أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
بشرعلم الإنسان

بشرية فائقة

بشرية فائقة(*)

إن دوافعنا إلى تجاوز حدودنا التطوُّرية هي ما يميِّزنا من الحيوانات الأخرى.

<.M .R ساپولسكي>

 

 

باختصار

    إن كثيرا من التحدِّيات التي نواجهها اليوم، نحن البشر، هي نتيجة لعدم التوافق بين البيئة التي تكيَّف أسلافنا معها عبر ملايين السنين، وبين العالم الذي نعيش فيه اليوم.

    إلا أن حالة عدم التوافق هذه هي نفسها نتيجة لخاصية بشرية فريدة: رغبتنا في توسيع أنفسنا إلى ما وراء الحدود التي وضعها التطوُّر لنا.

    والعلم هو واحدة من الأدوات التي يستعملها البشر لتحقيق ذلك الهدف المتمثِّل بتوسيع قدراتنا المادية والذهنية.

 

 

إذا جلستَ مع عالم بالجنس البشري للتحدُّث عن طبيعة البشر، فعلى الأرجح ستسمع المقولة التالية الكثيرة التكرار: «حسنا، عليك أن تتذكَّر أن 99 في المئة من التاريخ البشري انقضى في الساڤانَّا(1)، حيث عاشت مجموعات بدائية صغيرة من الصيادين والشَّوارين(2)». إنها مقولة عفا عليها الزمن من مقولات العلم، ولكنها صحيحة. وبالفعل، فقد أنتجت تلك الملايين من السنين السالفة سماتنا المميَّزة، ومنها مشينا منتصبي القامة، وأدمغتنا الكبيرة على سبيل المثال. ولم تكن تلك الإبداعات التطوُّرية ذات الفائدة العظيمة طبعا من دون ثمن: آلام في الظهر بسبب وقوفنا على رجلين، ويأس وجودي(3) ناجم عن التفكُّر والتأمُّل الذاتيين بسبب قشرتنا الدماغية الكبيرة. فكما هي الحال غالبا، ليس ثمة من شيء من دون مقابل.

 

وبتراكم التحديات الناجمة عن تلك المقايضات، أصبح العالم الذي اخترعناه، وخاصة في ضوء المستجدات العظيمة في الآونة الأخيرة، شديد الاختلاف عن ذاك الذي تكيَّفت معه أجسامنا وعقولنا. فطعام العشاء يأتي إليك (بفضل عمال توصيل البيتزا) بدلا من أن تسعى إليه على قدميك، وتدخل الفيسبوك للتواصل مع محبيك والمقربين منك بدلا من صرف جزء كبير من يومك معهم طوال حياتك. وعند هذا الحد ينتهي مفعول المقولة التي عفا عليها الزمن لعالِم الجنس البشري من أجل تفسير الحالة البشرية(4).

 

إن سبب عدم التوافق هذا بين المحيط الذي تطوَّرنا لنعيش فيه، والحالات التي نواجهها في حقبتنا الحديثة يأتي من سمة مميِّزة أخرى لنوعنا، لعلها أهم سماتنا: رغبتنا الشديدة في الانطلاق إلى ما وراء الحدود التي فرضها التطوُّر علينا، وذلك من خلال ابتكار أدوات تجعلنا أسرع وأذكى وأطول عمرا. والعِلم هو واحدة من تلك الأدوات، وهو اختراع يتطلَّب منا الخروج من ذهنية العصر الحجري القائلة «بعدم تصديق إلا ما يُرى مباشرة»، كي نستطيع التغلب على العقبة التالية التي تعترضنا، سواء أكانت مرضا وبائيا أو تغيُّرا مناخيا. ويمكنك وصف تلك الأداة بأنها أفضل تعبير عن الحافز البشري الاستثنائي إلى الارتقاء إلى ما هو أفضل مما نحن عليه.

 

شذوذات بشرية(**)

لفهم الكيفية التي صنع بها الانتقاء الطبيعي(5) الرئيسات الفريدة التي هي نحن، سوف نعود إلى أيام الساڤانَّا الغابرة. كانت تلك الأرض المكشوفة مختلفة كثيرا عن الغابات التي سمَّاها أسلافنا القردة مأوى. فأولا، كانت شمس الساڤانَّا أحر وأشد سطوعا، وثانيا، كان الطعام النباتي المغذي أكثر ندرة. ونتيجة لذلك، فقَدَ أسلافنا شعر أجسامهم الكثيف كي تبرد. وتضاءلت أضراسهم بعد تخليهم عن الطعام النباتي القاسي وتحوُّلهم إلى طعام تركَّز جزئيا في لحوم آكلات العشب، وصارت تلك الأضراس الآن عديمة الفائدة وذات سطوح تكاد لا تطحن.

 

وفي الوقت نفسه، جعل التناول الانتقائي للغذاء، بسبب ندرته، أجسام أسلافنا قليلة استهلاك الطاقة وجيدة الخزن للكالوريات calories. أما الآن، وقد ورثنا آلية الاستقلاب نفسها، فقد أصبحنا نسعى وراء سندويشات الهامبُرگر على الرغم من تحوُّل داء السكري إلى داء عالمي. أو انظر إلى كيف أن جهازنا المناعي قد تطوَّر في عالم كاد يخلو من أشخاص يحملون مُمْرِضات (عوامل مُمرضة) pathogens  حقيقية، في حين أنك إذا عطستَ الآن بالقرب من شخص في مطار، فإن ڤيروسات أنفك سوف تكون طليقة حرة في 12  منطقة زمنية في  اليوم التالي.

 

a0912Sapo022.tif

 

وشذوذاتنا البشرية وفيرة في الجوانب السلوكية أيضا. فوفق معايير تصنيف الرئيسات، نحن لسنا أسماكا ولا طيورا من نواح كثيرة. وثمة مثال لافت هنا. تُصنَّف الرئيسات عموما في نمطين مختلفين: الأول هو نمط الأجناس القائمة على التزاوج، بمعنى أن الإناث والذكور يكوِّنون أزواجا مستقرة ذات ديمومة طويلة، وتمارس الزواج الاجتماعي والجنسي مع قرين واحد فقط. ويقوم الذكور في هذا التزاوج ببعض، أو حتى بمعظم أعمال العناية بالأطفال، ويتصف إناث وذكور هذه الأنواع بالحجم نفسه تقريبا ويَبْدون متشابهين جدا. ويبدو أن كثيرا من القردة الصغيرة النحيفة وقردة أمريكا الجنوبية هي من هذا النمط. والأجناس الاستعراضية(6) التي تتَّخذ المنحى المعاكس: تقوم الإناث بجميع شؤون رعاية الأطفال وتتصف الذكور بأنها أكبر حجما بكثير من الإناث وتقوم بجميع أنواع الاستعراضات الطاووسية المثيرة المبتذلة، بوجوهها الملوَّنة وظهورها الفضية. وتقضي هذه الذكور الاستعراضية نسبة كبيرة من أوقاتها منغمسة في طقوس عدوانية. وإلى جانب هذين النوعين، هناك البشر الذين لا ينتمون إلى أي منهما بجميع المعايير التشريحية والوظيفية الحيوية وحتى الجينية، بل يقعون في موقع محيِّر فيما بينهما.

 

ومن ناحية سلوكية أخرى، يُعتبر البشر مثالا نموذجيا للرئيسات: فنحن اجتماعيون جدا، وأجمل أنواع الذكاء لدينا هو الأنواع الاجتماعية. وقد نوجد، نحن الرئيسات، في ظروف يُربكنا فيها مثال رياضياتي تجريدي للتعدِّي(7)، مع أنه من السهل علينا أن نستنتج أنه إذا هيمن شخص A على شخص آخرB، وهيمن B على C، فإن من الأفضل لـ C أن ينحني بخضوع عندما يرى A. ويمكننا اتباع سيناريوهات معقدة جدا من التأثيرات الاجتماعية المتبادلة واستنتاج إنْ كان عقدٌ اجتماعي قد انتُهك (ونحن أمهر في كشف المخادع من كشف المغالي في كرمه.) يضاف إلى ذلك أنه ليس لنا نظير في تمييز الوجوه، حتى إنه توجد في منطقة من لحاء أدمغتنا تلافيفُ مغزلية متخصِّصة بذلك.

 

إن المزايا الانتقائية لنشوء الدماغ الاجتماعي(8) جلية وواضحة. وقد عبَّدت الطريق أمامنا لتطوير مقدرتنا على قراءة حالات الآخرين الذهنية، والتميُّز في مناوراتنا الاجتماعية، وخداع الآخرين ببراعة، واجتذاب الأقران والمناصرين. وقد أصبح مستوى الذكاء الاجتماعي(9) لدى الشبان الأمريكيين يمثِّل مؤشِّرا على النجاح في عالم الأعمال أفضل من نتائج اختبار القبول الجامعي(10).

 

وبالفعل، عندما يأتي الأمر إلى الذكاء الاجتماعي عند الرئيسات، يحتل البشر مركز الصدارة. وفرضية الدماغ الاجتماعي المطروحة في علم تطوُّر الرئيسات مبنية على حقيقة أن نسبة الدماغ المكرَّسة للِّحاء الجديد(11)  لدى الجنس الرئيس مترابطة بالحجم الوسطي للمجموعة الاجتماعية لذلك الجنس. وهذا الترابط أشد وضوحا (وفقا لحجوم المجموعات الموجودة في المجتمعات المعهودة) لدى البشر منه لدى الرئيسات الأخرى. وبكلمات أخرى، فقد تطوَّر جزء الدماغ البشري الأكثر تميُّزا لدى الرئيسات مع الحاجة إلى الاستمرار بمعرفة أولئك الذين ليسوا على وفاق، والذين يُخفقون كليا في هرم السيطرة، والأزواج الذين يعبثون خلسة هنا وهناك في الوقت الذي يجب ألا يفعلوا ذلك فيه.

 

وعلى غرار أجسامنا، فإن أدمغتنا وتصرفاتنا، التي نُحتت في ماضينا الغابر، أيام الصيادين والشوَّارين، يجب أن تتسع أيضا لحاضرنا الشديد الاختلاف. فنحن نستطيع العيش آلاف الأميال بعيدا عن أمكنة ولادتنا، ويمكننا قتل شخص من دون أن نكون قد رأينا وجهه من قبل. ونحن نلتقي بأناس ينتظرون الدخول إلى مدينة ألعاب ديزني يفوق عددهم عدد الناس الذين التقى بهم أسلافنا طوال حياتهم. يا إلهي، يمكننا حتى النظر إلى صورة شخص ما والشعور بالرغبة في ممارسة الجنس على الرغم من عدم معرفتنا بالرائحة التي تنطلق من صاحب أو صاحبة الصورة – كم هو غريب ذلك على عالَم الثدييات؟

 

ما وراء الحدود(***)

 

إن حقيقة أننا أوجدنا هذا العالم المختلف كليا عن العالم القديم وأننا نزدهر فيه، تُثبِت نقطة مهمة هي أن من طبيعتنا ألاّ نكون مقيَّدين من قبل طبيعتنا. فتجاوزنا للحدود ليس مستغربا. والعلم هو واحد من أغرب وأحدث المجالات التي نتحدى فيها حدود الرئيسات البشرية(12). ومن بعض أكثر الأوجه جوهرية للتغيُّر في عالمنا نواتجُ العلم المباشرة التي يتجلَّى فيها التحدي بوضوح. انظر فقط إلى أولئك الأوائل من أشباه الاختصاصيين بعلم الوراثة(13)  الذين نجحوا في ترويض الحيوانات البرية وفي استنبات الحبوب والمزروعات، ذلك الابتكار الذي وفَّر كثيرا من الغذاء، ولكنه اليوم يهدِّد بالقضاء على موارد كوكبنا الطبيعية.

 

وفي مستوى أكثر تجريدا، يختبر العلم إحساسنا بما هو المعهود(14)، وبما نعتبره أفضل مما هو جيد. إنه يتحدى إحساسنا بمن نكون. وبفضل العلم، يستمر العمر الوسطي للإنسان بالتزايد، ويستمر طوله الوسطي بالنمو، وتتحسَّن درجاتنا في اختبارات الذكاء. وبفضل العلم، فإن كل رقم قياسي عالمي لمناسبة رياضية معرض للتجاوز.

 

وبدفع العلم لآفاق تلك المجالات بعيدا إلى الأمام، من المدهش حقا هو ضآلة التغيير الذي أحدثته تلك التغيُّرات فينا. فمهما كان طول العمر الذي نتوقَّع أن نعيشه، فإننا سوف نموت، وسوف يبقى ثمة سبب رئيسي للموت، وسوف نستمر بالشعور بأن أعزاءنا قد رحلوا عنا إلى الآخرة باكرا. ولكن عندما يتعلق الأمر بازدياد متوسط ذكاء البشر وأطوالهم ونتائجهم الرياضية، فثمة مشكلة: مَن يهتم بالمتوسط؟ فنحن كأفراد، يريد كل منا أن يكون أفضل من الآخرين. ودماغنا استفزازي ومُقارِن وأكثر اهتماما بالتباينات من المطْلَقات contrasts. وتنشأ تلك الحالة من منظومة حواسنا التي لا تُخبِرنا عادة عن جودة محرِّضاتها، بل عن جودة تلك المحرِّضات بالنسبة إلى محرِّضات أخرى تحيط بها. وعلى سبيل المثال، تحتوي شبكية العين على خلايا لا تنفعل بلون ما كانفعالها بلون بالقرب من اللون «المناقض» له (الأحمر في مقابل الأخضر، مثلا). ومع أننا جميعا نرغب في أن نكون أذكى، فإننا على الأرجح نريد أن نكون أذكى من جيراننا. والشيء نفسه بالنسبة إلى الرياضيين؛ وهذا ما يطرح تساؤلا طالما شغل الرئيسات البشرية: كم يجب أن تكون سرعتك وأنت تعدو كي تهرب من أسد؟ والجواب هو دائما: أسرع من الشخص الذي بجانبك.

 

ولكن العلم يتطلَّب منا غالبا أن نوسِّع آفاقنا حينما يتعلق الأمر بأنواع الأسئلة التي نطرحها. إنني أرى ثمة أربعة أنواع خاصة من تلك الأسئلة. يتعلق الأول بطبيعة العلم غير الاجتماعية asocial غالبا. وأنا لا أقصد بذلك الأعمال المنعزلة في بعض أنواع الاستقصاءات العلمية التي يعمل بها العالِم وحيدا عند الساعة الثالثة صباحا. بل أعني أن العلم غالبا ما يتطلَّب منا أن نهتم فعلا بأشياء جامدة. وبلا ريب ثمة كثير من الاستثناءات من هذه القاعدة، فعلماء الرئيسات يجلسون ويثرثرون في الليل عن نقاط ضعف قِرَدتهم وهفواتها. وقد اعتاد عالم الأحافير <.L ليكي>  على وصف الجمجمة الأحفورية المفضلة لديه بـ «الابن العزيز». ومع ذلك فإن بعض مجالات العلم تهتم بأشياء جامدة جدا، ومن أمثلة ذلك أن علماء الفيزياء الفلكية يحاولون اكتشاف كواكب في منظومات شمسية أخرى. والعلم يتطلَّب غالبا من دماغنا الاجتماعي البشري أن يكون شغوفا بمواضيع ضئيلة الاحتمال.

 

والعلم يوسّع آفاقنا بطريقة أخرى عندما ننظر إلى أشياء من قبيل الميكانيك الكمومي والتقانة النانوية وفيزياء الجسيمات(15)، التي تتطلَّب منا أن نعتقد بأشياء لا نستطيع رؤيتها. وقد أمضيت سنواتي الجامعية وأنا أنقل سوائل من أنبوب اختبار إلى آخر وأقيس مستويات أشياء من قبيل الهرمونات والمرسلات العصبونية(16). ولو توقفت حينئذ وفكَّرت بذلك، لوجدت أن أشياء من هذا القبيل هي فعلا أشياء غير معقولة. وعدم المعقولية تلك هي سبب أن كثيرا منا – نحن العلماء – الذين يعملون في المختبرات ويقيسون أو يستنسخون أو يحقنون أشياء غير مرئية، يُستثار جدا عندما ينكب على اللعب بالجليد الجاف(17).

 

ويمكن للعلم أن يوسَّع بطريقة ثالثة آفاق قبولنا، بوصفنا من الرئيسات البشرية، بالأمور من دون تساؤل، وذلك من خلال طبيعة الأسئلة التي يمكن أن يطرحها. ليس لنا نظير في مملكة الحيوانات عندما يتعلق الأمر بتذكُّر الماضي البعيد، أو عندما يتعلق الأمر بالإحساس بالمستقبل. إلا أن ثمة حدودا لتلكالمهارات. ففيما مضى، قد يكون أسلافنا من الصيادين والشوَّارين قد تذكَّروا أشياء قالتها لهم جدَّتهم وكانت جدَّتها قد قالتها لها، أو ربما يكونون قد تخيَّلوا حياة الجيل أو الجيلين اللذين عاشا قبلهم. إلا أن العلم يدفعنا اليوم أحيانا نحو التفكير في سيرورات تستغرق مددا زمنية غير مسبوقة. متى سوف يأتي العصر الجليدي التالي؟ هل سوف تتوحَّد گوندوانا(18) مرة أخرى؟ هل سوف تحكُمنا الصراصير بعد مليون سنة؟

