسة آثار تلك الأحداث المفزعة الرهيبة توصلوا إلى إدراك شيء غير متوقع: إن معظم ضحايا المآسي سرعان ما يستعيدون قوتهم، ويخرجون في النهاية من أزماتهم من دون أن يمسهم سوء من الناحية الوجدانية. نعم، إن معظمنا يُظهرون على نحو غير متوقع، قدرة طبيعية على استعادة التوازن والحيوية بعد المرور بأسوأ ما تقذفنا به الحياة في طريقنا.

إن دراسة القدرة على استعادة التوازن والحيوية تبدأ بالكشف عن سلسلة من آليات أساسية، وذلك من خلال صور المخ وقواعد بيانات الجينات، إضافة إلى الأدوات التقليدية لدى علماء النفس باستخدام استبانات علم الاجتماع. فقد ظهر أنه، ما أن تحل مصيبة بنا حتى تأخذ عوامل حيوية – كيميائية وجينية وسلوكية في العمل معا من أجل استعادة توازننا الوجداني. وتسعى الأبحاث العلمية في هذا الصدد إلى فهم متعمق للقواعد التي تقوم عليها القوة الوجدانية لدى البشر، وهذا الفهم سوف يدلنا يوما ما على ما يمكن فعله في حال فشل سيرورات الالتئام الطبيعية في القيام بدورها.

وفي الوقت الحاضر، فإن المدارس والمعاهد والجيش والهيئات المختلفة لا تنتظر تحديد الصورة الكاملة عن الجينات وناقلات الرسائل في الأعصاب وما إلى ذلك، حتى تقوم بتنفيذ برامج من أجل تقوية المناعة ضد أضخم التوترات التي نصاب بها. وهكذا، وفي غياب دليل أو كتيب نهائي في موضوع القدرة على التحمل في أوقات الشدة، طرحت مناقشات قوية حول ما إذا كان العبث بما قد يكون سمة فطرية للإنسان هو مما يمكن أن يؤدي بنا إلى حال يكون أسوأ مما نكون عليه بشكل طبيعي. وهذه المناقشة العامة تكتسي الآن طابع الاستعجال غير العادي، حيث إن الجيش الأمريكي يبدأ بالقيام ببرنامج تدريبي عملاق يستهدف غرس القدرة على استعادة التوازن والحيوية في نفوس أكثر من مليون جندي وعائلاتهم، وهو برنامج ربما كان واحدا من أضخم التدخلات السيكولوجية التي قامت بها في أي وقت مضى، مؤسسة منفردة.

 

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/7-8/2011_07_08_15.jpg

 

آليات استعادة التوازن الحيوية إثر بلاء مُلِمّ(**)

في عام 1917، تحدث <S. فرويد> عن ضرورة القيام بمهمة «التخلص من آثار» الكوارث, وبهذا نستعيد الطاقة الوجدانية، أو «اللبيدو» libido كما كان يُسميها، التي كنا قد كرّسناها لما أصبح الآن «كيانا غير موجود»، وفي عبارة أخرى، المتوفى. وهذه النظرة – التي ترجع إلى نحو قرن من الزمن، والتي تَعتبر «النفس» منظومة من القنوات لتفريع قوى الحياة اللامدركة وتوجيهها – كانت هي السائدة، لعدم وجود دليل على ضدها، لكنها لم تعد كذلك منذ بضعة عقود: وذلك منذ أن أخذ علماء النفس وعلماء الأعصاب يتفحصون إمكان تقديم تفسيرات جديدة بديلة.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/7-8/2011_07_08_16.jpg
<B .J. ميلّر> وقد اجتازت الأيام العصيبة التي أعقبت وفاة ابنها عام 2009، وهي تلمس الشجرة التي اِصْطدمت بها سيارة ابنها جوناثان.

 

وأحد الأمور التي بدؤوا بالنظر إليها كان طبيعة القدرة على استعادة التوازن والحيوية. وقد استخدموا لذلك المصطلح الإنكليزي resilience الذي أخذوه من العلوم الطبيعية وأدخلوه في مفردات علم النفس. ويقول <M .Ch. لين> [الباحث في القدرة على استعادة التوازن والحيوية في جامعة كاليفورنيا، بلوس أنجلوس]: «إن هذا المصطلح، من الناحية السلوكية، يعني أساسا أنك تعود وثبا إلى سابق أدائك لوظائفك خلال فترة قصيرة من الزمن»، تماما كشأن الذراع المتذبذب الفولاذي، الذي ينثني تحت تأثير الضغط ثم يعود بعد ذلك إلى وضعه الأصلي. وبطبيعة الحال، فإنه لا وجود في رؤوسنا لشريط معدني يعمل عمل منظم الحرارة (الثرموستات)، فينثني حين تشتد انفعالاتنا، ويطلق شلالا عصبيا كيميائيا يجعلنا نعود إلى سابق عهدنا من حيث حالة التوازن الانفعالي. فقد وجد العلماء أن جهازنا البيولوجي هو أعقد بكثير من أن يُشبّه بحالة في علم المعادن.

