أشعة قاتلة من السحب
أشعة قاتلة من السحب(*)
تطلق العواصف الرعدية عصفات قوية من أشعة گاما وأشعة
بعد وقت قصير من إطلاق سفينة الفضاء أتلانتس Atlantis مرصدا فلكيا جديدا إلى المدار عام 1991، أدرك <.G فيشمان> [من مركز ناسا مارشال لرحلات الفضاء] أن هناك شيئا غريبا يحدث. وقد صُمِّمَ المرصد الفلكي كومپتون لأشعة گام (CGRO)(1) للكشف عن هذه الأشعة من الأجسام الفيزيائية الفلكية البعيدة مثل النجوم النيترونية وبقايا النجم المستعر، كما أنه سجل أيضا انفجارات ساطعة طولها ملّي ثانية من أشعة گاما غير آتية من الفضاء الخارجي فقط بل من الأسفل بالقرب من الأرض. لقد عرف علماء الفيزياء الفلكية أن الظواهر الغريبة مثل التوهجات الشمسية والثقوب السوداء والنجوم المتفجرة تسرِّع الإلكترونات وغيرها من الجسيمات إلى طاقات عالية للغاية، ومن ثم تستطيع هذه الجسيمات الفائقة الشحن supercharged بث أشعة گاما – الفوتونات الأكثر طاقة في الطبيعة. وفي الأحداث الفيزيائية الفلكية، تتسارع الجزيئات خلال الحركة الحرة تقريبا في الفراغ. فكيف إذن، تستطيع الجزيئات في الغلاف الجوي للأرض – وهو بالتأكيد ليس فراغا تاما في أي مكان – من فعل الشيء نفسه؟ إن البيانات الأولية قادتنا مع خبراء آخرين إلى الاعتقاد مبدئيا أن ما تدعى ومضات أشعة گاما الأرضية نشأت على ارتفاع 40 ميلا فوق السحب، ولكننا الآن وجدنا أنها تنتج على ارتفاع أقل من ذلك بكثير بواسطة التفريغ الكهربائي(2) داخل السحب الرعدية المتنوعة. وخلال ذلك فإن الكثير من النظريات المتطورة المبتكرة تسعى بازدياد لتفسير أشعة گاما المُستغربة تفسيرا يتوافق مع المشاهدات: فمرة بعد أخرى، تكشف التجارب عن طاقات كان يستحيل من قبل تخيل وجودها في الغلاف الجوي. وحتى المادة المضادة antimatter حققت ظهورا مفاجئا. وبعد واحد وعشرين عاما، توصل الباحثون إلى فكرة جيدة عن الكيفية المحتملة لتكوين هذه الومضات لأشعة گاما الأرضية، وذلك على الرغم من استمرار بعض الشكوك حولها. وإضافة إلى الحاجة الملحة إلى حل هذا اللغز الساحر تكمن التأثيرات المحتملة في صحة الإنسان: فمثلا إذا حلقت طائرة ركاب على مقربة من مصادر أشعة گاما، فإن هذه الأشعة قد تمثل ضررا إشعاعيا على ركاب تلك الطائرة. أَتضرب عصفورين بحجر واحد؟(**) في البداية تساءل العلماء عما إذا كانت أشعة گاما لها علاقة بأعجوبة أخرى من عجائب الغلاف الجوي المكتشفة قبل سنوات قليلة فقط. فقد التقطت الكاميرات الموجهة فوق السحب الرعدية صورا ضوئية لومضات قصيرة لامعة من الضوء الأحمر على ارتفاع 50 ميلا فوق سطح الأرض وعلى اتساع عدة أميال، وكانت هذه الصور لما يشبه قنديل بحر عملاق. وهذا التفريغ الكهربائي الرائع سُمِّي تسمية غريبة سپرايتس (عفاريت) sprites، ولأن سپرايتس تصل تقريبا إلى حدود الفضاء، فيبدو مقنعا أنها ربما تطلق أشعة گاما، التي يمكن رؤيتها عن طريق مسبار يدور حول الأرض.
