شقيقان من أوائل أبطال عصر المضادات الحيوية
بقلم: سام وونغ
ترجمة: د. عبدالرحمن سوالمه
عندما أنقذت شيراني سريسكاندان صندوقًا عمره 80 سنة يحتوي على عينات للعدوى، اكتشفت بذلك اثنين من العلماء الرواد المنسيين: ليونارد ودورا كولبروك Leonard and Dora Colebrook.
رسالة إلكترونية تحذيرية من شخص غريب وصلت إلى شيراني سريسكاندان Shiranee Sriskandan: مجموعة نادرة من البكتيريا العقدية (ستربتوكوكوس Streptococcus) على وشك التدمير. وكانت العينات موجودة في مبنى معدٍّ للهدم في مستشفى الملكة شارلوت Queen Charlotte’s Hospital بلندن، وإذا لم تنقذ العينات، فستندثر إلى الأبد. لم يكن لدى سريسكاندان أدنى فكرة عن الرحلة التاريخية التي كانت ستشرع فيها بعد هذا التحذير.
كانت السنة 1998، وكانت سريسكاندان (وهي طبيبة مختصة بالأمراض المُعْدِيَة، وبالأحياء الدقيقة) تدرس البكتيريا العقدية من المجموعة A group streptococci في الكلية الملكية بلندن Imperial College London.
وقد أثارت الرسالة التي أرسلها اختصاصي أحياء دقيقة متقاعد كلًّا من سريسكاندان وطالب الدكتوراه لديها، وسرعان ما انطلقا إلى مستشفى الملكة شارلوت. فقد سمح لهما عمال البناء بالدخول إلى المبنى المحاط بالألواح، والخالي إلا من صندوق ضخم جدًا من الورق المقوى.
لقد كان الصندوق مملوءاً بعلب عينات مكسورة وبعضِ الصناديق الأصغر. وتقول سريسكاندان: “استطعت رؤية البطاقات على العلب. كان يبدو أنها تشير إلى كائنات مُمرضة قد تكون خطورتها عالية”. لذلك ارتدت هي وطالبها ملابس واقية، واستخرجا ثلاثة أو أربعة صناديق سليمة، ووضعوها في حقيبة كبيرة للمواد البيولوجية الخطرة وتوجها إلى المخرج. وطلبا إلى بعض الخبراء أن يتخلصوا من البقية تخلصًا آمنًا.
وكانت هناك صناديق أصغر داخل تلك الصناديق تحتوي على نحو 1000 أمبولة زجاجية موسومة برموز.
ومن خلال المزيد من البحث في الصناديق، وجدت سريسكاندان بطاقات تمثل فهرسًا فيه أسماء المرضى (مثل: آدا وفلورنس) ومعها تواريخ تنتمي إلى ثلاثينات القرن الماضي. واحتوت كل بطاقة على رمز يطابق ذلك الموجود على الأمبولات، وكان فيها أيضًا مصدر جمع العينة، كأن تكون عينة من مزرعة دموية Blood culture مثلًا.
واستمرت سريسكاندان في التحري أكثر، فوجدت أن العينات التي أنقذتها كان ليونارد كولبروك Leonard Colebrook هو من جمعها، وليونارد كولبروك كان طبيبًا في مستشفى الملكة شارلوت في ثلاثينات القرن العشرين. وكان تركيز بحثه منصبًا على الإنتان النَّفَاسيّ Puerperal sepsis: العداوى التي تصاب بها الأمهات خلال عملية الولادة أو بعدها، وهو ما كان سببًا شائعًا للموت في ذلك الحين. ولم تكن سريسكاندان على علم بكولبروك، لكن اتضح أنه شخصية مميزة. فقد كان صديقًا لألكسندر فلمنغ Alexander Fleming، الذي اكتشف البنسلين في 1928. ولكن، ومع ذلك، فقد كان الدور المهم لكولبروك باعتبارها رائدا في مجال المضادات الحيوية منسيًا إلى حد كبير.
قبل عام 1930، كانت تموت 2000 امرأة كل سنة من الإنتان النفاسي في إنجلترا وويلز. وكان السبب الرئيس هو البكتيريا العقدية من المجموعة A، التي كانت أيضًا مسببة لالتهاب اللوزتين، والحمى القرمزية Scarlet fever. لكن الأطباء لم يمتلكوا حينها أسلحة يجابهون بها البكتيريا. وبعدها، في عام 1935، وقبل وعي العلماء لقدرات البنسلين، كان هناك اكتشاف مهم. فقد عمد العالم الألماني غرهارت دوماك Gerhard Domagk إلى إصابة 26 فأرًا بعدوى بالبكتيريا العقدية التي أخذها من مصدر بشري. وحقن 12 من هذه القوارض بجرعة واحدة من صبغة حمراء تدعى حمرة البرونتوزيل Prontosil red. وقد نجت جميع الفئران التي حقنت بالصبغة، وماتت جميع الفئران التي لم تحقن.