إن استعادة التوازن والحيوية تنطلق من مستوى أولي: فحينما يندفع أحدهم نحوك، فإن الهيبوثالاموس (المهاد الأدنى)(4) – وهو محطة ترحيل في المخ يربط النظام العصبي بنظام الغدد الصماء في الجسم – يسارع إلى إطلاق إشارة الإجهاد الحاد، وذلك على شكل كورتيكوتروبين(5)، الهرمون المحفز لقشرة الغدة الأدرينالية، وهو الذي يبدأ بدفع سيل كيميائي يخبرك بأن تضم قبضتي يديك أو أن تمضي بعيدا إلى حيث الأمان. فمخك يأخذ في الخفقان كضوء ومضي: «هاجم أو اهرب»، «هاجم أو اهرب». وبعد ذلك يتجه الإعصار البيولوجي نحو الهمود. أما إذا كنت على التوالي مطالبا بالدفاع عن عرينك، فإن مجموعة من هرمونات الإجهاد الحاد تأخذ في التدفق من دون توقف. وأحد هذه الهرمونات، وهو الكورتيزول، الذي تنتجه غدة الأدرينالين بجوار الكليتين، يمكنه فعليا أن يسبب تلفا لخلايا المخ في منطقتي الحصين (قرن آمون)(6)واللوزة(7)، وهما المنطقتان المتصلتان بعمل الذاكرة والمشاعر الوجدانية. وبذا تنتهي عندك حالة تحطم شعوري وجسدي. ولحسن الحظ، فإن الغالبية العظمى منا لديها القدرة على استعادة التوازن والحيوية.

إن هرمونات الإجهاد النفسي، وبمساعدة بعض العناصر البيولوجية الكيميائية الواقية، يبدو أنها تطفئ هذا الإجهاد بسرعة أكبر عند الأشخاص الذين لديهم القدرة على استعادة التوازن والحيوية. ففي السنوات الأخيرة، اكتشف بعض العلماء عددا من العُلّامات(8) البيولوجية التي تدل على أن  شخصا ما يمكن أن يكون قادرا على أن يصبح صلب العود بحيث يستعيد توازنه وحيويته. وقائمة تلك العُلّامات طويلة ومن ضمنها مواد كيميائية من قبيل المادة(9) (DHEA), التي تقلل من قوة تأثير الكورتيزول، والپپتيد العصبي(10) Y، الذي يبدو وكأنه، إلى جانب أمور أخرى، يقلل من حدة القلق عن طريق تحييد آثار الهرمون المفرز للكورتيكوتروبين، الذي يطلقه الهيبوثالاموس في المخ. وفي عام 2000 وجد <S .D. تشارني> وباحثون آخرون في المستشفى VA وست هاڤن، بجامعة ييل، أنه تحت وطأة الإجهاد الحاد لاستنطاق صُوَري(11)، يكون أداء الجنود الأمريكيين ذوي مستويات الدم العالية من الپپتيد العصبي Y أفضل من غيرهم خلال التمرين. بعد ذلك، وفي عام 2006، اكتشفت <R. يهودا>، وآخرون، في المركز الطبي لشؤون قدامى المحاربين في برونكس، أن وجود مستويات عالية من ذلك العنصر الكيميائي عند المحاربين القدماء، كان يعني انخفاض درجة احتمال خطر الوقوع في الاضطراب(12) (PTSD).

وهناك عدد من المسارات البيولوجية – سلاسل من البروتينات المتفاعلة التي تسهم في شيء ما متعدد الأوجه كالقدرة على استعادة التوازن والحيوية. ولكن حتى الآن، فإن ما قام به العلماء لا يزيد إلا قليلا على الاقتراب حينا ثم الابتعاد حينا آخر عن مجموعة من ملامح جزئية للبروفايل البيولوجي للنفس الجسورة الشديدة القدرة على التحمل. وفي الشهر5/2010، أبلغ <E .J. نستلر> وزملاؤه [في معهد ماونت سايناي الطبي] عن وجود بروتين، أطلق عليه اسمDeltaFosB، بدا لهم أنه يحمي الفئران، وربما البشر أيضا، في مواجهة الإجهاد الحاد الذي يسببه وجود الفأر وحيدا ومعزولا، أو كونه مهددا من قبل فأر أكثر عدوانية منه. ويقوم هذا البروتين بدور المفتاح الجزيئي(13) لمجموعة كاملة من الجينات (التي تتسبب في إنتاج البروتينات التي تحمل كودها). وقد ثبت وجود هذا البروتين بمستويات عالية في القوارض التي أظهرت قدرة على استعادة التوازن والحيوية، بينما ثبت نقصها في خلايا أدمغة جرى فحصها بعد الوفاة لمرضى كانوا مصابين بتوتر الإجهاد الحاد. وهكذا، فقد بدا أن الدواء الذي يزيد من نسبة البروتين DeltaFosB ربما أمكنه أن يقي من الاكتئاب وأن يدعم بوجه عام القدرة على استعادة التوازن والحيوية.

ومع كل هذا، فإنه لا يزال أمامنا بعض الوقت حتى يمكن أن يظهر مشروب من مشروبات الطاقة يمكن أن يُدعم بمسحوق القدرة على استعادة التوازن والحيوية. فحبة العقار التي ترفع من إنتاج المخ للبروتين DeltaFosB ربما تصبح في يوم ما حقيقة واقعة. أما في الوقت الحالي، فإن التجارب لا تزال تجرى على القوارض، وبوسيلتها يستكشف الباحثون دقائق عنصر كيميائي لا يعمل فقط على مساعدة الفأر على التحمل بنبالة(14) لأقوى جهود المشتغلين في المختبر من أجل إصابته بذعر يكاد يتسبب في نفوقه، بل قد يكون له أيضا دور في إثارة الأحاسيس المريحة عند تعاطي المخدرات، وهذا نذير شؤم أكثر.