بعد وقت قصير، قام الفيزيائيون النظريون بأولى المحاولات لشرح كيف يمكن لسپرايتس إنتاج أشعة گاما المرتبطة بالفضاء. ويعتقد أن سپرايتس هي عبارة عن تأثيرات جانبية للبرق الطبيعي الحادث في السحب على ارتفاع منخفض جدا. والبرق هو عبارة عن قناة موصلة كهربائيا، تفتح مؤقتا في الهواء، الذي يكون على العكس عازلا كهربائيا. وتحمل الصاعقة الإلكترونات بين مناطق الغلاف الجوي أو بين الغلاف الجوي والأرض، وهذا يحدث بسبب عدم اتزان الشحنات الكهربائية التي تنطلق بواسطة المجالات الكهربائية الناتجة والتي يزيد فرق جهدها على 100 مليون ڤلط. إن الاندفاع العنيف للإلكترونات يُعيد الاتزان الكهربائي جزئيا؛ وذلك مثلما يجري عندما نُحدث نتوءًا في سجادة فإنه غالبا ما ينشأ عنه نتوء باتجاه معاكس في مكان آخر؛ فالتفريغ الكهربائي داخل السحب غالبا ما ينبثق عنه مجال كهربائي في مكان آخر، بما في ذلك سطح الأرض – حيث يمكن أن يؤدي لاحقا إلى برق صاعد – أو قريبا من أسفل الغلاف الأيوني للأرض – حيث قد تنشأ سپرايتس. في عام 1992 استطاع <.V .A گيوريڤيتش> [من معهد ليبيديڤ الفيزيائي في موسكو] ومعاونوه أن يبينوا أن المجالات الكهربائية الثانوية بالقرب من الغلاف الأيوني للأرض يمكن أن تنتج كما هائلا من الإلكترونات العالية الطاقة، والتي عند اصطدامها بالذرات، تنطلق منها فوتونات أشعة إكس ذات الطاقة العالية وكذلك أشعة گاما ذات الطاقة العالية للغاية – إضافة إلى التوهج الأحمر المميز لسپرايتس. فهذه الآلية التي جرى افتراضها مُستنتجة من قبل العالم الأسكتلندي <.R .T .C ويلسون> في عام 1920 الحائز جائزة نوبل. وعند الطاقات الصغيرة تتصرف الإلكترونات المندفعة بواسطة المجال الكهربائي كالبحارة المخمورين، حيث تتدافع من جزيء إلى آخر فاقدة طاقتها مع كل تصادم. أما عند الطاقات العالية، فتسير الإلكترونات في خط مستقيم، مكتسبة طاقة عالية من المجال الكهربائي مما يجعل أي تصادم قليل التأثير في اضطراب مسارها وهكذا, وهي عملية ذاتية التعزيز. وتختلف هذه النتيجة مع خبراتنا اليومية، حيث إنه كلما أسرعنا في الحركة، زادت معاناتنا من القوة العكسية، تماما مثل ما يعانيه سائق دراجة. تستطيع هذه الإلكترونات الهاربة، التسارع إلى سرعة الضوء تقريبا وتسير إلى أميال قبل توقفها بدلا من المسافة الصغيرة القليلة التي يتحركها الإلكترون عادة في الهواء. لقد أرجع فريق <جيوريڤيتش> ذلك إلى أن الإلكترون الهارب عندما يصطدم بجزيء الغاز في الهواء، فإنه يستطيع تحرير إلكترون آخر, وهذا الإلكترون يتسارع. والنتيجة تماثل تفاعل السلسلة: اندفاع هائل من إلكترونات عالية الطاقة والتي تتزايد لوغاريتميا مع المسافة المقطوعة وتستطيع السير مسافات بعيدة مع امتداد المجال الكهربائي. وتأثير الاندفاع الهائل للإلكترونات، طبقا لحسابات <جيوريڤيتش> ومعاونيه، من الممكن أن يزيد إنتاج أشعة إكس وأشعة گاما بمقادير مضاعفة جدا. ويبدو هذا التصور لبرهة مقبولا بشدة بسبب قدرته على توحيد ظاهرتين جويتين منفصلتين – ومضات أشعة گاما والسپرايتس. وكما سوف نرى, اتضح أن الواقع أكثر تعقيدا. براءة سپرايتس(***) خلال السنوات العديدة اللاحقة، ابتداء من عام 1996، ظهر العديد من الروايات الدقيقة للنظرية التي مثلت سپرايتس كاندفاعات هائلة من الإلكترونات منتجة أشعة گاما. ودليل واحد هو الذي دعم هذا النموذج الشبحي، وهو طيف الطاقة لأشعة گاما. فأشعة گاما ذات الطاقة العالية تسير مسافات أبعد في الهواء أكثر من الأشعة الأقل طاقة، ومن ثم فهي الأكثر احتمالا لعمل ذلك في الفضاء. وبحساب عدد فوتونات أشعة گاما التي تصل إلى سفينة الفضاء عند كل مستوى طاقة، يستطيع العلماء استنتاج ارتفاع مصدرها. وأشارت أولى اختبارات الطاقة لأشعة گاما، كما جرى رصدها بواسطة المرصد CGRO، إلى وجود مصدر على ارتفاع عالٍ جدا، وهذا متناسق مع سپرايتس. وفي عام 2003، أخذت الأحداث منحى غير متوقع. فخلال العمل في موقع أبحاث البرق في فلوريدا وقياس الانبعاثات من أشعة إكس التي تصل الأرض من برق الصاروخ المنطلق، اكتشف واحد منا (<وَير>) ومعاونوه ومضةً لامعة جدا من أشعة گاما والتي خرجت من سحابة رعدية وغمرت المنطقة حولن(3). هذا الوميض المسجل على أجهزتنا شابه تماما إحدى ومضات أشعة گاما الأرضية التي اعتقد الجميع أنها نشأت عن مكان أكثر بعدا: الأشعة لها الطاقة نفسها والفترة الزمنية نفسها، نحو 0.3 ملي ثانية. وقد اعتقد الجميع أن هذه الومضات آتية من ارتفاعات عالية جدا يتعذر رؤيتها من الأرض. وقد أوحى التشابه أنه ربما تكون الصواعق البرقية في داخل السحب الرعدية من المصادر المباشرة لأشعة گاما الواصلة إلى المرصد CGRO، ولكن في الوقت نفسه بدت الفكرة ضربا من الهوس، إذ يتعين أن يكون الضوء مبهرا للغاية للحصول على أشعة گاما كافية للخروج إلى الفضاء عبر كل الغلاف الجوي. وبعد وقت قصير، استطاعت التطورات الأخرى إبطال المزاعم المرتبطة بين سپرايتس وأشعة گاما. ففي عام 2002 أطلقت ناسا NASA مصور التحليل الطيفي الشمسي العالي الطاقة(4) RHESSII، لدراسة أشعة إكس وأشعة گاما من الشمس، ولكن كشافات الجرمانيوم الكبيرة الخاصة بالمرصد RHESSI كانت ممتازة لقياس أشعة گاما القادمة من الغلاف الجوي بكفاءة عالية مع أنه يتطلب القيام بذلك من خلال خلفية السفينة الفضائية، بينما يكون المرصد مواجها نجمنا. وكان واحد منا <سميث> [وهو فيزيائي فلكي وفيزيائي شمسي] ضمن فريق المرصد RHESSI وقام بتوظيف <.L لوپيز>، التي كانت حينئذ طالبة في المرحلة الجامعية الأولى بجامعة كاليفورنيا، لتنظر في سيل البيانات المسجلة من قبل المرصد RHESSI لسنوات بحثا عن أي دليل لأشعة گاما المنبعثة من ارتفاعات منخفضة من الأرض. وفي هذا الوقت، كان يُعتقد أن ومضات أشعة گاما الأرضية نادرة جدا. وبدلا من ذلك، وجدت <لوپيز> اكتشافا نفيسا: إن المرصد RHESSI كان يسجل ومضة مرة كل بضعة أيام أكثر بعشر مرات من المعدل الذي جرى رصده من قبل المرصد CGRO. لقد قاس المرصد RHESSI طاقات فوتونات أشعة گاما في كل ومضة بشكل أفضل بكثير مما فعله المرصد CGRO. ويبدو طيف أشعة گاما الضوئي مماثلا تماما لما هو متوقع من الإلكترونات الهاربة. إضافة إلى ذلك وبمقارنة تلك القياسات بالقياسات النظرية المتوقعة المماثلة للواقع، استنتجنا أن أشعة گاما مرت عبر الكثير من الهواء، ومن ثم يجب أن تكون قد نشأت عن ارتفاع تقريبي يتراوح بين تسعة أميال وثلاثة عشر ميلا، وهي مسافة مساوية تماما لأعالي العواصف الرعدية ولكنها أقل بكثير من ارتفاع الخمسين ميلا حيث توجد سپرايتس. وقد تجمعت سريعا أدلة مستقلة إضافية تؤيد منشأ الارتفاع المنخفض لأشعة گاما أفضل من ارتباطه بسپرايتس. فقد أوضحت القياسات الإشعاعية التي أجريت بواسطة <.S كومر> [من جامعة ديوك] للبرق المرتبط ببعض أرصاد المرصد RHESSI أن هذه الومضات البرقية أضعف بكثير مما يتطلب لعمل سپرايتس. وفضلا عن ذلك، تبدو خريطة المرصد RHESSI لومضات أشعة گاما حول العالم مشابهة تماما للبرق الطبيعي، الذي يتركز في المناطق الاستوائية، وأقل بكثير جدا من شبهها بخريطة سپرايتس، التي تتجمع أحيانا على ارتفاعات أعلى في هذه الأماكن، كما في السهول العظمى بالولايات المتحدة الأمريكية.
وبقيت حجة واحدة لتفضيل سپرايتس كمنشأ، وهي أن طيف الطاقة طبقا لأرصاد CGRO يشير إلى مصدر عالي الارتفاع، مما يتفق أكثر مع سپرايتس أكثر من العواصف الرعدية. لقد بدأ الكثير منا يعتقد أن من المحتمل وجود نوعين من ومضات أشعة گاما، منخفضة وعالية الارتفاع. ولكن التأكيد النهائي لفكرة سپرايتس جاءت عندما أدركنا أن ومضات أشعة گاما الأرضية كانت أكثر إضاءة مما كان يعتقد سابقا. وفي الواقع, أثناء العمل فيما بعد مع طالب دراسات عليا <.B جريفينستيت> في عام 2008، وجدنا أن هذه الومضات كانت شديدة السطوع حتى إن المرصد CGRO كان معمىً جزئيا بسببها ولم يستطع قياس الشدة الكلية لها. (هذا التشبع أثر أيضا في المرصد RHESSI, ولكن بدرجة أقل.) وعندما أعاد الباحثون في جامعة بيرگن بالنرويج تحليل البيانات في عام 2010، وجدوا أن الأخذ في الاعتبار تشبع الجهاز، جعل النتائج متوافقة مع المصادر القليلة الارتفاع. وبعد ذلك في أقل من سنتين، هبط الارتفاع المزعوم حيث تتكون ومضات أشعة گاما أكثر من 30 ميلا. إن من النادر ما يُلاحظ في العلوم تبدلا في النماذج التفسيرية يحدث بهذه السرعة. وهذا التبدل مثير للسخرية، باعتبار أنه عندما أصبحنا منضمين إلى هذا المجال من البحث منذ عقد من الزمن، كانت سپرايتس هي المثال الساطع الواحد لكيفية إنتاج أشعة ذات طاقة في غلافنا الجوي. والآن، بعد عشر سنوات، يبدو كل شيء تقريبا منتجا أشعة عالية الطاقة يمكن كشفها – سحب رعدية، أنواع عديدة مختلفة من البرق، شرارات مختبر – ولكنها ليست سپرايتس. وكما يبدو ثمة إجماع الآن على أن انخفاض طاقة أشعة سپرايتس يدل على أن سپرايتس ليست مسؤولة عن ومضات أشعة گاما.
مسببات المادة المضادة(******) إذا كانت سپرايتس ليست هي المسؤولة عن إنتاج ومضات أشعة گاما، فمن المسؤول إذن؟ وهل العملية لا تزال تتضمن الاندفاعات العنيفة للإلكترونات الهاربة؟ لقد ثبت في النهاية أن طريقة الاندفاعات العنيفة للإلكترونات، كما تمت صياغتها وتصويرها بواسطة <جيوريڤيتش> ومعاونيه، مع أنها شديدة الطاقة لتفعل أي شيء مع سپرايتس، فإنها ليست قوية لدرجة تكفي لتوليد الإضاءات الكبيرة المرئية بواسطة المرصد RHESSI أو عن طريق التحليلات الجديدة لبيانات المرصد CGRO. غير أن الحسابات التي أجريت من قبل <وَير> أوضحت أن طريقة الاندفاعات الشديدة للإلكترونات العالية الطاقة جدا تستطيع إطلاق طاقة أكبر بتريليونات المرات أكثر مما نتصور، وتستطيع عمل الشيء نفسه داخل سحابة رعدية. والمذهل أن هذه الطريقة تتضمن وبكل تأكيد إنتاج الكثير من المادة المضادة. وإذا كان المجال الكهربائي داخل السحب الرعدية قويا بالقدر الكافي، فإن الإلكترونات الهاربة – المفترض تكونها بطريقة ما – تتسارع إلى سرعة الضوء تقريبا وعندما تلتقي بنوى الذرات في جزيئات الهواء، فإنها سوف تبعث أشعة گاما. وبالتبعية، فإن فوتونات أشعة گاما تستطيع التصادم بنوى الذرات لإنتاج زوج من الجزيئات: إلكترونات ومضاداتها التوائم بوزيترونات(5). فالبوزيترونات سوف تندفع أيضا، مكتسبة طاقة المجال الكهربائي. ولكن بينما تندفع الإلكترونات إلى الأعلى، فإن البوزيترونات التي تحوي شحنة معاكسة سوف تندفع إلى الأسفل. وعندما تصل البوزيترونات إلى أسفل المجال الكهربائي، سوف تصطدم بذرات الهواء فتنتج منها إلكترونات جديدة تندفع إلى الأعلى مرة أخرى. وبهذه الطريقة، فإن الإلكترونات الصاعدة سوف تنتج بوزيترونات متجهة إلى الأسفل والتي بالتبعية سوف تنتج إلكترونات أكثر صعودا إلى الأعلى وهكذا. وإذا كان اندفاع واحد للإلكترونات يؤدي إلى إنتاج العديد منها، فإن التفريغ الكهربائي سوف ينتشر سريعا فوق مساحة واسعة للسحابة الرعدية، تصل في اتساعها إلى أميال عديدة. والأعداد المتنبأ بها بهذا النموذج – يسمى نموذج التفريغ الكهربائي الاسترجاعي النسبي(6) – تتلاءم تماما مع الشدة والفترة الزمنية وطيف الطاقة لأشعة گاما، كما جرى رصدها بالمرصدين CGRO و RHESSI. والاسترجاع الإيجابي من البوزيترونات يشبه الزعيق المزعج الذي نحصل عليه عند الإمساك بالميكروفون من فوق السماعة. وبالطبع إذا كنا نريد ضجيجا عاليا، فإننا نستطيع أيضا الصياح في الميكروفون. وهذا المنطق هو وراء تفسير آخر محتمل وإن لم يجر تماما التحقق منه رياضياتيا تماما: هذه الومضات من أشعة گاما هي النسخة الأكثر طاقة من انفجارات أشعة إكس المنبعثة بواسطة البرق عند اقترابه من الأرض. ولسنوات عديدة قام الباحثون في معهد فلوريدا للتقانة، ومعهد نيومكسيكو للتعدين والتقانة بقياس أشعة إكس هذه، سواء تلك الناتجة من البرق الذي ينبعث صنعيا من إطلاق الصواريخ أو من البرق الطبيعي الذي يضرب الأرض. وقد أوضحت أفلام أشعة إكس من كاميرا أشعة إكس السريعة في ولاية فلوريدا أن الانفجارات تنبثق من قمة قناة البرق خلال سريانها من السحب إلى الأرض. ومعظم العلماء يعتقدون أن أشعة إكس تتولد عن طريق الإلكترونات الهاربة، المُعَجَّلة بواسطة المجالات الكهربائية القوية أمام البرق. وربما لأسباب لم تعرف بعد، فإن البرق الذي يتحرك في المجال الكهربائي داخل السحب الرعدية يقوم بوظيفة أفضل لإنتاج هذه الإلكترونات الهاربة. وإذا صحّت هذه الفكرة، فإن الومضات المرصودة من سفينة فضاء على بعد مئات الأميال ربما تكون مجرد نوع – مكبر ببعض الطرق غير المعروفة بعد – من أشعة إكس المتولدة من البرق والتي تجري رؤيتها على الأرض بواسطة كشافات على بعد مئات الأقدام من الصاعقة. على حين غِرّة(*******) مع نهاية عام 2005 كنا واثقين من أن معظم ومضات أشعة گاما الأرضية تنشأ من داخل أو قريبا من أعالي السحب الرعدية، بغض النظر عما إذا كانت المادة المضادة أو سهام البرق المقوى متضمنة معها. وقبل أن نتقبل هذا الطرح بشغف، ظهر شيء يضع فهمنا محل تساؤل من جديد: إحدى الظواهر المرصودة من المرصد RHESSI كانت دويا شديدا في وسط الصحراء الكبرى في أواسط إفريقيا Sahara Desert في يوم مشمس ومن دون سحب رعدية في المشهد. قضينا نحن وطلبتنا شهورا نناضل على هذا الحدث. لقد تحول الأمر إلى أن السحب الرعدية تشكلت هذا اليوم ولكن ليس في المكان الذي كانت تبحث فيه السفينة الفضائية. كانت السحب الرعدية على بعد آلاف الأميال إلى الجنوب، على مدى الأفق من المرصد RHESSI. وأشعة گاما لهذه السحب، وهي كجميع أشكال الضوء تسير في خط مستقيم، لم تكن تستطيع الوصول إلى السفينة الفضائية. ومن ناحية أخرى، تسير الجسيمات المشحونة، مثل الإلكترونات، طبيعيا في مسارات منحنية ملتفة حلزونيا حول الخطوط المنحنية للمجال المغنطيسي للأرض. كانت العواصف الرعدية موجودة تماما على الطرف الآخر لخط المجال المغنطيسي المار بالسفينة الفضائية. والإلكترونات التي وصلت إلى ارتفاعات عالية جدا تستطيع السير حول الكوكب والتحطم في كشافات المرصد RHESSI، مكونة في هذه العملية أشعة گاما. ومع ذلك, يبدو مستحيلا أن الإلكترونات المتحررة داخل سحابة رعدية تستطيع عمل ذلك خلال الكثير، الكثير من الأميال في الغلاف الجوي إلى ارتفاع في الفضاء حيث تستطيع السير حول خطوط المجال. وقد بدت المراقبة الجديدة بأنها تحتاج إلى مصدر عالي الارتفاع. وفضلا عن ذلك، وفي عام 2011 لاحظ تيليسكوب فيرمي FERMI الفضائي لأشعة گاما العديد من هذه الأشعة التي تدور حول الكوكب محققا بذلك اكتشافا مذهلا، وهو أن جزءا كبيرا من الأشعة يتكون من بوزيترونات. وهكذا فإنه يبدو أن الظواهر الجوية لا تستطيع فقط إطلاق إلكترونات وأشعة گاما إلى الفضاء وإنما أيضا جزيئات المادة المضادة. وبإدراك متأخر، كان يجب أن نتوقع رؤية هذه البوزيترونات، نظرا لمدى طاقة أشعة گاما. ومع ذلك, إذا أخذنا بعين الاعتبار كم هو غريب ملاحظة المادة المضادة في الطبيعة، فإن ما اكتشفه تيليسكوب فيرمي كان مذهلا. إن التفسير لاكتشاف الصحارى الكبرى، الذي أدركه فريقنا عاجلا، لم يكن أن أشعة گاما كانت قادمة من ارتفاع عال وإنما على الأرجح أنها نتجت داخل السحب الرعدية بأعداد هائلة أكثر مما كان متوقعا. ويصطدم البعض منها المتجه إلى الفضاء بجزيئات الهواء العَرَضية على ارتفاع يتجاوز الـ25 ميلا تقريبا منتجة أزواجا ثانوية من الإلكترونات والبوزيترونات، التي تركب عندئذ خطوط المجال المغنطيسي حول الأرض. وفي المرة القادمة عندما ترى سحابة رعدية طويلة، توقف لتتذكر أنها قادرة على أن تطلق إلى الفضاء جزيئات عالية الطاقة يمكن كشفها على الجانب الآخر من الكوكب. قيم متطرفة جديدة(********) إن ظهور البوزيترونات لم يكن مفاجأتنا الأخيرة. ففيما بعد، وفي عام 2011 كشف المرصد أجيل AGILE التابع لوكالة الفضاء الإيطالية أن طيف الطاقة لومضات أشعة گاما الأرضية يصل إلى 100 ميگا إلكترون ڤلط، وهي قيمة مذهلة حتى ولو كانت قادمة من الوهج الشمسي. وإذا كان هذا صحيحا، فهذه الرصود تشكك في نماذجنا لأنه يبدو من غير المحتمل أن هذه الظاهرة البعيدة تستطيع بنفسها توليد مثل هذه الطاقات. وفي الواقع، إنه ليس واضحا ما يمكن أن يسرِّع الإلكترونات إلى مثل هذه الطاقات داخل السحب الرعدية. وعند هذه النقطة، نحن نحتاج إلى رصود أكثر للمساعدة على توجيه النظرية. ولحسن الحظ، تشرع الآن مجموعات من الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا وروسيا في إطلاق أولى المهام الفضائية المكرسة للكشف عن أشعة گاما الأرضية. وفي غضون ذلك، وللاقتراب من الحدث، بَنَيْنا مع مساعدينا جهاز سفينة فضاء صُممت لقياس أشعة گاما من السحب الرعدية. فقد منعنا القلق من أخطار التعرض لأشعة گاما من الطيران مباشرة إلى داخل السحب الرعدية. ولكن في رحلة اختبارية مبكرة التي كان <وَير> مشاركا فيها، أخذت الطائرة دورانا خاطئا غير متعمد. وتلاشى الإحساس بالرعب سريعا ليحل محله الابتهاج عندما أضاءت كشافاتنا فجأة. وأوضحت التحليلات اللاحقة أن هذه المنطقة كانت تسرع إلكترونات فارَّة من النوع نفسه الذي نتوقعه لتشكيل ومضات أشعة گاما. ولحسن الحظ، ظل الانبعاثُ الإلكتروني قليل المستوى ولم يحدث له نمو انفجاري كما يُرى من الفضاء. ومن خلال هذه الرحلات، وجدنا أن العواصف الرعدية غالبا ما تبعث ومضات مستمرة من أشعة گاما غير ضارة نسبيا. إلا أن الحسابات الأولية توضح أنه إذا ما حدث أن اصطدمت رحلة خطوط طيران مباشرة بإلكترونات عالية الطاقة وأشعة گاما داخل عاصفة رعدية، فإن الركاب وأعضاء طاقم الطائرة – من دون الشعور بأي شيء – من الممكن أن يتلقوا جرعة إشعاعية في جزء من الثانية تصل إلى الجرعة الإشعاعية الطبيعية التي يمكن أن يتعرض لها المرء طوال حياته. ومن الأخبار الحسنة أننا لا نحتاج إلى تحذير الطيارين للبقاء بعيدا عن العواصف الرعدية، لأنهم يفعلون ذلك بالفعل; فالعواصف الرعدية هي أماكن يكون الوجود فيها خطرا جدا، في حال وجود أشعة گاما أو عدمه. وإلى حد ما، فإن دراسة ومضات أشعة گاما الأرضية هي استكمال لعمل <.B فرانكلين>، الذي يزعم أنه أرسل طائرة ورقية إلى سحابة رعدية لرؤية مدى إمكانية توصيلها للكهرباء، ومن ثم أوضح أن البرق هو عبارة عن تفريغ كهربائي. والمفاجأة أنه وبعد قرنين ونصف من تجربته للطائرة الورقية، لا يزال لدى العلماء فهم غير كامل ليس فقط حول كيفية تكوّن ومضات أشعة گاما بواسطة السحب الرعدية بل أيضا وحتى تكوّن البرق البسيط. إن كلينا أمضى الكثير من مشوار حياته في دراسة الأشياء الغريبة البعيدة من النظام الشمسي، ولكن إغراء هذا البحث أعادنا إلى الأرض. فربما لم يدرك <فرانكلين> نفسه أن السحب الرعدية يمكن أن تكون مثيرة جدا للاهتمام.
المؤلفان
مراجع للاستزادة
Discovery of Intense Gamma Ray Flashes of Atmospheric Origin. G. J. Fishman et al. in Science, Vol. 264, pages 1313–1316; May 27, 1994. (*) DEADLY RAYS FROM CLOUDS (**) TWO BIRDS WITH ONE STONE? (***) THE INNOCENCE OF SPRITAS (*****) What Causes the Gamma-Ray Flashes? (1) the Compton Gamma Ray Observatory (3) انظر: “A Bolt out of the Blue,ˮ by Joseph R. Dwyer; Scientific American, May 2005 Reuven Ramaty High Energy Solar Spectroscopic Imager (4) positrons (5) |