خريطة مدفن للألواح الباردة في وشاح الأرض
صفائح تكتونية أعيد إحياؤها تُنتج صورا للتاريخ الضائع للكوكب
بقلم: بول فوسين
ترجمة: مريانا حيدر
ففي مناطق تقاطع الصفائح التكتونية على امتداد العالم، تغوص ألواح قشرة المحيط إلى داخل الوشاح Mantle، كجزء من الدائرة المستمرة التي لا تسبب فقط في انجراف القارات بل تثير أيضا النشاط البركاني الذي يشكل سلاسل الجزر كاليابان والجبال كجبال الأنديز. إن اختفاء هذه الألواح – ما يعرف بالاندساس Subduction- يجعل عملية إعادة تشكيل المحيطات كما وجدت قبل مئات ملايين السنوات أمرا صعبا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجبال التي تجاورها. ويقول جوني وو Johnny Wu عالم جيولوجيا من جامعة هيوستن University of Houston في تكساس: “إننا نخسر في كل يوم معلومات جيولوجية عن وجه الأرض،” ويتابع قائلا: “إن الأمر أشبه بخسارة قطع من الزجاج المكسور عندما تحاول أن تجمع أجزاءه مجددا.”
لكن بدأ علماء الجيولوجيا بجمع تلك المعلومات وذلك عبر التعمق بالنظر في الوشاح باستخدام موجات زلزالية تعبر إلى داخل الأرض لتولد صورا تشبه مسوحات التصوير المقطعي المحوسب computerized tomography (اختصارا: التصوير CT). ففي السنوات القليلة الماضية، مكنت تطورات تقنيات التصوير المقطعي من الكشف عن العديد من الألواح الباردة والسميكة وهي تسقط سقوطا حرا (بحركة بطيئة)-نحو الأسفل- إلى مدفنها النهائي وهو ركام من الصخور المتوضعة فوق لب الأرض المصهور الموجود على عمق 2900 كيلومتر.
إن للأرض عادة سيئة في محو تاريخها الخاص.
والآن، أصبح التصوير الشامل للجزء الداخلي للأرض بالأشعة السينية موضع اهتمام. ففي الشهر القادم في اجتماع الرابطة الجيوفيزيائية الأمريكية American Geophysical Union بسان فرانسيسكو في كاليفورنيا، سيعلن فريق من العلماء الهولنديين عن فهرس لمئة صفيحة اندسّت في الوشاح، مع معلومات عن عمرها وحجمها وسجلات الصخور السطحية المرتبطة بها، وذلك اعتمادا على نموذجهم المقطعي السطحي وعلى تحريات ومقارنات بدراسات أخرى منشورة. يقول دوي فان هينزبيرغين Douwe Van Hinsbergen: “لقد مضينا خطوة بخطوة لنصل أعمق فأعمق، وأقدم فأقدم،” وفان هينزبيرغين هو عالم جيولوجيا في جامعة أوتريخت في هولندا قاد المشروع بالتعاون مع عالمي الجيولوجيا دوي فان دير مير Douwe Van Der Meer وويم سباكمان Wim Spakman.
ويحمل “أطلس العالم السفلي” Atlas of the underworld كما يسمونه، تاريخ الجغرافيا القديمة لتلك الصفائح، وعبر إعادة الزمن إلى الوراء وإرجاع تلك الألواح المفهرسة إلى السطح يمكن عندها للعلماء أن يكتشفوا أحجام ومواقع المحيطات القديمة، إضافة إلى ذلك يمكنهم أن يحددوا الأماكن التي من الممكن أن تكون الألواح الغارقة قد حرضت الانصهار فيها، مطلقة كتلا من الحمم المنصهرة (الماغما) صعدت إلى القشرة وسببت نشاطا بركانيا.
لقد ساعد هذا الأمر علماء التربة على تحديد الأماكن التي نشأت فيها الجبال القديمة ثم زالت نتيجة التعرية، فكانت آثارها ظاهرة فقط في سجلات الصخور غير المفسرة. ويقول ماثيو دوميير Mathew Domeier وهو مختص في صنع النماذج التكتونية في جامعة أوسلو University of Oslo: “إنه زمن مثير جدا عندما نتمكن من جمع كل هذه الأجزاء معا.”
لقد أصبح هذا الأمر ممكنا مؤخرا فقط، فالتقنية التي يعتمد عليها وهي التصوير المقطعي مليئة بالشكوك والأمور غير المؤكدة، إذ يعتمد على ملايين الموجات الزلزالية التي تتلقاها المِجسَّات الموزعة بشكل غير منتظم حول العالم. ويُفترض أن الموجات ذات زمن الوصول الأسرع تكون قد مرت عبر الصخور الأبرد من الألواح المندسة. لكن تغطية مقياس النشاط الزلزالي تغطية مُتقطّعة، فالزلازل -أي مصادر الموجات الزلزالية- لا تحدث في كل مكان وهذه الموجات تصبح أقل وضوحا عندما تعبر قرب اللب أو تسافر مسافات طويلة، وفي هذا الخصوص يقول فيد ليكيك Ved Lekic مختص بالرسم السطحي من جامعة ماريلاند University of Maryland في كوليدج بارك: “كثيرا ما تكون المناطق ذات البنى الأكثر الإثارة للاهتمام هي المناطق التي يكثر فيها الشك وعدم اليقين.”
تستخدم المجموعات الأكاديمية حول العالم أكثر من عشرين نموذجا لتفسر بيانات الرسم السطحي، ولكن صورهم للوشاح وللبنى الموجودة فيه غالبا ما تتعارض مع بعضها البعض على حد قول غريس شيبرد Grace shepherd – طالبة ما بعد الدكتوراه في جامعة أوسلو، وستنشر غريس في الأشهر القادمة مقارنة بين 14 نموذجا مختلفا ستقيِّم أي الألواح تبدو على الأرجح حقيقية، ويمكن أن تثير نتائجها شكوكا حول بعض الصفائح المحددة في أطلس أوتريخت. لكن مع ذلك، فإن صورة الجزء الداخلي للأرض أكثر قابلية للتصديق بفضل قدرات الحوسبة المتطورة، ومشاريع المقارنة تلك.
وفي الوقت الحالي، فإن صورة الصفائح المفقودة دقيقة بما يكفي للعلماء ليحاولوا العودة بالزمن للوراء لإعادة بناء تلك العوالم المختفية، ففي مقاطع الرسم السطحي السابقة، بدت الألواح المنغمرة شبيهة بكتل دائرية في صفيحة الحمم، لكن عندما تطورت النماذج ظهرت الألواح في الوشاح العلوي كغطاء قاس ومستو، على حد قول جون سوبي John Suppe الذي يترأس مركز التكتونيات والرسم السطحي Center for Tectonics and Tomography في جامعة هيوستن. وقد أوضحت الصور أن الألواح ذات سماكة 500 كيلومتر عندما تغوص، فإنها تنثني لكنها لا تتجعد، مما جعل عملية إزالة الانثناء أمرا سهلا بالنسبة إلى سوبي والآخرين في النماذج، ويقول سوبي: “وجدنا أن هذه الصفائح تنبسط بسهولة كما أنها ليست مشوهة المعالم كثيرا.”
إن عملية إعادة البناء تلك والمعتمدة على الألواح تُشكِّك في حركة الصفائح الناتجة من القشرة المحيطية القديمة التي انتُزعت من المحيطات وبقيت على القارات، على حد قول سوبين، ويتابع: “في أغلب الأماكن التي بحثنا فيها عن هذا الأمر لم يكن ما وجدناه في الوشاح هو ذاته ما يمكن توقعه.”
وتقوم عمليات البناء هذه أيضا بإعادة إحياء الجبال –في الرسوم والنماذج- التي كانت مفقودة عبر الزمن. فعلى سبيل المثال في دراسة نشرت منذ عدة أشهر أعاد وو وسوبي بناء رحلة تغيرات 28 لوحا لإعادة بناء بحر الفلبين كما كان منذ أكثر من خمسين مليون سنة مضت، كما ذهبا إلى أبعد من تحديد ما يظهر كجزء من قشرة محيطية غير معروفة قبلا، إذ توقعا أنه عندما غاصت إحدى الصفائح القديمة في الوشاح فقد أثارت سلسلة من البراكين التي اصطدمت في النهاية بآسيا. ويمكن لتلك العملية العنيفة أن تفسر الصخور الغريبة المثنية في اليابان وتحت بحر الصين الشرقي.
وبشكل مشابه، فإن الصفائح تحت أمريكا الشمالية ساعدت على توضيح تاريخ القارة فيما يخص نشوء الجبال، وعبر إعادة الزمن إلى الوراء، أظهرت كارين سيغلوش Karin Sigloch عالمة جيوفيزياء من جامعة أوكسفورد University of Oxford في المملكة المتحدة أن سلسلة الجبال الغربية في أمريكا الشمالية ومن ضمنها جبال الروكي قد تشكلت على الأرجح بين 200 مليون إلى 50 مليون سنة مضت، عندما اندست عدة صفائح صغيرة تحت القارة، مما أدى إلى التصاق العديد من أرخبيلات الجزر البركانية باليابسة.
يأمل فان هينزبيرغين وزملاؤه في أوتريخت بأن أطلسهم الشامل للألواح سيجعل من الممكن إعادة بناء صورة أشمل للجغرافيا القديمة للأرض. ففي عام 2012 استخدموا المقاطع السطحية للصفائح لتحديد خطوط الطول لأقواس الجزيرة البركانية التي شكلت قبل 20 مليون عام المحيط الذي يطوق القارة العملاقة، أو القارة الأم بانجيا Pangea. وبعد عامين استخدموا نموذجهم العالمي ليقدروا عدد مناطق الاندساس التي كانت لتكون نشطة خلال 250 مليون سنة ماضية إضافة إلى تحديد كمية ثنائي أكسيد الكربون التي كانت لتكون البراكين الناتجة من الاندساس قد أطلقتها. وتطابقت التقديرات بدقة مع سجلات التوثيق الجيولوجية لغاز ثنائي أكسيد الكربون في الغلاف الجوي على امتداد الفترة ذاتها. وفي وقت سابق هذا العام، نشر فان هينزبيرغين دراسة في مجلة ساينس أدفانسيس Science Advances مع ليديان بوشمان Lydian Boschman طالبة الدراسات التي حددت العديد من الألواح التي قد تكون أدّت دورا في ولادة المحيط الهادي. ويقول فان هينزبيرغين: “لقد فعلنا ذلك، وإذا كان ذلك كله لا قيمة له، فإن هذا حقا مجرد صدفة.”
وحتى بوجود هذه التقنيات الجديدة التي يدعوها سوبي جميعا بتكتونيات الصفائح فإن ذاكرة الوشاح لألواح المحيط تعود فقط إلى نحو 250 مليون سنة وهو الوقت الذي تستغرقه الواحدة من الألواح لتغوص إلى قعر الوشاح ويعاد تدويرها تماما، أما بالنسبة إلى الفترات الزمنية الأقدم فإن الأرض تستمر بإخفاء تاريخها.
The ©2016 American Association for the advancement of Sciences. All right reserved.