داخل المعرفة: ما الذي يفصِل الحقائق عن المعتقدات؟
بقلم: ريتشارد ويب
ترجمة: آية علي
إنه منتصف النهار، وأنت تنظر إلى ساعةٍ تشير إلى الثانية عشرة. لكن يصعب حقا تحديد ما إذا كنتَ تعرفُ الوقت حقّا، أم إنك فقط تعتقد ذلك.
لقد ربحتُ اليانصيب. لم أتحقّق من أرقامي بعد، ولكنني أعرف ذلك فقط. أنت تعلم كيف يكون عليه الأمر عندما تعرفُ فقط إنك تعرف. فالمعرفة مفهومٌ مراوغ: ما نعرفه، وكيف نعرف أننا نعرفه، وما نعرفه عمّا يعرفه الآخرون، وما يعرفه الآخرون عمّا نعرفه، وكيف يختلف ما نعرفه نحن أو هم عمّا نَعتقدُه فقط. ربّما سوف تجادل في أنني لا أستطيع معرفة أنني قد ربحت اليانصيب حتى أرى الأرقام، وأنني أستطيع اعتقاد ذلك فقط. ولكن كيف تعرفُ هذا؟ يشقّ معظمنا طريقه في الحياة دون إمعان النظر فيما وراء نظرية المعرفة: الإبيستيمولوجيا. “إننا نتعامل مع الأمر بصورةٍ حسّية، وليس علينا التفكير أو الحساب،” وفقا لما تقوله جينيفر ناجِل Jennifer Nagel، الفيلسوفة من جامعة تورنتو University of Toronto بكندا ومؤلفة كتاب المعرفة: مقدمة قصيرة جدا Knowledge: A very short introduction. لكنّ المعرفة تستحق مُعاينة أعمق. كبداية، تُعدّ الدرجة التي نعرف بها الأشياء، ونعرف ما يعرفه الآخرون، هي ما يفصل البشر تقريبا عن أيّ شيء آخر على الكوكب؛ من الصخور إلى الشمبانزي. وهي بالتأكيد مصدر تسهيل جميع التفاعلات البشريّة. وتقول ناجل: “يمكننا التعاون والتواصل والتنافس بشكل أفضل فإذا كنَا نعرف ما يعرفه وما لا يعرفه الآخرون. ويمكن لتتبّع حالة المعرفة أن يساعدك أثناء الجدال، وأن يقوّيك على مواجهة المغالطات.” ومع ذلك، فإن تحديد العملة الأساسية للمعرفة أمر صعب للغاية. فلِمعرفة شيء ما، يجب عليكَ أولا اعتقاده، ولكنّ هذا لا يكفي: إذ يجب أن يكون ذلك الاعتقاد أيضا صحيحا إذا ما أردت صنع معرفة حقيقية. تقول ناجل: “إن هذا هو الشيء الوحيد الذي نسعدُ جميعا بتقبّله.” لكنّ “الاعتقاد الصحيح” غير كاف. فقد يكون الاعتقاد صحيحا فقط عن طريق الصدفة، أو قد نصل إلى إجابة صحيحة عبر طريق خاطئ. لذا، فقد أضاف الإبيستيمولوجيون بشكل تقليدي شرطا آخر، لكي يصبح الاعتقاد الصحيح معرفة، ألا وهو: يجب أيضا أن يكون مبرّرا بطريقةٍ ما. وفي مثال اليانصيب فإن الدليل الإدراكي للأرقام الموجودة على تذكرة اليانصيب خاصّتي، إضافة إلى دليل الشهادة Testimonial evidence لمذيع يقرأ الأرقام الفائزة مثلا، يخلقان المعرفة الاستنتاجية بأنني قد فزت، أو لم أفز.
أوقف السّاعات
كان مفهوم المعرفة كاعتقادٍ صحيحٍ مُبرَّر هو المسيطر لفترة طويلة. لكنّ الفيلسوف الأمريكي إدموند جيتييه Edmund Gettier طرح مثالين مضادّين مدمّرَين في ورقة قصيرة نُشِرت في عام 1963. ومثال على “مشكلة جيتييه” Gettier problem هو شخص يلقي نظرة خاطفة على ساعة تشير إلى الثانية عشرة في منتصف النهار. وحقيقة الأمر هي أن الساعة التي عادة ما تكون موثوق بها قد تعطّلت، وهي تُظهر الوقت الصحيح عن طريق الصدفة فقط. ولكن الشخص الذي نظر إلى الساعة يعتقد أنه في منتصف النهار، وقد صادف أن يكون هذا الاعتقاد صحيحا، إذ زوّدته الساعة المتعطّلة بالتبرير المطلوب. لكن الحقيقة هي ألاّ أحد يعرف أنه منتصف النهار، هم يعتقدون فقط أنهم يعرفون. ومنذ ذلك الوقت، تُبذَل المحاولات المختلفة في سبيل تشييد معايير التبرير لتجنّب هذه المشكلة، وتقديم تعريف للمعرفة يستطيع الجميع الاتّفاق عليه. لكن أحدا لم يستطع فعل ذلك بعد. وتقول ناجل: “إنه سؤال غريب نوعا ما.” لكن الجواب في النهاية قد لا يكون هو الموضوع. فكل هذه التحقيقات المعرفيّة توجّهنا إلى حقيقة واحدة نحن معتادون على نسيانها، ألا وهي أن معرفة شيء ما هي أكثر ثراء وتعقيدا من مجرّد اعتقاده. إن القدرة على التمييز بين الحقيقة والرأي والتشكيك باستمرار فيما يسمىّ “المعرفة” هما أمران حيويّان للتقدم البشري، وشيئان لا نستطيع تحمّل تكلفة فقدانه. تقول ناجل: “إنّ معرفة شيء ما هي حالة ذهنية تجعلك تدرك الحقيقة.” (انظر: كيف نفرّق بين الحقيقة والكذب؟)
“إن معرفة شيء ما هي حالة ذهنية تُطبق على الحقيقة،” كما تقول ناجل. لكن ماهية ذلك “الإطباق” هي –حسنا- ما لانعرفه حقا.