 

مدعمات القدرة على استعادة التوازن والحيوية
خَفْضُ حدة نظام الإنذار في المخ(***)

حينما يواجه المخ خطرا، فإنه يبادر إلى إطلاق شلال كيميائي يدفع بك إما إلى مقاومة هذا الخطر أو الهروب منه. وتباعا، يمكن لسلسلة من العناصر الكيميائية في المخ أن تهدئ من هذه الاستجابة، وبذلك فإنها تحفز القدرة على استعادة التوازن والحيوية في مواجهة الإجهاد الحاد. وتبدأ دورة كيميائية ذات أهمية بارزة حين يطلق الهيبوثالاموس (المهاد الأدنى) الهرمون المطلق لتروفين تغذية اللحاء(15) (CRH)، وهو ما يدفع الغدة النخامية إلى إفراز الهرمون أَدرينوكورتيكوتروبين (الكظري)(16) (ACTH) في مجرى الدم، وهو ما يدفع بدوره الغدد الأدرينالينية (الكظرية) (بجوار الكليتين) لكي تفرز هرمون الكورتيزول. ويؤدي الكورتيزول إلى النهوض بقدرة الجسم على مواجهة التحديات، لكن قدرا زائدا منه قد يؤدي، مع مرور الوقت، إلى إحداث أضرار دائمة بالجسم. وهناك سلاسل من العناصر الكيميائية التي تساعد المرء على السيطرة على زمام الأمور (اثنان من هذه العناصر معروضان في الشكل أدناه)، وهي التي تهدئ من الاستجابة للإجهاد الحاد. ومن الممكن أن تقوم العقاقير أو العلاج النفسي بالتحفيز على إنتاج مدعمات مواجهة الإجهاد الحاد هذه.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/7-8/2011_07_08_17.jpg

 

 

وقد تسهم في ذلك أيضا مجموعة من الجينات والبروتينات الأخرى؛ ولكن، كما هو الحال بالنسبة إلى البروتين DeltaFosB، على الباحثين أن يتناولوها بالدراسة بدقة وحذر. فهناك مثلا الجين 5-HTT  – الذي كان يُظن في مرحلة سابقة أنه جين رئيسي من جينات القدرة على استعادة التوازن والحيوية – يقدم حالة تحذر من الشِراك والمآزق التي يمكن أن يسببها النظرُ إلى الموضوع من وجهة نظر جينية بحتة. فمنذ عقد من الزمن تقريبا أظهر عدد من الدراسات أن الأفراد الذين لديهم الشكل الأطول من هذا الجين بدا أنهم كانوا يقاومون الاكتئاب بنجاح أكبر من هؤلاء الذين لديهم الشكل الأقصر من ذلك الجين، وبعبارة أخرى، أنهم كانوا أكثر قدرة على استعادة التوازن والحيوية.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2011/7-8/2011_07_08_18.jpg
لقد اختبر إعصار كاترينا قدرة سكان نيوأورليانز على استعادة التوازن والحيوية.

 

وقد احتل هذا الجين عناوين الأخبار حين أشارت مقالة نُشرت في مجلة نيويورك تايمز عام 2006 إلى التوصل الوشيك إلى اختبار تجاري يحدد مدى إسهام الجين 5-HTT في استعادة التوازن والحيوية. ولكن سرعان ما أخذ هذا التفاؤل المبكر يخبو ليتحول إلى تشوش وارتباك (وهذا نمط شائع في الدراسات التي تدَّعي القدرة على ربط نوع من السلوك المعقد بجين منفرد). وحديثا وجدت اثنتان مما تُسمى «ما بعد تحليلات الدراسات» meta-analyses ofstudies، أن الأدلة المتوفرة لم تؤيد وجود ارتباط بين جين يختلف جزئيا عن الجين 5-HTT والاكتئاب الناجم عن الضغوط المجهدة للحياة. وهناك دراسة أخرى من ذلك النوع تبين أن هناك ارتباطا. وهكذا، لو حدث أن كان هناك ارتباط بين ذلك الجين والقدرة على استعادة التوازن والحيوية، فمن المرجح أن يكون هذا الارتباط ضعيفا. وفي نهاية المطاف، يمكن للبيولوجيا النفسية حول القدرة على استعادة التوازن والحيوية، أن تؤدي إلى إنتاج عقاقير جديدة وإلى مناهج محددة من أجل تقييم مدى تكيفنا مع توترات الحياة المجهدة. أما في الوقت الحالي، فإن الإدراك العميق المباشر الذي يؤدي إلى فهم الذات القادرة على استعادة التوازن والحيوية لن يأتي من دراسة جين أو آخر أو مُستقبِلٍreceptor ما في الخلايا، وإنما بالأحرى من القيام بالمقابلات وجها لوجه على الطريقة التقليدية مع هؤلاء الذين مروا بأزمات شخصية مهمة.

مواجهة سيئة للمشكلات(****)

لقد تراكمت لدى علماء دراسة السلوك البشري عقود من البيانات الخاصة ببالغين وبأطفال تعرضوا لصدمات. وقد كرس <G .A. بونانُّو> [من كلية المعلمين في جامعة كولومبيا] حياته العلمية كلها كسيكولوجي من أجل تجميع شواهد حول تنوعات تجربة استعادة التوازن والحيوية بعد الصدمات، مع تركيز خاص على ردود أفعالنا لدى وفاة شخص عزيز علينا، وعلى ما يحدث في مواجهة الحرب والإرهاب والمرض. وما توصل إليه هو أنه في جميع الحالات التي جمع شواهدها يستطيع معظم الناس، وعلى نحو مثير للدهشة، أن يتكيفوا تكيفا مُرضيا مع ما يضعه العالَم أمامهم؛ وتعود الحياة إلى حالتها السوية خلال بضعة أشهر. وينتشر موضوع أبحاثه في أرجاء مكتبه في مبنى قديم من مباني جامعة كولومبيا. وعلى الباب الداخلي للمكتب، ألصق <بونانُّو>, قصاصة من جريدة يومية ألمانية عرضت نبذة عن حياته تحت عنوان: «الأسوأ قد يحدث، هكذا يقول <بونانُّو>(17)

كانت بداية أبحاث <بونانُّو> تدور حول كيفية الاستجابة الوجدانية لفجيعة فَقْد عزيز وغير ذلك من فواجع الأحداث، وذلك في أوائل التسعينات، حين كان يدرِّس في جامعة كاليفورنيا، بسان فرانسيسكو. وكان السائد المتفق عليه آنذاك هو الرأي القائل: إن فقد صديق أو قريب عزيز يترك نُدَبًا وجدانية لا ينمحي أثرها، بحيث إن الشخص المفجوع يحتاج إلى علاج للتخلص من آثار فاجعته على طريقة <فرويد>, أو إلى منشط مماثل من أجل أن يعود المفجوع إلى سابق عهده. وقد أقبل <بونانُّو> وزملاؤه على النظر في الأمر بأذهان منفتحة. ومع ذلك، ومرارا وتكرارا لم يعثروا في تجاربهم على أثر لجروح نفسية؛ مما أدى بهم إلى توقع كون القدرة النفسية على استعادة التوازن والحيوية ظاهرة منتشرة، وهي أيضا ليست مجرد حدث نادر يظهر عند أفراد حَبَتْهم الطبيعة بجينات ملائمة طيبة أو بأبوين موهوبين. وهذه البصيرة(18) أدت بهم أيضا إلى التوقع المقلق، وهو أن آخر أيام الأسى قد ينجم عنها في نهاية المطاف آثار ضارة أكثر من نافعة.

وفي أحد الأمثلة على موضوعات أبحاثه، قام <بونانُّو> مع زميله <D. كلتنر>, بتحليل تعبيرات الوجه لدى أناس فقدوا منذ فترة قريبة أحد أحبائهم. ولم تحمل تسجيلات الڤيديو أية إشارة إلى وجود حزن دائم يكون بحاجة إلى الاقتلاع. وعلى نحو ما كان متوقعا، فإن مشاهد الڤيديو كشفت عن وجود أسى ولكن معه أيضا غضب وسعادة. وظهر مرة بعد أخرى أن تعبيرات الشخص الذي أصيب بفاجعة يمكن أن تتبدل من كآبة إلى ضحك، وبالعكس.

لكن، هل كانت القهقهات حقيقية خالصة؟ هكذا تساءل الباحثون، فقاموا بعرض بطيء لشرائط الڤيديو، باحثين عن انقباض عضلات الإبصار الدائرية حول العينين، وهي الحركات المعروفة باسم تعبيرات دُوشِنّ Duchenne، والتي تثبت أن الضحكات هي حقا على النحو نفسه الذي تبدو عليه، وليست مجرد اصطناع من جانب شخص مهذب يضحك نصف ضحكة، إلا أنها ليست خالصة، وقد تبين في المقابل، أن ضحكات الحِداديين(19) mourners خالصة (غير مصطنعة). وقد تكرر ظهور التأرجح نفسه ما بين الأسى والانشراح من دراسة بعد أخرى.

ما معنى هذا؟ إن <بونانُّو> يرى تخمينا أن شدة الغمّ melancholy تساعدنا على الشفاء بعد التعرض لفقد عزيز، في حين أن الشعور بالأسى العنيف الذي لا ينقطع، شأنه شأن الاكتئاب الإكلينيكي، هو أعظم بكثير مما يمكن تحمله، حيث يغمر الحِدادي (المفجوع) غمرا شديدا. وهكذا، فإن شبكة الأعصاب في رؤوسنا تحول دون أن ينغرز معظمنا في حالة نفسية لا يجدي معها عزاء ولا مواساة. وإذا أصبحت مشاعرنا الوجدانية إما ساخنة أو باردة كثيرا، فإن نوعا من جهاز الاستشعار الباطني – ولنسمه جهاز تنظيم القدرة على استعادة التوازن والحيوية(20) – يعيدنا إلى حال التوازن الاعتدالي.

وبعد ذلك، يوسِّع <بونانُّو> أبحاثه إلى ما وراء الفجيعة(21). ففي الجامعة الكاثوليكية ومن بعد ذلك في جامعة كولومبيا، أجرى مقابلات مع الناجين من إيذاءات جنسية، ومع سكان من نيويورك عانوا هجوم 11/9 على مدينتهم، ومع مقيمين في هونگ كونگ عاشوا فيها فترة الوباء SARS. وحيثما اتجه <بونانُّو> بنظره، كانت النتيجة واحدة: «معظم هؤلاء الناس بدا أنهم يواجهون أزماتهم على نحو رائع.»

وبرز نمط معهود: ففي الفترة التالية مباشرة على الوفاة أو المرض أو الكارثة، لوحظ أن ما بين الثلث إلى الثلثين، ممن شملتهم الاختبارات، يعانون قليلا، أو لا شيء، أعراضا يمكن تصنيفها تحت اسم «صدمة»(22) trauma من قبيل: صعوبات النوم، تنبه مفرط، ارتجاعات متكررة لذكرى، إلى غير ذلك من الأعراض. وخلال ستة أشهر يهبط عدد من تستمر تلك الأعراض على الظهور عندهم إلى أقل من 10%.

