تصدُّعات في الجدول الدوري للعناصر
تصدُّعات في الجدول الدوري للعناصر(*)
إن اكتشاف العنصر 117 قد ملأ الفجوة الأخيرة المتبقية في <E. سِرّي>
في عام 2010 أعلن الباحثون في روسيا أنهم اصطنعوا ولأوّل مرة القليل من نوى العنصر 117. ولا يوجد لهذا العنصر اسم حتى الآن، لأن المجتمع العلمي ينتظر في العادة بعض الوقت كي يتوفر له تأكيد مستقل، قبل تبنّي هذا القادم الجديد. وإذا استبعدنا أية مفاجأة، فإن العنصر 117 أخذ الآن مكانه الدائم في الجدول الدوري للعناصر. لقد تَمّ سابقا تعرف جميع العناصر الكيميائية حتى العنصر 116 وكذلك العنصر 118. ويأتي الآن العنصر 117 لملء آخر فجوة متبقية في أسفل الصفrow الخاص به. ويُعتبر هذا الإنجاز علامة فارقة في تاريخ الكيمياء. فقد ابتدع <D. مندلييف>، وهو روسي أيضا، وغيره الجدولَ الدوري للعناصر في الستينات من القرن التاسع عشر، وكانت تلك أول خطوة عظيمة لترتيب جميع العناصر الكيميائية المعروفة في ذلك الوقت. وترك <مندلييف> عدة أمكنة فارغة في جدوله الدوري متنبئا بذكاء خارق بأن عناصر جديدة ستكتشف في المستقبل لملء تلك الفراغات. وتبعت ذلك عدة مراجعات للجدول الدوري ولكنها جميعا، حتى الآن، تحتوي على ثغرات. وباصطناع العنصر 117 يكتمل الجدول الدوري لأول مرة في تاريخ الكيمياء. ويمكن أن تنعم روح <مندلييف> برؤيته الثاقبة، ولو لفترة على أقل تقدير، إلى أن يتمكن الكيميائيون والفيزيائيون النوويّون من اصطناع عدد إضافي قليل من عناصر جديدة، والأمر الذي سيتطلب إضافة صفوف جديدة إلى الجدول الدوري تاركين فيها أيضا فجوات جديدة. وعلى الرغم من أن آخر الأجزاء القليلة لهذه الأحجية قد حلّت، كما يبدو، إلا أن أمرا أساسيا خاطئا بدأ بالظهور. ويمكن لهذا الأمر أن يقوِّض المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الجدول، ألا وهو الأنماط المتكررة بانتظام التي تعطي الجدول الدوري اسمه. لم يكْتَف <مندلييف> بالتنبؤ بأن المستقبل سيكشف عن العناصر التي تملأ الأمكنة التي تركها فارغة في جدوله، بل تنبأ أيضا بشكل صحيح، بخواصها الكيميائية، وذلك اعتمادا على النمطية المتكررة في الجدول الدوري. ولكن الذي حصل هو أن ارتفاع العدد الذري (عدد البروتونات في النواة) أدى إلى أن بعض العناصر المضافة إلى الجدول لم تعد تسلك السلوك الذي يتلاءم مع موقعها في هذا الجدول. فصفاتها وتفاعلاتها الكيميائية وأنواع الروابط التي تشكلها مع غيرها لم تعد مشابهة للعناصر الأخرى التي تشاركها في العمود نفسه من الجدول الدوري. والسبب في ذلك أن بعض الإلكترونات الموجودة حول النوى الأكثر ثقلا تدور بسرعات بلغت قدرا كبيرا من سرعة الضوء. وبهذا الشكل، فإنها وفق المفهوم الفيزيائي صارت ذات صفة نسبية relativistic، الأمر الذي يجعل سلوك هذه الذرات الثقيلة مختلفا عما هو متوقع من موقعها في الجدول الدوري. وإضافة إلى ذلك, فإن التنبؤ بدقة عن مدى صحة البنية المدارية لإلكترونات مثل هذه الذرات صار تحديا هائلا. وهكذا، نجد أنه على الرغم من النجاح الرائع الذي حققه <مندلييف> في جدوله الشهير، فإن هذا الجدول بدأ يفقد قدرته الإيضاحية والتنبئية.
نجاح كامل(**) ومع أن أكثر من 1000 نوع ونمط من الجداول الدورية the periodic table قد نُشر، وهي تختلف عن بعضها البعض في ترتيب العناصر المحتواة في كل منها، فإن جميع هذه الجداول تشترك في صفة أساسية. فعندما تُرتب العناصر بصورة متسلسلة وفقا لأعدادها الذرية (المحاولات الأولى لترتيب العناصر كانت وفق تسلسل أوزانها الذرية)، فإن الصفات الكيميائية تتكرر وفق ترتيب خاص. مثال ذلك أنه إذا بدأنا بالليثيوم وتابعنا الترتيب التسلسلي بالعناصر الثمانية التي تليه فإننا نصل إلى عنصر الصوديوم الذي يشبه الليثيوم بكثير من الصفات. فكلاهما معدن طري يمكن قطعه بالسكين، كما يتفاعل كل منهما بشراهة مع الماء. وإذا تابعنا التسلسل بثمانية عناصر أخرى، فإننا نصل إلى عنصر البوتاسيوم الذي هو أيضا معدن طري ويتفاعل بشراهة مع الماء. وبالمتابعة تستمر الأمور على هذا المنوال. وفي الأنماط الأولى من الجداول الدورية، ومن ضمنها جداول <مندلييف> وغيره، كان طول كل دور period، وبالتالي طول كل صف من العناصر، هو دائما ثمانية عناصر. ولكنه سرعان ما اتضح بعد ذلك أن الدورين الرابع والخامس، صارا يتكرران، ليس بعد ثمانية عناصر وإنما بعد 18 عنصرا. ونتيجة لذلك، فإن الصفين الرابع والخامس صارا أعرض من الصفوف السابقة وذلك لاستيعاب المجموعة الإضافية من العناصر (وهي المعادن الانتقالية التي تتموضع في المنتصف وفق المبدأ الذي يقوم عليه الجدول). أما الدور السادس فقد ازداد طوله أكثر وذلك لاحتوائه على 32 عنصرا، بسبب وجود 14 عنصرا إضافيا وهي ما تُسمى اللانثانات lanthanides (أطلق عليها حديثا اسم أشباه اللانثانlanthanoids) أو عناصر الأتربة النادرة. في عام 1937 بدأ الفيزيائيون النوويون باصطناع عناصر جديدة، وكان أولها عنصر التكنيتيوم technetium. وقد أدى ذلك إلى ملء أحد الفراغات الأربعة في الجدول المعروف في ذلك الوقت والذي كان يضمُّ 92 عنصرا (بدءا من الهدروجين ذي الرقم 1 وحتى اليورانيوم ذي الرقم 92). أما الفراغات الثلاثة الباقية، فقد مُلئَتْ بعد ذلك بفترة قصيرة: اثنان منها اصطناعيان (الأستاتينastatine والبروميثيوم promethium) والثالث هو الفرانسيوم francium الذي وُجد في الطبيعة. لكن حتى مع ملء هذه الفراغات، فإن عناصر مكتشفة جديدة قد أضيفت إلى الجدول الدوري بعد اليورانيوم، الأمر الذي أدى إلى ترك فراغات جديدة. لقد أدرك <G. سيبورگ> [الكيميائي الأمريكي] أن الأكتينيوم والثوريوم والبروتكتينيوم مع اليورانيوم والعناصر العشرة التالية كانت جميعها جزءا من سلسلة جديدة، وهي مثل أشباه اللانثان تضمُّ 14 عنصرا، وصارت تعرف باسم الأكتينات actinides أو أشباه الأكتين actinoids. وبما أن العناصر الإضافية في هاتين السلسلتين ستجعل الجدول الدوري أكثر اتساعا، فإن الجداول الدورية النظامية تضع هاتين السلسلتين (كل منهما 14 عنصرا) في قوالب خاصة في أسفل الجدول. وفي النصف الأول من القرن العشرين أدرك العلماء أن الصفة الدورية للعناصر في الجدول تعود في جذورها إلى الفيزياء الكمومية quantum physics، وبخاصة، في فيزياء كيفية دوران الإلكترونات حول النواة. وتتشكل مدارات الإلكترونات orbits of electrons بأشكال وحجوم متميزة. وهنا تكون للذرات ذات الأعداد الذرية الكبيرة نفس أنواع المدارات الخاصة بالذرات ذات الأعداد الذرية الصغيرة، ولكن لها أيضا مدارات ذات نوعية جديدة. فللدور الأول في الجدول مدار إلكتروني وحيد من نوع s يمكن أن يَشْغَلُه إلكترون واحد أو إلكترونان (واحد في الهدروجين واثنان في الهيليوم). أما الدوران الثاني والثالث، فيضيف كل منهما مدار s آخر وثلاثة مدارات من نوع جديد هو p. وهنا أيضا، فإن كلا من هذه المدارات الأربعة يمكن أن يُشغَلَ بإلكترون واحد أو إلكترونين، بحيث إن العدد الأعظمي للإلكترونات التي يمكن أن توجد فيها هو ثمانية. وهذا الأمر هو سبب تكرر الصفة الدورية بعد كل ثمانية عناصر في الأنماط الأولى من الجدول الدوري. أما الدوران الرابع والخامس في الجدول؛ فلهما، إضافة إلى مدارات s و p، نوع ثالث من المدارات وهو المدار من نوع d، الذي يضيف عشرة أمكنة جديدة للإلكترونات، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى أن يتسع الدور إلى 18 عنصرا. وأخيرا، فإن للدورتين cycles الأخيرتين من الجدول مدارات من النوع s و p و d و f، وتحتويان على 32 عنصرا (14 + 18). عندما أعلن <Y. أوگانيسيان> ومساعدوه في المعهد المشترك للبحث النووي بالقرب من موسكو أنهم قد اصطنعوا العنصر المراوغ 117 صارت جميع العناصر في الصف الأخير من الجدول الدوري في مكانها المناسب. والعلاقة الحميمة بين بنية الجدول وبنية الذرات تعني أن إتمام الجدول لم يكن مجرد عملية تجميلية أو عملية ترتيب للمعلومات على الورق. والعنصر 118 هو الوحيد الذي تمتلئ فيه المدارات s و p و d وf بالإلكترونات. وإذا ما اصطُنعت في المستقبل عناصر أخرى، فإنها ستأخذ أمكنتها في صف جديد تماما من الجدول الدوري. وأن العنصر 119 هو العنصر التالي الذي يحتمل أن يظهر في المستقبل [انظر الإطار في الأسفل]. وبهذا العنصر ستبدأ دورة جديدة بأبسط أنواع المدارات الذي هو المدار s. وسيحتلّ العنصر 119 والعنصر 120 الذي يليه أول مكانين في الدور الجديد الذي هو الدور الثامن. ومع العنصر 121 ستبدأ زمرة جديدة وذلك من حيث المبدأ على أقل تقدير، وسيعني ذلك ظهور مدارات جديدة لم تعرف من قبل، وهي المدارات من نوع g. وكما حدث من قبل، فإن الأنواع الجديدة من المدارات ستضيف احتمالات جديدة للإلكترونات، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى تطويل دورية periodicity الجدول وزيادة عدد الأعمدة. وستسبب هذه الزمرة الجديدة زيادة عرض الجدول بحيث يحتوي على ما يمكن أن يصل إلى 50 عمودا. وعلى الرغم من ذلك، فقد وجد الكيميائيون – سلفا – طرقا مختصرة جديدة لترتيب مثل هذه الجداول المُمتدَّة. ويبدو أن جدولا دوريا مُكتملا في كافة صفوفه وأعمدته الممتلئة هو التحقيق النهائي لحلم <مندلييف>، إلا أن الأمر ليس كذلك. والسبب يكمن في النظرية النسبية الخاصة لـ<أينشتاين>.
انكسار سيئ؟(****) عندما ننتقل من أعداد ذرية منخفضة إلى أخرى مرتفعة تزداد الشحنة النووية بسبب ازدياد عدد البروتونات. وعندما تزداد الشحنة النووية تزداد سرعة الإلكترونات في المدارات الداخلية إلى النقطة التي تبدأ فيها النظرية النسبية الخاصة بتأدية دور أكبر في تفسير سلوك هذه الإلكترونات. ويؤدي هذا التأثير إلى تقلّص حجم المدارات الداخلية وجعلها أكثر استقرارا. ويؤدي هذا التقلص بدوره إلى جعل مدارات s و p الأخرى أكثر ارتصاصا، ومثلها مدارات التكافؤ valence orbitals، وهي المدارات الخارجية التي تحدد الخواص الكيميائية للعنصر. وتندرج جميع هذه الظواهر تحت مسمى الأثر النسبي المباشر، الذي يزداد عموما بزيادة شحنة نواة كل ذرة. ولكن بعض التأثيرات المنافسة تجعل الأمور أكثر تعقيدا. فبينما يؤدي الأثر النسبي المباشر إلى استقرار بعض المدارات، فإن الأثــر النسبي غيـر المباشر يـــؤدي إلى عدم استقرار المدارات d و f. وهو نوع من الحجب الكهراكدي(1) electrostatic screening الذي تقوم به إلكترونات s وp التي تعادِل شحناتها السالبة البعيدة الجذبَ الذي تقوم به شحنة النواة. وهكذا، فإنه بالنسبة إلى الإلكترونات البعيدة يبدو أن قوة جذب النواة الكهراكدية تقل ولا تزيد. إن بعض آثار النظرية النسبية في العناصر واضحة في الحياة اليومية. مثال ذلك أنها تفسر لون معدن الذهب، وهو أمر يفرّقه عن العناصر العديمة اللون المحيطة به في مجموعة المدار d من الجدول الدوري، مثل الفضة التي تقع فوق الذهب مباشرة. وعندما يضرب فوتون ذو طول موجة مناسب ذرةً من معدن من مجموعة المدار d، فإن هذه الذرة تخضع لعملية انتقال. فهي تمتص الفوتون، الذي تؤدي طاقته إلى قفز إلكترون مباشرة من مدار d إلى مدار s الذي يقع فوقه مباشرة. وفي الفضة، فإن الفرق في الطاقة بين المدارين كبير بحيث يتطلب الأمر فوتونا من الطيف فوق البنفسجي لتحقيق هذا الانتقال. ولكن طاقة فوتونات الضوء العادي أقل من طاقة فوتونات الأشعة فوق البنفسجية، ولذلك فإن فوتون الضوء العادي يرتد من الفضة بحيث يبدو هذا المعدن للناظر كمرآة مثالية. أما في الذهب، فإن الانكماش النسبي يُخفض طاقة المدارات s، مع أنه يرفع طاقة المدارات d، الأمر الذي يؤدي إلى تضييق الفجوة بين المستويين. وهكذا، فإن انتقال الإلكترون هنا يتطلب طاقة أقل، وهذه الطاقة متوفرة في الجزء الأزرق من فوتون الضوء العادي. أما الفوتونات الخاصة بجميع الألوان الأخرى، فتنعكس وترتد من على سطح الذهب. وهكذا، عندما يقع الضوء العادي على الذهب فإننا نلاحظ الضوء العادي يفتقر إلى الجزء الأزرق. وهذا الأمر يفسِّر اللون الأصفر الذهبي المميز لهذا المعدن.
بعد ذلك، تنبأ <B. بيكّو> [من جامعة هلسنكي] وآخرون بعدد من تأثيرات نظرية النسبية في معدن الذهب. ومن ضمنها حقيقةُ أن هذا المعدن يمكن أن يرتبط بعدد من الذرات الأخرى بطرق جديدة مثيرة للدهشة. وجرى، بالتالي، اكتشاف عدد من المركبات التي توقعوا أن تنتج من تفاعلات الذهب مع غيره. ويوازي هذا الانتصار نوعا ما، مآثر <مندلييف> في توقعه لعناصر جديدة تملأ الفراغات في جدوله الدوري. وتضمنت تنبؤات <بيكو> الناجحة روابط بين الذهب وغاز الكزينون(2) النبيل الذي هو عادة عنصر شديد الخمول. وتنبأ أيضا بروابط ثلاثية بين الذهب والكربون. وجرى أيضا تحقيق نصر آخر يتمثل في الجزيء الكروي الذي يتضمن ذرة من معدن التنگستن tungesten مع 122 ذرة من الذهب. وهو أمر يشبه فوليرينات fullerenes الكربون، التي تعرف باسم كرات بكي buckyballs أو الكرات الجميلة، وتتشكل فوليرينات الذهب تلقائيا عندما يُبخَّر التنگستن والذهب معا بوجود غاز الهيليوم. فقد جرى البرهان أيضا على أن حسابات الميكانيك الكمومي النسبية بالغة الأهمية في دراسة كيف يمكن أن تؤدي تجمعات الذهب العنقودية دور المواد الحافزة في التفاعلات. ومثال ذلك استعمالها في تحطيم المواد الكيميائية السامة، مثل تلك التي تنطلق من عوادم السيارات – مع أن الذهب مشهور بخموله الكيميائي. مفاجآت فائقة الأهمية(*****) وحتى مع ظهور الآثار النسبية، فإن بعض العناصر مثل الذهب تبقى غير شديدة البعد عن سلوكها المتوقع من موقعها في الجدول. فحتى الآن، لا تزال للعناصر النبيلة الصفاتُ التي تتوقع منها تبعا لموقعها. ولكن الأسوأ من ذلك (أو بالأحرى الأكثر إثارة للاهتمام) أن المفاجآت لاتزال تتالى تباعا. فقد بدأت بعض الاختبارات حول كيمياء العناصر الحديثة تكشف ما يمكن أن يشكل تصدّعات جدّية في القانون الدوري the periodic law. وباستعمال الـمُسرِّعات الجُسيمية بهدف تصادم النوى الثقيلة معا، تمكن الفيزيائيون النوويون من إنتاج عناصر بالغة الثقل superheavy وهي التي تقع بعد العنصر 103. لقد أوحت التجارب الأولى، التي أجريت في أوائل التسعينات من القرن الماضي على عنصريْ الرذرفورديوم (104) rutherfordiumوالدوبنيوم (105) dubnium سلفا، أن لهذين العنصرين صفات لا تتوافق مع ما يُتوقع لهما من موقعهما في الجدول الدوري. وكمثال على ذلك وجد <K. زرفنسكي> وزملاؤه [من جامعة كاليفورنيا في بيركلي] أن الرذرفورديوم يتفاعل في المحاليل بطرق مشابهة للبلوتونيوم، الذي هو عنصر بعيد عنه تماما في الجدول الدوري. وبطريقة مشابهة وُجد أن عنصر الدوبنيوم يسلك سلوكا أقرب إلى البروتكتينيوم البعيد أيضا عنه في الجدول. ووفقا للقانون الدوري، فإن هذين العنصرين يجب، بدلا من ذلك، أن يسلكا سلوك العنصرين اللذين يقعان فوقهما مباشرة في الجدول الدوري، ألا وهما الهافينيوم والتانتالوم. وفي أبحاث جديدة اصطنع العلماء عناصر جديدة بالغة الثقل، ولكن بعدد من الذرات بالغ الصغر. فالعنصر 117 تم اكتشافه اعتمادا على ست ذرات فقط. وإضافة إلى ذلك، فإن هذا النوع من العناصر غير مستقر بتاتا حيث إنها تتحلل إلى عناصر أخف وزنا في جزءٍ من الثانية. وفي معظم الأحيان يُترك للخبراء ملاحظة نِتاج هذا التحلل النووي، الأمر الذي يقود إلى الحصول على الصفات الكيميائية والفيزيائية لنوى هــذه العنـاصـر. وفي مثل هـذه الأحوال، فإن البحث عن الصفات الكيميائية عبر ما يسمى «الكيمياء الرطبة(3)» (أي وضع المادة في القارورة وملاحظة تفاعلها مع المواد الكيميائية الأخرى) أمر مستحيل. ومع ذلك، فإن العلماء توصلوا إلى تقنيات خارقة لدراسة كيمياء هذه العناصر ولو بالاعتماد على ذرة واحدة من العنصر في كل مرة. ومقارنة بالعنصرين 104 و 105 كانت التجارب الكيميائية المجراة على العنصرين 106 (السيبورگيوم) و107 (البوريوم) مُخيبة للآمال. ويبدو أن هذين العنصرين الأخيرين يتصرفان تماما كما تنبأ <مندلييف>. وقد دفع ذلك الباحثين إلى إطلاق أسماء خاصة في مقالاتهم العلمية المتميزة عنهما: السيبورگيوم العادي الغريب(4)، والبوريوم المملّ(5). وبدا مرة أخرى أن الجدول الدوري عاد إلى العمل. أما في حالة العنصر 112، فقد حاول الكيميائيون والفيزيائيون تقدير ما إذا كان هذا العنصر يسلك سلوك الزئبق الذي يقع فوقه تماما في الجدول الدوري، أو أنه يتصرف مثل غاز الرادون النبيل كما تتنبأ به الحسابات الميكانيكية الكمومية. وقامت بعض الفرق العلمية بتجارب اصطنعت فيها ذرات من العنصر 112، إضافة إلى اصطناع بعض نظائر الزئبق الثقيلة وغاز الرادون. (مع أن الزئبق والرادون يوجدان في الطبيعة بكميات كبيرة، فإن الباحثين اصطنعوهما لأنه يمكن إنتاجهما في شروط مماثلة لتلك التي تنتج منها العناصر الثقيلة، وذلك بهدف عدم الاعتماد على بيانات خاصة بالصفات الكيميائية الكبيرة للعناصر الخفيفة الأكثر وجودا في الطبيعة.) وبعد ذلك، قام المجرِّبون بالسماح لهذه الذرات بالتموضع على سطح ذي درجة حرارة منخفضة جدا مطليٍّ جزئيا بالذهب وجزئيا بالجليد. فلو كان العنصر 112 يسلك حقا سلوك المعدن لارتبط بالذهب، أما إذا تصرَّف كغاز الرادون النبيل، فإنه سيتموضع على الجليد. وحتى هذا التاريخ، فإن مختبرات مختلفة حصلت على نتائج مختلفة. وحتى الآن لم يتم حسم هذا الأمر. أما آثار النظرية النسبية في العنصر 114 فما زالت قيد البحـث حتى الآن. وتشير النتائـج الأوليـة التي حصل عليها <R. آيشلر> ومجموعته في معهد باول شِررْ بسويسرا إلى بعض المفاجآت المهمة والتي تُشير إلى أن عدم التوافق مع النظرية النسبية واضح تماما.
وبالتأكيد، فإن إضافات جديدة إلى الجدول الدوري ستحصل مستقبلا، وسيساعد البحث في كيمياء هذه العناصر المضافة على توضيح هذه المعضلة. والسؤال الأكثر إلحاحا هنا هو: هل ثمة نهاية للجدول الدوري. وهناك إجماع عام على أنه عندما يصبح عدد البروتونات كبيرا جدا، فإن النوى لن تتشكل ولو للحظة وجيزة. ولكن الآراء تختلف حول جواب السؤال: أين ستتوقف موجة العناصر الجديدة؟ ففي الحسابات التي تفترض أن النواة هي كالنقطة الصغيرة يبدو أن النهاية هي عند العنصر 137. ولكن خبراء آخرين في هذا المجال، أخذوا بعين الاعتبار حجم النواة، يعتقدون أن العنصر الأخير سيكون رقمه الذري 172 أو 173. وببساطة، ليس من الواضح بعد ما إذا كان المبدأ القائل إن العناصر التي تقع في العمود نفسه من الجدول الدوري تتصرف بشكل متشابه، هو مبدأ سيبقى قائما بالنسبة إلى الذرات البالغة الثقل. ولكن هذا السؤال ليست له نتائج عملية ذات أهمية بالغة، في المستقبل المنظور على الأقل. فغياب القدرة على التنبؤ بالصفات في حالة الذرات البالغة الثقل لن يؤثر في الفائدة التي نحصل عليها من بقية الجدول. والكيميائي العادي لا يتعامل عادة مع أي عنصر من العناصر الثقيلة ذات الأعداد الذرية البالغة الارتفاع. فنوى هذه العناصر غير ثابتة بتاتا، وهي تتفكك تلقائيا إلى عناصر أخف بعد لحظات من اصطناعها. وإلى الآن، فإن السؤال حول أثر النظرية النسبية الخاصة في الجدول الدوري لازال يصيب الكيمياء في القلب، باعتبارها أحد فروع المعرفة المهمة. فإذا فَقَدَ القانون الدوري مكانته وقوته، فإن علم الكيمياء سيكون أكثر اعتمادا على علم الفيزياء. أما إذا حافظ القانون الدوري على مكانته، فإن ذلك سيساعد الكيمياء على الحفاظ على سوية معينة من الاستقلال. وخلال المرحلة القادمة ربما تردُّ روح <مندليف> بعنف زهوا وابتهاجا بنجاح مولود عقله المفضل. المؤلف
مراجع للاستزادة
The Periodic Table, Its Story and Its Significance. Eric Scerri. Oxford University Press, 2007. (*)CRACKS IN THE PERIODIC TABLE (**)A COMPLETE SUCCESS (***)An Ever Growing Cabinet of Chemical Wonders (****)BREAKING BAD? (*****)SUPERHEAVY SURPRISES (1) أو: الكهرستاتي، الكهرُساكن (4) Oddly Ordinary Seaborgium (5) Boring Bohrium |