محنة الطفلِ المُتخلَّى عنه
محنة الطفلِ المُتخلَّى عنه(*)
تُظهِر محنة الأطفال اليتامى في رومانيا الندوبَ النفسية والجسدية التي نجمت
عن قضاء السنوات الأولى من أعمارهم دون رعاية ومحبة واهتمام من مربيهم.
<.A .Ch نيلسون> <.A .N فوكس> – <.H .Ch زينه، جونير>
باختصار
في عام 1966، حظر الديكتاتور الشيوعي < نيكولاي تشاوشيسكو>(1) تحديد النسل والإجهاض بغية زيادة عدد سكان رومانيا، مما أدى إلى تخلي آلاف الوالدين المغلوبين على أمرهم عن أطفالهم إلى مؤسسات الدولة. وفيما بعد، سمح المسؤولون في رومانيا، للمحققين الأمريكيين بإجراء دراسة لهذه الظاهرة بغية التخلص من هذه الممارسات الخاطئة لتحديد الآثار الضارة التي نجمت عن حياة أعداد كبيرة من الأطفال كانوا ومازالوا يعيشون في دور الأيتام. وفي عام 2000، بدأت في بوخارست أول تجربة عشوائية لمقارنة الحالة العاطفية والجسدية للأطفال الذين نشؤوا في دور الأيتام، بحالة الأطفال الذين عاشوا في بيوت التبني. والحياة في دور الأيتام تُخلِّف ندوبا بليغة، إذ وجدت الدراسة أن الأطفال الذين قضوا السنتين الأوليين من حياتهم في هذه الدور قد انخفض حاصل ذكائهم (IQ) ونشاطهم الذهني مقارنة بالأطفال الذين عاشوا في بيوت التبني أو الذين لم يعيشوا في مثل هذه المؤسسات على الإطلاق.
|
في عام 1966، أصدر <نيكولاي تشاوشيسكو>(1) قرارا مُضلَّلا كانت الغاية منه تعزيز الإنتاجية الاقتصادية، وذلك بأن تُنَمّي رومانيا «رأسمالها البشري» عن طريق الإلزام القسري الحكومي بزيادة عدد سكان البلاد. لذا، حظر <تشاوشيسكو>، جميع وسائل منع الحمل وعمليات الإجهاض وفرضَ «ضريبة عزوبية» على الأُسر التي كان عدد أطفالها أقل من خمسة. وعمد أطباء الدولة – المعتبرون كرجال شرطة الحيض – إلى إجراء فحوصات تناسلية للنساء في سن الإنجاب في مكان عملهن لمعرفة فيما إذا كن أنجبن ما يكفي من ذرية. ففي البداية، ارتفعت نسبة المواليد ارتفاعا سريعا، ولكن بما أن الأسر كانت أفقر من أن تحتفظ بهذا العدد من الأطفال، فقد تخلى الكثير منها عن أطفاله إلى مؤسسات كبيرة تديرها الدولة. وبحلول عام 1989 أدت هذه التجربة الاجتماعية إلى أن أكثر من 170000 طفل كانوا يعيشون في مرافق هذه الدولة.
وفي عام 1989 خلعت الثورة الرومانية <تشاوشيسكو>، وعمد خلفاؤه فيما بعد، وعلى مدى عشر سنوات، إلى عدة محاولات لوضع حد لما سببه قراره ذاك من ضرر. فقد كانت «مشكلة اليُتم» التي خلّفها <تشاوشيسكو> هائلة ولم تختفِ لسنوات عديدة. وظلت البلاد تعاني الفقر، و لم يتغير معدل التخلي عن الأطفال بشكل ملحوظ، على الأقل حتى عام 2005. وحتى بعد عقد على خلع <تشاوشيسكو> من السلطة، مازال بعض المسؤولين الحكوميين يرددون أن الدولة قد قامت بعمل أفضل من الأسر التي قامت بتنشئة الأطفال المتخلى عنهم، وأن الأطفال الذين عهد بهم إلى تلك المؤسسات كانوا بحكم تعريف معاقين defective, حسب وجهة نظر سوڤييتية, فاعتبرت رعايتهم بمثابة نظام أسمته نظام تعليم المعاقين defectology.
وحتى بعد ثورة عام 1989، بقيت الأسر لا تتحرج من التخلي عن مواليدها غير المرغوب فيهم إلى مؤسسة تديرها الدولة. وكان العلماء الاجتماعيون يرتابون دوما ومنذ مدة طويلة، من الحياة في دور الأيتام في السنوات الأولى من العمر لما قد تسببه من عواقب ضارة. فبعض الدراسات الوصفية التي أجريت في الغرب في فترة أربعينات وحتى ستينات القرن الماضي، وإن كان معظمها صغير الحجم ولم ترافقها فئات شاهدة، قارنت الأطفالَ الذين نشؤوا في دور الأيتام بأولئك الذين عاشوا لدى عائلات حاضنة لهم، وقد أظهرت تلك الدراسات أن الحياة في مؤسسات الدولة لم تقترب من مضاهاة رعاية أحد الوالدين، حتى ولو كان، أُمّاً أو أبا، غير شرعي. وإحدى المشكلات في هذه الدراسات هي إمكانية حدوث «انتقائية في الاختيار»: إذ إن الأطفال الذين انتزعوا من المؤسسات وعُهِدَ بهم إلى عائلات أو حضانات بالتبني كانوا أقل تضررا، في حين أن أولئك الذين بقوا في مؤسسات الدولة كانوا أكثر معاناة نفسيا. والسبيل الوحيد لمواجهة أي انتقائية في الاختيار يتطلب خطوة غير مسبوقة وذلك بوضع مجموعات عشوائية من الأطفال المتخلى عنهم إما في مؤسسات الدولة أو في بيوت التبني.
إن استيعاب الآثار الناجمة عن الحياة في مؤسسات الدولة على نمو الأطفال في وقت مبكر أمر مهم بسبب ضخامة مشكلة اليتم عالميا (ويعرَّف اليتيم هنا بأنه الطفل الذي تَمّ التخلي عنه أو الذي توفي والداه). فقد أدى المرض والفقر والحروب وأحيانا سياسات الحكومات إلى إدخال ثمانية ملايين طفل على الأقل في جميع أنحاء العالم إلى المؤسسات التي تديرها الدولة. وقد كان معظم هؤلاء الأطفال يعيشون في بيئات منظمة ولكن كئيبة على نحو لا رجاء منه، حيث يشرف شخص بالغ واحد على 12 إلى 15 طفلا. ولا يزال البحث يفتقر إلى فهم شامل لما يحدث للأطفال الذين يقضون سنوات عمرهم الأولى في مثل ظروف الحرمان هذه.
يتيمان: طفلان رومانيان في سرير حديدي مشبع بالبول في مؤسسة الدولة عام 1990.
|
في عام 1999 عندما توجهنا إلى <.C تاباكارو> [وكان حينها وزيرا للهيئة الوطنية لحماية الطفل في رومانيا] شجعنا على إجراء دراسة على الأطفال الذين نشؤوا في مؤسسات الدولة بغية الحصول على بيانات لمعرفة ما إذا كانت هناك ضرورة لتطوير أشكال بديلة لرعاية 100000 من أطفال رومانيا الذين يعيشون في مؤسسات حكومية. ولكن <تاباكارو> واجه معارضة قوية من بعض المسؤولين الحكوميين الذين كانوا لعقود يعتقدون أن الأطفال الذين نشؤوا في مؤسسات دولة تلقوا تنشئة أفضل من تلك التي كانت لهم في بيوت التبني. ومما زاد المشكلة تفاقما هو أن ميزانيات بعض الجهات الحكومية كانت تُمنَح لها جزئيا بسبب دورها في وضع ترتيبات رعاية دور الأيتام. وفي مواجهة هذه التحديات، اعتقد <تاباكارو> أن ظهور أدلة علمية على الأفضلية المفترضة لرعاية الأطفال الصغار في بيوت التبني عنها في مؤسسات الدولة سوف يجعل القضية قابلة للإصلاح، وهذا ما دعانا إلى المباشرة في إجراء الدراسة.
طفولة في مؤسسات الدولة(**)
وبمساعدة بعض المسؤولين لدى الحكومة الرومانية وخاصة بمساعدة آخرين عملوا في المنظمة SERA الرومانية (وهي منظمة غير حكومية)، أعددنا دراسة لتحديد الآثار الحادثة على دماغ الطفل وسلوكه بسبب تنشئته في مؤسسات الدولة وفيما إذا كانت بيوت التبني تخفف من هذه الآثار الناجمة عن تربيتهم في ظروف تتعارض مع ما نعرفه عن احتياجات الأطفال الصغار. لقد تم إطلاق مشروع مداخلة بوخارست المبكرة في عام 2000، بالتعاون مع الحكومة الرومانية، بغية تزويدها بالأجوبة لتصحيح الآثار الناجمة عن السياسات السابقة. والإرث المؤسف الذي خلّفه <تشاوشيسكو> قدّم فرصة لدراسة آثار الرعاية في مؤسسات الدولة على التطور العصبي والعاطفي عند حديثي الولادة والأطفال الصغار أكثر دقة علميا من الدراسات السابقة. فهذه الدراسة المعشاة بالشواهد randomized controlled، وهي الأولى من نوعها، قارنت مجموعة من حديثي الولادة الذين وُضِعوا في بيوت التبني بمجموعة أخرى وضعت في مؤسسات الدولة، مع توفير مستوى من دقة تجريبية لم تكن متوفرة حتى ذاك الحين.
لقد جندنا مجموعة من 136 طفلا من جميع المؤسسات الست في بوخارست، المعنية بالرضع والأطفال الصغار، واعتبرناهم سليمين عصبيا وجينيا من أي عيب خلقي بناء على فحوص طبية أجراها طبيب أطفال فريق الدراسة. وكان جميع هؤلاء الأطفال قد جرى التخلي عنهم إلى مؤسسات حكومية في الأسابيع أو الأشهر الأولى من حياتهم. وعندما بدأت هذه الدراسة، كانوا وسطيا بعمر 22 شهرا، وقد تراوحت أعمارهم بين ستة إلى 31 شهرا.
مباشرة، بعد سلسلة من التقييمات الجسدية والنفسية الأساسية، وُضِع نصفُ عدد الأطفال عشوائيا في بيوت التبني، التي تَدخّل فريقنا في تطويرها وصيانتها وتمويلها، وبقيت مجموعة النصف الآخر، التي أسميناها «الرعاية المعتادة»، في مؤسسة الدولة. وجندنا أيضا مجموعة ثالثة من أطفال نموذجيين في طور النمو عاشوا مع أسرهم في بوخارست، ولم يعهد بهم إلى أية مؤسسة. وقد تمت دراسة هذه المجموعات الثلاث من الأطفال لأكثر من عشر سنوات. وبما أن تخصيص الأطفال كان على نحو عشوائي في بيوت التبني أو البقاء في مؤسسة الدولة، على عكس الدراسات السابقة، فإن أي اختلاف في النمو أو السلوك بين المجموعتين أصبح من الممكن أن يعزى إلى مكان تربيتهم.
وبما أنه لم يكن في بوخارست عندما بدأنا دراستنا أيُّ بيت للتبني متاح للأطفال المتخلى عنهم، فقد أتيحت لنا فرصة فريدة لبناء شبكة خاصة بنا. وبعد إعلان مكثف وتحريات، تمكنا في النهاية من تجنيد 53 عائلة لرعاية 68 طفلا، وقد أبقينا الإخوة الأشقاء معا.
وبالطبع، تدخل العديد من القضايا الأخلاقية في إجراء دراسة علمية معشاة بشاهد لدراسة الأطفال الصغار، وقد أدى ذلك في البداية إلى أخذ نصف عدد المشاركين فقط من مؤسسات الدولة. وقد كانت الخطة هي مقارنة التدخل المعياري في تربية الأطفال المتخلى عنهم إلى مؤسسات الدولة بتربية الأطفال في بيوت التبني، وهذا التدخل لم يكن قطُّ متاحا سابقا لهؤلاء الأطفال. فقد وُضِعَت حماية أخلاقية، إضافة إلى رقابة من قبل عدة مؤسسات رومانية وأمريكية وتنفيذ تدابير «الحد الأدنى من المخاطر»(2) (وهي إجراءات مستخدمة عادة مع الأطفال الصغار،) وعدم التدخل في قرارات الحكومة حول تغيير أماكن الأطفال عند تبنيهم أو إعادتهم إلى آبائهم البيولوجيين أو وضعهم فيما بعد في دور الرعاية الممولة حكوميا، وهذا أمر لم يكن مطبقا في البداية.
هذا ولم يجر نقل أي طفل من بيوت التبني إلى مؤسسة الدولة في نهاية الدراسة. وما أن أصبحت النتائج الأولية جاهزة، حتى أبلغنا الحكومة الرومانية بالنتائج التي توصلنا إليها في مؤتمر صحفي.
ولضمان رعاية عالية الجودة فقد قمنا بتصميم برنامج لدمج مساهمة فريق العمل الاجتماعي وتقديم دعم مادي متواضع للأسر من أجل تغطية نفقات الطفل. فقد كان لدى كل من والدي التبني رخص عمل وكانت رواتبهم تدفع إليهم، إضافة إلى إعانة مالية، علما بأنهم كانوا قد تلقوا التدريب اللازم وشجعوا على الالتزام النفسي الكامل لدعم الأطفال الذين في رعايتهم.
فترات حساسة(***)
تتمحور الدراسة حول التعمق في فرضية أن المعاناة المعيشية المبكرة لها تأثير قوي بشكل خاص في تشكيل دماغ الطفل غير المكتمل. وبالنسبة إلى بعض السلوكيات، تتشكل اتصالات عصبية في السنوات الأولى من العمر نتيجة لمؤثرات بيئية وأثناء أزمنة معينة من العمر، وتدعى هذه الأزمنة بالمراحل الحساسة. فالطفل الذي يستمع إلى لغة يجري التخاطب بها أمامه أو الذي يبحث ببساطة حوله يستقبل مُدْخَلات inputs سمعية وبصرية تشكل اتصالات عصبية خلال مراحل معينة أثناء النمو. فنتائج هذه الدراسة قد عززت الفرضية الأولية للمرحلة الحساسة: في أن الفرق بين العيش في وقت مبكر من الحياة داخل مؤسسة الدولة مقارنة بالعيش في بيوت التبني كان فرقا مدهشا. لقد كان متوسط حاصل ذكاء (IQ) مجموعة الأطفال من أعمار 30 و 40 و 52 شهرا الذين نشؤوا في مؤسسة الدولة، في أدنى السبعينات إلى أوسطها. في حين كان حاصل ذكاء الأطفال في بيوت التبني أعلى بنحو 10 نقاط. وليس من الغريب أن المعدل الوسطي لحاصل ذكاء المجموعة التي لم توضع في مؤسسات الدولة كان تقريبا 100. وقد اكتشفنا أيضا مرحلة حساسة عندما تكون قدرة الطفل على تحقيق أقصى قدر ممكن في حاصل ذكائه: بأن وضع الطفل سواء كان صبيا أو فتاة، في أسرة وله من العمر أقل من عامين تقريبا يحصل على حاصل ذكاء أعلى بوضوح من حاصل ذكاء طفل وُضِعَ في أسرة بعد ذلك العمر.
وقد أظهرت النتائج بوضوح الأثر المدمّر في دماغ الطفل وعقله عندما يعيش السنتين الأوليين من حياته في مؤسسات الدولة التي تنعدم فيها العلاقات الشخصية، وأن معيشة أطفال رومانيا في مؤسسات تعطي أفضل دليل حتى الآن على أن السنتين الأوليين من الحياة تمثل المرحلة الحساسة التي يتلقى فيها الطفل مشاعر عميقة واتصالا جسديا حميميا، وإلا فإنه سيعاني فشلا وإحباطا في نمو شخصيته.