ومع ذلك، إذا كان معظم هؤلاء الناس لم يتعرضوا لضرر دائم، فما الذي كانوا يشعرون به؟ وهل تخلصوا من الأزمة بسلام؟ وقد كان من الصعب على الباحثين أن يعرفوا الإجابة عن هذه الأسئلة. ولكن إدخال ظاهرة اضطراب إجهاد ما بعد الصدمة إلى «مدونة التشخيص والإحصاء للاضطرابات الذهنية»(23)، في عام 1980، أدى إلى تضييق منظور علماء النفس. فالإطار الذي اعتمدته مدونة التشخيص تلك كان ينحو إلى دفع الباحثين إلى أن تقتصر دراستهم على المجموعات التي تتوفر فيها سمات التصنيف الصارم الذي عرضته تلك المدونة، بشأن الاضطراب PTSD. وصار التحديد الجديد للصدمة يعني أن هؤلاء المرضى الذين تظهر عليهم أعراض الإجهاد الحاد يمكن إدخالهم في ذلك النطاق التشخيصي، حتى وإن أدى ذلك في نهاية المطاف إلى إحداث بعض الإرباك والتشويش.

وقد شرع <بونانُّو> في فحص مشاعر هؤلاء الذين لم يسعوا إلى طلب عون سيكولوجي. ومن المعروف عموما أن الأشخاص المفحوصين في أبحاث العلوم الاجتماعية يظهر عندهم تشويه وتحريف لذكرياتهم عن الأحداث الماضية، وذلك عندما يقومون بملء بيانات الاستبيان: حين تأخذ العوالم التي كانوا يعيشون فيها في التضعضع والانهيار، فربما يغالون في تقدير كيف أن أمورهم كانت سيئة، أو يتذكرونها باعتبار أنها كانت مفجعة على مستوى عال جدا. ومن أجل اتخاذ إجراء يعادل هذا الاتجاه، فإن <بونانُّو> بدأ القيام بما يسمى الدراسات الاستشرافية(24)  التي تمكنه من أن يتابع مسبقا مجموعات من أفراد ذوي أعمار متنوعة، وذلك قبل أن يتوفى بعضهم، وهي آلية ساعدت على استبعاد ما يسميه السيكولوجيون انحرافات التذكر(25). وقد شرع أيضا في استخدام آلية إحصائية عالية البراعة، وهي نمذجة خليط النمو الكامن latent growth mixturemodeling، التي أعانته على أن يحدد على نحو أكثر دقة من السابق النمط الخاص للآثار التي يشعر بها الناس بعد مرورهم في حالة الصدمة.

وكمثل الدراسات السابقة حول الضحك، فإن هذه الدراسات الأكثر دقة وتحديدا، في تناولها لعمليات الشعور بآثار فَقْد الوالدين والأبناء الأعزاء، تلقت هي الأخرى استجابات من أطياف واسعة التنوع، وهي استجابات لم تدخل تماما في خانات التصنيف المستخدمة لتسمية ما هو تكيف صحي. واختلاط الأمر كله بعضه مع بعض أدى إلى أن يسرع <بونانُّو> بتسمية الاستجابات الأقل في اتفاقها مع النمط الكلاسيكي بأنها «المواجهة السيئة مع المشكلات(26)». وقد اتجه بعض الناس نحو الانغمار في «انحراف تعزيز الذات» – إدراكات متضخمة لما كانوا عليه وكيف كان تصرفهم، سلوك يقترب، في ظل ظروف أخرى، من النرجسية(27). وفيما يخص الحِدادي (المفجوع)، فإن هذه التحريفات الضئيلة قد تساعده على تجنب اجترار الأفكار(28): «هل كان بإمكاني عمل شيء مختلف يحول دون حدوث ما حدث؟»

لكن تشجيع الذات والإعلاء من شأنها لم يكن هو الطريقة الوحيدة. فبعض الأشخاص قاموا بقمع الأفكار والمشاعر السلبية، في حين توصل غيرهم إلى إقناع أنفسهم بأنهم قادرون على التعامل مع كل ما يعترض طريقهم. هناك أيضا هؤلاء الذين اعتادوا أن يضحكوا وأن يبتسموا طوال الوقت ومهما تكن الظروف، ومع ذلك فإن كثيرا من علماء النفس قد يعتبرون ذلك شكلا غير صحي للإنكار أو التنصل. لقد وجد <بونانُّو> أن المواجهة السيئة للمشكلات لم تساعد فقط المفجوعين بفقد شخص عزيز(29)، وإنما أيضا ساعدت المدنيين البوسنيين في ساراييڤو عقب الصراع في البلقان، وكذلك من شهدوا هجوم 11/9 على برجي المركز العالمي للتجارة. لقد كان هؤلاء الناس مماثلين لـ <F.  جونسون>، الذي واجه على طريقته عواقب إعصار كاترينا.

