أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم النفس

مفاتيح مخفية في العقل

 مفاتيح مخفية في العقل(*)

يمكن لتجارب الحياة أن تُسهم في نشوء الأمراض النفسية بصورة مفاجئة:
إنها تسبب تبدلات عبر «التخلّق المتوالي» epigenetic changes، وهي تبدّلات
تُشغّل الجينات أو تُوقفها عن العمل من دون أن تُدخل تعديلات عليها.

<J .E. نيسلر>

 

باختصار

  توحي موجودات جديدة أنّ تجارب الحياة يمكن أن تسهم في نشوء الأمراض النفسية بإضافة واسمات متعلقة بالتخلق المتوالي إلى الصبغيات(1) أو إزالتها. وهذه الواسمات  هي مواد كيميائية معيّنة يمكن أن تؤثّر في نشاط الجينات دون تبدّل المعلومات المكوّدة فيها.

تُظهر الدراسات على الفئران دورا للتعديلات بالتخلّق المتوالي الطويلة الأمد في اضطرابات مثل الإدمان والاكتئاب.

يمكن أن تؤثّر التبدلات بالتخلّق المتوالي أيضا في سلوك الأم بطرائق تعيد إنتاج السلوك ذاته عند أبنائها، مع أنّ هذه التبدلات لم تعبر إليها عبر الخلايا الجُرميّة (الجنسية).

يأمل الباحثون أنْ تقود الموجودات الجديدة إلى طرق معالجة أفضل، على الرغم من أن السبيل إلى ذلك ليس واضحا بعد.

 

 

يعمل <مات> مدرسا للتاريخ، وأخوه التوأم <گريگ>، مدمن مخدّرات (تم تغيير اسميهما لحماية سريّتهما.) لقد كبُرا معا في منطقة بوسطن، وكلاهما أبلى بلاء حسنا في المدرسة الثانوية: كانا طالبين جيدين في قاعة الدراسة ورياضيّيْن خلوقيْن في الميدان، وكانا منسجمين مع زملائهما. ومثل كثيرين من الشباب، قام الأخوان أحيانا باحتساء البيرة أو تدخين السگائر وتجريب الحشيش (الماريوانا) خلسة. وبعد ذلك، وفي الجامعة، جربا الكوكائين، وهذه التجربة غيرت مجرى حياة <گريگ>.

في بادئ الأمر، كان<گريگ> قادرا على أداء مهامه بشكل اعتيادي – حضور الدروس والحفاظ على العلاقات مع الأصدقاء؛ ولكنه سرعان ما صار يهتم بالمخدّرات اهتماما بالغا ولم يعد بوسعه الاستغناء عنها. ترك <گريگ> المدرسة ومارس سلسلة من المهن الخدمية في مجالي بيع الطعام الجاهز والبيع بالتجزئة. ونادرا ما احتفظ بموقعه لأكثر من شهر أو اثنين، ليُطرد عموما من العمل بسبب إهماله للكثير من واجباته أو مجادلة الزبائن وزملاء العمل. وتزايد سلوكه عصبية باطّراد ليصبح عنيفا أحيانا، واعتُقل مرارا بسبب لجوئه إلى السرقة لتلبية متطلبات عادته. فشلت عدة محاولات لمعالجته، وعندما أرسلت المحكمةُ <گريگ> إلى مستشفى نفسي للتقييم كان بعمر 33 سنة وكان مُعدما ومُشرّدا: منبوذا من عائلته وأسيرا لإدمانه.

ما الذي جعل <گريگ> شديد الاستعداد لتلبية نداء الكوكائين إلى الحدّ الذي حطّم فيه المخدّر حياته كليّا؟ وكيف تصرف توأمه المتماثل، والذي يشاركه الجينات نفسها تماما، لينجو من مصير مماثل؟ كيف يؤهّب التعرّض للمخدّرات بعض الأفراد لإدمان دائم، بينما يستطيع آخرون تجاوز حماقات الشباب والاستمرار بممارسة حياة منتجة؟

هذه الأسئلة ليست جديدة، لكن علماء الجهاز العصبي neuroscientists باتوا يتبعون أسلوبا حديثا للحصول على الأجوبة، مقتبسين من اكتشافات تحققت في ميادين أخرى سابقا. فخلال السنوات العشر الماضية كشف علماء البيولوجيا، خلال دراستهم التطور الجنيني والسرطان، منظومة واسعة من الآليات الجزيئية التي تسمح للبيئة بتعديل نمط سلوك الجينات من دون أن تُغيّر ما تحتويه من معلومات. فبدلا من أن تقوم التعديلات بالتخلّق المتواليepigenetic بتطفير الجينات(2)، فإنها تُعدها على نحو يُمكنُها من تغيير درجة نشاطها لمدة قد تستمر مدى الحياة.

لقد بدأنا الآن في مختبرنا ومختبرات أخرى تعمل في الميدان ذاته، برصد مؤشرات على أنّ التعديلات بالتخلّق المتوالي الناجمة عن استخدام المخدّرات أو عن الكرب المزمن، يمكن أن تغيّر الطريقة التي يستجيب بها الدماغ لتجارب الحياة: إنها تُعدّ الفرد للتفاعل بمرونة أو للاستسلام للإدمان أو للاكتئاب أو لمجموعة من الاضطرابات النفسية الأخرى. ومع أنّنا ما زلنا في المراحل المبكرة لفهم هذا التفاعل الجزيئي الشديد بين الجينات والبيئة، فنحن متفائلون بأنّ ما نتعلّمه قد يقود إلى طرق معالجة أفضل لهذه الحالات المدمرة – وربما يرفدنا بإضاءات جديدة لكيفية انتقال المرض النفسي من جيل إلى آخر.

وراء الجينات(**)

إن جهودنا لفكّ طلاسم تأثيرات التخلّق المتوالي على المرض النفسي تساعد على ملء فراغات تركتها لعقود الأبحاث السابقة حول الجذور الجينية للإدمان والاكتئاب والتوحّد والفصام واضطرابات نفسية أخرى. إن هذه المآسي العصبية هي اضطرابات موروثة(3) إلى حد كبير، شأنها في ذلك شأن معظم الحالات الصحية الشائعة. فنصف اختطار (احتمال خطر) الإدمان أو الاكتئاب هو تقريبا جيني(4) – وهو أكبر من الاختطار الجيني لارتفاع ضغط الدم أو  لمعظم السرطانات. ولكن الجينات ليست كلّ شيء، وكما رأينا مع <گريگ> و<مات>، فحتى امتلاك جينات متماثلة لا يشكل ضمانا لإصابة الشخصين بالمرض ذاته. بل إنّ الاضطرابات النفسية عند المستعدين جينيا تترسّخ بالمُدْخلات البيئية – كالتعرّض للمخدّرات أو للكرب – وقد تتأثر حتى بأحداث جزيئية عشوائية تحدث في أثناء النموّ. ولا يوجد شخصان يمتلكان التجارب ذاتها أو التاريخ التطوري ذاته تماما.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_09_b.jpg

 

وهكذا يصبح السؤال: ما هي الآليات التي تستطيع من خلالها المُدْخلات البيئية ممارسة الدور الذي تؤديه في نشوء المرض النفسي؟ الجواب واضح على أحد المستويات: تجتمع الطبيعة والتنشئة معا في الخلايا العصبية بالدماغ. تعالج هذه الخلايا كلّ شيء نواجهه – سواء أكان مشاهدة فيلم أم عناقا أم استنشاق كوكائين أم تفكيرا فيما سنتناول على العشاء – ثم تتشارك المعلومات فيما بينها بإطلاق مواد كيميائية وتعرّفها. تُدعى هذه المواد الكيميائية بالنواقل العصبية neurotransmitters، وهي مواد يمكنها تنشيط خلايا عصبية معينة أو تثبيطها، وبالتالي تشغيل مجموعة من الجينات المستجيبة أو إيقافها عن العمل. وهكذا، فإن تعيين هوية الجينات التي تتأثر بناقل عصبي بعينه يساعدنا على تحديد الكيفية التي تستجيب بها إحدى الخلايا العصبية لتجربة ما من تجارب الحياة، ويتيح لنا في النهاية تعرف أنماط سلوك الشخص التي تحددها كيفية الاستجابة هذه.

 

[أساسيات]

الوراثيات(5) مقابل علم التخلّق(***)

  جاء العديد من الإضاءات الجديدة للأمراض النفسية من دراسة التعديلات بالتخلّق المتوالي على الجينات، وهي تختلف عن الطفرات الجينية (في الأسفل). وكلا النوعين من التعديلات يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات في وظائف الدماغ والأنسجة الأخرى.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_10_a.jpg

  غالبا ما تغيّر الطفرات الجينية المعنى
تشكّل نيوكليوتيدات الجين (حروف التكويد) مخطّط بروتين ما (في الأعلى). يمكن لحرفٍ خطأ أو طفرة أخرى أن تفسد البروتين الناتج (في الأسفل) أو تسبب زيادة كبيرة أو نقصا كبيرا في إنتاجه.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_10_b.jpg

  التبدّلات بالتخلّق المتوالي تُحدث تعديلا في النشاط
تتموضع الواسمات الكيميائية المعروفة بعلامات التخلّق المتوالي في أعلى الجينات، إما على الدنا DNA ذاته أو على البروتينات الهيستونية التي يلتف حولها (في الأسفل). ويمكن للتغيّرات في مزيج من هذه العلامات أن تعدّل سلوك الجين إما بتعطيله، فيتثبّط تخليق البروتين، أو بتنشيطه – وكلّ هذا يحدث دون تبدّل المعلومات التي يحويها الجين.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_10_c.jpg

  الجين مُغلق (معطّل): تثبّط بعضُ علامات التخلّق المتوالي الجينات من خلال تحريض التطوّي المحكم للكروماتين (الدنا المعقّد مع بروتينات هيستونية وبروتينات أخرى) لتمنع قراءة الجينات، وتؤدي مجموعات الميثيل أحيانا هذا الدور.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_10_d.jpg

الجين مفتوح (فاعل): تُعنى علامات أخرى، مثل مجموعات الأسيتيل، برَفْع نشاط الجين من خلال مساعدتها للكروماتين على الانبساط.

 

 

إن العديد من هذه التأثيرات يزول سريعا. فعلى سبيل المثال، يفضي التعرّض للكوكائين إلى تنشيط مركز المكافأة reward center في الدماغ، ويثير بالتالي غبطة مفرطة (شمق) euphoria عابرة سرعان ما تبهت على وقع عودة  منظومة المكافأة إلى وضعها السابق. ولا يزال غامضا كيف يمكن للمخدّرات أو الكرب أو تجارب الحياة الأخرى إحداث تأثيرات أطول أمدا تجعل الفرد يستسلم للاكتئاب أو الإدمان. لقد بدأ الكثير من علماء الجهاز العصبي يعتقدون أنّ علم التخلّق سوف يُسهم في تقديم إجابات عن ذلك.

صُنع العلامات(****)

لفهم ما لفت انتباهنا إلى علم التخلّق، فإنه من المجدي أن نعرف قليلا عن كيفية تنظيم نشاط الجين. والجينُ، بتعبير مبسّط، هو قطعة من الدنا DNAتحدّد في الحالات النموذجية تركيب البروتين؛ والبروتينات تنفّذ معظم العمليات في الخلايا، وبذا فهي تضبط سلوك الخلية. والدنا هذا ليس مرميا عشوائيا في نواة الخلية، بل هو ملفوف كالتفاف الحبل على البكرة حول عناقيد من البروتينات تُدعى الهيستونات histones، ومصرور – إضافة إلى ذلك – في بُنى ندعوها الصبغيات chromosomes. أما تجميعة الدنا مع البروتين في الصبغيات فتُسمى «الكروماتين» chromatin.

ليست الغاية من تحزيم الدنا على النحو المذكور مجرد الحفاظ على النواة مرتّبة، فهو يساعد أيضا على تنظيم سلوك الجينات المقيمة، حيث يهدف الحزْم الأشدّ إلى إبقاء الجينات على حالة عطالة، فهو يقيها من وصول الماكناتmachinery المشغِّلة للجينات. ففي الخلية العصبية، على سبيل المثال، تكون الجينات التي تكوّد لإنزيمات الكبد مدفونة في مناطق صبغية محزومة بإحكام. لكن، وعندما تكون هناك حاجة إلى جين ما، فإن قسم الدنا DNA الذي يستقرّ فيه هذا الجين يسترخي قليلا ويسمح بعبور الماكنات الخلوية التي تنتسخ الدنا إلى ضفيرة من الرنا RNA، تلك الضفيرة التي ستستخدم بعد ذلك في أكثر الحالات كقالب لإنتاج البروتين المكوّد. فتنبيه خلية عصبية، على سبيل المثال، قد يحثّها على تنشيط استنساخ الجينات المكوِّدة genes codingلبعض النواقل العصبية مما يؤدّي إلى زيادة في تصنيع تلك الجزيئات حمّالة الرسائل.

 

[اكتشافات]

علم تَخلُّق الإدمان(*****)

  أظهرت الدراسات على الفئران أنّ التعرّض المزمن للكوكائين يُحدث تغيرا في توازن علامات التخلّق المتوالي في جينات مركز المكافأة في الدماغ، الأمر الذي يؤدي إلى ازدياد حساسية هذه الحيوانات لتأثيرات المخدّر ويجعلها أكثر عرضة للإصابة بالإدمان.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_11_a.jpg

  ما الذي يتغيّر بالضبط؟
حتى جرعة وحيدة من الكوكائين يمكن أن تغيّر مشهد التخلّق المتوالي للجينات في النواة المتكئة التي هي جزء من مركز المكافأة. ففي غياب المخدّرات (a)، تغلبُ علامات الميثيل مُبقية الكروماتين المتأثّر محزوما بإحكام وجيناته صامتة. يؤدي الكوكائين إلى هيمنة مجموعات الأسيتيل وانفكاك الكروماتين (b)، الأمر الذي يترتب عليه تفعيل العديد من الجينات المكوّدة للبروتينات التي تؤدي دورا في نشوء الإحساس بالمتعة استجابة للمخدّر.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_11_b.jpg

  تأثيرات مستدامة
يرفعُ التعرّضُ الأوليّ للكوكائين مؤقتا فعالية العديد من الجينات (مُثّلت تخطيطيا بالتبدلات في B وC وD، اليمين القريب)، ولكنها سرعان ما تعود مجددا إلى نقطة الانطلاق. إلا أنّ التعرّض المزمن له تأثيرات أكثر تعقيدا: فهو يجعلُ بعض الجينات أقل حساسية للمخدّر (B، أقصى اليمين)، بينما يرفع فعالية جينات أخرى لأكثر مما كانت عليه من قبل (C وD)، حيث تبقى بعض هذه الجينات مفرطة الفاعلية لوقت يتجاوز الحد الطبيعي.

 

 

وأن تكون قطعة من الكروماتين مسترخية (جاهزة للتفعيل) أو منقبضة (مغلقة بصورة دائمة أو مؤقتة) لهو أمر يتأثر بعلامات التخلّق المتوالي: واسمات كيميائية ترتبط بالهيستونات أو بالدنا ذاته، حيث يمكن لهذه الواسمات أن تتخذ أشكالا مختلفة، وتخْلقُ سوية نوعا من الكود يدل على درجة الإحكام التي ينبغي أن يتم بها حزم الكروماتين، وعلى ما إذا كان استنساخ الجينات المستبطنة أمرا لا بد منه [انظر الإطار في الصفحة المقابلة]. وما يحدد درجة النشاط التي يمكن أن يكون عليها الجين هو طبيعة الوسم التي يتميز بها الكروماتين المحيط به.

تقوم تشكيلة من الإنزيمات بإجراء تعديلات التخلّق المتوالي، حيث يضيف بعضها الواسمات الكيميائية ويزيلها بعضها الآخر. وقد أطلق <D .C. أليس> [من جامعة روكفيلر] وهو من القياديين في هذا المجال، على هذه الإنزيمات تسمية «كتبة(6)» كود التخلّق المتوالي و«ماحياته(7)». فعلى سبيل المثال، الإنزيم المعروف باسم ناقلة أسيتيل الهيستونات histone acetyltransferase، والذي يربط مجموعة أسيتيل ببروتين الهيستون، كاتب، أما إنزيم نازعة أسيتيل الهيستونات histone deacetylase فيزيل هذه العلامة، وهو ماح. ومن ثم تقوم هذه العلامات بجذب بروتينات أخرى تؤدي دور «القُرّاء(8)». تتحد القرّاء مع واسمات تخلّق متوال معيّنة، وتمكّن القراءُ الكروماتينَ المحيط بها من الانبساط أو الانقباض من خلال تجنيد بروتينات تنظيمية أخرى منبّهة أو مُثبّطة لاستنساخ الجينات المقيمة. فالهيستونات الشديدة الأستلة، على سبيل المثال، تجذب القرّاء المعنية ببسط الكروماتين وبسط بروتينات أخرى معزّزة للنشاط الجيني. وفي المقابل، فإن الهيستونات التي تغصّ بمجموعات الميثيل تجذب قُرّاء قادرة على كبح الاستنساخ أو تحفيزه على حد سواء، وذلك بحسب موقع علامات الميثيل بالضبط.

يمكن للبيئة أن تؤثّر في نشاط الجينات من خلال نظمها لسلوك كتبةِ التخلّق المتوالي وماحياته، أي وبتعبير أدقّ من خلال نظمها لوسْمُ الكروماتين وإعادة هيكلته. أما المدة الزمنية لفعاليّة الواسمات، فقد تكون أحيانا قصيرة بحيث تسمح لخلية عصبية، مثلا، بالاستجابة السريعة لتنبيه شديد بتوليد دفقة مديدة من الناقل العصبي. غير أن الواسمات، في أغلب الأحيان، تستمر لشهور أو سنوات – أو حتى مدى حياة المتعضي (الكائن الحي) organism: وخير مثال على ذلك هو ما نعرفه عن تقوية أو إضعاف الوصلات العصبية المشاركة في عملية تدوين الذكريات.

وهكذا يمكن لإضافة مجموعات الأسيتيل والميثيل – وعلامات أخرى – وإزالتها أن تساعد الدماغ على الاستجابة للتحديات البيئية وتجارب الحياة، والتكيّف معها. بيد أنّ ما نجده الآن في مختبرنا وغيره من الدراسات على الحيوان، هو أنّ عمليات التخلّق المتوالي المفيدة هذه قد تُخْفِقُ في حالات كالإدمان والاكتئاب، حيث يمكن أن يؤدي تغيّر المصفوفة السوية للتعديلات إلى إثارة الشهوات أو تحريض مشاعر الهزيمة، أو يؤهب الحيوان بطريقة ما إلى سوء تكيّف يستمر طوال عمره. ويوحي فحص نسيج الدماغ البشري بعد الوفاة بأنّ الأمر ربما لا يختلف عند الإنسان.

مهيأ للإدمان(******)

تنطلق الموجودات الخاصة بالإدمان مما سبقها من إضاءات لكيفية استيلاء المخدّرات على مركز المكافأة السوي في الدماغ. وقد توصل العديد من الدراسات إلى الكشف، مثلا، عن وجود تبدلات كبيرة في فعالية الجينات استجابة للكوكائين أو الأفيونات أو المواد الأخرى المسبّبة للإدمان، وعن أنّ بعض هذه التبدلات في التعبير الجيني gene expression تستمر حتى بعد شهور من الفطام (الامتناع عن تناول المخدّر)، علما بأن الباحثين ما زالوا يعانون صعوبات جمّة في تقديم تفسير للآلية الكامنة خلف هذه الاستدامة. وبالنظر إلى أن تأثيرات التبدلات بالتخلّق المتوالي يمكن أن تكون طويلة الأمد، فقد بدأنا في مختبرنا قبل نحو عشر سنوات ببحث ما إذا كان الكوكائين قادرا على أن يبدّل فعالية الجينات في مركز المكافأة في الدماغ من خلال ما يُحدثه من تغيير في وسمها التخلّقي المتوالي. ولأنّ الكوكائين مخدّر قويّ يسبب الإدمان عند الحيوانات والبشر على حد سواء، فإن تأثيراته المديدة يمكن أن تُدرس بسهولة في الظروف المختبرية.

وما وجدناه هو أن جرعة وحيدة من الكوكائين تُحدث تغيّرات شديدة وواسعة النطاق في التعبير الجيني، وهو ما يُظهره قياس تراكيز جزيئات الرنا المرسال mRNA بوصفها الدليل المباشر على تنشيط الجين. فبعد ساعة واحدة من تلقي الفئران للحقنة الأولى من الكوكائين، أخذ نحو 1000 جين جديد في الاشتغال. والأكثر إثارة من ذلك هو ما يحدث عند الحيوانات بعد إعطائها المخدر لمدة طويلة، حيث إن بعضا من الجينات التي تتنشّط بعد التعرّض للكوكائين لفترة وجيزة، تتوقف عن العمل بعد التعرض له كلّ يوم، الأمر الذي يعني أن هذه الجينات تفقد حساسيتها تجاه المخدّر.

بيْد أنّ عددا أكبر بكثير من الجينات يسلك السلوك المعاكس تماما: فمع أنّها تتنشط مؤقتا بعد تعرضها الأولي للكوكائين، فإن تعرّضها المزمن له يرفع مستويات نشاطها حتى إلى أعلى مما كان عليه، حيث يستمر هذا النشاط المرتفع إلى ما بعد الجرعة الأخيرة بأسابيع في بعض الحالات. والأكثر من ذلك هو بقاء هذه الجينات حسّاسة جدا للكوكائين لبعض الوقت حتى بعد إيقاف المخدّر عن الحيوان. وهكذا، فإن الاستخدام المزمن للكوكائين يشحن أو يُجهّز هذه الجينات للتنشيط المستقبلي، أيْ يسمح لها بأن «تتذكّر» التأثيرات المُجزية للمخدّر. كما أنّ هذا الشحن priming يُعدّ الحيوان أيضا للنُّكْس، ممهّدا الطريق للإدمان. وعلى ما يبدو، فالحساسية المتصاعدة تنجم عن التعديلات بالتخلّق المتوالي التي تصيب الجينات.

 

[نمطٌ جديدٌ للتوريث]

والدتي، نفسي(*******)

  أظهرت الدراسات على الجرذان أنّ التخلّق المتوالي يمكن له أن يؤثّر في سلوك الأم، وأنّ هذا التأثير يمكن أن يعبر من جيلٍ إلى تاليه بالعمل على دماغ المولود وحده، دون تعديل على الخلايا الجُرميّة. فعندما يولد الصغير، تكون جيناته التي تشارك في نظم استجاباته للكرب مزودة بعلامات الميثيل التثبيطية، مما يزيد من حساسيته للكَرْب. فإذا تربت الموالـيد على يد أمٍّ هـادئة ويقظة، فإن العديد من مجموعات الميثيل سوف تتلاشى لديها، فتصبح هذه الحيوانات أكثر هدوءا. وعندما تنضج هذه المواليد ستكون، هي أيضا، آباء هادئة ويقظة. بيد أنّ تنشئة المواليد على يد أمٍّ سلبيةٍ يسكنها الخوف يمكن أن تؤدي إلى اكتساب جيناتها لعلامات الميثيل، ويفضي بها إلى أن تصبح راعية عصبية ومهملة بعد كبرها.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_13_a.jpg

 

 

 

وباستخدام التقانات العالية لتصنيف علامات التخلّق المتوالي عبر كامل جينوم الفأر، استطعنا تبيان أنّ الإعطاء المزمن للكوكائين يعيد انتقائيا تشكيل مجموعة واسمات الميثيل والأسيتيل على مئات الجينات ضمن مركز المكافأة في الدماغ. وتعمل هذه التغيّرات بصورة جماعية على دفع بنية الكروماتين للانبساط جاعلة هذه الجينات أكثر عرضة للتنشيط بالكوكائين لاحقا. وتجدر الإشارة مرة أخرى إلى أنّ العديد من التغيّرات المذكورة ذو طبيعة مؤقتة، ولا يدوم سوى بضع ساعات بعد تلقي الحيوان للمخدّر. إلا أنّ بعضها أطول ديمومة بكثير، فقد سجّلنا تغيّرات تستمرّ لشهر على الأقل، وباشرنا نبحث الآن حتى عن تبدلات تدوم فترات أطول.

بدأنا أيضا نتلمس خيوط الآليات القابعة خلف هذه التغيّرات المستدامة. فقد وجدنا في مختبرنا أنّ إعطاء الكوكائين المزمن يُخْمد فعالية بعض الماحيات المزيلة لمجموعات الأسيتيل، كما يخمد فعالية فئة معيّنة من الكتبة المضيفة لمجموعات الميثيل التثبيطية. ويبقى الكروماتين الشديد الأستلة – أو الأقل مثيلة – في حالة أكثر انفتاحا واسترخاء، ما يجعل جيناته المقيمة أكثر قابلية للتنشيط. كما وجدنا أيضا أن التعرّض المزمن للكوكائين يؤثّر في فعالية كتبة وماحيات أخرى في مركز المكافأة في الدماغ، تاركا وراءه مصفوفة من علامات التخلّق المتوالي الداعمة لتنشيط الجينات. وما يدعم هذه الملاحظة هو ما وجدناه عندما قمنا صنعيا بدوْزنة فعاليات هؤلاء الكتبة والماحيات بطريقة تتيح لها تقليد تأثيرات الاستخدام المزمن للمخدّر – بالطبع دون إعطاء فعليّ للمخدّر القادر على توليد الإدمان – حيث جعلنا الحيوانات من خلال ذلك أكثر حساسية للتأثيرات الممتعة للكوكائين بوصفها إحدى السمات المميزة للإدمان.

إنّ التبدلات التالية لاستخدام الكوكائين المزمن في نشاط الكتبة والماحيات مديدة أيضا، وهذا ما قد يفسّر التبدلات الطويلة الأمد في فعاليات الجينات المُعلّمة – والطريقة التي سوف يستجيب الحيوان بها لطيف من التجارب المستقبلية. ولأن مركز المكافأة في الدماغ يتفاعل مع عدد كبير من مختلف أنواع المنبهات – بما فيها الجنس والغذاء، فالتلاعب في نشاط الخلايا العصبية في هذا المركز يمكن أن يبدّل سلوك الحيوان جوهريا.

 

للاكتئاب(********)

يُشكّلُ التكيّف العصبيّ المؤثّر في السلوك الطويل الأمد أيضا أساسا واحدا من أكثر الحالات النفسية إزمانا وإنهاكا وشيوعا، ألا وهو الاكتئاب. وكما هي الحال في الإدمان، يمكن دراسة بعض جوانب هذا الاضطراب بسهولة في الحيوانات. ففي مختبرنا، نعمل مع فئران أُخضعت لإحباط اجتماعي مزمن. فقد عُزلت الفئران الذكور المعتدلة السلوك أزواجا مع حيوانات أكثر عدوانية، وبعد 10 أيام من تعرضها للمضايقات، أبْدت الفئران الطّيّعة العديد من علامات الاكتئاب البشرية: لم تعد تستمتع بالنشاطات الممتعة (الجنس، أكل الحلويات)، وصارت أكثر قلقا وعزلة وأقل استعدادا للمغامرة؛ وحتى أحيانا أكثر قابلية للبدانة من خلال إفراطها في الطعام. تدوم بعض هذه التبدلات لشهور، ويمكن عكسها بمعالجتها بمضادات الاكتئاب ذاتها التي تُستخدم عند البشر.

وبالاطلاع عن كثب على دنا الفئران، وجدنا تبدلات في التعديلات بالتخلّق المتوالي لدى نحو 2000 جين بمركز المكافأة في الدماغ. وقد قِسنا زيادة في علامة معيّنة للتخلّق المتوالي طالت 1200 من هذه الجينات، حيث تجلّت هذه العلامة على شكل «مثْيلة الهيستونات» الكابحة للنشاط الجيني. وهكذا، يبدو أنّ الاكتئاب يُمكنه أن يُجمّد عمل جينات لها دور مهم في تنشيط جزء الدماغ الذي يتيح للحيوان الشعور بالارتياح، تاركا وراءه نوعا من الندبة الجزيئيةmolecular scar. كما وجدنا أيضا أنّ العديد من التبدلات المذكورة الناجمة عن الكرْب قابلة للعكْس بمعالجة الفئران لشهر واحد بدواء الإيميپرامين imipramine، وهو مضادّ اكتئاب واسع الاستخدام. إضافة إلى ذلك، فقد تم اكتشاف تبدلات بالتخلّق المتوالي مماثلة في عينات من دماغ الإنسان مأخوذة من متوفين تعرضوا للاكتئاب أثناء احتضارهم.

ومع أن الاكتئاب مشكلة شائعة بين البشر، فهم ليسوا جميعا معرضين للإصابة به على قدم المساواة. وقد تبين لنا أنّ الفئران أيضا لا تشذّ عن هذه القاعدة، فثلث الذكور تقريبا التي تعرضت «لجرعة» يومية من الإحباط الاجتماعي كانت فيما يبدو مقاومة للاكتئاب، فعلى الرغم من خضوعها كغيرها للكرْب المضني ذاته، فإنها لم تُظهر الانسحاب أو الفتور الذي أبدته زميلاتها المؤهبة. لقد نزلت هذه المرونة إلى مستوى جيناتها، فالعديد من التبدلات بالتخلّق المتوالي المُحرضّة بالكرْب، والتي رأيناها في الفئران المؤهبة، لم تحدث في الفئران المرنة، وإنما ظهرت لديها تعديلات بالتخلّق المتوالي في مجموعة إضافية من الجينات في مركز المكافأة بطريقة تختلف عما يحدث لدى الفئران التي أصابها الاكتئاب. وتوحي هذه الاكتشافات أنّ هذا النمط البديل من التعديلات وقائيّ الطبيعة، وأنّ المرونة هي أكثر من مجرد غياب الاستعداد؛ إنها تتضمّن برنامج تخلّق متوال فاعلا يمكن استدعاؤه لمقارعة تأثيرات الكرْب المزمن.

وجدنا أيضا أنّ الجينات الوقائية التي تم تعديلها بآلية التخلّق المتوالي في الفئران المرنة تتضمّن العديد من الجينات ذاتها التي تستعيد نشاطها الطبيعي في الفئران المكتئبة إثر معالجتها بالإيميپرامين. ومجموعة فرعية من هذه الجينات معروفة بقدرتها على رفع فعالية مركز المكافأة في الدماغ، وبالتالي على تجنّب الاكتئاب. لا شك في أن هذه الملاحظات تعزّز احتمال أنّ تكون إحدى آليّات تأثير مضادات الاكتئاب عند البشر هي تفعيل عدد من برامج التخلّق المتوالي الوقائية ذاتها المعروفة عند الأفراد الأقل عرضة للاكتئاب. وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي علينا ألاّ نبحث عن أدوية حاصرة لتأثيرات الكرْب المزمن الضارة وحسب، وإنما أن نكون قادرين أيضا على تحديد هوية الأدوية المُقوية لآليات المرونة الطبيعية في الدماغ.

ميراث الأم(*********)

إن التأثيرات التي ناقشناها حتى الآن لا تستمر مدّتها سوى شهر واحد، وهي أطول فترة زمنية بحثنا فيها. ولكن التعديلات بالتخلّق المتوالي يمكن أن تُحرّض تبدّلات سلوكية تدوم طوال العمر. وهذا ما بيّنه <M. ميني> [من جامعةMcGill] وزملاؤه، فقد فحص تأثيرات الرعاية الأمومية في التعديلات بالتخلّق المتوالي وفي سلوك الأبناء لاحقا.

لاحظ الباحثون أنّ بعض أمهات الجرذان تُظهر مستويات عالية من سلوك الحضانة ولعق صغارها وهندمتها(9)، بينما بعضها الآخر أقل اجتهادا. ولاحظ الباحثون أيضا أن نسل الأمهات الأكثر نشاطا أقل قلقا، وكمية هرمون الكرْب التي ينتجها عند الانزعاج أقلّ مما ينتجه صغار الأمهات الأكثر سلبية. كما تبين للباحثين، إضافة إلى ذلك، أن الإناث اللواتي تنشأ برعاية أمهات حاضنة تصبح أنفسها أمهات حاضنة.

لقد تابعت مجموعة <ميني> تقديم دلائلها على أنّ تأثيرات السلوك الأمومي تتواسطها، جزئيا على الأقل، آليات التخلّق المتوالي. فمقارنة بالصغار التي تعرضت للرعاية الفائقة، تبدي الصغار الناشئة عند أمهات سلبية «دنا» أكثر مثْيلة في السلاسل التنظيمية للجين المكوّد لمستقبل القشرانيات السكرية – وهو بروتين يوجد في معظم خلايا الجسم، ويتواسط استجابة الحيوان لهرمون الكرْب المعروف باسم الكورتيزول. وهذه المثْيلة المفرطة التي تم اكتشافها في الحُصين hippocampus – وهو منطقة من الدماغ تشارك في نظم وظيفتي التعلّم والذاكرة – تحثّ الخلايا العصبية على تخفيض إنتاجها من مستقبل القشرانيات السكرية. ولما كان تفعيل هذا المستقبل في الحُصين يترتب عليه فعليّا إرسال إشعار للجسم لإبطاء إنتاج الكورتيزول، فإن تخفيض إنتاجه عبر آليّة التخلّق المتوالي هو ما أدى إلى تفاقم استجابة الحيوانات للكرْب، وهو بالتالي ما جعلها تصبح أكثر قلقا وخوفا – وهي خصال رافقتها طوال حياتها. غير أن التأثيرات في مستقبل القشرانيات السكرية قد تكون جزءا واحدا من القصّة فقط. فقد وجدت <F. شمباني> [من جامعة كولومبيا] وزملاؤها اختلافات مماثلة في التخلّق المتوالي على الجين المكوّد لمستقبل الإستروجينات estrogens  في الصغار الناشئة عند أمهات نشيطة وأمهات سلبية. من المرجح، إذن، أن يأتينا الدليل في المستقبل على أن الوسم التخلّقي المتوالي للعديد من الجينات الأخرى يُسهم في برمجة الاستجابات لأمر من الأمور المعقّدة، كالسلوك الأمومي مثلا، ويسهم بالتالي في توريث هذا السلوك.

وفي هذه الحال، فإن التبدلات بالتخلّق المتوالي التي حصلت في أحد الجينات عند جيل ما, تبدو في الواقع قابلة للانتقال إلى الجيل القادم مع عدم مرورها عبر خطّ الخلايا الجُرميّة. فسلوك الأمّ يغيّر عبر آلية التخلق المتوالي نظم الجينات في دماغ صغيرها الذي يُبدي لاحقا سلوك الأم ذاته، والذي يقوم بدوره بتعديل علامات التخلّق المتوالي والسلوك عند صغيره، وهكذا.

علاج تخلّقي متوالٍ(**********)

إن التحدي الرئيس في العقود القادمة هو استغلال ما نتعلّمه حول التعديلات بالتخلّق المتوالي وحول السلوك، من أجل تطوير طرائق محسّنة لمعالجة الاضطرابات النفسية المختلفة. فمختبرنا وغيره وجد، مثلا، أنّ الأدوية التي تحفظ الهيستونات مكسية بمجموعات الأسيتيل عبر آلية تثبيط الإنزيمات الماحية لها وفعّالة ضد الاكتئاب. ومن ناحية أخرى، ومع أن التربية السلبية تترافق بتغيّرات في مثْيلة الدنا(10)، فقد وجد <ميني> أنّ الأدوية المذكورة قادرة على تعزيز السلوك الحاضن، باعتبار أن الأستلة المعززة(11)لديها القدرة على معارضة التأثيرات الكابحة للمثْيلة المفرطة.

ومع أنّ هذه النتائج واعدة، فمن غير المحتمل أن تكون المثبطات الموجودة حاليا في السوق مفيدة لمجابهة المرض النفسي، ذلك لأن ماحيات الأسيتيل؛ أي نازعات أسيتيل الهيستونات، تقوم بنظم علامات التخلّق المتوالي الخلوي في سائر مناطق الدماغ وفي جميع أنحاء الجسم، الأمر الذي يعني أن الأدوية التي تعطّلها بصورة عشوائية لها آثار جانبية خطيرة، ويمكن أن تكون سامّة. لا بد إذن من بدائل قد يكمن أحدها في تطوير أدوية قادرة على تثبيط نازعات أسيتيل الهيستونات بأشكالها المختلفة بصورة انتقائية، والتي توجد بكثافة عالية في مناطق الدماغ الأكثر تأثرا بحالات نفسية معيّنة، كمركز المكافأة، على سبيل المثال. أما البديل الآخر فقد يتمخض عن عملية تعرُّف بروتينات جديدة تسهم في التعديلات بالتخلّق المتوالي في الدماغ. ومع ذلك، وفي النهاية، فقد تكون المقاربة الأكثر جدوى هي تحديد أيّ الجينات عرضة للتعديلات بالتخلّق المتوالي في الاكتئاب أو الإدمان: مثلا، جينات مستقبلات نواقل عصبية معيّنة أو بروتينات ناظمة لبث الإشعارات، ولتكن بروتينات تسهم في التنشيط العصبي. يمكن بعدها أن نركّز جهودنا على تصميم أدوية تستهدف مباشرة نشاط الجينات المحددة تلك – أو منتجاتها البروتينية.

نقلُ التبدّلات(***********)

أحد الأسئلة المثيرة التي ستبقى قائمة هو: إلى أيّ درجة ستكون التبدلات بالتخلّق المتوالي التي ترافق الحالات العصبية النفسية قابلة للتوريث؟ في تجارب <ميني>، «ترِثُ» الجرذان من أمهاتها بعض أنماط سلوك معينة، إضافة إلى بروفيلات التخلّق المتوالي المرافقة. ولكن تلك التبدلات، والتي تتأثّر مباشرة بالسلوك، تحدث في الدماغ. فهي لا تنتقل، إذن، بواسطة علامات تحملها جينات الخلايا الجرمية التي تُشكّل الجنين الجديد. والسؤال الأكثر إثارة هو: هل يمكن لمثل هذه التجارب الحياتية أن تسبّب تبدلات بالتخلّق المتوالي في خلايا النطاف والبويضات، والتي يمكن بعدها أن تعبر مباشرة إلى سلالة الفرد؟

 

ليس من المستهجن بالتأكيد أن نفكر في احتمال أن يكون للكرْب المزمن أو للأدوية المسببة للإدمان أو لكليهما تأثير معدّل في نشاط الجينات في النطاف أو البويضات؛ ففي النهاية، هرمونات الكرْب والأدوية ليست محصورة في الدماغ بل تجول الجسم بكامله، بما في ذلك الخصيتين والمبيضين. بيْد أنّ ما يصعب فهمه هو كيف يمكن لمثل هذا التغيّر في الخلايا الجنسية أن يبقى مُصانا عبر الأجيال. فالتعديلات بالتخلّق المتوالي المكتسبة تُمحى أثناء انقسام الخلية بالنمط الذي تنشأ عنه النطاف والبويضات. وما يصعب فهمه أيضا هو كيف لهذه التعديلات، إنْ وجدت في الجنين، أن تطلق العنان للتأثير في نشاط الجينات في أجزاء منتقاة فقط من الدماغ أو في الغدد الصم عند شخص بالغ؟

وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الأبحاث الخلاّبة توحي أنّ بعض التعديلات بالتخلّق المتوالي قد تكون قابلة للتوريث. فقد وجدت عدّة مجموعات أنّ القوارض المعرضة للكرب المزمن تلِدُ ذرية حساسة للكرْب بوجه خاص. فعلى سبيل المثال، قامت <I. مانسوي> [من جامعة زيوريخ] مع زملائها بفصل صغار الفئران عن أمها في أثناء أول أسبوعين من حياتها، فوجدت أنّ النسل الذكري أبدى علامات الاكتئاب في سنّ البلوغ. وعند تناسل هذه الذكور مع الفئران الإناث السوية، أبدى النسل الناتج أيضا سلوكيات شبيهة بالاكتئاب، مماثلة لما أبدته البالغة، مع عدم تعرضها للكرب في أثناء تربيتها. وانتقال هذا الاستعداد للكرب مرتبط بالمستويات المتبدلة لمثْيلة دنا عدّة جينات معيّنة في النطاف والدماغ كليهما.

وقد أجرينا دراسة مماثلة في مختبرنا باستخدام نموذجنا الخاص بالإحباط الاجتماعي، حيث أخضعنا فئرانا ذكورا للكرْب المزمن. ثم انتظرنا شهرا واحدا، وسمحنا لها بالتزاوج فاكتشفنا أنّ نسلها أبدى زيادة كبيرة في تأهبها للاكتئاب. ومن ثمّ تقدمنا خطوة واحدة في التجربة. فإذا كانت تعديلات التخلّق المتوالي التي تجعل الفئران معرضة للاكتئاب قابلة للتوريث حقا، يجب أن تصل التبدلات إلى الخلايا الجنسية للحيوانات. ولذا أخذنا نطافا من ذكورنا المرهّبة واستخدمناها لتخصيب بويضات من أنثى سوية. واكتشفنا أنّ أنسال هذا التزاوج الصنعي كانت سوية جدا تقريبا: لقد أظهرت مؤشرات طفيفة فقط على سلوك الانسحاب والقلق الثابتين عند آبائها.

ليست هذه التجربة جازمة لأنّ علامات التخلّق المتوالي قد تكون تعرضت للإزالة بطريقة ما من النطاف في أثناء عملية الإخصاب خارج الجسم. إلا أنّ النتائج توحي أنّ الإناث اللاتي تزاوجت جسديا بالذكور المرهبة تعاملت مع صغارها بشكل مختلف عن الإناث اللاتي تزاوجت بذكور سوية – أو اللاتي لم تقابل قطُّ آباء صغارها. بالنتيجة، فاكتئاب النسل ربما نجم عن التجربة السلوكية المبكرة وليس عن الوراثة المباشرة للتخلّق المتوالي المحمول عبر النطفة أو البويضات.

لا يعني هذا القول أنّ مثل هذا الانتقال عبر الأجيال مستحيل، ومع ذلك، فلا نمتلك حاليا الدليل الجازم للإشارة إلى أنّه يحدث. وللتصدي لهذه المسألة، يجب أن نطوّر الأدوات التجريبية التي تمكّننا من تحديد التعديلات بالتخلّق المتوالي ذات الصلة في الخلايا الجرمية وإثبات أنّ هذه التعديلات لازمة وكافية لتحرض انتقال الخِصال المرصودة.

لقد عُرف عالم بيولوجيا القرن الثامن عشر <B-J. لامارك> من نظريته عن توارث الصفات المكتسبة. وبحسب هذه الفكرة، فالخِصال التي تتلبسّها المتعضيات على مدى عمرها – الجهاز العضلي المتمرن جيدا على سبيل المثال – يمكن أن تنقلها إلى نسلها. نعرف الآن بالطبع أنّ جينات الفرد هي التي تؤدي الدور المهيمن في تحديد الفيزيولوجيا والوظيفة. وفي الوقت ذاته، فالعلماء يتقدمون باطراد نحو الاعتراف بأنّ التعرّض للبيئة والتجارب المختلفة (بما في ذلك الحوادث العشوائية) خلال مراحل النموّ وسن البلوغ يمكن أن يعدّل فعالية جيناتنا، وبالتالي طرق إظهار هذه الخِصال لذاتها. ونعلم الآن أنّ آليات التخلّق المتوالي تتواسط هذا التفاعل بين الطبيعة والتنشئة. وما زال لدينا الكثير جدا من العمل لنقوم به لنتوصل إلى فهم تام لكيفية تأثير علم التخلّق ومداه في خصالنا السلوكية واستعدادنا للمرض النفسي، وما إذا كانت تلك الاستعدادات يمكن أن تنتقل إلى الأجيال التالية. ولا شكّ في أنّ <لامارك> ونقّاده كانوا سيبتهجون في مناقشة مثل هذه الإمكانيات.

 

المؤلف

   Eric J. Nestler
 <نيسلر> أستاذ العلوم العصبية بمجموعة ناش Nash، ومدير معهد فريدمان Friedman للدماغ في مركز ماونت سيناي الطبي بمدينة نيويورك. يركّز مختبره على كشف الآليات الجزيئية لإدمان المخدرات والاكتئاب. http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_09_a.jpg

 

  مراجع للاستزادة

 

Epigenetic Regulation in Psychiatric Disorders. N. Tsankova, W. Renthal, A. Kumar and
Eric J. Nestler in Nature Reviews Neuroscience, Vol. 8, pages 355-367; May 2007·
Epigenetic Programming of Phenotypic Variations in Reproductive Strategies in
the Rat through Maternal Care. N. M. Cameron et al. in Journal of Neuroendocrinology,
Vol. 20, No. 6, pages 795-801; June 2008.
Why DNA Isn’t Your Destiny. John Cloud in Time, Vol. 175, No. 2; January 18, 2010.
www.time.com/time/magazine/article/0,9171,1952313,00.html
Epigenetic Regulation of Genes in Learning and Memory. T. L. Roth, E. D. Roth and J. D.
Sweatt in Essays in Biochemistry, Vol. 48, No.1, pages 263-274; September 2010.
Epigenetidransmission ofthe Impact of Early Stress across Generations. I B. Franklin
et al. in Biological Psychiatry, Vol. 68, No. 5, pages 408-415; September 1, 2010.
The Epigenetic Landscape of Addiction. I. Maze and Eric J. Nestler in Annals of the New
York Academy of Sciences, Vol. 1216, pages 99-113; January 2011.
Epigenetics at the University of Utah’s Learn.Genetics site:
http://learn.genetics.utah.edu/content/epigenetics

(*)HIDDEN SWITchES IN THE MIND

(**)BEYOND GENES

(***)Genetics vs. Epigenetics

(****)MAKING MARKS
(*****)Epigenetics of Addiction

(******)PRIMED FOR ADDICTION

(*******)My Mother, Myself

(********)MARKED FOR DEPRESSION

(*********)A MOTHER’S LEGACY

(**********)EPIGENETIC CURE

(***********)PASSING IT ON

 

(1) epigenetic marks on chromosomes
(2) mutating genes = إحداث طفرات فيها.
(3) heritable

(4) genetic

(5) genetics: الوراثيات أو علم الوراثة.

(6) writers

(7) erasers

(8) readers
(9) grooming
(10) DNA methylation

(11) enhanced acetylation

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Back to top button