بعد مُضيّ سنة، علماء زيكا يجهزون لحرب طويلة
الأمراض المعدية
لا يزال العلماء لا يفهمون المخاطر، لكنهم قلقون من موجة محتملة جديدة من العيوب الخلقية
بقلم: غريتشين فوغل
ترجمة: مريانا حيدر
قد يبدو أن هناك أخباراً سارة، إذ أعلنت منظمة الصحة العالمية (اختصارا: المنظمة WHO) قبل أسبوعين أن وباء فيروس زيكا لم يعد “حالة طارئة في الصحة العامة ذات شأن عالمي” وهو تصنيف مخصص للتهديدات الخطيرة، كان قد أُطلق على فيروس زيكا به في فبراير. وأتى تخفيض منظمة الصحة العالمية لرتبة خطر فيروس زيكا بعد عدة أشهر من تناقص أعداد الحالات المصابة به.
ولكن الوكالة كانت حريصة على الإشارة إلى أن هذا التغيير يعني أن فيروس زيكا انتقل من تصنيفه كإصابة شديدة الخطورة إلى إحدى مشكلات الصحة العامة طويلة الأمد والتي تستدعي اهتمام العالم وانتباهه. فقد أصبح الفيروس منحصراً -بشكل مستقر- في أمريكا اللاتينية والتي تعاني أيضاً بعضَ الأمراض الأخرى المنقولة بالبعوض.
في الوقت الراهن لا تزال هناك بعض الفجوات في معرفة العلماء، فهم لا يعلمون كم عدد الأفراد الذين يصيبهم فيروس زيكا بشكل صامت، أو ما إذا كانت الإصابة تسبب مناعة طويلة، أو ما حجم الخطر الذي يمثله الفيروس على الأجنة في الرحم. وعلى الرغم من أن بعض اللقاحات المحتملة لهذا الفيروس قد دخلت مرحلة التجارب الأولية على الإنسان، إلا أن منتجاً متوفراً على نحو واسع مازال بحاجة إلى سنوات لتطويره. وكما يقول آلبرت كو Albert Ko، خبير الأمراض المعدية من جامعة ييل Yale University: “ليست لدينا وسائل وقاية أو علاج، وليست لدينا أيضاً أساليب لإرشاد النساء المعرضات للخطر.”
وكانت صور محزنة من البرازيل هي ما أعلن عن هذه الأزمة في أواخر 2015، إذ كانت الصور لأطفال ولدوا برؤوس صغيرة، أدمغتهم قد تشوهت على ما يبدو بسبب فيروس معروف منذ أكثر من نصف قرن في إفريقيا وجنوب شرق آسيا، ولكن لم يعتبر من قبل كتهديد خطير. وخلال أشهر قليلة كان فيروس زيكا قد انتشر عبر أمريكا اللاتينية وجزر البحر الكاريبي، ووضع الباحثين أمام معضلة مرعبة وعجيبة في آن معاً.
إن انخفاض أعداد حالات فيروس زيكا المبلَّغ عنها عائد جزئياً إلى انخفاض موسمي في تعداد البعوض وهو ناقل رئيسي لفيروس زيكا. (وقد علم الباحثون أن بإمكان فيروس زيكا أن يختبئ في السائل المنوي لأشهر وأن ينتقل أثناء ممارسة الجنس.) ويمكن أن تعود الحالات إلى الارتفاع قريباً بسبب عودة فصل الصيف في أمريكا الجنوبية، ويقول كو الذي ساعد على توثيق الزيادة الهائلة في العيوب الخلقية الشديدة في شمال شرق البرازيل قبل سنة: “لا تزال هناك العديد من الأماكن التي سوف تشهد تفشي الوباء بفعل الفيروس.”
اكتشف الباحثون في المختبرات كيف يمكن لفيروسات زيكا أن تؤذي الأجنة، ففي مزرعات الخلايا ونماذج الحيوانات، تستهدف الفيروساتُ خلايا الجهاز العصبي، خاصة تلك غير الناضجة منها والضرورية لنمو الدماغ، ويعتبر الحجم الصغير غير المعتاد للرأس أحد التشوهات الخلقية المرتبطة بفيروس زيكا، وتسمى صِغَرُ الرَّأْس Microcephaly. كما وثق الأطباء مشكلات في عيون الأطفال وآذانهم وأطرافهم، إضافة إلى بعض الأضرار الخفيّة في الدماغ.
لكن أحد الأسئلة الرئيسية قد أثبت صعوبة الإجابة عنه ألا وهو لماذا كانت آثار فيروسات زيكا واضحة جداً في شمال شرق البرازيل، حيث أبلغ الأطباء في ولايات بيرنامبوكو وباهيا وبارايبا عن أكثر من 4000 حالة من صغر الرأس في الفترة بين يوليو 2015 وفبراير 2016 (انظر الرسم البياني). ففي النهاية، تأكدت مسؤولية فيروس زيكا عن ثلث هذه الحالات على الأرجح، لكن في مناطق أخرى عانت تفشي الفيروس كان التأثير أقل شدة بكثير. فقد شهدت مدينة ساو باولو الجنوبية الكثير من العيوب الخلقية، من ضمنها تكيسات في الدماغ ومشكلات في العين والأذن، لكن حالات صغر الرأس كانت قليلة جداً، على حد قول عالم الفيروسات موريسيو لاسيردا نوغيرا Maurício Lacerda Nogueira من كلية الطب في ساو خوسيه دو ريو بريتو. ويقول أيضاً إن معدل الاضطرابات متشابه “لكن ما يختلف هو شدتها.”
أما بالنسبة إلى بعض المناطق الأخرى التي انتشر فيها الفيروس، فقد أصبحت أفضل حالاً، ففي كولومبيا التي كان فيها ما يقارب 100000 حالة من فيروس زيكا، من بينها أكثر من 17000 امرأة حامل، أُبلِغ عن 58 حالة فقط من صغر الرأس، أما المكسيك فقد خضعت 3000 امرأة حامل يعتقد إصابتها بفيروس زيكا للمراقبة، لكنها لم تجد أي حالة صغر رأس على الإطلاق.
وإلى جانب التفاوت في الإبلاغ عن الحالات، قد يكون جزء من تفسير الاختلاف أنه بعد إصابة الشمال الشرقي من البرازيل، بدأت النساء بتأجيل الحمل أو بالخضوع لإجهاض خوفا من إصابتهن. وتقول لورا رودريغز Laura Rodrigues من كلية لندن للصحة والطب المداري London School of Hygiene & Tropical Medicine (اختصارا: الكلية LSHTM): “فاجأ الفيروس الجميع في شمال شرق البرازيل، أما الآن فإن الجميع يعرف بوجوده.”
يتساءل الباحثون أيضاً عن احتمال وجود عامل مساعد فاقم تأثيرات الفيروس في شمال شرق البرازيل. في البداية، اقترح البعض حدوث تعرض سابق لفيروس الضنك -وهو فيروس قريب من عائلة فيروس زيكا- ربما يكون قد حفّز إفراز أجسام مضادة تتداخل في استجابة الجسم لفيروس زيكا، لكن معدلات حمى الضنك في ساو باولو شبيهة بها في شمال شرق البرازيل، كما يقول نوغيرا. وهنالك سبب محتمل آخر للتفاوت، ألا وهو لقاح الحمى الصفراء وهو شائع في الجنوب الشرقي أكثر منه في الشمال الشرقي، فمن المحتمل أن يقدم بعض الوقاية من فيروس زيكا بسبب التقارب الكبير أيضاً بين الفيروسين، وقد يؤدي سوء التغذية في الشمال الشرقي الفقير دوراً أيضاً، إذ يبدو أن العيوب الخلقية الأكثر شدة تتجمع في المناطق الأفقر.
وهنالك نظرية أخرى تقول إن بايريبروكسيفين Pyriproxyfen، وهو مبيد حشري للبعوض، قد يكون مسؤولاً عن ذلك أيضاّ، ففي عام 2014، بدأت البلديات في ولاية بيرنامبوكو بمعالجة خزانات مياه الشرب بمبيد لليرقات في بعض الأماكن, وذلك بهدف مكافحة حمى الضنك. وقد وافقت منظمة الصحة العالمية على الدواء بصفته آمناً. لكن بعض الباحثين أشاروا إلى أن البنية الكيميائية لبايريبروكسيفين تشبه البنية الكيميائية لحمض الريتينوئيك الذي يؤدي دوراً مهما في تطور كل من المشيمة والجنين. وعلى الرغم من ذلك، لم تجد رودريغز وزملاؤها –في دراسة نشرت في أكتوبر- أي اختلاف مهم إحصائياً في معدلات صغر الرأس بين المناطق التي استُخدم فيها بايريبروكسيفين والمناطق التي استُخدم فيها مركب كيميائي مغاير هو سم بي تي Bt.
ربما يكون التفسير ببساطة هو أن منطقة شمال شرق البرازيل خضعت لتفشٍ من فيروس زيكا أكبر مما خضعت له المناطق الأخرى، كما تقول رودريغز. وعلى الأغلب أن الفيروس كان ينتشر لأكثر من سنة قبل أن يكشفه الأطباء في أوائل عام 2015. وربما قاد الموسم الثاني للمرض إلى مزيد من حالات العدوى والمزيد من العيوب الخلقية، وهذا ينذر باحتمال تفاقم المرض في المناطق التي عانت لعام واحد فقط من وباء زيكا، ويضيف كو: “إننا قلقون من احتمال حدوث موجة ثانية هذا الموسم.”
إن تقييم الخطر الحقيقي الذي تتعرض له النساء الحوامل هو أمر صعب، وذلك لأن فيروس زيكا ما زال صعب التشخيص. وتقول روزانا بيلينغ Rosanna Peeling، خبيرة في التشخيص في الكلية LSHTM: “ليس لدينا قاسم مشترك للمرض،” حيث يمكن اكتشاف الفيروس في الدم أو سوائل الجسم الأخرى خلال العشرة الأيام التي تستمر فيها العدوى، لكن معظم الناس لا يزورون الطبيب في تلك الفترة وذلك لأن الأعراض تكون خفيفة. أما اكتشاف الإصابات القديمة فهو أمر صعب، لأن فيروس زيكا شبيه جداً بفيروسات أخرى من ضمنها فيروس الضنك المتفشي في أمريكا اللاتينية، ولا تتمكن الفحوص الحالية للأجسام المضادة من التمييز بينهما. وتقول بيلينغ إن العديد من المختبرات تعمل لتطوير فحوص للأجسام المضادة النوعية لفيروس زيكا، لكن ذلك سيستغرق سنين.
إن عدم وجود فحص نوعي لفيروس زيكا يجعل من الصعب أيضاً تحديد ما إذا كانت الإصابات السابقة تمنح وقاية مديدة، وكذلك معرفة احتمال أن يسبب فيروس زيكا في أوبئة جديدة في مناطق العالم التي بقيت خاضعة لوباء الفيروس فترة طويلة مثل آسيا وإفريقيا. ففي الوقت الحالي، فإن دراسات الأتراب التي تبحث عن مرضى أصيبوا حديثاً بالعدوى لتتابعهم، يمكن أن تقدم بعض الإجابات، وهنالك العديد من هذه الدراسات قيد الإنجاز، لكن الحصول على أولى النتائج ليس متوقعاً قبل مضي عام، وحتى ذلك الحين، سيبقي فيروس زيكا الباحثين في حيرة.
The ©2016 American Association for the advancement of Sciences. All right reserved.