وبعد أن اكتشف كولبروك تقرير دوماك، أخذ الدواء وكرر التجربة. وقد نجحت التجربة، لكن بعض الفئران أظهرت أضرارًا بالكلية. ونتيجة لذلك، كان مترددًا في إعطاء الدواء لمرضاه، لكنه واجه مرة امرأة تموت ولم تكن لديه خيارات أخرى، فكان مجبرًا على أن يجرب الدواء. مع أن لون الفئران تحول إلى الزهري من هذه الصبغة، غير أن هذه المرأة تحول جلدها إلى الأزرق. لكن حرارتها عادت إلى المستوى الطبيعي خلال ليلة واحدة، واختفت البكتيريا المؤذية من دمها وعاد لونها طبيعيًا. وذكر كولبروك بعدها أنه “فجأة ومن دون إنذار، كان هناك تغير مفاجئ ومثير للرضا إلى أبعد الحدود”.
وبحلول أغسطس 1936، كان قد حقن 64 امرأة بالبرونتوزيل. في السنوات الخمس التي سبقت استخدامه للدواء، كان معدل الوفيات لدى مريضاته المصابات بالإنتان النفاسي واحدة من كل 4. أما بعد استخدام البرونتوزيل، فقد انخفض ذلك المعدل بسرعة إلى واحدة من كل 20. وكانت دراسة كولبروك الدراسة الأولى التي أجريت على مضاد حيوي. وكانت أمرًا ذا أهمية بالغة. وبعدها بسنة، اكتشف علماء فرنسيون أن البرونتوزيل كان يتكسر في الجسم إلى مركب أبسط، وهو السلفوناميد Sulfonamide، الذي كان يعالج العدوى. وبعدها كرر كولبروك دراسته باستخدام السلفوناميد، ووجد أن له الأثر نفسه. وبعدها بقليل صُنِّع السلفوناميد بكميات كبيرة، سابقًا بذلك استخدام البنسلين بعَقد من الزمن. وقد استخدم السلفوناميد بشكل واسع خلال الحرب العالمية الثانية لمنع وعلاج عداوى الجروح، منقذًا عددًا لا يحصى من الأشخاص من الموت.
فوجئت سريسكاندان بسبب اكتشافها التاريخ الطبي للعينات التي أنقذتها، وخطرت لها فكرة من ذلك؛ فباستخدام التقنيات الحديثة، حاولت أن تعيد استزراع البكتيريا العقدية من الأمبولات. وكان معظمها ميتًا، لكنها نجحت في استزراع نحو 10 عينات.
وبدت اثنتان من العينات مختلفتين عن أي بكتيريا من العقديات التي رأتها سريسكاندان في حياتها: كانت المحفظة Capsule المحيطة بالبكتيريا أكبر بكثير من المعتاد. وقد ظنت أن هاتين العينتين لا بد أن تكونا من الشخص نفسه، لكن البطاقات أظهرت غير ذلك؛ فقد كانت العينتان من امرأتين مختلفتين، وأُخذت العينتان بفارق ثلاثة أسابيع بين الأولى والثانية. لكن الأمر لم يكن محض مصادفة؛ فقد بيّن التحليل الجيني للبكتيريا أن الحالتين مرتبطتان.
كانت سريسكاندان متحمسة لأنها تتبعت تقدمًا لمرض تفشى قبل 80 سنة. لكن اللغز الذي حلته باستخدام التقنيات الجينية الحديثة كان قد حُلّ قبلها في عام 1935؛ وكانت دورا Dora أخت ليونارد كولبروك، عالمة في مستشفى الملكة شارلوت، قد استخدمت طريقةً أكثر أساسيةً ودقة، لتجد الروابط بين الحالتين.
كانت دورا كولبروك تتحرى مسألة كيفية انتقال العداوى بالبكتيريا العقدية في المستشفى، ولذلك جمعت، بدقة شديدة، عينات عن طريق أخذ مسحات من المرضى، وعائلاتهم، وطاقم العمل في المستشفى. ومن أجل معرفة أي أنواع البكتيريا كانت مرتبطة، استزرعت دورا البكتيريا في المسوح التي أخذتها، ثم قامت بغلي المزارع البكتيرية هذه، وبعد أن بردت حقنتها في أرانب حتى تنتج أجسامًا مضادة لهذه السلالة من البكتيريا بالتحديد. وبعدها استخلصت هذه الأجسام المضادة، ووضعتها مع بكتيريا من مسوح أخرى، حتى إذا ما تفاعلت الأجسام المضادة، استنتجت أن نوعي البكتيريا يجب أن يكونا متشابهين.
وأوضح عمل كولبروك للمجتمع الطبي أن العقديات من المجموعة A التي تهدد حياة النساء حول فترة الولادة موجودةٌ بين عامة الناس، وتسبب التهابات الحلق لديهم. وهنا تقول سريسكاندان: “ليس هذا نوعًا خاصًا من البكتيريا، ولذلك يشكل الأشخاص المصابون بعداوى في السبيل التنفسي بسبب البكتيريا العقدية من المجموعة A خطرًا على النساء اللاتي ولدن حديثا”.
شددت دورا كولبروك على أهمية ارتداء أقنعة وقفازات في مجال طب التوليد، وعلى أهمية معدات التعقيم، وكذلك على أهمية غسل اليدين وعزل الأشخاص المصابين بالعدوى. ومع ذلك، لم تكن دورا كولبروك أول من أدرك مقدار الخطر الذي يشكله الطاقم الطبي نفسه على المرضى، لكن الكثير كانوا لا يزالون يعتقدون أن النساء كن يحملن البكتيريا قبل الولادة، وأن تنظيف قناة الولادة قد يمنع الإصابة بالمرض. أما كولبروك، فقد أظهرت أن البكتيريا تُكتسب بعد الولادة، وليس قبل ذلك.
إعادة اختراع العجلة
حتى الآن، غالبًا ما يكون على الطواقم الطبية أن يعيدوا تعلم هذه الدروس. ففي عام 2011 توفيت والدتان في المملكة المتحدة بعد تفشٍ للبكتيريا العقدية من المجموعة A، وكانت سريسكاندان جزءًا من فريق نشر توجيهات لمنع عدوى كهذه في المستشفيات. “أحسست أننا نعيد اختراع العجلة؛ لأن النصيحة بعزل المرضى المصابين بالبكتيريا العقدية، وأهمية قواعد النظافة، عرفناها بفضل دورا كولبروك”.
كانت البكتيريا الآتية لثلاثينات القرن العشرين والتي أنقذتها سريسكاندان خير شاهد على المرحلة المفصلية في تاريخ الطب. والمضادات الحيوية الأولى، التي كان ليونارد كولبروك أول رائد في هذا المجال، وكذلك ترسيخ القواعد الجيدة للنظافة، بفضل دورا كولبروك، ساعدت على تحويل العداوى البكتيرية من رعب مميت إلى مرض قابل للشفاء.
أما ليونارد كولبروك فقد اختفى اختفاءً غير عادل في ظلمات النسيان، في حين تقدم صديقه فلمنغ ليدوَّن اسمه في كتب التاريخ. فقد كانت المصادفة بجانبه، وهو ما استغله أرباب عمله بشكل كبير لجمع التبرعات والجهود المتعلقة بالعلاقات العامة. أما كولبروك، فقد كان أكثر تواضعًا في المجمل، واعتاد أن يقول: “ يجب ألا يُعزى الفضل أبدًا إلى أيٍّ كان؛ فالأبحاث الطبية هي بمنزلة إكمال بناء الجدار؛ جل ما تفعله هو أن تضيف عملك إلى العمل الذي أتمه الآخرون قبلك. وإذا كنتَ محظوظًا… فقد تحصل على امتياز عن غيرك في أن تضيف لَبِنَة كاملة. آمل أن أكون وُفقت إلى إضافة القليل من الملاط بين اللبِنات. وسيكون الزمن هو الحكم الذي يقرر ما إذا كان هذا الملاط سيصمد في مكانه أم لا”.
وكان ما توقع، صمد هذا الملاط في مكانه، بل إن عيناته التي أُنقذت من كرة الهدم في مستشفى الملكة شارلوت ساعدت سريسكاندان على اكتشاف أفكار وتبصرات في التطور طويل الأمد الذي خضعت له البكتيريا العقدية من المجموعة A، وهي معرفة مهمة جدا في الجهود الحالية الساعية إلى تطوير لقاح ضدها.
سام وونغ Sam Wong محرر في نيوساينتيست.