لقد كانت استجابة <جونسون>، البالغ من العمر 57 عاما والذي عاش طوال حياته في نيوأورليانز، لآثار إعصار كاترينا هي أن يشارك في مساعدة فرق الإنقاذ بعد انتهاء الإعصار في منطقة سوبردوم. لقد كان منظر الخطوط المتعرجة من البشر، الممتدة من الأستاد الرياضي إلى مواقف السيارات العامة المغادرة للمدينة، منظرا مزعجا. وبلغ من ذهول بعض الآباء، وهم يخرجون ببطء من الأستاد، أنهم كانوا يحاولون تسليم أطفالهم الصغار إلى المنقذين، في حين تمرغ آخرون بالطين. لقد ارتاع <جونسون> وهو يشاهد المنظر لأول مرة، وسرعان ما فقد السيطرة على نفسه؛ وانحرف بعيدا عن باب دخول المبنى الضخم، وانفجر في البكاء. لقد كان الأمر أكبر بكثير من أن يستطيع تحمله. ولكنه بعد دقائق قليلة توقف، ووجد أن ما كان يسميه «حاكمه(30)» ها هو ذا يظهر أمامه فجأة. ويقول <جونسون> موضحا: «حينما تقهرني الملمات وأجد نفسي منسحقا أمامها، أفكر أن ليس أمامي غير أن أعمل ما يلي: أبكي أمامها، ثم أجفف دموعي، وبعدها أعود من جديد إلى سابق أشغالي؛ لكنني لن أظل أبكي وأبكي وأبكي، إنني أظن أن هذا هو «حاكمي». وبهذه الطريقة أُبقي على صحتي النفسية».

لقد حاز عمل <بونانُّو> هتاف الاستحسان، لكن بعض العلماء لا يزالون غير مقتنعين بأن القدرة على استعادة التوازن والحيوية هي أمر فطري على نحو ما توحي به الدراسات التي قام بها. فمن رأي بعض زملائه أنه يقدم تعريفا واسعا بأكثر مما ينبغي لذلك المصطلح. وفي هذا الصدد، فإن <بونانُّو> يعترف بأن وقوع محن للمرء وهو لا يزال في طفولته يمكن أن يؤدي إلى عواقب تدوم أمدا طويلا أكثر من كونها مجرد مشاعر عارضة أو سريعة الزوال، على نحو تلك التي تظهر عقب حدوث وفاة في العائلة أو كارثة طبيعية. ومع ذلك، فإنه لا يزال يرى أن ردود أفعال معظم البالغين، إن أمام فقدهم لعملهم مثلا أو أمام ضربات الموج العارم الذي يعقب الزلزال، تُظهر أن المقدرة على استعادة القدرة على التوازن والحيوية من جديد تبقى هي الأمر الاعتيادي في خلال حياة الشخص البالغ.

كن ما تستطيع أن تكون(*****)

إذا كانت القدرة على استعادة التوازن والحيوية هي الإمكان القائم لنا جميعا من الناحية العملية، لكن ماذا عن هؤلاء العشرة في المئة أو نحو ذلك، الذين سيفشلون في النهوض من كبوتهم، وبدلا من ذلك فإنهم ينغرزون في حمأة القلق والكآبة؟ هل من الممكن أن يُدَربوا على التحمُّل أمام الأزمات على نحو أفضل؟ إن الاختصاصيين في هذه القضية لم يتوصلوا بعد إلى قرار حولها، ولكن الأدلة المعروضة تدعو إلى الحيطة والحذر. فغالبا ما حدث أن قام الاختصاصيون النفسيون والمساعدون الاجتماعيون، الذين يزورون موقع وقوع كارثة معينة، باستخدام آلية تسمى الاستجواب النقدي لضحايا الأحداث المثيرة للإجهاد النفسي الحاد. ويُطلب في هذا الاستجواب إلى أفراد أو إلى مجموعة أن يتحدثوا عن تجربتهم، وذلك حتى يحرروا أنفسهم، على طريقة التخلص من سيئ المشاعر، من أعراض الصدمة التي تكون قد بدأت بالظهور. وهكذا، فقد تعرض لعملية الاستجواب هذه، ضحايا حادثة إطلاق النار في مدرسة كولومباين الثانوية، وكذلك ضحايا تفجير القنابل في أوكلاهوما سيتي.

إلا أن دراسات عديدة، أجريت خلال أكثر من 15 عاما، أظهرت أن هذه الآلية ليست ذات فعالية، وأنها قد تؤدي إلى إحداث أضرار. فيحدث أحيانا أن يكون أحد المشاركين في جلسات المجموعة في حالة إنهاك تام، فيصيب الآخرين في المجموعة بعدوى الذعر الشديد، وهو ما يجعل الأمر يتجه إلى الأسوأ عند غالبية المشاركين. وبعد كارثة تسونامي في المحيط الهندي في عام 2004، حذرت منظمة الصحة العالمية من آلية الاستجواب هذه، لأنها ربما تؤدي إلى ازدياد شعور بعض الضحايا بالاضطراب. وهكذا، فإن الاستجوابات تثير علامات استفهام حول محاولات أحدث زمنيا تستهدف بث القدرة على استعادة التوازن والحيوية بالاعتماد على حشد أدوات من مجمع أسلحة علم النفس الإيجابي(31).

لقد ظهرت حركة علم النفس الإيجابي إلى العلن رسميا في إعلان طرحه في عام 1998، <M .F .P.  سلگمان> [الأستاذ في جامعة پنسلڤانيا] حين دافع عن الرأي القائل إن المرض العقلي(32) ينبغي ألاّ يكون موضع الاهتمام الوحيد لتخصصه، وذلك في الاجتماع السنوي للجمعية السيكولوجية الأمريكية لذلك العام. وقد انتهى <سلگمان> إلى فكرة علم النفس الإيجابي بعد اكتشافه أن الكلاب تدخل في حالة من الخضوع المذل، وهو ما سماه «الشعور بالعجز المكتسب»، وذلك إثر تعرضها لصدمات كهربائية، حيث استوحى <سلگمان> من نتائج ذلك البحث أنه يمكن استكشاف إمكان أن يقوم التدخل الجراحي بإحداث أثر مضاد لما ظهر عند الكلاب: التشجيع على التفاؤل، والإحساس بالصحة والسعادة، ولم لا أيضا، القدرة على استعادة المرونة والحيوية لدى المرضى.

وقد كان لـ <سلگمان> دور مهم في عملية إطلاق «برنامج «پن» للقدرة على استعادة التوازن والحيوية» Penn Resiliency Program، قبل عقدين من الزمن، وهو برنامج أثبت جدارته، وبخاصة بين فئة الصبيان ممن هم في عمر المدرسة. وانطلاقا من نظريات الاكتئاب، فإن التدريب يتضمن استخدام أساليب من قبيل إعادة التشكيل العقلي، التي يستعملها علماء علم النفس الإدراكي والسلوكي من أجل دفع المعالَجين نحو إعادة النظر في أفكارهم في ضوء أكثر إيجابية. وقد أظهر تقييم للبرنامج – من خلال، على الأقل، إحدى وعشرين دراسة مُحْكَمة أُجريت على 2400 طفل تتراوح أعمارهم ما بين الثامنة والخامسة عشرة – نجاحه في منع الاكتئاب والقلق.

وفي الوقت الحالي، يقوم الجيش الأمريكي بتطبيق أساليب شبيهة بذلك على أكثر من مليون جندي وعائلاتهم، وهو المشروع الذي يقول عنه إنه أشبه أن يكون: «أكبر تدخل سيكولوجي قصدي» جرت محاولته على الإطلاق. وهذا المشروع – الذي تبلغ ميزانيته 125 مليونا من الدولارات على مدى خمس سنوات – قد دفع  000 800 جندي إلى العمل عبر الإنترنت مع «أداة التقويم الشامل»، وهي اختبار سيكولوجي يقيس بين عوامل أخرى، حسن الحال روحيا وعاطفيا، كما أنهم يلتحقون بدورات تدريبية لرفع مستوى «اللياقة» في نواح متنوعة من القدرة الوجدانية على استعادة التوازن والحيوية. ويأتي شهريا إلى جامعة بنسلڤانيا مئة وخمسون جنديا ليتعلموا كيف يُدَرِّسون القدرة على استعادة التوازن والحيوية(33)  إلى غيرهم من أفراد الجيش. ويتنبأ <سلگمان> بأن البيانات المتجمعة من هذه البرامج سوف تتحول، في نهاية المطاف، إلى قاعدة بيانات هائلة للإحصاءات المتصلة بعلم النفس وبالصحة، وسوف ينهل الباحثون المدنيون منها من أجل إجراء أبحاثهم حول القدرة على استعادة التوازن والحيوية. ويقول <سلگمان>: «بهذا يصل العلم إلى مستوى لم يبلغه علم النفس قط من قبل».

لقد انطلق البرنامج انطلاقة مندفعة، ذلك أن رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي <W. كوسي> كان متلهفا إلى تقديم العون للجنود العاديين من ضباط الصف والجنود الذين وقع عليهم تنفيذ إعادة الانتشار عدة مرات في عدد من المواقع. ولكن لم تكن هناك دراسات استكشافية رائدة لاختبار مدى صلاحية برنامج كان قد تعامل مع طلبة المدارس، لاستخدامه في التعامل مع جندي أمريكي يواجه دورة ثالثة في العراق. ومع تقدم العمل في البرنامج، فإن الباحثين سوف يقيسون ما إذا كان الجنود يتحملون بشكل أفضل الإجهادات النفسية الحادة للحياة العسكرية. ومع أننا نبني كل هذا في وسط الهواء، إلاّ أن جميع خطواتنا يجري تقييمها على نحو شديد الانضباط»، على حد قول <سلگمان>.

وقد أشار <بونانّو> وآخرون إلى افتقار الدليل على فعالية البرنامج. وفي ضوء التاريخ المليء ببواعث التشكك في التدخلات السابقة يتساءل <بونانّو> ما إذا كانت النتيجة ستكون سيئة أكثر مما هي جيدة. وقد شارك في دراسة، لم تنشر بعد، قامت خلال أحد عشر عاما بتتبع نحو 000 160  جندي من جهات مختلفة في المؤسسة العسكرية، وأمضى نصفهم دورة انتشار واحدة على الأقل إما في العراق أو في أفغانستان. وتظهر هذه الدراسة أن نحو 85%  ممن أرسلوا إلى البلدين قد اعتبروا ممن لديهم القدرة على التحمل والمرونة، وذلك بناء على غياب أعراض الصدمة عندهم، بينما أظهرت الدراسة أن ما يتراوح بين 4 و 6%فقط منهم ظهرت عليهم أعراض الاضطراب PTSD. ويتساءل <بونانُّو>: «إذا كان معظم الناس قادرين على استعادة التوازن والحيوية، وهو ما يبدو من سائر الدراسات التي قمنا بها أنهم هكذا، فما الذي سوف يحدث لهؤلاء الناس إذا أنت قدمت لهم تدريبا يقوم بدور لقاح الإجهاد؟» ويضيف: «هل تستطيع جعلهم أقل قدرة على استعادة المرونة والحيوية؟ إن هذا هو السؤال الذي يتعين الإجابة عنه.»

إن الجيش الأمريكي كلّه لم يتلق تدريبا موحدا على القدرة على استعادة التوازن والحيوية. ويقول <W .P. ناش> [وهو طبيب كان قد أوكل إليه من قبل الإشراف على برامج مراقبة حالات الإجهاد الحاد في فرقة المارينز بالجيش الأمريكي]: إنها ضئيلة هي الأدلة على نجاح التدريب الوقائي في صدد القدرة على استعادة التوازن والحيوية. وهو يقارن الموقف في الجيش بكرة القدم الأمريكية للمحترفين: فمهما يكن من شأن امتداد الزمن الذي يتمرن فيه اللاعبون خلال الأسبوع، فإنه يحدث دائما في أيام الأحد أن يقعوا وأن يصابوا بالكدمات. ويقول: «إنك لا تستطيع أن تمنع الأمور السيئة من أن تحدث. وعلى النحو نفسه، فإنك لا تستطيع أن تحول دون أن يصاب الناس بالإجهاد الحاد.»

هل هناك شيء يمكن فعله من أجل رفع مقدرة شخص معين على المواجهة الإيجابية للمصائب والبلايا؟ إن تسليح الناس قبل أن يحدث لهم شيء من ذلك القبيل قد يفيد وربما لا يفيد. وقد قام بعض الباحثين من ذوي الخبرة المؤكدة – وهم سيكولوجيون وأطباء متخصصون في «المركز القومي الأمريكي للاضطرابات PTSD» – بتطوير طريقة للتعامل تستهدف تحفيز قدرات الشخص على المواجهة الإيجابية أكثر من القيام بالخوض الاستبطاني في ردود أفعال سيكولوجية. وتقول <P.  واطسون> [وهي أحد من ساعدوا على ابتكار ذلك الأسلوب]: «إذا كان أحد ما على ما يرام، فأنت تُقِرُّ بأنهم على ما يرام». «الإسعاف الأولي السيكولوجي»، واسمه الرسمي هذا، ينطلق من التسليم بأن كثيرا من الناس يتعاملون تعاملا حسنا مع الأمور والأحداث معتمدين على أنفسهم: إنه يركز على ما هو عملي وتطبيقي. والطعام والمأوى أمران لهما الأولوية في حالة الكوارث، لكن الضحايا تصلهم أيضا معلومات عن أوجه المعونة المتاحة، كما يتعلمون كيف يقودون بأنفسهم تقدمهم نحو تجاوز الحدث. فبعد حادث الحادي عشر من سپتمبر، ظن بعض هؤلاء الذين كانوا بجوار مركز التجارة العالمي، أن القلق والكآبة ستستمر أعراضهما عندهم لثلاثة أشهر بعد الحادث، وهكذا فقد تجاهلوا نوع المعونة الذي كان متاحا لهؤلاء الذين كانت الأعراض التي تنتابهم ليست مجرد أعراض وقتية عارضة. «فانتهى الأمر بهؤلاء الناس بأن امتدت معاناتهم مدة أطول مما كان ممكنا، وذلك لظنهم أن هذه الأعراض ما هي إلا أمور طبيعية وحسب»، حسب قول <واطسون>. أما فيما يخص الضحايا الذين بلغ عندهم الاضطراب PTSDمبلغه، فإن عقاقير متنوعة من الطب النفسي، وكذلك علاجات تعتمد على علم النفس الإدراكي والسلوكي التي تكشف للمريض منبع الإجهاد الحاد عنده، كل هذا قد أظهر شيئا من النجاح مع هؤلاء الضحايا.

إن المعرفة العلمية الجديدة بشأن القدرة على استعادة التوازن والحيوية تبين لنا أن الطريقة نفسها في العلاج لا يمكن أن تكون مناسبة للجميع من أجل التعامل الإيجابي مع ما يصيبنا. وقد يحدث الأسوأ أحيانا، لكن قدرتنا الفطرية على النهوض من الكبوة تعني أن الأمور، في معظم الأوقات، تعود من جديد لتسير على النحو السليم.

<G. ستكس>، كاتب أول في مجلة ساينتفيك أمريكان.

  مراجع للاستزادة

 

The Other Side of Sadness: What the New Science of Bereavement Tells Us about Life after Loss. George A. Bonanno. Basic Books. 2009.

 

Flourish: A Visionary New Understanding of Happiness and Well-being. Martin E. P. Seligman. Free Press. 2011.

 

(*)THE NEUROSCIENCE OF TRUE GRIT

(**)THE MECHANISMS OF RESILIENCE

(***)Toning Down the Brain’s Alarm System

(****)COPING UGLY
(*****)BE ALL THAT YOU CAN BE

(1) resilience
(2) bereavement

(3) coping ugly

(4) hypothalamus
(5) corticotropin

(6) hippocampus

(7) amygdala
(8) signposts

(9) dehydroepiandrosterone

(10) neuropeptide Y
(11) mock interrogations

(12) post-traumatic stress disorder

(13) molecular switch
(14) nobly

(15) corticotropin – releasing hormone

(16) adrenocorticotropin hormone
(17) St Happens

(18) insight

(19) ج: حِدادي: شخص في حالة حِداد أو: شخص مفجوع.
(20) resilience-state

(21) bereavement

(22) أو: حالة نفسانية مرَضية.
(23) Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders

(24) prospective studies

(25) recall bias
(26) coping ugly أو اضطلاع سيئ.

(27) narcissism أو الافتنان بالنفس.

(28) rumination
(29) bereaved

(30) governor

(31) the armamentarium of positive psychology
(32) mental illness

(33) resiliency

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى