الخلاص العذب: وقف انقراض أزهار الأوركيد أكلاً
بقلم: ستيفاني بين
ترجمة: أماني عبدالملك
إن الإقبال المتزايد على المثلجات والكعك والمشروبات يهدد بالقضاء على بعض الأوركيدات. اكتشف كيفية استطاعتنا إنقاذ أجمل زهرة في العالم
ما الذي يجمع بين مشروب ساخن كان يباع في شوارع لندن، والمثلجات التركية التقليدية وكعكة بنيّة طرية تكاد تصبح الوجبة الخفيفة المفضلة في زامبيا؟ الأوركيد، فالمكون الرئيسي لجميعها يُصنع عن طريق سحق درنات أكثر نباتات العالم غرائبية.
نَحّى الشاي والقهوة منافسهما المصنوع من الأوركيد في إنجلترا منذ قرون. أما في تركيا وزامبيا، فإن الطلب على الدرنات في ارتفاع تحركه طبقة وسطى متمدنة، في ازدهار متزايد من متذوقي الأطعمة التقليدية. لكن هناك جانبا مظلما لهذا الإقبال المتزايد على الأطعمة التقليدية؛ فالدرنات التي تكوّنها مأخوذة بشكل غير قانوني من البرية. ويقول هيوغو دي بوير Hugo de Boer، عالم نباتات من جامعة أبسالا Uppsala University في السويد: “إن عملية جمعها لاهوادة فيها، فقد وصلت إلى حد اختفت معه مجتمعات كاملة، وأخرى غيرها في طريقها إلى التلاشي.”
لقرونٍ عديدة تمتع الناس في تركيا وإمبراطوريتها السابقة بمشروب وحلويات ومثلجات مطاطية تذوب في الفم ببطء مصنوعة من السحلب، وهو دقيق يُصنع بطحن درنات الأوركيد (الأزهار السحلبية) من نوع الفراشة والنحل وقريباتها.
وفي أوج الإمبراطورية العثمانية وصلت شعبية الشراب الدافئ القشدي المصنوع من السحلب إلى إنجلترا وألمانيا.
ولا يزال الباعة المتجولون يبيعونه في المدن اليونانية في الشتاء، لكن استهلاك تركيا للمشروب والدندرمة-المثلجات التقليدية الأصيلة- يُشكِّل الخطر الأكبر على الأوركيد في المنطقة. يقول دي بوير: “لقد قفز الاستهلاك بالفعل في العقد الماضي.”
أما في بعض المناطق في شرق إفريقيا فقد أكل الناس درنات الأوركيد أثناء الأزمات وليس كطيبات. فقد حوّل شعب بمبا في شمال شرق زامبيا هذا الطعام المرتبط بالمجاعة إلى عادة غذائية على هيئة “تشيكاندا”، وهي كعكة مالحة طرية تُصنع بغلي دقيق الأوركيد ودقيق الفول السوداني ورماد ومن ثم خبز الخليط حتى يغلظ. وبينما كانت تعد بديلاً لذيذاً ورخيصاً للّحم، تعتبر التشيكاندا اليوم جزءاً من تراث المطبخ الزامبي. يقول دي بوير: “ظننا أن الاستهلاك سيقل حين يصبح الناس أكثر رخاءً ولكن حصل العكس.” وتتوفر التشيكاندا الآن في المدن والبلدات في أرجاء الدولة، وتباع القطعة في الأسواق وفي مطاعم المدينة الكبرى ممثلةً “طعم إفريقيا”، حتى إنها متوفرة في محلات البقالة.
إن الارتفاع المفاجئ في الطلب على هذه المنتجات حوّل جمع الدرنات المحدود إلى تجارة مزدهرة بشبكات منظمة من الوسطاء الذين يعرضون مبالغ نقدية مقابل الدرنات. فقد كانت النتائج كارثية بالنسبة إلى الأوركيد. يقول عالم النبات عبدالباسط غرباني من أبسالا : “يقوم الجامعون بنبشها برَفَشٍ أو مجرف، ثم يأخذون الدرنة الغضّة ويرمون النبتة.” إن أرقام الحصاد صاعقة، فيمكن أن يتطلب إنتاج كيلو من السحلب ما بين 1000 إلى 4000 درنة. ويُحصد ما يقدر بـ 30 طنا من الدرنات من 38 نوعا كل عام في تركيا. وقد اضطر التجار إلى اللجوء إلى إيران المجاورة لسد النقص حيث باتت العديد من نباتات الأوركيد نادرة أو منقرضة في المنطقة. وقدّر غرباني أنه تم جمع ما بين 7 إلى 11 مليون درنة من الأوركيد، تنتمي إلى 19 نوعا أو نوعا فرعيا، وفي شمال إيران في عام 2013 صدّر معظمها إلى تركيا. وأدى انتعاش الاهتمام بها، مقترناً بالأزمة الاقتصادية، في اليونان كذلك إلى الارتفاع في حصاد الدرنات. ويقول غرباني : “إن الحصاد في ازدياد في أرجاء المنطقة بكاملها وسيستمر على ذلك. إذا لم يُفعل شيء لإيقافه فإن جميع الدرنات ستختفي.”
