أحيت بعثة فينيكس المريخية الآمال في أن يكون الكوكب
الأحمر صالحا للحياة، ومهدت الطريق لمركبة جوالة جديدة(1).
<H .P. سميث>
تنويه
في طريق هذه المجلة إلى المطبعة، أذاعت وكالات الأنباء العالمية الخبر المبهر: هبوط المركبة الجوالة (كيوريوزيتي) بسلام على سطح الكوكب الأحمر (المريخ) وذلك بعد ثانية واحدة فقط من موعد هبوطها المتوقع؛ وقد قطعت في رحلتها هذه مسافة 570 مليون كيلومتر.
ويحق للقائمين على هذا المشروع الذي استغرق عشر سنوات أن يفخروا بجهودهم الجبارة التي أدت إلى هذا الإنجاز العلمي والتقاني غير المسبوق.
(التحرير)
مشهد بانورامي جزئي لموقع بعثة فينيكس Phoenix يُظهر إحدى منظومتي اللوحتين الشمسيتين، وخلفها منطقة من السطح تعكس ما يشبه أشكال المضلعات التي هي من صفات مناطق الجليد السرمدي على كل من المريخ والأرض.
تخطط وكالة الفضاء الأمريكية (NASA) لإطلاق أحدث بعثاتها وأكثرها تطورا في الشهر 11/2011 إلى الكوكب الأحمر: وهي بعثة مختبر علوم المريخ (2)(MSL). وبعد هبوط درامي في فوهة گيل Gale Crater باستخدام رافعة سماويةskycrane لعملية الإنزال الأخيرة، ستندفع المركبة المسيَّرة بالطاقة النووية قرب أحد أغنى مكامن الغضار وأملاح السلفات (الكبريتات) على الكوكب – التي هي بقايا حقبة، كان المريخ خلالها غنيا بالمياه وكانت الأنهار خلالها تكوِّنُ شبكات من الوديان على سطحه.
وبحجمها الذي يَقرُبُ من حجم سيارة صغيرة، سوف تمضي المركبة الجوالة (واسمها كيوريوزيتي)(3) عاما مريخيا وهي تستكشف قاعدة الذروة المركزية في الفوهة – التي يعتقد أنها أقدم أجزائها عمرا. وإذا وافقت الوكالة NASA على تمديد عمل بعثتها، فستبدأ المركبة كيوريوزيتي بتسلق ركام يملأ مركز الفوهة، ارتفاعه خمسة كيلومترات، لترتفع معه إلى أعلى سلم الزمن الجيولوجي نحو مكامن رسوبية توضعت في الحقبة الحديثة، ولتمعن في دراسة العناصر المعدنية المائية طبقة تلو أخرى. تستطيع ذراع إنسالية(4) robotic على الجوالة أن تحصل على عينات وتلقمها مختبرا كيميائيا على متن المركبة من خلال منفذ في أعلاها. وفي الداخل، ستقوم أجهزة تحليل بتعيين البنى المعدنية والتركيب العنصري للعينات. ويمكن لهذه المعدات أن تتحسس أيضا المواد العضوية، وستحاول تحديد ما إذا كان المريخ صالحا للحياة فيما مضى.
إن بعثة مختبر علوم المريخ هي خطوة منطقية في سياق تلاحق البعثات المريخية عبر الخمسة عشر عاما الماضية، وهي تعتمد على أسس أرستها اكتشافات جوالات سوجورنر وسپيريت وأپورتشونيتي(5)، وأحدث مركبة هبوط، هي فينيكس. لقد كشفت هذه البعثات، إضافة إلى سلسلة من المرْكبات المدارية، عالما بالغ التعقيد تشابكت أحداث تاريخه، بما في ذلك حقبة منصرمة من الأمطار والبحيرات(6). وحتى في حالته المتجمدة والجافة الحالية، فالكوكب يُظهر إشارات تدل على نشاط ما. ومن بين أكثر هذه الإشارات إثارة وغموضا، تلك الآثار الضئيلة التي تدل على وجود غاز الميثان فوق منطقة Nili Fossae. لقد دفعت هذه الإشارات علماء الكواكب إلى الانخراط في جدل حول منشأ هذا الغاز، إذا كان وجوده حقيقيا. فهل مَنْشَؤُه جيولوحي أو بيولوجي؟ [انظر: «سر الميثان على المريخ وتيتان»، ، العددان 9/10 (2007)، ص4 ]. وفي هذا العام (2011) كشفت المركبة (7)(MRO) المدارية خطوطا سطحية على الكوكب، وأسهل تفسير لها هو أنها انبعاث موسمي لماء مالح.
ولكن ما يخالف جميع هذه العجائب، النتائجُ الصارخة لمركبتي الهبوط التوأم ڤايكنگ في عام 1976. فقد وجدت المركبتان أن المريخ مكان معادٍ جدا لأي كائن حي: إذ غاب الماء والجزيئات العضوية عن عينات التربة، فضلا على وجود ميكروبات هاجعة فيها. وقد أدى وجود مؤكسدات oxidants قوية جدا، مثل بيروكسيد الهدروجين(8) والإشعاع فوق البنفسجي الشديد، إلى تعقيم سطح الكوكب. لذا فقد بدا لمعظم العلماء أن البحث عن الحياة على المريخ بدأ وانتهى ببعثتي ڤايكنگ.
كيف نوفق بين هذا التقييم الكئيب وبين عجائب الكوكب التي لا شك فيها؟ ربما تكمن الإجابة في بعثة فينيكس. فقد أوحت تجاربها الكيميائية على تربة المريخ، التي هي الأولى منذ بعثة ڤايكنگ، بتفسير بديل لنتائج ڤايكنگ السلبية: إذ يحتمل أن هذه البعثة لم تكتشف وجود جزيئات عضوية، لأن طريقتها في التحليل أتلفتها دون قصد. لقد وجدت المركبة فينيكس أيضا جليد ماء قريبا من السطح، وهو ما افترض وجودَه سابقا علماءُ الكواكب، ولكن دون رؤيته مطلقا في الواقع. وعلى الرغم من جفاف جارنا المريخي وقحله، فربما مازال صالحا للحياة فعلا.
ومع إدراكنا واستيعابنا لمضامين ذلك، ومع تأهب مركبة أخرى لمتابعة الأبحاث، فهذا الوقت يبدو مناسبا لمراجعة موقفنا المتقلب تقنيا وعاطفيا لإعداد بعثة فضائية تبحر بين الكواكب، ومراجعة الأسباب التي أدت إلى اعتبار بعثة فينيكس وكأنها لم تحدث تقريبا.
باختصار
بعد تأخر امتد عامين، ها هو مختبر علوم المريخ MSL يبدو جاهزا للانطلاق في الشهر 11/20111، حاملا معه أحدث شحنة معدات لتحليل تربة السطح ترسل إلى المريخ.
أما المشكلات التي سيتعامل معها المختبر, فقد حُددت جزئيا من قبل بعثة فينيكس لعام 2008، التي كشفت أن التربة المريخية ربما لم تكن معادية تماما للكائنات الحية, بقدر ما أوحت به بعثة ڤايكنگ في عام 1976.
إن بعثة فينيكس لم تكتشف فقط مواد اشتبه علماء المريخ دوما بوجودها دون رؤيتها مطلقا، مثل جليد ماء تحت سطحي وكربونات الكالسيوم – بل اكتشفت أيضا ما هو غير متوقع، بما في ذلك فوق الكلورات perchloratesوكسف ثلجية رقيقة.
(التحرير)
نهوض من الرماد(**)
هاكم حادثة لا تتكرر كل يوم، وهي أن يتصل بك أحدهم ويعرض عليك تقديم مركبة فضائية مجانية. ولكنّ هذا حدث في وقت مبكر من عام 2002، إذ قام عدة علماء في مركز أبحاث إيمس التابع للوكالة (9) NASA بفعل هذا تماما. فقد ذكّروني حينها أن صندوقا طوله 100 أقدام يوجد في الغرفة المعقمة في شركة لوكهيد مارتن بدنڤر، ويحتوي على المركبة سيرڤيير Surveyor الفضائية محفوظة فيه. وفي عام 2001 كان مقررا إطلاق هذه المركبة، ولكن الوكالة NASAألغت الرحلة بعد فقدان توأمها، المركبة مارس بولار لاندر (10) (MPL)، أثناء عملية هبوطها على سطح المريخ في الشهر 12/1999. مثّل فقدان المركبة صدمة شديدة للوكالة، وهي خسارة حدثت بعد أسابيع فقط من اختفاء المركبة مارس كلايمت أوربتر (11) (MCO) المدارية أثناء تنفيذها مناورة الدخول في مدار حول الكوكب؛ وافترضت الوكالة أن المركبة تحطمت. كان الأمر صدمة لي شخصيا أيضا: فأنا من ترأس الفريق الذي صَمَّم وصنع كاميرا المركبة.
لقد أراد علماء مركز إيمس أن يعيدوا إحياء المركبة سيرڤيير كجزء من البرنامج Scout الاستكشافي الجديد التابع للوكالة NASA، وطلبوا إليّ أن أكون العالم الرئيسي. لقد أذهلني هذا الطلب، لذا ترددت في القبول. فمشاركاتي سابقا في عمليات استكشاف كواكب طوال أكثر من عشر سنوات، كنت خلالها أسافر باستمرار، وأعقد اجتماعات لا تنتهي، وأرد على مكالمات هاتفية لا تتوقف – كل هذا أفقدني الشعور بالإثارة، وأبعدني عن الأبحاث العلمية التي تدربت عليها.
وأكثر من ذلك، فعندما عُرِض عليّ هذا العمل لم يكن المشروع الجديد قد حَظِيَ بتمويل، ولا بمدير تخطيط، ولا بدعم من مؤسسة كبيرة، ولم يبق سوى بضعة أشهر على الموعد المحدد لإرسال البعثة. ومع ذلك، فقد تملكتني رغبة جامحة لقيادة فريق يقوم باكتشاف تلك الأدلة السحرية، وفك الرموز المعقدة التي أربكت أبحاث المريخ، علما بأنني لم أعتقد قطُّ بصحة نتائج مركبتي الهبوط ڤايكنگ. إذ كيف أمكن لهما ألا تجدا مادة عضوية؟ هل يمكن لهذه المادة أن تبقى خفية إلى أن تتمكن بعثة جديدة، ذات تصميم مناسب، من اكتشافها؟
ظللت في صراع مع نفسي طوال أسبوعين. كان عليّ أن أحدد أهدافا علمية مهمة للبعثة. لقد صُمِّمَت المركبة سيرڤيير كَيْ تهبط قرب خط استواء الكوكب، وتأخذ عينات من تربة المريخ بذراع إنسالية robotic، وتطلق مركبة جوالة صغيرة تقوم بتحليل الصخور القريبة. وحملت المركبة أيضا معدات علمية أريد منها الإعداد لبعثة بشرية في النهاية. ولكننا لم نستطع إضافة مشروع الجوالة إلى موازنة المشروع Scout الاستكشافي، ولم يكن علينا الإعداد لبعثات بشرية. لذا كان ممكنا للمعدات الجديدة أن تحل محل القديمة. ولكن الاختيار سيعتمد على أهدافنا العلمية الأساسية التي لم تكن قد حددت بعد.
بعد أسبوع من هبوطها، رصدت المركبة مارس فينيكس – وهي تحدق أسفلها – لطخات بيضاء ناعمة ربما كانت جليد ماء تكشف عندما أزاحت محركات هبوط المركبة الغبار بعيدا. (أمامية الصورة foreground مشوهة. تقف فينيكس فوق أرض مستوية تقريبا).
عند هذه النقطة، وبتزامن رائع، أعلن <W. بوينتون> [زميلي في جامعة أريزونا] اكتشاف جليد مائي تحت السطح في المناطق المحيطة بالقلنسوة القطبية الجنوبية للمريخ. قاد <بوينتون> الفريق الذي بنى وشغّل مقياس طيف أشعة گاما gamma-ray spectrometer على المركبة مارس أوديسي(12)المدارية، وهي آلة لا تلتقط إشعاع گاما فقط، بل النترونات(13) أيضا، التي تخترق أماكن تركيز الهدروجين في المتر الأعلى من تربة الكوكب. لقد رصدت هذه الآلة أيضا، إشارات ضعيفة إلى وجود ماء في السهول الشمالية، بما في ذلك جزء صغير من تربة غنية بجليد الماء توجد عند أقصى امتداد لقبعة جليد ثنائي أكسيد الكربون الشتوية. (تزداد وتنحسر مساحة هذه القبعة الجليدية بتعاقب الفصول.) قمت بوضع علامة X على خريطتي لتمييز هذه المنطقة، وبدأت فورا باختيار الآلات التي يمكنها متابعة هذا الاكتشاف.
لكوكب الأرض منطقة من الجليد الدائم تحيط بالمنطقة القطبية الشمالية، مشابهة لما هو على المريخ. إنها ثلاجة الكوكب التي تحفظ الدلائل المميزة لأشكال الحياة التي وُجدت هناك. يمكن أن يكون عمر هذا الجليد مئات الآلاف من السنين. لقد سمعت في مؤتمر مخصص لقطبي المريخ أن <E. ڤيلرسليڤ> [من جامعة كوبنهاگن] أجرى تحليلا لدنا DNA عينات أخذت من جليد المجالد(14) في جزيرة گرينلاند ومناطق الجليد الدائم في سيبيريا، واكتشف تنوعا هائلا من النباتات والحيوانات ومتعضيات organismss أخرى. تُرى، هل يمكن أن يكون الأمر ذاته صحيحا في المريخ الذي ربما يبلغ عمر جليده عدة ملايين من السنين؟
[الهبوط على المريخ]
لؤلؤة حمراء(***)
هبطت سبع مركبات فضائية بنجاح على سطح المريخ حتى الآن، معظمها في مناطقه المدارية. أما بعثة مارس فينيكس فقد هبطت ضمن الدائرة المتجمدة الشمالية للمريخ، لكن الوصول بسلام إلى سطح هذا الكوكب ليس بالإنجاز الهين. فغلاف المريخ الغازي سميك بما يكفي كي تحتاج المركبة إلى درع حرارية، ولكنه ليس سميكا بما يكفي لإبطاء مظلة الهبوط إلى سرعة ملامسة السطح. أنجزت المركبات فينيكس وڤايكنگ ومارس 3 السوڤيتية القصيرة العمر مرحلة الهبوط الأخيرة بإشعال محركات صاروخية، أما المركبات سورجورنر وسپيريت وأپورتشونيتي فقد قفزت إلى وعلى السطح باستخدام أكياس هوائية، وستنزل كيوريوزيتي باستخدام رافعة سماوية.
قمت بإنشاء شراكة بين جامعة أريزونا، ومختبر الدفع النفاث (15) (JPL) التابع للوكالة NASA، وشركة لوكهيد مارتن. وقد أطلقنا على بعثتنا اسم فينيكس Phoenix، لأننا كنا نعيد بعثة سيرڤيير الملغاة إلى الحياة ثانية، كما حدث لطائر فينيكس الأسطوري. هكذا بدأت المحنة التي امتدت عاما ونصف العام لكتابة مقترحات، والتنافس مع تصورات ومقترحات 20 بعثة أخرى، بلغت ذروتها مع زيارة ميدانية دامت 8 ساعات من قبل لجان المراجعة في الوكالةNASA. وفي الشهر 8/2003، اختارتنا الوكالة NASA لنكون أول بعثة استكشافية للمشروع Scout إلى المريخ. وقد مَنَحَنا تاريخ الإطلاق المحدد في الشهر 8/20077، أربع سنوات للإعداد.
حمى الرادار(****)
أخرجنا المركبة الفضائية من صندوقها، وبدت مثل فراشة عملاقة، امتلأ جسدها بمعدات علمية، وشابه لوحاها الشمسيان الكبيران جناحين ممدودين. ووقفت على ثلاث أرجل؛ وبرزت زائدتها الوحيدة – التي هي الذراع الإنسالية الآلية – من جانبها.
أمضينا السنوات الأربع التالية في إجراءات تفحص وإعادة هندسة وإعادة فحوص واختبارات لاكتشاف أخطاء التصميم التي فتكت بشقيقتها السابقة. وبوجه عام، وجدت الفرق الهندسية في لوكهيد مارتن ومختبر الدفع النفاثJPL، نحوا من 25 عيبا رئيسا. وعلى الرغم من مشقة عملية إزالة جميع هذه الأخطار، إلا أنها كانت لاتزال أسهل وأرخص تكلفة من بناء مركبة فضائية من لا شيء، وهي عملية ستحمل مخاطرها الخاصة بها. جرى إصلاح معظم هذه العيوب بسهولة بإضافة أدوات تدفئة، وتقليص حجم المظلة، ودعم بنية المركبة. وتطلَّب بعضها تعديلات في البرامج الحاسوبية. ولكن عيبا معينا استعصى على الفهم أو المعالجة بذات الدرجة من السهولة.
أخفق رادار الهبوط في الاختبارات، ولم يعد الصانع يقدم دعما فنيا له، علما بأنه لم يتبق سوى أشهر قليلة للإطلاق.
كان رادار هبوط المركبة قطعة أخذت من طائرة مقاتلة F-16 تعود إلى أواخر عقد التسعينات. وعندما أجرينا اختبارات هبوط في صحراء موگاڤي، ارتكب الفريق أخطاء حرجة في قراءة الارتفاع، وعانى قصورا في قراءة معطيات الرادار في لحظات غير مناسبة. وبغية معرفة وإدراك آليات عمل الرادار الداخلية، قمنا بالتشاور مع <هونيويل>، الذي قام بتصميم الرادار. وعلى الرغم من رغبة الشركة في مساعدتنا، فإن هذا النموذج القديم لم يعد يقدم أي خدمة فنية إضافية: إذ ترك الفنيون الذين صمموه عملهم، وكانت سجلات مخططاته مجرد رسومِ مسوَّدة على الورق.
قمنا بتكوين فريق شجاع من المهندسين من شركة لوكهيد مارتن، والمختبرJPL و<هونيويل>، ومركز أبحاث لانگلي التابع للوكالة (16) NASA. وبجمع نماذج المحاكاة الحاسوبية مع اختبارات أخرى، نجح الفريق بالمضي وببطء بتخطي متاهة الشذوذات وأصلح العيوب. وفي الشهر 10/2006، أجرينا اختبارا تكلل بالنجاح، وبدا كل شيء على ما يرام.
ولكن آمالنا تلاشت ثانية. فقد اكتشفنا أن الانعكاسات المرتدة عن الدرع الحرارية المطروحة يمكن أن تشوش عمل الرادار وتحدث خطأ حسابيا خطيرا في قراءة الارتفاع. تبين لنا، أيضا، أن عمل الهوائيات ومفاتيح التحويل عرضة للفشل. وبدت المشكلات من دون نهاية. وفي الشهر 2/2007، أي قبل 5 أشهر من موعد وضع المركبة الفضائية في عربة الإطلاق، كنا نحقق في 65 خطأ.
يشمل غلاف التحليق الخاص بمختبر علوم المريخ MSL، الذي خطط لإطلاقه في الشهر 11/2011، درعا حرارية أكبر من التي زودت بها كبسولات أپولو.
من دون رادار موثوق، سيكون إرسال المركبة موضع شك. لذا قامت لجان المراجعة في الوكالة NASA بمتابعة الوضع عن كثب، وأبدت قلقها من استمرار اكتشافنا أخطاء جديدة. ومن ناحية أخرى، كانت درجة خطورة هذه الأخطاء تتراجع. ومع حلول الشهر 6/2007، استطعنا إقناع لجان المراجعة, ومديرينا في الوكالة NASA, أن درجة المخاطر المتبقية كانت مقبولة. ومع ذلك، فقد بدا الأمر أشبه بمغامرة. فلو تواصل اكتشافنا نقاطَ ضعف إلى حين تاريخ الإطلاق، فربما يكون هناك مزيد منها كامنا داخل المنظومة.
فينيكس في السماء(*****)
في الشهر 8/2007، أنهينا الاختبارات الأخيرة في مركز كنيدي الفضائي، وتهيأنا لوضع المركبة على متن الصاروخ دلتا IIا (Delta II). ثم جاءت لحظة أتمنى نسيانها. فحين كانت الرافعة ترفع المركبة إلى رأس الصاروخ الذي ارتفاعه 130 قدما (40 مترا تقريبا)، هبت عاصفة برق هوجاء، وألزمت إجراءات الأمان الفنيين بإخلاء برج التجميع. كانت المركبة الفضائية، بأجزائها الإلكترونية الحساسة والضعيفة الوقاية، والمعلقة على ارتفاع 60 قدما (18 مترا تقريبا) فوق الأرض، تتعرض لعاصفة صيفية مرعبة.
بعد انتهاء العاصفة، قمنا بإعادة المركبة إلى مبنى التجميع، وأخذنا نفحصها بحثا عن أذى ربما لحق بها. وقد حدثت معجزة عندما لم نجد فيها ضررا حلّ بها.
وفي وقت مبكر من يوم 4/8/2007، بدأ العد التنازلي للإطلاق. اندفعت خارجا من الحرم الداخلي لغرفة التحكم لمشاهدة الإطلاق مباشرة. كانت الساعة 5:15 صباحا، وكانت النجوم تُرى بوضوح. بدا المريخ ساطعا في جهة الشرق. وفجأة أضيئت المباني كلها كما لو أن الشمس أشرقت. وبصمت، أخذ الصاروخ يندفع في السماء لعدة ثوان وكانت المنطقة مضيئة لدرجة تكفي لقراءة كتاب ورؤية الألوان. وبعد ثلاثين ثانية من الإطلاق وصلني صوت الإطلاق، ضاغطا على صدري بموجات ناتجة من دويِّه. كانت الصواريخ الصلبة الستة تطرح وتنفصل، مثل ألعاب نارية، لتسقط بعدئذ في مياه الأطلسي، ثم تشتعل الصواريخ الثلاثة المتبقية. أصبحت فينيكس في طريقها إلى المريخ. وأدركت حينها أنني لم أنعم بلحظة راحة منذ وقت طويل.
انتهت عملية الإطلاق في مدة دقيقتين، ولم يبق منها سوى أثر دخان نار الصاروخ في السماء المعتمة. عدنا إلى غرفة التحكم لتناول وجبة خفيفة وفنجان قهوة. حملت فطيرتي، وعدت أتجول خارجا لأشاهد شروق الشمس. كان هناك شيء ما غير عادي يحدث في السماء. ولم أتبينه إلا بعد بضع دقائق. كان أثر دخان الصاروخ يدور مع رياح أعالي الغلاف الغازي التي أضاءتها الشمس المشرقة. في تلك اللحظة، تكشفت لي الصورة: كان أثر الدخان يشكل صورة مماثلة لطائر الفينيكس. استطعت تمييز المنقار والجناحين، وذيل طويل يخفق باتجاه الخلف ثم إلى الأمام فوق رأس الطائر، كما نرى في الرسوم الصينية. لم يسبق لي مطلقا أن دهشت إلى هذا الحد من شكل سحابة. هل يمكن أن تكون هذه فألا حسنا يدل على أن رحلتنا إلى المريخ ستكلل بالنجاح؟ امتلأ قلبي بالمشاعر والعواطف. أما الفطيرة فقد نسيتها.
الهبوط على التربة(******)
بعد عشرة أشهر من الإطلاق، كانت الفرق الهندسية في مختبر الدفع النفاث وشركة لوكهيد مارتن تستعد لإجراء مناورات الهبوط المعقدة. لقد اجتازت المركبة فينيكس مسافة 600 مليون كيلومتر، وبدأت تشعر بجذب قوة ثقالة المريخ. كان توقيت الأحداث محسوبا مقربا إلى ثانية واحدة. وكانت المركبتان أوديسي ومارس ريكونيسانس أوربتر المداريتان(17) قد ضبطتا مداريهما ونسقتا تحليقهما، لتكونا فوق فينيكس أثناء هبوطهما لتنقلا بث إشارات فينيكس في الزمن الحقيقي (تتأخر الإشارة اللاسلكية زمنا قدره مدّة انتقال الضوء إلى الأرض بنحو 15 دقيقة). كان كل شيء جاهزا، وكان بدء تنفيذ الخطة يجري بدقة كاملة. ولكن، ما هو السبب في هذا القلق الذي ينتابني؟
إن عملية الهبوط على المريخ أعقد بكثير من الهبوط على القمر أو الأرض. إذ يجب أن تنجز المركبة خمس خطوات من التغيير بالتسلسل: فهي تبدأ كمركبة تبحر بين الكواكب، وبعد إنهاء مرحلة الإبحار هذه، تهيئ المركبة ذاتها للتحول إلى عربة دخول قادرة على تحمل حرارة الاحتكاك أثناء اقتحام الغلاف الغازي للكوكب بسرعة 20 ألف كم/ساعة تقريبا. وعندما تبطئ المركبة سرعتها إلى 1500 كم/ساعة، تقوم بتحرير مظلتها من الغلاف الواقي الخلفي. وفي غلاف غازي رقيق كغلاف المريخ، فإن أفضل ما تفعله المظلة هو إنقاص سرعة هبوط المركبة إلى 150 كم/ساعة، وهي سرعة كبيرة جدا لعملية هبوط آمن. وعلى ارتفاع 1 كم فوق السطح، تنفصل مركبة الهبوط عن المظلة وعن الغلاف الواقي الخلفي، لتندفع بحركة سقوط حر. ومن ثم تقوم محركات كبح صاروخية، عددها اثناعشر بإبطاء هبوط المركبة إلى سرعة نهائية تعادل وتيرة مشي سريع، وتلامس السطح أسفلها، لتمتص قوائم انضغاطية ذات تصميم خاص صدمة الهبوط على السطح. وأخيرا، يجب أن تنشر المركبة بنجاح ألواحها الشمسية ومعداتها كي تبدأ بعثتها السطحية. كل هذا يحدث في سبع دقائق.
أثناء قيامي بالمراقبة من غرفة التحكم في المبنى رقم 230 في مختبر الدفع النفاث، حبست أنفاسي مع اقتراب موعد عملية الهبوط على ارتفاع 1 كم فوق السطح. ازداد توتر الأعصاب في الغرفة مع تذكرنا جميعا الرادار ومشكلاته، وخسارة مارس بولار لاندر. كان على محركات الهبوط الصاروخية أن تبطئ سرعة هبوط المركبة إلى 10 كم/ساعة، وتخفض أي سرعة جانبية إلى أقل من متر واحد في الثانية، مع إبقاء ظهر مركبة الهبوط موازيا لسطح الكوكب. وخلال الاجتماعات التمهيدية، أخذ مدير بعثتنا <J. گوين> يمزح قائلا إنه في حال إخفاق محرك صاروخي واحد، فستوصلنا المحركات الأحدعشر الأخرى بسلام إلى موقع تحطم المركبة. لم يعد مثل هذا المزاح المرعب لطيفا، فقد حانت لحظة الحقيقة.
قــــام أحــــد مهنــدســينا، بالاســتعــانــة بــالــرادار، لقــراءة المسـافــة التي تفصـل المركبــة عــن سطح المــريــخ، وذلـــك بِعَد تنازلي: 1000 متر، 800 متر، 600 متر. واعتقدت أن المركبة كانت تقترب من السطح بسرعة كبيرة، وأننا لا نستطيع الهبــوط بسلام بهذه السرعة. اجتازت فينيكس عتبة ارتفاع الـ 100 متر، ثم تغير كل شيء. صار الآن العد التنازلي كما يلي: 90 مترا، 80 مترا، 75 مترا. لقد بلغنا سرعة الهبوط المناسبة لملامسة السطح! وسرعان ما جاءت إشارة من سطح الكوكب وعندها ضجت الغرفة بهتافات الفرح.
بدت الساعتان التاليتان، اللتان انتظرنا فيهما دوران أوديسي المدارية حول المريخ لتعود فوق مركبة هبوطنا، وكأنهما تمتدان أبدا. ولكن، في النهاية، أمكننا تأكيد أن فينيكس نشرت بطريقة مناسبة ألواحها الشمسية، والتقطت صورها الأولى. كانت مشاهدتنا الأولى للمنطقة القطبية المتجمدة المريخية سحرا. فبعد ست سنوات من الإعداد، صرنا قادرين أخيرا على بدء العمل في البعثة العلمية.
الكوكب مكسو بالطين كليا تقريبا(*******)
بدأ فريقنا المكون من 35 عالما و 50 مهندسا و20 طالبا، بـــالعمــل ليـــلا نهــارا. وبغيـــة زيـــادة كفـــاءة العمـــل، فقـــد عمـــل الفـــريــــق نـــوبــتـــين عــلـى مــــدار 24 ســـــاعـــــة و40 دقــيــقـــة، وهذا طول اليوم الشمسي للمريخ. هكذا صار هذا اليوم المريخي(18)، هو يومنا؛ وأخذ زمن فريقنا ينزاح بعيدا عن زمن الأرض الطبيعي، ودخلنا في مرحلة فترات فاصلة تتباعد دوما.
جاءت أولى مفاجآتنا السارة حتى قبل أن تحفر الذراع الآلية (الإنسالية) خندقها الأول. وللتوثق من حالة مسند القائم الخلفي للمركبة، قمنا بضبط زاوية الذراع الآلية (الإنسالية) لتمتد أسفل المركبة، فكشفت الكاميرا أن محركاتها الصاروخية الكابحة أزاحت جانبا ما يقرب من 5 سنتيمترات من التربة الجافة، لتكشف عن بقع ساطعة في التربة يحتمل أنها جليد [انظر الشكل في الصفحة 7]. لم تستطع الذراع أن تصل إلى عمقٍ أكبر أسفل المركبة لمزيد من التقصي، ولكنها زادت من توقعاتنا مما يمكن لأول خندق أن يكشفه.
وحين بدأت الذراع تغرف التراب، كشفت عن طبقة ناصعة. راقبنا هذا الموضع عندما كانت نواتج الحفر في هذه الطبقة تختفي خلال ثلاثة أو أربعة أيام مريخية. ومع أن هذه الطبقة بدت جليد ماء تصعّد، فقد كان علينا أن ننتظر نتائج تحليل الأداة (19) (TEGA) (جهاز تحليل الحرارة والتحول الغازي) كي نكون واثقين بذلك. كان الاحتمال الثاني، وهو أن يكون الجليد هو ثنائي أكسيد كربون متجمد تبدد بسرعة، وذلك بسبب ظروف الحرارة المحيطة التي بلغت 30 درجة مئوية تحت الصفر. وقد أثبتت الأداة TEGA لاحقا أن مادة تلك الطبقة المتكشفة كانت جليد ماء. وهذه أول مرة يثبت فيها وجود جليد الماء على المريخ، لتتأكد بذلك صحة قياسات أوديسي المدارية.
والآن، بعد انكشاف سطح طبقة الجليد، أدركت أن كامل المشهد المحيط بالمركبة (وعلى الأرجح كلتا منطقتي القطبين) لم يكن السهل الجاف شبه الصحراوي الذي بدا لنا سابقا، بل حقل جليد لا يعرف عمقه. ولتحديد ما إذا كان هذا الجليد تعرض للذوبان في أي وقت سابق، فقد حملت المركبة على متنها ثلاثة أجهزة لتحليل التربة: الأداة TEGA، التي تتكون من ثمانية أفران صغيرة متصلة بمقياس الطيف الكتلي(20) لكشف تركيب الغازات المنطلقة من عملية تسخين عينة؛ ومختبر الكيمياء الرطبة (21) (WCL)، الذي أضاف ماء (جُلِب من الأرض) إلى عينة تربة مريخية، وقام بتحليل الأيونات التي دخلت المحلول؛ ومجهر. لقد توقعنا توافقا بين قياسات الأداتين TEGA و WCL، عندما كشفتا عن الطبيعة المعدنية والكيميائية للتربة، كل بمعزل عن الأخرى.
كانت المهمة ذات الأولوية القصوى هي دراسة كيمياء التربة بحثا عن دلائل على وجود ماء سائل، فضلا على المواد المغذية ومصادر الطاقة اللازمة للمتعضيات. حاولنا أيضا تحديد البنية العمودية للتربة بدءا من الطبقات العليا، نزولا إلى طبقة التقاء التربة بالجليد. كان على الذراع أن تجمع العينات وتضعها في منافذ التحليل على متن المركبة. من حيث المبدأ، كانت العملية سهلة، وكأن طفلا يضع رملا في دلو. وعلى أي حال، فإن فعل هذا من مسافة 300 مليون كم أثبت أنه إجراء مشوب بالتحديات. وحيث إنه كان يوجد لدينا في مركز عملياتنا في مدينة تكسن منشأة اختبار فيها نسخة مطابقة من الذراع الآلية والكاميرات ومنافذ العينات لتساعدنا على متابعة العمل، فقد كنا نجرب جميع الأوامر قبل إرسالها إلى المركبة على المريخ؛ إلا أننا لم نستطع استنساخ صفتين من صفات المريخ: رياحه وخصائص تربته.
بدت التربة المريخية صدئة، خلافا لتربة أريزونا الطرية التي تمرنّا عليها. ونتيجة لذلك، فقد امتلأت المغرفة في طرف الذراع الآلية بكتل طين دبق. أثبتت المناخل الموجودة على منافذ العينات، التي أريد منها منع دخول الحصى، أنها ذات فاعلية كبيرة للغاية في منع دخول قطع متكتلة من التربة أيضا. جمعت الذراع الآلية بنجاح أول عينة لها على منخل (فلتر) مدخل على الأداة TEGA، ولكنها احتاجت إلى أربعة أيام مريخية كي تتمكن من دفع مادة كافية بحركة اهتزازية إلى داخل الفرن. وفي غضون ذلك، كان أي قدر من الماء لم يحجز بإحكام قد تصعّد(22) بعيدا.
ومع مرور الوقت، تعلمنا أفضل الطرق للتعامل مع واقع الرياح والتربة الطينية على المريخ؛ فاستطعنا تحليل العينات المأخوذة من عدة أعماق ومواقع في منطقة تنقيبنا. ومع ذلك، فقد ضاعت عينات كثيرة قبل وصولها إلى منافذ التلقيم، لأن الرياح الجانبية القوية دفعتها جانبا، بدلا من دخولها إلى الأداة.
وحين كنا نعلّم أنفسنا كيف نحفر بأفضل طريقة على المريخ، كانت أجهزة استشعار الغلاف الغازي تراكم بياناتها data عن أحوال الطقس. ساهمت وكالة الفضاء الكندية(23) بجهاز ليدار(24) lidar سمح لنا بقياس الغبار في الغلاف الجوي، وأيضا قياس عمق الضباب السطحي، وارتفاع سحب جليد الماء. وقد سجلت، أيضا، هذه الأداة درجات الحرارة والضغط على السطح. وباختصار، فقد قمنا بمسح بيئة المنطقة من أعلى طبقة الجليد إلى طبقة التروپوپوز(25)، فيما كانت المركبات المدارية تركز بحثها على المنطقة من الأعلى لوضعها جميعا في إطار الصورة.
جيد كفاية لنبتة الهليون(********)
كان من بين أكبر مفاجآت البعثة اكتشاف وجود عنصرين غير متوقعين في التربة: كربونات الكالسيوم (بتركيز 5%) وفوق الكلورات(26) (بتركيز 0.55%). ولهذين المركبين أهمية عظيمة لبحثنا عن الحياة.
تتكون كربونات الكالسيوم عندما ينحل غاز ثنائي أكسيد الكربون الجوي في ماء سائل، مكونا حمض الكربونيك carbonic acid. يستخرج هذا الحمض عنصر الكالسيوم من التربة ليكوّن الكربونات، التي هي عنصر معدني شائع الانتشار على كوكب الأرض، ونحن نسميه حجر الكلس limestone (أو حجر الجير، أو الطبشور chalk) بشكله الطبيعي، ونستخدمه منزليا تحت أسماء تجارية متعددة لحماية معدتنا المصابة بالحموضة. قدم مختبر الكيمياء الرطبة (WCL) قياسا للرقم الهدروجيني pH بلغ 7.7، وهذا قدر زائد القلوية بنسبة بسيطة، وهو تقريبا من ذات الدرجة (القلوية) لمياه محيطات كوكب الأرض التي تحميها كربونات الكالسيوم أيضا من الحموضة.
بحث علماء الكواكب عن هذه الكربونات على المريخ طوال عقود، وذلك لأن كثرة الوديان الضيقة، والمعالم شبه النهرية، وقيعان البحيرات القديمة لا تدع سوى قليل من الشك في أن المريخ كان في وقت من الأوقات كوكبا رطبا، وهو أمر يوحي بأن الغلاف الجوي للمريخ كان أسمك بكثير. كان على كامل كمية غاز ثنائي أكسيد الكربون أن تضيع بطريقة ما، وكانت صخور كربونات الكالسيوم هي المرشح الأبرز لهذا الفقدان. وقد قدمت فينيكس أول دليل يشير إلى أنها (أي الكربونات) أحد مكونات التربة. وقد بينت المركبات المدارية منذ ذلك الحين تكشفات صخرية منعزلة من صخور كربونات الكالسيوم، على الرغم من وجود أنماط أخرى منها بدت أكثر انتشارا.
وإضافة إلى كونها مثيرة للاهتمام في حد ذاتها، فإن كربونات الكالسيوم تقدم أدلة أكثر على أن التربة، في موقع هبوط فينيكس، كانت رطبة في الماضي القريب، وربما تفسر أيضا لماذا كانت التربة بهذه الدرجة العالية من التكتل والصدأ: فبإمكان معادنها أن تؤدي على المريخ دور الإسمنت على أرضنا.
تختلف التربة القلوية في موقع هبوط فينيكس بقدر كبير عما وجدته مركبات أخرى في مواقع هبوطها. وفي الحقيقة، فإن الرقم الهدروجيني pH لتربة الموقع يُماثل الرقم الخاص بماء البحر على كوكب الأرض.
تختلف التربة القلوية في موقع فينيكس كثيرا عما وجدته مركبات هبوط أخرى. وبإضافة مزيد من الماء، وزيادة ضغط الهواء يمكن أن تنمو في التربة نبتة الهليون. وفي المقابل، فقد عبرت جوالة أبورتشونيتي أنواعا من التربة، حامضية قديمة وغنية بمركبات السلفات (الكبريتات)، وهذا يشير إلى بيئة كيميائية مختلفة، أكبر عمرا، وتتسم بمعاداتها لصلاحية الحياة.
أما فيما يتعلق بفوق الكلورات، فهذه المادة الكيميائية تصنع على الأرض بصيغة فوق كلورات الأمونيوم ammonium perchlorate لاستخدامها مادة مؤكسدة في صواريخ الوقود الصلب – بما في ذلك المحركات الصاروخية التسعة ذات الوقود الصلب على الصاروخ دلتا II الذي أطلق فينيكس إلى الفضاء. وفي مياه الشرب، تعتبر فوق الكلورات غير آمنة إذا كانت بتركيز أعلى من 25 جزءا في البليون. والقول الموجه إلى رواد الفضاء في المستقبل هو توخي الحذر: فتربة المريخ خطرة على الصحة.
ومع ذلك، فإن ما هو سام لنا ليس كذلك للميكروبات. وتنتج العمليات الطبيعية قدرا صغيرا من فوق الكلورات؛ يمكنها أن تتراكم في الصحاري الشديدة الجفاف التي تغيب عنها الرطوبة التي تجرفها في أماكن أخرى. ففي صحراء آتاكاما بتشيلي(27)، يهطل المطر مرة واحدة في العقد، ليمكّن فوق الكلورات هذه من أن تنمو وتزداد. وتتدبر بكتيريا الصحراء أمر معيشتها باستخدام فوق الكلورات والنترات كمصادر طاقة. فهل يمكن أن يكون الحال مماثلا على المريخ؟
لقد أضافت نماذج أبحاث حديثة لطقس كوكب المريخ بأكمله، دراسة دينامياته المدارية ومن ضمنها تأرجحات كبيرة في الميل (الزاوية بين مستوي مدار الكوكب ومحور تدويمه)، وذلك لتقدير كيفية تغير مناخ المريخ عبر عشرة ملايين سنة الماضية. وتخضع شدة التسخين الشمسي عند قطبي الكوكب إلى تقلبات كبيرة تمتد من فترة البرودة الحالية إلى فترات دافئة طويلة الأمد. عندئذ ترتفع درجات حرارة الصيف إلى ما فوق نقطة التصعيد لقبعة الجليد(28) القطبية، ويختفي الجليد من القطبين ليتكون من جديد على جبال البراكين العالية قريبا من خط استواء الكوكب، لينتج بذلك مجالد كبيرة. وعند هذه النقطة يعتدل الطقس عند القطبين. أما كربونات الكالسيوم، فربما تكونت أثناء هذه الأحقاب الدافئة والرطبة.
أظهرت واحدة من عمليات أرصادنا كيف ربما يمكن لمنظومة بيئية ميكروبية أن تكون قادرة على النشاط. لقد سجل جهاز lidar هطولا ثلجيا حول المركبة في وقت صباحي مبكر مع اقتراب فصل الصيف المريخي من نهايته وميل أشعة الشمس بزاوية أكبر. يمكن لبخار الثلج أن يغطي حبيبات الغبار وفق عملية تعرف باسم الامتزاز adsorption (التي تختلف عن عملية الامتصاص absorption). يتصرف الماء الممتز (العالق على سطح جسم صلب) مثل طبقة سائل رقيقة جدا. وفي أوقات الدفء، يمكن أن يزداد سمك هذه الطبقة إلى درجة تتكون فيها ممرات بين حبيبات الغبار – وهذا يشبه بحرا مجهريا تكون فيه ميكروبات بالغة الصغر مغمورة تماما. عند ذلك، ستكون المواد المؤكسدة والمغذية التي شاهدتها بعثة فينيكس موجودة لمد المخلوقات الآكلة لفوق الكلورات بالطاقة. ومع ذلك، فهي ما زالت بحاجة إلى القدرة على السبات ملايين كثيرة من السنين كي تنجو بحياتها من أحقاب البرد والجفاف.
ولفوق الكلورات خاصية أخرى وثيقة الصلة بالموضوع: إذ يمكنها، إذا كانت مركزة، أن تخفض درجة تجمد الماء إلى 70 درجة مئوية تحت الصفر. وهذا يعني أن الميكروبات ربما تكون قادرة على إيجاد بيئة ملائمة على المريخ حتى عندما يتحول مناخه إلى البرودة. وعموما، فإن اكتشاف فوق الكلورات قد أحدث موجة من الإثارة في الأوساط العلمية المعنية بعلوم المريخ.
هل القطب صالح للسُّكنى؟(*********)
ربما يفك وجود فوق الكلورات أيضا لغزا عمره 35 عاما. فعندما أجرت المركبة ڤايكنگ تجربة تحليل التربة بتسخينها العينات في فرن صغير، رصدت انبعاث كلور الميثان chloromethanes. عزا علماء ڤايكنگ، الذين لم يتمكنوا من استيعاب كيف يمكن لمواد كيميائية مثل هذه أن تكون مريخية الأصل، هذا الانبعاث إلى حدوث تلوث بمادة تنظيف استخدمت قبل الإطلاق. وقد أخفقت التجربة ذاتها في رصد وجود أي مادة عضوية مريخية.