ويتعلم الرضع في التجربة التفتيشَ عن الراحة والدعم والحماية من القائمين على رعايتهم والبالغي الأهمية بالنسبة إليهم، سواء كانوا آباءهم الطبيعيين أو آباءهم بالتبني، لذلك قررنا قياس هذه العلاقة. والظروف القاسية وحدها هي التي تستطيع أن تعيق فرص الطفل لتشكيل علاقات قوية يمكنها أن تتدخل في عملية نموه التي هي أساس النمو الطبيعي والاجتماعي. وعندما قمنا بقياس هذا المتغير لدى أطفال المؤسسات، وجدنا أن الأغلبية الساحقة تظهر علاقات ناقصة وزائغة مع القائمين على رعايتهم.
مكان يمكن تسميته بيتا لهؤلاء الأطفال الرومانيين في بيت التبني وهو أمر أساسي لنمو صحي.
|
وعندما أجرينا تقييما جديدا وكان الأطفال في عمر 42 شهرا، وجدنا أن الأطفال المودعين في بيوت التبني قد أظهروا تحسنا كبيرا في تشكيل علاقات عاطفية، إذ أقام نحو نصف عدد هؤلاء الأطفال علاقاتٍ متينة مع شخص آخر، في حين استطاع فقط %18 من الأطفال المودعين في المؤسسات الحكومية القيام بمثل ذلك، وأن %65 من الأطفال الذين نشؤوا في المجتمع من دون أن يودعوا في مؤسسات حكومية، قد ارتبطوا بعلاقات متينة. وكان الأطفالُ الذين وضعوا في بيوت التبني قبل نهاية المرحلة الحساسة وهي 24 شهرا، أكثرَ قدرة على تكوين علاقات وثيقة مقارنة بالأطفال الذين وُضِعوا بعد هذه المرحلة الحساسة في بيوت التبني.
إن هذه الأرقام هي أكثر من أن تكون مجرد فوارق إحصائية تفصل بين مجموعة أطفال مؤسسات الدولة ومجموعة أطفال بيوت التبني. فهي تترجم وتعبر عن ممارسات حقيقية من العذاب والأمل. إن عمر <سيباستيان> (ليست أسماء أي من الأطفال في هذه المقالة حقيقية) الآن هو 12 سنة، وقد قضى حياته كلها تقريبا في دار للأيتام وقد شهد حاصل ذكائه انخفاضا من 20 نقطة إلى 64 تحت السوية المعتادة(3) منذ أن تم اختباره في سنته الخامسة. ولم يبنِ <سيباستيان> الشاب أي علاقة مع أي شخص آخر، وكان يتعاطى المشروبات الكحولية ويقوم بسلوكيات خطرة أخرى. لقد كان خلال مقابلتنا له سريع الانفعال وتَعرَّض لنوبات غضب.
في حين أظهر <بوگدان>، وعمره هو الآخر 12 سنة، ما يصنعه الفرق الناجم عن تلقي اهتمام فردي من شخص بالغ. لقد تخلى أهل <بوگدان> عنه عند الولادة، وعاش في جناح الولادة حتى شهرين من العمر، وبعد ذلك عاش في مؤسسة الدولة لمدة تسعة أشهر، ومن ثم تَمَّ تجنيده في مشروع الدراسة وعُهِد به عشوائيا إلى مجموعة رعاية التبني البديلة، حيث تم وضعه في أسرة مُشكَّلة من أم واحدة مع ابنتها المراهقة. فقد بدأ <بوگدان> باللحاق بالركب بسرعة وتمكن من التغلب على تأخر نموه في غضون أشهر. ومع أنه كان يعاني بعض المشكلات السلوكية، فقد عمل أعضاء فريق المشروع مع العائلة، وهكذا قبل عيد ميلاده الخامس، قررت أمه الحاضنة تبنيه. ولا يزال حاصل ذكاء <بوگدان> ابن الـ 12 ربيعا يسجل مستوى أعلى من المتوسط. وهو يرتاد واحدة من أفضل المدارس الحكومية في بوخارست ويحصل على أعلى الدرجات في صفّه.
مكتشفات
شخص يرعاك(****)
أدت السياسة المأساوية للرئيس الشيوعي <نيكولاي تشاوشيسكو> والتي هدفت إلى زيادة معدل الولادات إلى ظهور أكثر من 100000 طفل متخلى عنهم في رومانيا عام 1999، كما أتاحت فرصة غير مسبوقة لتقدير الأثر النفسي والعصبي للحياة المبكرة في مؤسسات الدولة. لقد قامت تجربة تمت تحت مراقبة أخلاقية صارمة بمتابعة مصير أطفال مؤسسات الدولة مقارنة بالذين عهد بهم إلى بيوت التبني، وبالذين لم يوضعوا في هذه المؤسسات على الإطلاق. لقد أَظْهَرَ الأطفال الذين وضعوا في بيوت التبني في المرحلة الحساسة من الولادة وحتى عمر 24 شهرا تأقلما أفضل عند مقارنتهم بالذين بقوا في مؤسسات الدولة لمدة أطول (حتى 42 شهرا) وقد تم ذلك بدراسة حاصل النمو (DQ)(4) ودراسة حاصل الذكاء IQ، وقياس للنشاط الكهربائي للدماغ EEGs. فقد أدى إدخال الأطفال في بيوت التبني بعد عمر السنتين إلى إنتاج نشاطات دماغية مماثلة لأطفال مؤسسات الدولة.
|
بما أن الأطفال الذين نشؤوا في مؤسسات لم يبدُ أنهم تلقوا الكثير من الاهتمام الشخصي، لذلك كنا مهتمين بمعرفة ما إذا كانت قلة التحدث إليهم تؤثر فيهم. لقد لاحظنا تأخرا في تطور لغتهم، وكان الأطفال الذين ارتادوا بيوت التبني قبل بلوغهم عمر 15 أو 16 شهرا تقريبا يتمتعون بلغة سليمة، ولكن كلما تأخر وضعهم في بيوت التبني كان تراجعهم اللغوي أكثر.
وقد قارنا أيضا تفشي اضطرابات الصحة العقلية بين الأطفال الذين سبق لهم أن وُضِعوا في مؤسسات الدولة بأولئك الذين لم يوضعوا فيها؛ فوجدنا أن 53 في المئة من الأطفال الذين عاشوا في أي فترة من حياتهم في مؤسسات حكومية شُخِّصت إصابتهم بأمراض نفسية حين بلوغهم سن أربع سنوات ونصف، مقارنة بـ 20 في المئة من المجموعة التي لم يسبق وضعها في تلك المؤسسات على الإطلاق. وفي الواقع، كان 62 في المئة من أطفال المؤسسات الذين بلغت أعمارهم الخامسة قد شُخِّصَ لديهم أحد الاضطرابات النفسية، مثل: اضطراب القلق(5)(44 في المئة)، أو اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط الحركي ((ADHD)(6)(233 في المئة).
لقد كان لبيوت التبني تأثير كبير في تخفيف حدة القلق والاكتئاب (تخفيف الإصابة بهما إلى نحو النصف)، ولكنها لم تؤثر في تشخيص الاضطراب ADHD واضطراب السلوك. ولم نستطع الكشف عن أي مرحلة حساسة بالنسبة إلى الصحة العقلية. ومع ذلك، فقد كانت العلاقات الشخصية مهمة جدا لضمان صحة عقلية جيدة. وعندما تبحرنا في الآلية التي توضح كيفية تقليل الاضطرابات العاطفية، مثل الاكتئاب، وجدنا أنه كلما كانت العلاقة بين الطفل والأهل المتبنين أوثق وأكثر أمنا، زاد احتمال تناقص تواتر أعراض تلك الاضطرابات.
كما أردنا أن نعرف ما إذا كان قضاء السنوات الأولى في بيوت التبني يؤثر في نمو الدماغ على نحو مختلف من العيش في مؤسسات الدولة. وقد أظهرت دراسة لنشاط المخ باستخدام جهاز تخطيط كهربائية الدماغ (EEG)(7) – الذي يسجل الإشارات الكهربائية – أن الرضع الذين يعيشون في هذه المؤسسات يعانون نقصا واضحا في أحد عناصر النشاط في جهاز التخطيط EEG وارتفاع حدة في نشاط آخر (نقص في موجات ألفا وارتفاع موجات ثيتا)، وهو النمط الذي قد يعكس تأخرا في نضج الدماغ. وعندما قمنا بتقييم الأطفال في عمر الثامنة استخدمنا جهاز التخطيط EEG مرة أخرى. واستطعنا عندئذ أن نرى أن نمط النشاط الكهربائي لدى الأطفال المودعين في بيوت التبني قبل بلوغهم سنتين من العمر، لا يمكن تمييزه من نظيره لدى أولئك الذين لم يوضعوا قطُّ في مؤسسات الدولة. في حين أن الأطفال الذين أُخرجوا من دور الأيتام بعد قضاء عامين فيها وكذلك الذين لم يتركوها، قد أظهروا تأخراً في أنماط نشاط الدماغ.
لقد كان الانخفاض الملحوظ في النشاط الدماغي لدى أطفال مؤسسات الدولة أمرا محيرا. ولتفسير هذه الملاحظة لجأنا إلى بيانات باستخدام تقنية الرنين المغنطيسي، الذي يظهر بنى(8) structuress الدماغ. وهنا لاحظنا أن أطفال المؤسسات قد أظهروا تراجعا كبيرا في كمية كل من المادة الرمادية (العصبونات وخلايا الدماغ الأخرى) والمادة البيضاء (وهي المادة العازلة التي تغطي العصبونات مثل أغماد الأسلاك الكهربائية.)
وعلى العموم، كانت أحجام أدمغة جميع الأطفال الذين وضعوا في المؤسسات أصغر. وفي حين لم يكن وضع الأطفال في بيوت التبني في أي عمر يؤثر في زيادة كمية المادة الرمادية، فقد أظهرت مجموعة بيوت التبني مستويات من المادة الرمادية مماثلة لتلك لدى أطفال المؤسسات. ومع ذلك، فإن أطفال بيوت التبني قد أظهروا كمية من المادة البيضاء أكبر من تلك لدى مجموعة أطفال المؤسسات، مما يفسر التغيرات في النشاط الدماغي.
وبغية دراسة أعمق للضريبة البيولوجية على أطفال المؤسسات فقد ركزنا الانتباه على الباحة الحاسمة للجينوم genome، فوجدنا أن القسيمات الطرفية telomeres، وهي المناطق الموجودة في نهايات الصبغيات (الكروموسومات) chromosomes التي تُؤمِّن الوقاية من إجهادات انقسام الخلايا، هي أقصر عند البالغين الذين خضعوا لتوتر نفسي شديد مما هي عليه عند أولئك الذين تمكنوا من تحاشي هذه الضغوط. علما بأنه من أحد مؤشرات سرعة شيخوخة الخلايا هو قِصَر القسيمات الطرفية. وعند دراستنا لطول هذه القسيمات لدى أطفال دراستنا لاحظنا، على العموم، أن أولئك الذين قضوا أي وقت من حياتهم في مؤسسات الدولة لديهم قسيمات طرفية أقصر من أولئك الذين لم يقضوا فيها أي وقت.
دروس للجميع(*****)
لقد بَيَّن مشروع مداخلة بوخارست المبكرة هذه أن لتجربة الطفولة المبكرة تأثيرات عميقة في نمو الدماغ. ولم تعالج بيوت التبني جميع الشذوذات العميقة في النمو والمرتبطة بالتربية المؤسساتية كما يجب، ولكنها وجهت بشكل قاطع نمو الطفل نحو مسار أكثر صحة.
وتحديد المراحل الحساسة – وهي المراحل التي كلما بكرنا في علاج وشفاء الحرمان الذي حدث في أثنائها، زادت قدرة الطفل على التأقلم مع البيئة التي يعيش فيها – من أكثر المستنبطات(9) أهمية في مشروعنا. ولهذه الملاحظة آثار في ملايين الأطفال الذين يعيشون في مؤسسات الدولة، إذ تنطبق كذلك على ملايين الأطفال الذين عانوا سوءَ المعاملة وأشرفت عليهم سلطات حماية الطفل. ولكننا نحذر القراء بألا يفترضوا ما هو غير مبرر في أن المرحلة الحساسة في النمو محصورة في عامين فقط من عمر الطفل. ومع ذلك توحي الأدلة أنه كلما بكرنا في رعاية الأطفال من قبل آباء منتقين ومستقرين عاطفيا، زادت فرصة الحصول على مسار تنموي طبيعي أكثر.
مازلنا مستمرين في متابعة هؤلاء الأطفال حتى مرحلة المراهقة لمعرفة ما إذا كانت هناك «آثار هاجعة» لا تظهر بوضوح في السلوك أو في الاختلافات العصبية إلا في مقتبل العمر أو حتى البلوغ. وإضافة إلى ذلك، سوف نحدد ما إذا كانت آثار مرحلة حساسة قد ظهرت لدى الأطفال في سن مبكرة ستظهر عندهم في سن المراهقة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا سيعزز الدراسات المتزايدة التي تُظهر دور المعاناة التي يمر بها الإنسان في بواكير حياته في رسم وتحديد نمو هذا الإنسان طيلة حياته. وقد يؤدي هذا الاستبصار(10) في الوقت نفسه إلى ممارسة ضغط على الحكومات في جميع أنحاء العالم من أجل تحقيق المزيد من الاهتمام بالضريبة (toll) التي تفرضها المعاناة المبكرة والتربية في مؤسسات الدولة على قدرات الطفل في بواكير حياته حتى يجتاز الأخطار العاطفية في مراهقته، ولكي يكتسب المرونة اللازمة للاضطلاع بما يواجهه من أعباء في حياة البالغين.
المؤلفون
Charles A. Nelson III | |
.A .Ch< نيلسون >III أستاذ طب الأطفال وعلم الأعصاب وأستاذ علم النفس في الطب النفسي بكلية الطب في جامعة هارڤارد، وحاصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة بوخارست في رومانيا.
|
Nathan A. Fox | |
.A .N< فوكس< أستاذ جامعي متميز في قسم التنمية البشرية وعلم المنهج الكمي بجامعة ميريلاند، كلية بارك.
|
Charles H. Zeanah, Jr | |
.H .Ch< زينه، جونير> أستاذ الطب النفسي والسريري عند الأطفال في جامعة تولين Tulane والمدير التنفيذي للمعهد الجامعي للرضع والصحة العقلية للطفولة المبكرة. |
مراجع للاستزادة
Cognitive Recovery in Socially Deprived Young Children: The Bucharest Early Intervention Project. Charles A. Nelson III et al. in Science, Vol. 318, pages 1937–1940; December 21, 2007.
Effects of Early Intervention and the Moderating Effects of Brain Activity on Institutionalized Children’s Social Skills at Age 8. Alisa N. Almas et al. in Proceedings of the National Academy of Sciences USA, Vol. 109, Supplement No. 2, pages 17,228–17,231; October, 16, 2012.
Scientific American, April 2013
ANGUISH OF THE ABANDONED CHILD (*) أو: كَمَد الطفل المتخلى عنه.
INFANCY IN AN INSTITUTION (**)
SENSITIVE PERIODS (***)
Someone to Watch over You (****)
LESSONS FOR ALL (*****)
(1) زعيم رومانيا بين عامي 1965-1989. (التحرير)
(2) minimal risk
(3) subpar
(4) developmental quotient
(5) anxiety disorders
(6) attention-deficit hyperactivity disorder
(7) electroencephalography
(8) ج: بنية
(9) findings أو المكتشفات
(10) insight