الوِبّ الظل
الوِبّ الظل(*)
للحكومات والشركات سيطرة على الإنترنت أكثر
من أي وقت مضى. والآن يرغب الناشطون الرقميون في بناء
شبكة بديلة لا يمكن إيقافها أو ترشيح محتوياتها أو إغلاقها أبدا.
<J. ديبل>
باختصار
صُممت الإنترنت لتكون نظاما موزعا يمكن فيه لكل عقدة أن تتصل بالعديد من العقد الأخرى. وساعد هذا التصميم على جعلها مقاومة للرقابة أو للهجوم الخارجي. ولكن، في الواقع العملي، يقع معظم المستخدمين الأفراد على أطراف الشبكة، ويرتبطون معها بواسطة مزود خدمة الإنترنت فقط. فإذا جرى إيقاف هذا المزود عن العمل، أدى ذلك إلى منع نفاذهم إلى الإنترنت. ثمة حل بديل وشيك الظهور على شكل شبكات عُرَوية (1) mesh networks لاسلكية، وهي نظم بسيطة تربط المستخدمين النهائيين معا، وتلتف آليا على إجراءات الإيقاف والرقابة. إلا أن أي شبكة عُرَوية تحتاج إلى وجود عدد أصغري من المستخدمين على الأقل كي تعمل على نحو مناسب. ولذا على المطورين إقناع المستخدمين المحتملين بمقايضة سهولة الاستخدام بالمزيد من الخصوصية وحرية النفاذ. |
بعد منتصف ليلة 28/1/2011، وبعد أن واجهت الحكومة المصرية ثلاثة أيام كاملة من المظاهرات المناهضة التي نُظِّمَ بعضها جزئيا عبر الموقع فيسبوك وغيره من شبكات التواصل الاجتماعي، قامت بسابقة في تاريخ الاتصالات في القرن الحادي والعشرين قطعت فيها اتصالات الإنترنت. وبقيت الطريقة التي فعلت بها ذلك غير واضحة، ولكن الدلائل تشير إلى أن خمس مكالمات هاتفية من جهات نافذة مع مزودي خدمة الإنترنت الأساسيين في البلاد هي كل ما لزم. فسجلات تسيير الحركة في الشبكة، تشير إلى أن مزود الخدمة الرئيسي، وهو المصرية للاتصالات(2)، قد بدأ بقطع اتصالات زبائنه بالإنترنت في الساعة 12:12 ليلا بتوقيت القاهرة. وفي غضون الدقائق الثلاث عشرة التالية، تبعته المزودات الأربعة الأخرى. وفي الساعة 40:12 ليلا اكتملت العملية. ويقدر أن نسبة 93% من وصلات الإنترنت في مصر أصبحت حينئذ غير متاحة. وعند شروق شمس اليوم التالي، شق المحتجون طريقهم إلى ميدان التحرير في ظل ظلام رقمي كامل تقريبا.
لم يحقق قطع الإنترنت، من الناحيتين التكتيكية والاستراتيجية، مكاسب كثيرة، فقد كانت الحشود في ذاك اليوم ضخمة جدا، وسيطر المتظاهرون على الساحة. إلا أن الدرس العملي المتمثل بعدم مناعة الإنترنت من الإيقاف بأوامر عليا، كان مقلقا وربما متأخرا.
لقد بُذلت مساع كثيرة بخصوص مقدرة الإنترنت على مقاومة السيطرة عليها. ويُذكر أن الأصول التقانية لهذه الشبكة تعود إلى السعي في حقبة الحرب الباردة إلى بنية تحتية للاتصالات على درجة من المناعة لا تستطيع عندها حتى الهجمات النووية إيقافها. ومع أن ذلك صحيح نسبيا فقط، فإنه يدل على بعض القوة المتأصلة في تصميم الإنترنت اللامركزي الأنيق. فبوجود المسارات الفائضة المتعددة بين أي عقدتين من الشبكة، ولمقدرتها على استيعاب عقد جديدة بطرفة عين، فإن البروتوكول TCP/IP، الذي يُعرِّف الإنترنت، يستطيع ضمان استمرار تدفق البيانات بغض النظر عن عدد العقد المتوقفة، وعن كون توقفها ناجما عن قنبلة ذرية أو عن حكومة مستبدة. ووفقا لمقولة ناشط الحقوق الرقمية <J. گيلمور> الشهيرة: «تُفسِّر الإنترنت الرقابة على أنها عطل وتلتف عليه.»
ذاك هو ما صُمِّمت الإنترنت لتفعله على أية حال. ولكن إذا استطاعت خمس مكالمات هاتفية قطع النفاذ إلى الإنترنت عن 80 مليون مصري، فإن الأمور لم تسر تماما على ذلك النحو عمليا. ولم يكن إيقاف الإنترنت في مصر إلا مثالا صارخا من قائمة متنامية من الحالات التي تبين عدم مناعتها من السيطرة عليها من جهات عليا. ففي أثناء الثورة التونسية قبل شهر من ذلك، اتبعت السلطات نهجا أكثر تخصيصا بحجبها مواقع معينة فقط من شبكة الإنترنت الوطنية. وفي الاضطرابات التي أعقبت الانتخابات الإيرانية في عام 2009، قلصت السلطات حركة الإنترنت على المستوى الوطني بدلا من إيقافها كليا. ووفر «جدار النار العظيم»(3) للحكومة الصينية طوال سنوات مقدرة على حجب أي موقع تختاره. وفي الديموقراطيات الغربية، سمح ائتلاف مزودي خدمة الإنترنت لعدد متناقص من الشركات بالتحكم في حصص متزايدة من حركة الإنترنت، معطيا مزودي خدمة مثل كومكاسْت Comcast و AT&T الحافز والقوة لتوسيع الحركة المقدمة من قبل شركات اتصالات حلفائهم على حساب منافسيهم.
[كيف تعمل] مخاطر الشبكات المركزية(**) عندما هددت الاحتجاجات التي أججها الفيسبوك الحكومة المصرية في السنة الماضية، اختفت الإنترنت من مصر. وتشير السجلات إلى أن جميع مزودي خدمة الإنترنت الرئيسيين في مصر قطعوا اتصالات المستخدمين ببعضهم خلال بضع دقائق. والنظام الوحيد الذي لم يختف هو مجموعة نور Noor Group التي كانت تخدم سوق الأوراق المالية المصرية، والتي أغلقت بعد أربعة أيام. شبكات التخديم المحلي الشائعة الشبكات العُرَوية اللامركزية
|
ما الذي جرى وهل يمكن إصلاحه؟ هل يمكن للإنترنت أن تعود إلى العمل ثانية بمرونة ديناميكية كإنترنت <گيلمور>(4) المثالية، وأن تقاوم بنيويا سيطرة الحكومات والشركات عليها؟ ثمة مجموعة صغيرة، ولكنها متفرغة، من النشطاء الرقميين، تعمل على ذلك. وفيما يلي طريقة لتحقيق هذا الهدف.
إنه عصر يوم صيفي مشمس في محطة توليد الكهرباء في ڤاين زِمَّرينگWien-Semmering في ڤينا بالنمسا. وقد أمضى <A. كاپلان> الدقائق السبع السابقة محصورا في مصعد خدمة ضيق مظلم متوجها إلى أعلى برج مدخنة المحطة الذي يبلغ ارتفاعه 200 متر، وهو أعلى منشأة في المدينة. وعندما وضع <كاپلان> قدميه أخيرا على المنصة في قمة المدخنة، كان المشهد المحيط به رحبا، وظهرت فيه تلال سفوح جبال الألب غربا، وسهول الحدود السلوڤاكية الخضراء شرقا، والدانوب المتلألئ في الأسفل. ولكن <كاپلان> لم يأت إلى هنا للاستمتاع بالمشهد، بل تقدم مباشرة إلى حافة المنصة لفحص أربعة مُسيِّرات(5) Wi-Fi لاسلكية صغيرة محمية من العوامل الجوية ومثبتة على سور المنصة الخارجي.
تشكل هذه المسيِّرات عقدة واحدة في شبكة مجتمعية غير ربحية تسمى فُنكفويَر FunkFeuer، أي منارة راديوية، وقد أسهم <كاپلان> في تأسيسها بصفته المطور الرئيسي لها. وترتبط الإشارات التي ترسلها هذه المسيرات وتلتقطها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بنحو 200 عقدة مماثلة منتشرة على أسطح المباني في ڤينا الكبرى، ويمتلكها ويصونها المستخدمون الذين قاموا بتركيبها لديهم، وتمثل عرض حزمتها جزءا من وصلة إنترنت مشترَكة عالية السرعة يصل مداها واتساع رقعتها إلى حيث يستطيع <كاپلان> رؤيته من قمة المدخنة.