 

إن كل شيء يخص أدمغة الرئيسات البشرية، التي نحن منها، يعترض على فكرة أن ثمة سيرورات تستغرق تلك المدد الطويلة، أو أن سيرورات من ذلك القبيل يمكن أن تكون ذات أهمية. فنحن نتصف، مع الرئيسات الأخرى، بالرضا الظرفي الآني الشديد(19): إن الحصول على عشرة دولارات أو عشر حبات من طعام القردة، هو الآن أفضل كثيرا من الحصول على أحد عشر منها غدا. ومسارات جزاء الدوبامين(20) في أدمغتنا، تومِض أثناء التصوير الدماغي عندما نحصل على مكافأة فورية مفاجئة. ويبدو أن معظمنا يُفضِّل الحصول على نصف قطعة من الحلوى البائتة في الأسبوع المقبل على الانتظار ألف سنة لربح رهان على فرضية مفتاحية في علم صفائح القشرة الأرضية(21).

 

لذا، ثمة أسئلة علمية توسِّع آفاقنا بطرائق جوهرية أيضا، وهي ألغاز تجريدية مذهلة: هل ثمة إرادة حرة؟ ما هي آلية الوعي؟ هل ثمة أشياء من المستحيل معرفتها؟

 

وإنه لمن المغري أن ننزلق إلى الفكرة البسيطة التي تنطوي على أن عقولنا التي تعود إلى العصر الحجري تستسلم أمام تحديات من هذا النوع وتتركها للآلهة للتفكُّر فيها. وتكمن هذه المشكلة في النزعة البشرية نحو تصور آلهة على هيئتنا (ومن الأمثلة الجيدة على ذلك أن الأفراد المتديِّنين المصابين بالتوحُّد غالبا ما تكون لديهم صورة لإله غير اجتماعي لا همَّ له سوى منع الذرات من التطاير والابتعاد عن بعضها.) وعبر تاريخ اختراع البشر لآلهة لهم، امتلكت قلة من تلك الآلهة مقدرة كبيرة على التجريد. وبدلا من ذلك، امتلكت الشهية المعهودة. فلم يكن من بين تلك الآلهة من هو مهتم باجترار مقولة <گودِل>(22) عن معنى المعرفة، أو برمي أحجار النرد مع <أينشتاين>(23) (أو بعدم رميها، وهو ما حصل.) بل إن اهتمامها تركَّز في تقديم أكبر ثور أضحية إليها، وفي مضاجعة أجمل حوريات الغابة.

 

إن السيرورة العلمية نفسها هي التي تتحدّى حدودنا الأساسية بوصفنا رئيسات بشرية. إنها تتطلَّب منا العناية الشديدة بأشياء صغيرة، وحتى غير مرئية، أشياء لا تتنفس ولا تتحرك، وبعيدة جدا عنا في الزمان والمكان. وتشجِّعنا أيضا السيرورة العلمية على مواضيع تُخرِج الإلهين ثور وبعل عن أطوارهما. إنها من أكثر الأشياء التي خرجنا بها تحديا لنا. ولا عجب في أن جميع إنذارات كشف الغباء قد انطفأت عندما ضُبطنا ونحن نقرأ مجلة من قبيل مجلة العلوم الأمريكية في أيام المدرسة الإعدادية. إن هذه المغامرة في القراءة والتفكير والاهتمام بالعلم ليست لأولئك من ضعاف القلوب، فنحن قد تكيَّفنا على نحو أفضل لمواجهة القطط الحادة الأسنان، ونحن هنا الآن لنعيد اختراع العالم ونجتهد لتحسين أحوالنا المعيشية بطرح سؤال علمي تلو آخر. إنها طبيعتنا البشرية.

 

إن سيرورة العلم بعينها هي التي تتحدَّى حدودنا الأساسية، نحن الرئيسات البشرية.

 

 

المؤلف

Robert M. Sapolsky
<.M .R ساپولسكي> أستاذ علم الأحياء وعلم الأعصاب لدى جامعة ستانفورد. وتتركَّز أبحاثه في التوتُّر عند السعادين البرية، وقد كتب عددا من المقالات والكتب الشهيرة عن الحالة البشرية. a0912Sapo01.psd

  مراجع للاستزادة

 

Monkeyluv: And Other Essays on Our Lives as Animals. M. Sapolsky. Scribner, 2006.

Are Humans Just Another Primate? Video lecture by Robert M. Sapolsky. http://fora.tv/2011/02/15/Robert_Sapolsky_Are_Humans_Just_Another_Primate

(*) SUPER HUMANITY

(**) HUMAN ODDITIES

(***) BEYOND LIMITS

(1) Savanna: الساڤانَّا هي السهول الاستوائية وشبه الاستوائية العشبية الواسعة.

(2) gatherer: الشَّوَّار هو الذي يلتقط أو يجني الثمار والحبوب والعسل من هنا وهناك؛ و«الشوارة» هي الثمار التي تلتقط مما يسقط على أرض الحقل.

(3) existential despair: يأس التساؤل المحيِّر عن معنى الحياة والغرض منها.

(4) human condition. تتضمن الحالة البشرية الجوانب الفريدة ذات الصلة بوجود الإنسان ضمن السياق الاجتماعي والثقافي والشخصي. وهي متأصِّلة في الوجود البشري ولا يمكن اجتزاؤها منه، ولا تعتمد على الجنس أو العرق أو الطبقة أو المكانة.

(5) natural selection أو الانتخاب الطبيعي.

(6) tournament species

(7) transitivity: تنطوي خاصية التعدِّي على أنه إذا كان a>b فإن b>c، كان a>c.

(8) social brain

(9) social intelligence: خلافا للذكاء الفردي.

(10) Scholastic Assessment Test (SAT): اختبار يخضع له الطلبة بغرض الانتساب إلى الجامعات الأمريكية، ويتضمن ثلاثة مواضيع هي القراءة النقدية والرياضيات والكتابة. وهو مصمَّم لتحديد مستوى التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات الضرورية للنجاح في الجامعة.

(11) neocortex: جزء من اللحاء الدماغي مخصَّص للبصر والسمع لدى الثدييات، وهو أحدث أجزاء اللحاء تطوُّرا. (التحرير)

(12) beyond the limits

(13) hominid: فصيلة البشر وأسلافهم المنقرضين، وتتميز بانتصاب القامة وحجم الدماغ الكبير والذكاء.

(14) the norm أو العادي.

(15) particle physics

(16) neurotransmitters أو المرسلات.

(17) dry ice: الجليد الجاف هو ثنائي أكسيد الكربون المتجمد (يتجمد عند درجة حرارة تساوي 78.5 درجة مئوية تحت الصفر). وله استعمالات عديدة من أشهرها تكوين طبقة من الضباب الأبيض حين إضافة الماء إليه على خشبة المسرح بغرض الإثارة. (التحرير)

(18) Gondwana: منطقة قارية واسعة يُعتقد أنها كانت موجودة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية وأنها تشكَّلت بعد انفصال پانگيا في العصر الوسيط، وكانت تضم شبه الجزيرة العربية وأفريقيا وجنوب أمريكا والقارة القطبية الجنوبية وأستراليا وشبه جزيرة الهند. أما پانگيا فهي القارة العظمى التي تألفت من قشرة الكرة الأرضية والتي يُعتقد أنها وُجدت في آواخر العصر القديم والعصر الوسيط.

(19) مبدأ «عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة.»

(20) dopamine reward pathways: الدوبامين مركَّب كيميائي عضوي بسيط يؤدي عددا من الأدوار الوظيفية المهمة في أجسام الحيوانات، وهو مسؤول عن التعلُّم المحفَّز بالمكافأة. ومسارات الجزاء هي شبكة عصبونات دماغية تُنتِج وتُنظِّم المتعة المقترنة بالأكل والشرب والجنس.

(21) plate tectonics

(22) Kurt Gödel، رياضياتي نمساوي من أهم إنجازاته في المنطق الرياضياتي نظرية عدم الاكتمال العصية على الفهم والتي يمكن تقريبها بالقول إنه لا يمكن إثبات صحة المقولات الرياضياتية من داخل الرياضيات نفسها.

(23) إشارة إلى مقولة أينشتاين الشهيرة: «إن الإله لا يلعب النرد،» التي رددها في اعتراضه على نظرية الميكانيك الكمومي التي تقول بحدوث الأشياء وفقا لقوانين الاحتمالات ومبدأ الارتياب. (التحرير)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى