أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
التاريخعلم الأعصابقضايا

ألمانيا ستسبر أعماق العلوم الطبية في عصر النازيّيّن

ألمانيا‭ ‬ستسبر‭ ‬أعماق‭ ‬العلوم‭ ‬الطبية‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النازيّيّن

نظرة‭ ‬جديدة‭ ‬على‭ ‬ضحايا‭ ‬القتل‭ ‬الرحيم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شرائح‭ ‬أنسجة‭ ‬الدماغ‭ ‬التي‭ ‬غفل‭ ‬عنها‭ ‬العلماء

بقلم‭: ‬ميغن‭ ‬غانون،‭ – ‬برلين

بعد ولادة هانز-يواخيم، كان من الواضح أن الأمور لم تكن على ما يرام البتة؛ فقد عانى هذا الرضيع شللا جزئيا وشللا مزدوجا تشنجيا Spastic diplegia، وهو أحد أنواع الشلل الدماغي. وفي عام 1934، عندما كان في الخامسة من العمر، أدخله والداه إلى مصحة في بوتسدام، حيث وصفته السجلات الطبية بأنه طفل “ودود ومبتهج بشكل مدهش.” ولكن حالته الصحية لم تكن تتحسن. وأمضى بضع سنوات في عيادة في براندنبورغ-غوردن بألمانيا، وبعدها، وفي صبيحة يوم ربيعي في عام 1941، “نُقِل إلى مصحة أخرى بناء على طلب مُفَّوض الدفاع في الرايخ،” وهي كلمات تعني أن هانز-يواخيم، والذي كان في الثانية عشرة، كان قد سُمِّمَ بالغاز في مركز “القتل الرحيم” النازي، وأُرسِل دماغه إلى اختصاصيٍ خبيرٍ في الباثولوجيا العصبية.

وبحسب المؤرخين، خلال الحرب العالمية الثانية، وكجزء من برنامج “الصحة العرقية” Racial hygiene للحكومة النازية، قتل نظام الحكومة النازية بشكل منظم ما لا يقل عن 200000 شخص صنفهم بأنهم مريضون عقليا أو معوقون. وقد نُسيت أغلب هذه القصص كقصة هانز-يواخيم بمرور الوقت. والآن، هناك مبادرة جديدة تسعى إلى إعادة بناء سِيَرَ حياة الضحايا الذين استخدموا في أبحاث الدماغ. وبدءا من الشهر الحالي، ستفتح جمعية ماكس بلانك (اختصارا: الجمعية MPG)، وهي المؤسسة الألمانية الأولى في الأبحاث الأساسية، أبوابها لأربعة من الباحثين المستقلين الذين سيبحثون في أرشيفاتها وعينات الأنسجة عندها بحثا عن مواد متعلقة ببرنامج القتل الرحيم.

لقد كان الدافع وراء هذا المشروع هو رغبة جمعية ماكس بلانك في تولي المسؤولية الأخلاقية للأبحاث غير الأخلاقية التي سبقتها، وهي جمعية القيصر فيلهيلم (اختصارا: الجمعية KWG)، والتي أجريت على ضحايا القتل الرحيم وبقايا أجسادهم. ويقول هاينز فيسل Heinz Wässle: “نريد أن نعرف هويات الضحايا، وأن نكشف سِيَرَ حياتهم ومصائرَهم، وبذلك نكون أعدنا لهم جزءا من كرامتهم الإنسانية، ونجد لهم طريقة مناسبة لنتذكرهم،” وهاينز فيسل هو المدير الفخري لقسم التشريح العصبي في معهد ماكس بلانك لأبحاث الدماغ في فرانكفورت بألمانيا، ورئيس لجنة جمعية ماكس بلانك للإشراف على البحث الجديد.

وعلى الرغم من التقارير الكثيرة المُقدمة حول التجارب الفظيعة، وعلى الرغم من الدعاوى العامة المقامة على الأطباء خلال محاكمات نورنبرغ بعد الحرب العالمية الثانية، يقول المؤرخون الذين لهم صلة بالبحث الجديد لجمعية ماكس بلانك إنهم لا يفهمون بعدُ الأبحاث -التي قامت بها أكبر المعاهد بالتعاون مع برامج القتل وقتها- فهما كافيا. وبهذا الصدد يقول باول فايندلينغ Paul Weindling من جامعة أوكسفورد بروكس في المملكة المتحدة: “بشكل عام، وصل مؤرخو القتل الرحيم بأبحاثهم إلى لحظة موت الضحايا، أما الأمر الذي لم يفهم بشكل كامل فهو أن هناك أدمغة مجموعة من الضحايا حُفِظت من أجل غايات بحثية أخرى،” ويُقدِّر فايندلينغ نسبة هؤلاء الضحايا بـ 5 في المئة من كل الضحايا.

وفي عام 1980، ربط الصحفي غوتز ألي Götz Aly ما بين شرائح الأنسجة الدماغية التي جمعها يوليوس هولرفوردين Julius Hallervorden (وهو مدير قسم الباثولوجيا العصبية في جمعية القيصر فيلهيلم لأبحاث الدماغ في عهد الحرب العالمية الثانية)، وبين مجموعة من 38 طفلا قتلوا في برنامج القتل الرحيم في يوم واحد في أكتوبر 1940. وكاستجابة لذلك، قرر معهد جمعية ماكس بلانك لأبحاث الدماغ، ومن باب احترام الضحايا، أنه سيدمر جميع شرائح المقاطع الدماغية التي يمكنه العثور عليها (نحو 100000 شريحة) والتي يعود تاريخها إلى عهد النازية، من عام 1933 إلى 1945. كما سبق وأن قرر المركز الآخر في ألمانيا المختص في الباثولوجيا العصبية (معهد ماكس بلانك للطب النفسي في ميونخ) إخراج الشرائح الدماغية التي يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الثانية. وقد دُفِنت العديد من هذه الشرائح الدماغية (بما فيها دماغ هانز يواخيم) بطقوس جنائزية في عام 1990 بمقبرة فالدفريدهوف في ميونخ.

وفي السنوات التي تلت ذلك، حصل المؤرخون على أدلة على أن علماء جمعية القيصر فيلهيلم كانت لهم ارتباطات قوية مع الأجندة النازية. ومع ذلك، لم تبدأ جمعية ماكس بلانك بتدقيق أشمل لتاريخها وقت الحرب حتى نهاية التسعينات من القرن الماضي. و في 2001 دفعت نتائجُ هذه التدقيق جمعية ماكس بلانك إلى أن يصدروا اعتذارا رسميا لضحايا التجارب النازية. وكان ذلك البحث “مشروعا شديد الأهمية، إلا أنه لم يكن كاملا،”، وذلك بحسب ما يقول فولكر رولك Volker Roelcke، وهو مؤرخ وطبيب نفسي في جامعة غيسن of Giessen بألمانيا، وأحد الخبراء الأربعة في برنامج القتل الرحيم المقرر أن يراجَع مراجعة مستقلة (والثلاثة الآخرون هم فايندلينغ، وباتريشيا هيبيرير-رايس Patricia Heberer-Rice من المتحف الهولوكوست التذكاري في الولايات المتحدة، في واشنطن العاصمة، وغيريت هويندورف Gerrit Hohendorf من الجامعة التقنية في ميونيخ). ويأمل هؤلاء الخبراء بأن يفهموا بشكل أكثر تفصيلا الشبكات التي سمحت لعلماء جمعية القيصر فيلهيلم أن يستغلوا برنامج القتل الرحيم النازي. كما سيكافحون من أجل التعرف على الضحايا الذين استخدمت أدمغتهم من أجل الأبحاث (وفي بعض الحالات كان ذلك بعد انتهاء الحرب بمدة طويلة) وأن يتتبعوا ما حدث لشرائح الأنسجة والعينات الأخرى.

وتبقى مسألة هولرفوردين إحدى المسائل التي سيركزون عليها؛ فقد قَبِل المئات من أدمغة ضحايا القتل الرحيم، وذلك حسب ما شهد أحد ضباط الاستخبارات الأمريكية فيما يعرف بمحاكمات الأطباء النازيين في نورنبيرغ، ولكنَّ حكما لم يصدر بحقه قطُّ. وبدلا من ذلك، استمر بمنصبه السابق نفسه في جمعية القيصر فيلهيلم بعد الحرب، واستمر في دراسة “المواد الرائعة” من مراكز القتل، بحسب ما وصفها عندما استجوبه ضابط الاستخبارات. وفي 1953، نشر هولرفوردين فصلا من كتاب في طب الأعصاب وضع فيه صورتين مجهريتين لدماغ هانز-يواخيم، واستخدمهما من أجل تصوير تندُّب التلافيف Ulegyria، وهي حالة مرضية تصاب فيها قشرة الدماغ بالندوب، وقد يكون سببها مشكلات في الدورة الدموية في الرحم.

كان الداعي إلى هذا البحث الجديد هو اكتشافٌ مقيت؛ ففي بدايات 2015، شرع فيسل في التعرف على الضحايا الذين أُرشفت بقاياهم في مجموعة هولرفوردين “السلسلة H”، والتي احتوت على شرائح من دماغ هانز-يواخيم. وخلال ذلك، عثر على صندوق من الورق المقوى يحتوي على ما يقارب 100 مقطع دماغي. واستطاع أن يؤكد أن جزءا منها على الأقل يعود إلى ضحايا القتل الرحيم: ففي النهاية لم تدخل جميع شرائح عصر النازية إلى مقبرة فالدفريدهوف. وكذلك تبين من البحث في معهد طب النفس أن هناك المزيد من الشرائح.

على مدى السنوات الثلاث التي تتلو، سيحاول الباحثون الكشف عما تبقى من الشرائح وأن يربطوها بالسجلات الطبية في المستشفيات والمصحات، وأرشيفات الجامعات، وملفات علماء جمعية القيصر فيلهيلم، والتي تفرقت عبر بعض عشرات من المعاهد. يقول فايندلينغ إنه يأمل وزملاؤه بأن يتعرفوا على ما يصل إلى 5000 ضحية. ويقول: “يعلم الجميع أن العلماء النازيين كانوا يقومون بأبحاث لاأخلاقية. ولكن الأمر الذي لم يقم به أحد من قبل هو تشكيل صورة كاملة تمثل المدى الذي وصلت إليه هذه الأبحاث اللاأخلاقية.”

كما يأمل المؤرخون بأن يصلوا إلى المزيد من الفهم لكيفية السماح للعلوم اللاأخلاقية بالازدهار في ألمانيا النازية. وبحسب رولك، فإن العلماء المتورطين “لم يكونوا غريبين أو شاذين سيكوباثيين؛ بل إنهم في الفترة التالية للحرب، كانوا منخرطين في المجتمع الألماني انخراطا سليما، وكانوا باحثين جيدين لهم سمعة عالمية حسنة. إذن، ما الظروف التي هيأت هذا النوع من العلماء المختصين بجوانب الطب الحيوي أن يبدؤوا أو يقترفوا الفظائع من أجل أن يتقدموا في أبحاثهم؟”

ولأن هولرفوردين والعديد من العلماء المتواطئين حافظوا على مناصبهم بعد الحرب، فإن التحقيق في دور جمعية ماكس بلانك خلال العصر النازي كان يعتبر من المحرمات، واستمر هذا التردد لفترة طويلة بعد التحقيقات الأولى، وذلك بحسب ما أضاف رولك. كما واجه روليك بعض المقاومة قبل عدة سنوات، عندما حاول توثيق أن إيرنست رودين Ernst Rüdin، الذي كان مديرا لمعهد جمعية القيصر فيلهيلم للطب النفسي في ميونخ في عصر النازية، وجامعة هايدلبرغ في ألمانيا كانا متورطين في الأبحاث على ضحايا القتل الرحيم للأطفال.

يقول مارتن كيك، المدير الإكلينيكي في معهد ماكس بلانك للطب النفسي: “لا يقتصر الأمر على ‘نسيان’ العينات، ولكنه يتعدى ذلك إلى المقاومة الواضحة للتاريخ الأبشع [لجمعية ماكس بلانك] والفشل في الاستجابة الوافية وفي إحياء ذكرى الماضي المأساوي.” ويرى روليك التحقيق الجديد، وبالتحديد علاقة فيسل بالبحث، على أنه علامة مشجعة تشير إلى أن جمعية ماكس بلانك مستعدة أن تواجه ماضيها بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى