التخدير: ما الذي يحدث حقا عندما تنطفئ الأضواء
بقلم: فيليب بول
ترجمة: د. عبدالرحمن سوالمه
استخدم البشر التخدير لمئات السنين، ولكننا لا نزال نجهل كيفية عمله. ومعرفتنا لذلك قد تقودنا إلى تطوير أدوية أكثر أمانا، وقد تساعدنا في حل لغز الوعي.
عُدَّ من العشرة تنازليا. وقبل أن تصل إلى الرقم سبعة، ستنطفئ مثل الأضواء.
من دون التخدير، ستصير الجراحة محض عذاب، وهو ما كان عليه الأمر في الماضي. ومع ذلك، فإن التخدير العام يعتبر إجراء طبيا صارما، وهو ما يمكن أن يشهد عليه كل من تعرض للتخدير العام؛ فهو بمثابة إيقاف كلي ومفاجئ للوعي، بل ويمكن للمرء تصوره على أنه فكرة أولية مصغرة عن الموت. وقد استخدم التخدير العام أولا في أربعينات القرن التاسع عشر، وما يصدم حقا هو أننا لا نزال نجهل كيفية عمله.
نحن نعلم أن العوامل المخدرة تثبط انتقال الإشارات بين العصبونات في الدماغ. ونظن أننا نعرف الجزيئات تصيبها هذه العوامل. ولكن المعرفة الدقيقة لكيفية قيامها بعملها في التثبيط تبقى لغزا محيرا.
ولحسن الحظ، لا يَمنع جهلُنا هذا اختصاصيي التخدير من التعامل مع الأدوية بكفاءة. ولكن، سيساعدنا حصولنا على صورة أوضح لما يحدث في التخدير على تجنب المخاطر شديدة الخطورة للتخدير والتي تعتبر نادرة نسبيا. ولن يقتصر الأمر على ذلك، بل إن هذه المعرفة قد تساعدنا على تطوير أدوية تستهدف أهدافا معينة وبدقة، وقد يعطينا ذلك أيضا فكرة أفضل عن الوعي نفسه، وماذا يعني أن يكون المرء واعيا أو غير واعٍ.
مؤخرا، كشفنا عن بعض الحقائق التي تدلنا على كيفية عمل الأدوية المخدرة، وذلك بفضل الأبحاث في الكيمياء الحيوية، وكذلك، وبشكل مفاجئ، عن الفيزياء الحيوية. ولكن، ما مدى قربنا من حل لغز كيفية إطفاء التخدير للأضواء؟
تعمل العديد من الأدوية بطريقة «القفل والمفتاح» بشكل أو بآخر؛ فهي تعمل على حجب عمليات كيميائية حيوية لأنها تطابق تماما شكل مناطق الارتباط Binding sites الخاصة بجزيئات محددة. وهذه هي الطريقة التي يبدو أن بعض أصناف أدوية التخدير، بما فيها أدوية الباربيتورات Barbiturates، تستخدمها من أجل قطع الاتصال بين عصبوناتنا.
ولكن هناك تباينا مربكا في المواد التي يمكنها أن تفقدنا الوعي: بدءا من الستيرويدات ذات الجزيئات الكبيرة وانتهاء بالذرات المفردة غير المقيدة (انظر الرسم البياني). ولنأخذ مثالا على ذلك الزينون Xenon، وهو غاز موجود على شكل ذرات مفردة لا تدخل في تفاعلات كيميائية عادية مع أي عنصر آخر. هذه الكرات الذرية الخفيفة وغير المبالية من ذرات الزينون بعيدةٌ كل البعد عن الجزيئات ذات الشكل الأنيق لأغلب الأدوية. ومع ذلك، فإن الزينون يعتبر دواء مخدرا مستخدما بشكل شائع. إذن، كيف يمكن لمادة بهذه البساطة أن يكون لها هذا الأثر الكبير؟
لا يتوافق الزينون تماما مع الماء الذي يفضل بدوره الجسيمات المشحونة كأيونات الملح. ولما كان الزينون لا يحمل أي شحنة، موجبة كانت أو سالبة، فإنه يستسهل البقاء في البيئات اللاقطبية Nonpolar، كالمنطقة الدهنية الموجودة داخل طبقتي الغشاء الخلوي الذي يحيط بخلايانا.
ويبدو أن هذه خاصية مشتركة بين العديد من الأدوية المخدرة، بدءا من أكسيد النيتروز وانتهاء بالكلوروفورم، وذلك ما اكتشفه اختصاصي علم الأدوية الألماني هانز ماير Hans Meyer واختصاصي الفيزيولوجيا البريطاني تشارلز أوفيرتون Charles Overton قبل ما يزيد على القرن من الزمن. وقد وجد كلاهما، وبشكل مستقل، أن فاعلية العديد من الأدوية المخدرة تتناسب مع سهولة ذوبانها في زيت الزيتون؛ فكلما كانت المادة أكثر ذائبية، قل مقدار الكمية التي تحتاج إليها منها لتتسبب بفقدان الوعي. وتزداد هذه العلاقة قوة عندما يتعلق الأمر بذائبيتها في الأغشية الحقيقية، كأغشية الخلايا، المصنوعة من أحماض دهنية تسمى الشحوم Lipids. استنتج كل من ماير وأوفيرتون أن العوامل المخدرة يجب أن تتجمع بداخل الأغشية وتجعلها تنتفخ أو تتشوه، مما يغير من قابليتها على نقل الإشارات.
تنتقل الإشارات الكهربائية على طول الخلايا العصبية عن طريق حركة الأيونات ذات الشحنة الموجبة أو السالبة، والتي تدخل أو تخرج من الخلية عن طريق قنوات أيونية Ion channels [وهي بروتينات في غشاء الخلية مشكلة على هيئة نفق]. وعندما يصير الفرق في الفولتية Voltage بين داخل الخلية وخارجها عند مستوى معين، فإن ذلك يحفز تكوّن إشارة، وتُطلَق النواقل العصبية Neurotransmitters الموجودة في المشتبك العصبي Synapse [وهو المكان الذي يصل الخلية بالخلية التالية لها] إلى الخلايا المجاورة. تتدفق هذه المواد عبر الشق بين الخليتين وترتبط بالقنوات الأيونية على الخلية التالية، حيث تحفز أو تثبط انتقال الإشارة العصبية، اعتمادا على نوع الناقل العصبي.
يشير نموذج ماير-أوفيرتون إلى أن جزيئات الأدوية المخدرة قد تُمتَصُّ إلى داخل الأغشية الخلوية في المشابك العصبية، وتحجب انتقال الإشارة بين الخليتين، ويحتمل أن يكون ذلك عن طريق تسببها بانتفاخ صفائح الجزيئات الدهنية وغلق القنوات الأيونية في الغشاء.
كانت تلك فكرة جميلة، إلا أنها بسيطة جدا. في عام 1997، اقترح الكيميائي روبرت كانتور Robert Cantor من كلية دارتموث Dartmouth College في نيو هامشاير عملية أكثر تعقيدا؛ فقد حاجج بأنه بدلا من نفخ الغشاء عشوائيا، فإن الأدوية المخدرة تجمّع الجزيئات الموجودة حول القنوات الأيونية، مما يؤثر في كيفية تجمع القنوات مع بعضها، ومغيرة من انحناء الغشاء الخلوي نفسه. ولكن التفاصيل المتعلقة بكيفية عمل هذه الطريقة كانت سطحية، والتغييرات الناتجة ستكون صغيرة جدا بحيث يصعب عليها أن تكون السبب في إحداث فرق بهذا الحجم.
ولكن الآن، هناك دلائل تظهر أن آثارا صغيرة كهذه قد يكون لها بالفعل نتائج كبيرة. يظن كل من الفيزيائي بين ماشتا Ben Machta من جامعة برنستون Princeton University واختصاصية الفيزياء الحيوية سارة فيتش Sarah Veatch من جامعة ميتشغان University of Michigan في آن آربر أن الأدوية المخدرة قد تؤثر على «درجة الحرارة الحرجة» Critical temperature لغشاء الخلية، ما يجعل النظام حساسا للتغيرات الطفيفة. وهذا يعتبر مفهوما أساسيا في الفيزياء؛ فعندما يصل أي نظام إلى نقطة معينة أو درجة حرارة معينة، يمكن أن تتغير حالته تغيرا مفاجئا، فمثلا قد يفقد المغناطيس مغناطيسيته، وقد ينفصل مزيج من سائلين مختلفين عن بعضهما عند الوصول إلى درجة الحرارة الحرجة لكل منهما.
في عام 2012، افترض كل من ماشتا وفيتش، واللذين يعملان مع اختصاصي الفيزياء جيمس سيثنا James Sethna في جامعة كورنيل Cornell University، في نيويورك، أن الجزيئات التي تشكل الغشاء تقوم بإعادة ترتيب نفسها بشكل مستمر عندما تكون قريبة من درجة الحرارة الحرجة. ويحتوي الغشاء الخلوي على «طوافات» Rafts من الجزيئات المتراصة بشكل منتظم، وهي في أغلبها كوليسترول ودهون مشبعة، وتقوم بالانجراف والحركة بداخل شبكة ذات انتظام أقل من الدهون غير المشبعة.افترض الباحثون أن بعض القنوات الأيونية لا تفتح إلا، أو أنها تفتح بسهولة، عندما تكون محاطة بجزيئات محددة -كتجمع من جزيئات الكوليسترول على سبيل المثال. وعندما يكون الغشاء قريبا من النقطة الحرجة، تكون هذه الجزيئات أكثر نشاطا، فتظهر الطوافات وتذوب بشكل مستمر عبر الغشاء. وفي هذه الحالة، هناك فرصة جيدة لأن تحصل القنوات الأيونية على الجزيئات التي تحتاج إليها حولها من أجل أن تفتح.
نقطة التحول
ولكن، ماذا لو اندمجت جزيئات الدواء المخدر مع الغشاء الخلوي وغيرت من درجة الحرارة التي يحتاج إليها الغشاء حتى يصل إلى الحالة الحرجة؟ عندها لن تتعرض القنوات الأيونية للبيئات المتباينة التي كانت ستتعرض لها عند وصولها النقطة الحرجة، وقد تبقى مغلقة. تقول فيتش: «يمكن للخلايا، أو الأدوية، أن تعدل بشكل دقيق من نشاط القنوات عن طريق تغيير الأغشية. هذا ربما هو ما يحصل في التخدير العام.»
في سلسلة من التجارب، بيّن ماشتا وفيتش أن المواد الكحولية ذات التأثير التخديري، كالإيثانول، تقلل فعلا من درجة الحرارة الحرجة هذه، ما يعني أن الغشاء يلزمه أن يصير أبرد من المعتاد لتحصل الطوافات على التباينات الديناميكية في الشكل والهيئة. بل إنهم وجدوا أيضا أن اثنين من الأدوية المحبة للشحوم Lipid-loving drugs، التي كان من المفترض أن تعمل كمخدر بحسب نموذج ماير-أوفيرتون لكنها لا تعمل كذلك، كانا غير قادرين على تغيير درجة الحرارة الحرجة.
وفي المقابل، ترفع بعض المركبات، كالهيكساديكانول Hexadecanol، من درجة الحرارة الحرجة. ومن ثم، هل يعني ذلك أنها ستثبط من التخدير؟ هذا بالفعل ما وجده ماشتا وفيتش السنة الماضية. ففي الشراغيف Tadpoles على الأقل، يمكن للهيكساديكانول أن يبطل من الأثر التخديري للإيثانول.
يقول ماشتا إنهم يأملون أن يختبروا أفكارهم أكثر بإيجاد طرق للنظر المباشر إلى البيئة المحيطة بالقنوات الأيونية على المستوى الجزيئي.
وهناك احتمال أشد غرابة، وقد اقترحه المختص بالفيزياء الحيوية لوكا تورين Luca Turin من مركز ألكسندر فليمنغ للأبحاث في العلوم الطبية الحيوية Alexander Fleming Biomedical Sciences Research Centre في فاري باليونان. ويشتهر تورين بأفكاره الغريبة والمثيرة للجدل؛ فقد سبق أن أقام الحجة بأن حاسة الشم لدينا تعمل عن وفق الفيزياء الكمّية Quantum physics؛ فبدلا من التقاط الرائحة من شكل الجزيئات، قال بأننا نلتقط اهتزازات هذه الجزيئات، التي تؤثر في الإلكترونات فتقفز عبر الفجوات الموجودة بين مستقبلاتنا الشمية.
ويظن الآن أن بعض الأدوية المخدرة تقوم بشيء مماثل. فالزينون «ليس له كيمياء ولا شكل، ولكن له فيزياء،» بحسب ما يقول تورين. ويقترح أن الزينون قد يدخل نفسه مباشرة إلى البروتينات ويؤثر في نقل الإشارة، وقد يفعل ذلك بتوفير مسارات أفضل من حيث الطاقة، تستغل الإلكترونات المفردة على طولها سحر الفيزياء الكميّة لتقفز من جزء من الجزيء إلى جزء آخر. وإذا ما استخدم الدواء المخدر تيارات إلكترونية كهذه، فيجب أن يظهر ذلك على شكل تغيرات في إحدى خصائص الإلكترونات تدعى بالدوران المغزلي Spin، وهي خاصية يمكن قياسها في الإلكترونات المفردة القافزة، لكن لا يمكن قياسها في الإلكترونات الموجودة المرتبطة ببعض بروابط كيميائية. وقد حصل ذلك عندما أفقد تورين وفريقه ذبابات الفاكهة وعيها بأدوية من ضمنها الزينون وأكسيد النيتروز والكلوروفورم، وقد وجدوا فعلا أن هناك زيادة في الدوران المغزلي للإلكترونات.
من الصعب معرفة الفائدة المرجوة من هذه القياسات العامة والمفتقرة إلى التفاصيل، ولكن تحدي تورين للمعرفة التقليدية لا يتوقف هناك. بل إنه يشير إلى أدلة تجريبية تدل على أن الأدوية المخدرة لا تستهدف الأغشية المشتبكية على الإطلاق، ولكنها بدلا من ذلك ترتبط ببروتينات غشائية في الميتوكوندريا، وهي العضيات التي تستخدمها الخلايا لإنتاج الطاقة. ويقول تورين: «ما هو الرابط بين الميتوكوندريا والوظيفة العصبية؟ لا أحد يعلم إجابة هذا السؤال، لكن الكنز المعرفي مدفون في هذه النقطة بالتحديد.»
مع ذلك، تلتزم النظرة السائدة بتفسير القنوات الأيونية المشتبكية –التي تدور إلى حد كبير حول فكرة أن جزيئات الأدوية المخدرة تؤثر فيها مباشرة، وليس عن طريق تأثيرها في بيئة ما في غشاء الخلية. ويبدو بالفعل أن بعض الأدوية المخدرة التي تُحقن في الوريد، والتي تعتبر من أكثر الأدوية المخدرة فعالية، ترتبط مباشرة بهذه القنوات الأيونية. ويعتبر نشاط هذه الأدوية حساسا بشكل كبير للشكل، فصورة المرآة لهذه الجزيئات لها فعالية مختلفة عن الجزيئات نفسها، مما يدلنا على اعتماد فعاليته على مبدأ القفل والمفتاح.
أفكار أثيرية
يقول ستوارت فورمان Stuart Forman، وهو طبيب تخدير في مستشفى ماساشوستس العام Massachusetts General Hospital في بوسطن إن هناك أدلة على أنه حتى الأدوية المخدرة المستنشقة ذات الجزيئات الصغيرة ترتبط مباشرة بالقنوات الأيونية. وأيضا، يقول عالم الأعصاب بيتر أورهيم Peter Århem من معهد كارولينسكا Karolinska Institute في ستوكهولم بالسويد، إن الحقيقة القائلة إن جزيئات الأدوية المخدرة تفضل البيئات الدهنية لا تعني بالضرورة أنها تتجه مباشرة إلى الأغشية كما تقترح بعض النظريات. بل إنها بدلا من ذلك ربما تلتصق بالفجوات الطاردة للماء والموجودة على البروتينات في القنوات الأيونية. ويتابع قائلا: «لكنني سأقبل أي تفسير أفضل بكل رحابة صدر.»
لذا، مهما كانت هذه الأفكار المبنية على الفيزياء مثيرة للاهتمام، فلا يزال أمامها مهمة شاقة إذا ما أرادت إقناع الكثير من الخبراء. وقد تعلّم فورمان أن يكون حذرا تجاه النظريات المبنية على الفيزياء الحيوية بدلا من الكيمياء الحيوية. وهنا يقول: «أدعوها بنظريات الزومبي؛ فلا يمكن للتجارب أن تبثّ فيها الحياة مهما حاولت، لكنها مع ذلك لا يمكن أن تموت بشكل نهائي.»
سواء أكانت نظريات زومبي أو لم تكن، فإن حل لغز التخدير يعتبر أكثر من مسألة أكاديمية بحتة؛ فأحيانا تكون هناك مضاعفات خطيرة (انظر مقال « التخدير العام: عندما تحصل الأخطاء في التخدير»). فنسبة الوفاة بسبب التخدير نادرة، لكنها مع ذلك أمر وارد، أما الآثار الجانبية الأقل خطورة فهي شائعة نسبيا. ومعرفتنا لما يحدث حقا يجب أن تتيح لنا أن نصمم أدوية أفضل. ويظن فورمان هنا أنه كلما زادت فعالية الجزيئات العاملة بآلية القفل والمفتاح كانت النتائج المرجوة أفضل وأفضل؛ وذلك لأنها يمكن تصميمها (لا يستطيع العلماء مثلا أن يعدلوا من آثار عوامل تخديرية من مثل الزينون). وليس هذا فحسب، بل إن هذه الأدوية الأقوى مفعولا يمكن استخدامها على جرعات أقل، ويمكنها أن تصيب أهدافها بشكل أسهل.
لم تحل هذه القضية بعد، ولكن النظريات الأخيرة يمكنها أن تزودنا بفرص للحد من الأذى المحتمل لهذه الأدوية. على الأقل، تبين لنا هذه النظريات كم نحن قادرون على الإبداع، بحيث أننا مجبرون على محاولة فهم مجريات الأمور التي تحصل عندما تنطفئ الأنوار في التخدير.