تُعرف فنكفوير بما يسمى بالشبكة العُرَوية اللاسلكية(6). وليس لهذه الشبكة رسوم للاتصال، وكل ما يلزمك هو جهاز يبلغ ثمنه 150 دولارا (مسيِّر لينكسيس Linksys، مثلا، موضوع في علبة بلاستيكية، وفقا لقول <كاپلان>)، وسطح لوضع المسيّر عليه، وخط نظر للاتصال بعقدة واحدة على الأقل. وليس الاتصال الراديوي المباشر بأكثر من بضع عقد أخرى ضروريا، لأن كل عقدة تعتمد على جاراتها لتمرير أي بيانات ترغب في إرسالها إلى العقد التي لا تستطيع بلوغها. وفي الأشهر الأولى لهذه الشبكة، وبعد أن أطلقها <كاپلان> وصديقه <M. باور> في عام 2003، لم يتجاوز عدد عقدها الكلي 12 عقدة، وكان نمط الإرسال فيها، المتسلسل من عقدة إلى أخرى، متقطعا وغير متجانس؛ وعندما كانت تتعطل عقدة واحدة فقط، كان احتمال انقطاع الاتصال بين بقية العقد مرتفعا، وأهم من ذلك، كانت الوصلة الخارجة إلى الإنترنت تنقطع أيضا. ويستذكر <كاپلان> أن الحفاظ على الشبكة وهي تعمل على مدار الساعة كان «أمرا صعبا.» فقد قام مع <باور> بزيارات منزلية عديدة للمساعدة على إصلاح عقد المستخدمين المتعطلة، ومنها زيارة في الساعة الثانية صباحا صعدا خلالها إلى السطح في أثناء عاصفة ثلجية بلغت درجة الحرارة فيها 15 درجة مئوية تحت الصفر.
وأخذت الشبكة فنكفوير بالنمو مع ازدياد معرفة المجتمع المحلي التقنية بما توفره وفقا لمبدأ «عالجها بنفسك.» وعندما أصبح عدد العقد بين 30 و 40 عقدة، غَدَتْ الشبكةُ ذاتيةَ الاستمرار بالعمل. فقد كان توزعها الهندسي غنيا بقدر كاف لتمكين أي عقدة من العثور دائما على مسار بديل كانت توفره عقدة قبل أن تخرج من الخدمة، وذلك بعد أن تجاوز عدد عقد الشبكة العدد الأصغري اللازم «لانطلاق سحر الشبكات العُرَوية،» وفقا لقول <كاپلان>.
وتُعدُّ تقانة الشبكات العُرَوية تقانة جديدة نسبيا، ولكن «السحر» الذي يتحدث عنه <كاپلان> ليس جديدا، فهي تتبع المبدأ نفسه الذي قامت عليه سمعة الإنترنت منذ نشأتها من حيث المرونة البنيوية. فبموجب مبدأ «الخََزِّن والإرسال(7)» store-and-forward بطريقة ابتدال الرزم(8) packet-switched، يستطيع أي حاسوب مرتبط بالشبكة إرسال المعلومات واستقبالها، إضافة إلى توجيهها نيابة عن غيره من الحواسيب أيضا، ولذا يُعدُّ سمة بنيوية أساسية في الإنترنت منذ نشوئها. فهو الذي يحقق ببساطة الوفرة في مسارات النقل المتاحة التي تمكِّن الشبكة من «الالتفاف على العطل.» إنه هو الذي يجعل الإنترنت صعبة الإيقاف، نظريا على الأقل.
لو كان واقع الإنترنت العملي حاليا أكثر قربا من تصميمها النظري، لكانت الشبكات العُرَوية غير ضرورية. ولكن منذ أن تخطت الإنترنت أصولها الأكاديمية في العقدين الأخيرين وغدت خدمة تجارية عميمة على النحو الذي هي عليه الآن، تناقصت أهمية الدور الذي يؤديه مبدأ الخزن والإرسال. فالغالبية العظمى من العقد التي أضيفت إلى الشبكة في تلك الفترة هي حواسيب منازل وأعمال رَبَطَها بالإنترنت مزودو خدمة إنترنت. ووفقا لنموذج الربط عبر المزودين، لا يمثل حاسوب الزبون محطة وسيطة، بل هو نقطة انتهائية أو عقدة طرفية مبرمجة للإرسال والاستقبال عبر حواسيب مزود الخدمة حصرا فقط. وبكلمات أخرى، لم يضِف نمو الإنترنت الانفجاري مسارات جديدة إلى خريطة الشبكة بقدر ما أضاف إليها من مسارات وحيدة المنفذ، وهذا ما جعل مزودي الخدمة وغيرهم من شركات الاتصالات، نقاطا مركزية للتحكم في مئات ملايين العقد التي يخدمونها. وفي هذه الحالة، لا تتوفر لتلك العقد إمكانية الالتفاف على العطل حين تعطُّل مزود الخدمة أو إيقافه. وفي المحصلة، وبدلا من أن يجعل المزودون الإنترنت صعبة الإيقاف، أصبحوا هم أداة الإيقاف.
أما الشبكات العُرَوية فتفعل تماما ما لا يفعله مزود خدمة الإنترنت: فهي تجعل حاسوب المستخدم النهائي يعمل بوصفه محطة وسيطة لنقل البيانات. وبكلمات أقل تقنية، تحول المستخدمين من مجرد مستهلكين للإنترنت إلى مزودي إنترنت لأنفسهم [انظر المؤطر في الصفحة المقابلة]. وإذا أردت تلمس معنى ذلك على نحو أفضل، يمكنك النظر إلى ما كان يمكن أن يحدث بتاريخ 28/1/2011 لو تواصل المصريون بطريقة الشبكات العُرَوية بدلا من التواصل عبر بضعة مزودي خدمة. ففي الحد الأدنى، كان إغلاق الشبكة سيتطلب أكثر بكثير من خمس مكالمات هاتفية. فنظرا لأن كل مستخدم في الشبكة العُرَوية يمتلك جزءا صغيرا من البنية التحتية الشبكية ويتحكم فيه، فإن إيقافها كان سيتطلب عددا من المكالمات الهاتفية يساوي عدد المستخدمين، إضافة إلى إقناع معظم أولئك المستخدمين بإيقاف الخدمة، وهو عدد أكبر كثيرا من عدد المديرين التنفيذيين لدى مزودي الخدمة.
يُعدّ <S. ماينراث> شخصا مفتاحيا في مشهد الشبكات العُرَوية المجتمعية منذ ظهورها. فقد ساعد في أثناء دراسته الجامعية بجامعة Illinois على البدء بإنشاء شبكة تشامپين أوربانا المجتمعية اللاسلكية (CUWiN)، وهي من أولى تلك الشبكات في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي مرحلة لاحقة، شارك في تكوين فريق طوارئ من المتطوعين بعد إعصار كاترينا قام بإنشاء شبكة لاسلكية على عجل امتدت مسافة 60 كيلومترا من المنطقة المنكوبة، وأعادت الاتصالات إلى العمل في الأسابيع الأولى بعد الإعصار. وخلال مسيرته المهنية، انتقل إلى مدينة واشنطن بغية تأسيس شركة أعمال خاصة في مجال الشبكات اللاسلكية المجتمعية، ولكن بدلا من تحقيق ذلك، «اصطادته،» على حد قوله، مؤسسة أمريكا الجديدة(9)، وهي خزان أفكار ذو قدرات عالية، ووظفته فيها لتوليد مبادرات تقانية جديدة والإشراف عليها. وهناك أطلق في وقت مبكر من العام السابق مشروع كومُّوشِن Commotion اللاسلكي، وهو مشروع جديد في الشبكات العُرَوية اللاسلكية المفتوحة المصدر، جرى دعمه بمنحة من وزارة الخارجية الأمريكية مقدارها مليونا دولار.
والهدف القريب الأجل للمشروع هو تطوير تقانة قادرة على «إبطال أي إيقاف كامل للشبكة وأي نوع من أنواع الرقابة المركزية،» وفقا لقول <ماينراث>. ولتوضيح الفكرة، أنشأ <ماينراث> مع زملائه من المطورين الأساسيين لمشروع كومُّوشِن ما أسموه نموذجا أوليا لـ «إنترنت في حقيبة،» وهو مجموعة صغيرة متكاملة من عتاديات الاتصال اللاسلكي ملائمة للتهريب إلى أراضي الحكومات التي تحجب الإنترنت. ومن هناك يمكن للمعارضين والناشطين توفير تغطية إنترنت لا يمكن إيقافها. وتلك الحقيبة هي تجميع لتقانات ليست تامة التكامل، ولكنها فعالة ومعروفة جيدا للمتحمسين للشبكات العُرَوية، ويمكن لأي هاوٍ تجميعها وتشغيلها.
أما السؤال الطويل الأجل الذي يطرحه <ماينراث> وزملاؤه فهو «كيـف يمكن جعل إعداد المنظومة سهلا لتنفيذه من قبل الـ 99.9% المتبقين من غير الهواة من الناس؟» لأنه كلما زاد عدد مستخدمي الشبكة العُرَوية صعبا، ازدادت صعوبة إيقافها.
إن هذا جلي عدديا إلى حد ما: فالشبكة العُرَوية المؤلفة من 100 عقدة تحتاج إلى جهد أقل لإيقافها، عقدة تلو أخرى، من الجهد اللازم لإيقاف شبكة ذات 1000 عقدة. ولعل الأهم من ذلك هو أن الشبكة العُرَوية التي هي أكبر تحتوي على وصلات أكثر مع الإنترنت العامة. وتصبح هذه الوصلات الصاعدة(10)uplinks إلى الإنترنت، وهي عقد البوابات الموزّعة المتناثرة والتي تمثل نقاط الاختناق بين الشبكة العُرَوية وبقية الإنترنت، أكثر مناعة مع زيادة حجم الشبكة العُرَوية. وبوجود مزيد من الوصلات الصاعدة الآمنة ضمن الشبكة العُرَوية المحلية، ينخفض عدد الاتصالات التي تتعرض للاضطراب بسبب انقطاع وصلة ما مع الشبكة العامة. ولما كان بإمكان أي عقدة في الشبكة العُرَوية أن تصبح وصلة صاعدة باستخدام أي وصلة إنترنت خارجية يمكن العثور عليها (وصلة هاتفية عبر مزود خدمة أو هاتف خلوي ذكي موصول بالشبكة،) فإن ازدياد عدد عقد الشبكة العُرَوية يعني أيضا زيادة احتمال استعادة الاتصال بالعالم الخارجي سريعا.
وبكلمة واحدة، حجم الشبكة مهم. إلا أن السؤال المفتوح لدى المهتمين بالشبكات العُرَوية عن المدى الذي يمكن توسيع حجم الشبكة إليه صار سؤالا ضاغطا. فحتى الإمكانية النظرية لاستيعاب الشبكات العُرَوية لعدد كبير من العقد من دون أن يؤثر ذلك في أدائها تأثيرا ملموسا، يبقى موضع خلاف، تبعا للعدد الذي يمكن أن يُعتبر مهما. وقبل بضع سنوات فقط، جادل بعض مهندسي الشبكات في أن حجم الشبكة العُرَوية لا يمكن أن يزيد على بضع مئات من العقد. ولكن أعداد العقد في كبرى الشبكات العُرَوية البحتة تصل حاليا إلى بضعة آلاف، وثمة عشرات من الشبكات المجتمعية المزدهرة، منها ما يستخدم بنى تحتية هجينة فقارية وعُرَوية(11) لجعل عدد العقد فيها يصل إلى 5000 عقدة (ومن أمثلتها شبكة مدينة أثينا اللاسلكية في اليونان)، وحتى إلى 000 15 عقدة (ومن أمثلتها الشبكة Guifi.net داخل مدينة برشلونة وما حولها). إلا أن ثمة شكاً في إمكانية كون الشبكات العُرَوية أكبر من ذلك من ناحية تعامل البشر معها، آخذين في الحسبان كيف ينظر معظم الناس إلى التعامل مع تقانات صعبة ومعقدة كالشبكات العُرَوية.
وخلافا لمعظم التقانات المفتوحة المصدر(12)، التي تسعى إلى التقليل من أهمية واجهة التخاطب(13) الودودة للمستخدم، بدأ أنصار الشبكات العُرَوية يدركون أهميتها لتبسيط عتادياتهم. ومع أن المشروع كومُّوشِن ليس وحيدا في سعيه نحو جعل الشبكات العُرَوية أبسط استخداما، إلا أنه يقترح تبسيطا جذريا فريدا ينطوي على الاستغناء عن تجهيزات العقد العُرَوية من حيث المبدأ، بدلا من تسهيل تركيبها وتشغيلها في المنازل وأمكنة العمل. ويقول <ماينراث>: «الفكرة هي أنه يمكنك إعادة تعريف أغراض الهواتف الخلوية والحواسيب المحمولة والمسيّرات اللاسلكية وغيرها،» ويقول أيضا: «وبناء شبكة مما هو متوفر فعلا في جيوب الأشخاص وحقائب كتبهم.» ويسمي ذلك بالشبكة «القائمة على تجهيزة المستخدم بوصفها بنية تحتية لها.» ووفقا للنموذج الذي يقترحه، فإن كل ما تقتضيه إضافة عقدة أو أكثر إلى الشبكة هو تغيير وضعية مفتاح. يقول <ماينراث>: «من حيث الجوهر، تضغط زرا في جهازك الخلوي آيفون أو أندريود وتقول انضم إلى الشبكة . يجب أن نصل إلى ذلك المستوى من السهولة.»
تخيل الآن عاَلما وصلت فيه الشبكات العُرَوية في النهاية إلى ذلك المستوى من السهولة، وتخلصت من العقبة التي تواجه قابلية الاستخدام الواسع النطاق لتصبح، إلى حد ما، مجرد تطبيق آخر يعمل في خلفية جهاز خلوي. فماذا يحدث بعدئذ؟ هل ستقلص التكلفة المنخفضة لخدمة إنترنت يشغِّلها مستخدموها، خيارات الإنترنت التجارية إلى حدّ أن تُخلي آخر إقطاعيات تزويد خدمة الإنترنت المحلية، المجالَ أمام شبكة عُرَوية واحدة تغطي العالم كله؟
يرى أكثر المؤيدين للامركزية الشبكة أن ذلك لن يحصل. «ففي رأي إن هذا النوع من المنظومات سوف يمثل دائما شبكة إنترنت ضعيفة،» وفقا لقول <J. زيتران> [الأستاذ في كلية الحقوق بهارڤارد، ومؤلف: «مستقبل الإنترنت: وطريقة إيقافها»(14)]. وسوف يسعد <زيتران> أن يرى نهج الشبكات العُرَوية ناجحا، ولكنه يدرك أنه ربما لا يرقى أبدا، من حيث الكفاءة، إلى مستوى بعض الشبكات المتحكم فيها مركزيا. ويقول: «ثمة مزايا حقيقية للمركزية، منها سهولة الاستخدام.» ويشكك <R. روك>، [مؤسس الشبكة] أيضا في قدرة الشبكات العُرَوية على إخراج مزودي خدمة الإنترنت من العمل، وللسبب ذاته يرى أن تلك الشبكات لن تستحوذ على أكثر من 15% من سوقها. ولكن حتى عند هذا المستوى المنخفض من النفاذ، يمكن للشبكات العُرَوية أن «تُطهِّر السوق،» على حد قول <روك>، لأنها تفتح الإنترنت لذوي الدخل المنخفض الذين لا يستطيعون تحمل تكلفة النفاذ إلى الإنترنت بطريقة أخرى، وتدفع بمزودي الخدمة المهيمنين إلى تخفيض الأسعار لجميع المستخدمين.
ولكن مهما كان مقدار الترحيب بتلك المفاعيل الاقتصادية، فإن المفاعيل المدنية التي هي أكثر أهمية، والمتمثلة بمقاومة الشبكات العُرَوية المبنية فيها للرقابة والحَجْب، تحتاج إلى حصة تزيد كثيرا على 15% من السوق كي تزدهر. وإذا كان من الواضح أن قوى السوق وحدها لن تساعد الشبكات العُرَوية على بلوغ رقم أعلى، كان السؤال: من القادر إذاً على ذلك؟
عادة، عندما تخفق الأسواق في تقديم خدمة اجتماعية، فإن أولى الجهات التي يجري التوجه نحوها لإصلاح ذلك هي الحكومة. وفي هذه الحالة خصوصا، ليس ذلك مكانا سيئا للتوجه إليه. فالشبكة العُرَوية نفسها التي تلتف على الرقابة معتبرة إياها عطلا، تستطيع الالتفاف على عطل حقيقي بالكفاءة نفسها، وهذا ما يجعلها قناة اتصالات مثالية لمواجهة الأعاصير والزلازل والكوارث الطبيعية الأخرى التي عادة ما تتولى الحكومات مهمة الحماية منها. لذا يرى <زيتران> أن من الحكمة أن تسهم الحكومات بفعالية في نشر الشبكات العُرَوية، لا بين المعارضين في الدول الأخرى فحسب، بل بين مواطنيها أيضا. وكل ما يتطلبه ذلك هو أن يكون كل هاتف خلوي يباع في الولايات المتحدة مزودا بإمكانات شبكة طوارئ عُرَوية، بحيث يكون جاهزا ليتحول إلى عقدة وسيطة بمجرد الضغط على زر فيه. ومن ناحية السياسة العامة، يقول <زيتران> : «ينبغي بناء ذلك من دون إبطاء، وعلى هيئات الأمن الوطني وسلطات فرض القانون دَعْمُ ذلك.»
إلا أنه من السهل تصور العقبة المتمثلة بهيئات فرض القانون وهي تتهم شبكة عُرَوية وطنية بأنها وسيلة لتيسير اتصالات المجرمين والإرهابيين ببعضهم بعيدا عن شركات الهاتف وتزويد خدمة الإنترنت التي تسهل الرقابة. تلك هي التعقيدات التي يواجهها الاعتماد على الحكومة في دعم الشبكات العُرَوية، في الوقت الذي تكون فيه الحكومات هي غالبا التي تُحدِث الضرر الذي تَعِد الشبكات العُرَوية بإصلاحه.
لذا ثمة شك في أن يكون من الممكن الاعتماد على قيام الحكومات بتلك المهمة على نحو أفضل مما تفعله الأسواق. إلا أنه لدى <E. موگلِن> بعض الأفكار بخصوص تحقيق ذلك. و<موگلِن> هو أستاذ حقوق في جامعة كولومبيا، وبقي سنوات كثيرة محاميا لمؤسسة البرمجيات الحرة Free SoftwareFoundation، وهي مجموعة لا ربحية من الناشطين الرقميين. وفي الشهر 2/2012، مستوحيا جزئيا من الأخبار القادمة من تونس، أعلن <موگلِن> مشروعا أسماه فريدوم بوكس FreedomBox، أي صندوق الحرية. وأعلن أيضا أنه يبحث عن تمويل لتأسيس المشروع، وذلك على موقع جمع التبرعات مثل كِكسّتارتر Kickstarter، وتمكَّن من تحصيل 000 60 دولار خلال خمسة أيام.
وثمة عدد من أوجه التشابه بين المشروعين فريدوم بوكس وكومُّوشِن، بعضها كان محض مصادفة، على حد قول: <ماينراث> (مع أنه عضو في اللجنة التقنية الاستشارية لمؤسسة فريدوم بوكس). فعلى غرار كومُّوشِن، حطم المشروع فريدوم بوكس التوقعات بنموذجه الاستعراضي الأولي FreedomBox، وهو جهاز شبكة حجمه يساوي تقريبا حجم لبنة آجر صغيرة، وثمنه يساوي «149 دولارا عند شرائه بكميات صغيرة، وسوف يستعاض عنه في النهاية بحفنة من العتاديات بنصف التكلفة أو أقل،» وفقا لقول <موگلِن>.
ومرة أخرى على غرار كومُّوشِن، لا يرتبط فريدوم بوكس بأي صيغة عتادية محددة، بل هو مجموعة برمجيات يمكن أن تُنفَّذ في عدد كبير من وحدات المعالجة المركزية المرتبطة شبكيا، والمنتشرة في منازلنا ومختلف مناحي حياتنا مثل «الغبار تحت الأرائك،» وفقا لقول <موگلِن>. ويمكن لجميع تلك الوحدات أن تصبح بنية تحتية لإنترنت «تعيد للخصوصية توازنها» وتسترجع مفهوم «شبكة الأنداد اللامركزية(15).» إن ثمة عناوين بروتوكول إنترنت في التجهيزات الملحقة بأجهزة التلفاز وفي الثلاجات، وأي منها، يقول <موگلِن>، يمكن أن يكون جهاز فريدوم بوكس. ليس هذا لمجرد جعل البنية التحتية لامركزية فحسب، بل أيضا لجعل البيانات لامركزية. وعلى سبيل المثال، يرى <موگلِن> أن تركيز بيانات المستخدم في خدمات سُحبية(16) cloud servicesمن قبيل الفيسبوك وگوگل، هو تهديد للخصوصية وحرية التعبير يماثل التهديد الناتج من تركيز الحركة في مزودات خدمة الإنترنت. ولمواجهة هذا التوجه، سوف يُستمثل(17) فريدوم بوكس للعمل في شبكات تواصل اجتماعي أخرى مثل دياسپورا Diaspora التي تخزن بياناتك الشخصية في حاسوبك، دون أن يشاركك فيها سوى الأشخاص الذين تختارهم عبر شبكات الند للند(18).
ومع ذلك، يقول <موگلِن> إن العنصر الأساسي في هذا المشروع هو «الإرادة السياسية التي يظهرها جيل من الشباب الذين باعتمادهم على الشبكات الاجتماعية يزداد وعيهم بنقاط ضعفهم وضعف الآخرين في الشبكة.» وهذه الجدية هي ما يُعوِّل عليه في التحفيز الجزئي لكثير من المبرمجين المشاركين في هذا المشروع. وهي أيضا أرجح الدوافع لاعتماد المستخدمين هذه التقانة. ويرى <موگلِن> أنه في غياب حملة مستديمة من الدعاية التقنية، ليس واضحا ما هو الشيء الذي سوف ينبه المستخدم العادي إلى التكلفة الباهظة لتآكل الحرية والخصوصية التي ندفعها لقاء سهولة الاستخدام وغيرها من المزايا المباشرة والمحسوسة.
ويقول <موگلِن>: «لا يُحسِن الناس تقدير الخطر الناجم عن انعدام الخصوصية بنفس قدر استهانتهم بالعواقب التراكمية للأفعال الأخرى المدمرة بيئيا» التي من قبيل رمي النفايات والتلوث. ويتابع: «إنه من الصعب على البشر التفكير بيئيا، فهذا ليس من بين الأشياء التي تطور دماغ الرئيسيات لفعلها.»