يوحي وجود فوق الكلورات بتفسير مختلف. وقد أعاد باحثون في مركزNational Autonomous بجامعة مكسيكو وزملاؤهم التجربة ذاتها على عينات من تربة شبه مريخية جُلبت من صحراء آتاكاما، مع، ومن دون، كميات صغيرة من فوق الكلورات. فعندما أعادوا توليد الناتج الغازي الذي رأته ڤايكنگ، أطلقت فوق الكلورات أكسجينها وأحرقت المواد العضوية، وأنتجت كلور الميثان في أثناء العملية. وهكذا فربما أمكن لتربة حاوية لفوق الكلورات أن تحوي كميات لا بأس بها من مواد عضوية – أكثر من جزء واحد بالمليون – لكن اكتشافها استعصى على بعثة ڤايكنگ. وفي دعم لهذا التفسير، وجدت الأداة TEGA أن التربة بدأت بإطلاق غاز ثنائي أكسيد الكربون مع ارتفاع حرارة الفرن إلى درجة أعلى من 300 درجة مئوية – وهذا تماما ما يمكن أن نتوقعه إذا كانت المواد العضوية في التربة تتأكسد بفعل فوق الكلورات.
وعموما، فإن فرص اكتشاف حياة على المريخ لم تبد مطلقا أفضل من هذا. ولكن ذلك كان بقدر ما استطاعت بيانات فينيكس أن تأخذنا إليه؛ والأمر الآن آل إلى بعثة مختبر علوم المريخ MSL لتبحث عن مزيد من دلائل قابلية الحياة. فالأدلة التي قدمتها نتائج فينيكس كانت ظرفية فقط، في حين تحظى معدات التحليل على متن مختبر علوم المريخ MSL بالقدرة على كشف البصمات العضوية في التربة دون تسخينها. إنها تفعل هذا من خلال عملية تسمى الاشتقاق الكيميائي derivatization (أو التحويل الكيميائي)، يجري فيها إضافة تربة مريخية إلى حساء كيميائي خاص، وأية جزيئات عضوية موجودة فيه تتبخر وترصد بواسطة مقياس طيف كتلي(29).
عملت مركبة بعثة فينيكس مدة خمسة أشهر رائعة قبل أن تطبق عليها ظلمة وبرودة الشتاء القطبي المريخي. ففي الشهر 11/2008 فقدنا إشارة الإرسال الراديوية الواردة من المركبة. إن التفاؤل في ميدان الأبحاث العلمية يعد مجازفة مهنية، فمع عودة فصل الربيع إلى مناطق القطب الشمالي المريخي في العام التالي، كنت وزملائي نأمل في أن تعود المركبة فينيكس إلى الحياة من جديد. ولكن هذا لم يكن ليحدث. فقد أظهرت آخر صورة من المدار فينيكس وهي ترقد محطمة، غارقة في جليد ثنائي أكسيد الكربون الذي اتخذ أشكالا تزيينية على أرض وعرة. لذا لم تعد فينيكس محطة علمية، لقد باتت جزءا من المشهد المريخي.
المؤلف
Peter H. Smith
أستاذ علوم الكواكب في جامعة أريزونا. في شبابه قام باستكشاف افتراضي للنظام الشمسي كقارئ خيال علمي نهم. وبتحويل هذا الحب المبكر إلى عمل وهواية، فقد أسهم في إنجاز بعض أشهر البعثات الإنسالية robotic إلى الكواكب، بدءا من مسبار أعماق الفضاء پايونير 11، إلى بعثات سوجورنر وسپيريت وأبورتشونيتي الجوالة. وقد منحته الوكالة NASA في عام 2010 ميدالية الإنجاز العلمي الاستثنائي.
مراجع للاستزادة
H2O at the Phoenix Landing Site. R H. Smith et al. in Science, Vol. 325, pages 58-61:1uly 3,2009.
Habitability of the Phoenix Landing Site. C R. Stoker et al. in Journal of Geophysical Research,
Vol. 115, Article No. EOOE20; June 16, 2010.
Martian Summer: Robot Arms, Cowboy Spacemen, and My 90 Days with the Phoenix
Mars Mission. Andrew Kessler. Pegasus, 2011.
(*)DIGGING MARS
(**)OUT OF THE ASHES
(***)RADAR FEVER
(****)Red Peril
(*****)PHOENIX IN THE SKY
(******)HARROWING LANDING
(*******)ALMOST FOILED BY CLODS
(********)GOOD ENOUGH FOR ASPARAGUS
(*********)IS THE POLE HABITABLE?
(1) أُطلقت بتاريخ 2011/11/26 من قبل مختبر علوم المريخ (MSL) ومن المتوقع هبوطها على سطح المريخ بتاريخ 2012/08/06 في الساعة 05:31 (بالتوقيت العالمي المنسق). وتبلغ تكاليف مشروع المختبر MSL نحو 2.5 بليون دولار. وقد صممت المركبة لمتابعة الاكتشاف مدة لا تقل عن 687 يوما أرضيا (سنة مريخية واحدة).
وفي العدد القادم من ، مقالة بعنوان: «قراءة الكوكب الأحمر». (التحرير)
(2) Mars Science Laboratory
(3) Curiosity
(4) إنسالية: نسبة إلى إنسالة وهذه نحت من إنسان-آلي. (التحرير)
(5) the Sojourner, Spirit and Opportunity
(6) انظر: “The Red Planet’s Watery Past,”
by Jim Bell;
Scientific American, December 2006
(7) the Mars Reconnaissance Orbiter
(8) hydrogen peroxide
(9) the NASA Ames Research Center
(10) the Mars Polar Lander
(11) Mars Climate Orbiter
(12) Mars Odyssey
(13) neutrons
(14) glaciers
(15) Jet Propulsion Laboratory
(16) the NASA Langley Research Center
(17) Odyssey and Mars Reconnaissance Orbiter
(18) يسمى أيضا sol
(19) the Thermal and Evolved – Gas Analyzer
(20) a mass spectrometer
(21) the Wet Chemistry Lab