يوحي ذلك بأن إعادة اختراع الإنترنت لا يمكن أن تكون مسألة تغييرات تقنية ضئيلة فحسب. بل إنها تتطلب حراكا سياسيا واسعا وطويل الأجل كالحراك البيئي. وإذا لم تستطع الحكومة أو السوق نقلنا إلى هناك، ربما كان تغيير الوعي الجماعي وحده هو الذي سيفعل ذلك، على غرار ما فعلته حركة الخُضْر بقوة الإرادة. لم يُدوِّر النفايات أحد من قبل، ومع ذلك نحن نفعل ذلك الآن. ولا أحد يستخدم البنية التحتية العُرَوية الآن، ولكننا قد نفعل ذلك يوما ما.
وحتى عندئذ، ليس ثمة من إجراء تقني واحد يمكن أن يكون كافيا للحفاظ على الحريات التي توفرها الإنترنت وتحتضنها. ويعود ذلك، في النهاية، إلى أن الإنترنت، حتى ولو كانت مثالية ومنيعة، لا تستطيع وحدها مقاومة القوى الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع نحو إعادتها إلى المركزية. والشبكات العُرَوية هي واحدة من الطرائق التي يمكن أن تساعد على المقاومة. «إن هذه الشبكات العُرَوية مناسبة للمجتمعات، وكلما ازداد حجمها أصبحت أفضل،» على حد قول <كاپلان> [مؤسس فنكفوير]. ولكن حتى الشبكة العُرَوية الواحدة التي تغطي العالم كله، يمكن أن تكون مهددة باتباع الخطوات التطورية نفسها التي أدت إلى تشويه الإنترنت الحالية. ويضيف <كاپلان>: «الشبكات العُرَوية ليست بديلا عن الإنترنت، بل هي جزء منها فقط ولا مكان للأفكار المثالية هنا.»
المؤلف
Julian Dibbell | |
يكتب عن الإنترنت والثقافة الرقمية منذ نحو عقدين، وهو مؤلف كتاب «نقود اللعب: كيف استقلت من عملي اليومي وحصلت على الملايين من تجارة الغنائم الافتراضية،»(19) وهو محرر أفضل كتابة تقانية في عام 20100. |
مراجع للاستزادة
A Survey on Wireless Mesh Networks. I. F. Akyildiz and Xudong Wang. IEEE Communications
Magazine, Vol. 43, No. 9, pages S23-S30; September 2005.
Freedombox: http://freedomboxfoundation.org
Funkfeuer: www.funkfeuer.at/index.php?L=1
The Mesh Networks Research Group: www.mesh-networks.org
(*)THE SHADOW WEB
(**)The Perils of Centralized Networks
(1) شبكة تعمل فيها كل عقدة مسيِّرا، بغض النظر عن كونها متصلة بشبكة أخرى أم لا. أما فيما يخص التسمية اللغوية، فكلمة mesh تصف بنية لها شكل شبكة صيد الأسماك المكونة عمليا من عرى متجاورة. وبهذا المعنى تكون مجموعة عقد الشبكة موضع الاهتمام هنا مشابهة بشكلها لعرى شبكة صيد الأسماك. (التحرير)
(2) Telecom Egypt
(3) great firewall
(4) Gilmore
(5) routers: مُسيِّرات أو راوترز.
(6) wireless mesh network
(7) أو «خزّن ووجّه»: تقنية اتصالات تستقبل فيها البيانات في محطة وسيطة وتخزن إلى حين توفر مسار لها باتجاه المكان المرسلة إليه أو باتجاه عقدة وسيطة أخرى.
(8) نمط من إرسال البيانات تجزأ فيه الرسالة إلى عدد من الرزم المستقلة التي ترسل عبر الشبكة مستقلة بعضها عن بعض وتجرى إعادة تجميعها في طرف الاستقبال. (التحرير)
(9) New America Foundation
(10) uplink الوصلة الصاعدة إلى الإنترنت هي الوصلة التي تربط بين الشبكة المجتمعية والإنترنت.
(11) hybrid mesh-and-backbone infrastructures
(12) open-source technologies
(13) user-friendly interface: واجهة تخاطب ودودة للمستخدم،
Interface: النقطة التي تلتقي عندها منظومتان أو هيئتان وتتفاعلان معا. (التحرير)
(14) The Future of the Internet: And How to Stop It
(15) a decentralized network of peers
(16) خدمات توفر حوسبة وخزناً للبيانات في الإنترنت.
(17) optimized
(18) peer-to-peer (التحرير)
(19) Play Money: Or How I Quit My Day Job and Made Millions Trading Virtual