إن الوضع هو ذاته في زامبيا، حيث يستهدف الجامعون ما يصل إلى 80 نوعا مختلفا من أزهار الأوركيد، معظمها من فصيلة ديسا Disa وهابناريا Habenaria وساتيريوم Satyrium ذات الدرنات الكبيرة الغنية بالنشا. وتقول روث بون، وهي تعمل اختصاصية لحماية البيئة في الحدائق النباتية الملكية في كيو- لندن: “يشتكي أصحاب الأراضي من أن المروج الغنية بالأوركيد باتت شبه جرداء.” وأدت زيادة الطلب إلى ازدياد التجارة من أنغولا، وجمهورية كونغو الديمقراطية وموزمبيق ومالاوي، لكن مصدر حركة التهريب الأكبر في الدرنات هو تنزانيا، فقد تم تهريب ما يقارب 3.5 مليون درنة منها بشكل غير قانوني عبر الحدود في عام 2014.
يهدد الحصاد من مرتفعات تنزانيا الجنوبية ما يصل إلى 85 نوعا بعضها غير موجود في أماكن أخرى. ويشيع الحصاد حتى داخل حديقة كيتولو الوطنية Kitulo National Park المُشيَّدة خصيصاً لحماية الأوركيد.
إذن، كيف يُمنع أكل هذه النباتات بشكل سيتسبب بانقراضها؟ هناك أصلاً قوانين لحماية الأوركيد، وبموجب اتفاقية التجارة العالمية بأنواع الحيوانات والنباتات المهددة بالانقراض Convention on International Trade in Endangered Species (سايتس)، فإن استيراد وتصدير أي زهرة أوركيد أو منتجاتها من دون تصريح أمر غير قانوني.
ولكن تطبيق القانون صعب مع محدودية الموارد. كما تعيق صعوبة تحديد أنواعها محاولة تضييق الخناق على التجارة غير القانونية. تمتلك الدرنات القليل من العلامات الفارقة التي تقل أكثر حينما تجفف وتقطع. لذا ما هي فرص إثبات أن كيسا من الدقيق أو قطعة من التشيكاندا يحتوي على الأوركيد، فما بالك بتحديد نوعها؟ يرى دي بوير وزملاؤه في أبسالا أن الجواب يكمن في الجودة العالية- بشكل يثير الدهشة- لهذا الدقيق. ويقول غرباني: “بإمكاننا عزل الحمض النووي DNA للأوركيد من الدرنات المحولة إلى دقيق، وقد حصلنا عليه حتى من عينات مثلجات ومشروبات ساخنة وتشيكاندا.” وباستخدام تقنية ترميز تعرف بالترميز التلوي Metabarcoding فبإمكان الفريق سَلسَلة جميع جزيئات الحمض النووي في عينة ما ومقارنتها بالحمض النووي لأصناف أزهار أوركيد معروفة إلى أن يجدوا ما يطابقها. يقول غرباني: “يمكن للترميز أن يبين أيّا من الأصناف يشيع جمعها، ويساعد على تعقب تلك الأصناف تجارياً. وتمكننا سلسلة الحمض النووي كذلك من رصد الاختلافات الجينية الصغيرة التي تساعد على تحديد منطقة المنشأ، وذلك بدوره يمكن أن يساعد على تحديد الأماكن التي علينا تركيز جهودنا في حمايتها.”
مكونات بديلة
إحدى الاستراتيجيات الأخرى هي تقليل الطلب. ويمكن استبدال بعض الخواص التي تنسب إلى الأوركيد بمكونات أخرى. فيمكن استبدال الغلوكومانان-متعدد السكريات المسؤول عن الخاصية المطاطة للدندرمة ونقطة انصهارها العالية، وقوام التشيكاندا الإسفنجي، بغلوكومانان مُصنّع أو صمغ الغوار. وحيثما يستخدم دقيق الأوركيد كعامل تثخين، فإن طحين الأرز ونشا الذرة وأنواع الدقيق المصنوعة من جذور أخرى تعمل بالطريقة نفسها.
وعلى الرغم من أن مطابقة النكهة الترابية لدرنات أزهار الأوركيد أكثر صعوبة، فإنه غالبا تطغى عليها نكهات أخرى. فتكثر نكهة القرفة والهيل في المشروبات الساخنة المصنوعة من السحلب، أما التشيكاندا فيطغى عليها طعم الفول السوداني وتقدّم عموما مع صلصة حارة.
ويستخدم مصنعو المثلجات في تركيا هذه البدائل أصلأً أكثر من السحلب الأصلي. ولكن المكانة المرتبطة بالسلع المصنوعة “من المكون الأصلي” تستمر في دفع الطلب على الدرنات البرية. ربما يكون الاعتزاز بالتشيكاندا الأصلية في زامبيا أكثر رسوخاً. وتقول بون: “لانعلم الكثير عن مكانتها الثقافية. ربما ترجع شعبيتها إلى ما هو أكثر من مجرد قوامها ونكهتها.” سيخفف الإنتاج التجاري الضغط على الأوركيد البرية كذلك. ولكن ذلك ليس سهلاً. كانت هناك بعض المحاولات لزراعة أزهار الأوركيد الزراعة النسيجية Tissue Culture، ومع ذلك لم يصل أي منها إلى السوق حتى الآن. أما في زامبيا ، فهناك حاجة إلى مقاربة مختلفة. فيحصل ما يصل إلى %80 من الأسر في منطقة مروج الأوركيد في الدولة على دخلهم عن طريق جمع الدرنات، وهو عمل تقوم به النساء والأطفال على الأغلب. وتناقص مجتمعات الأوركيد يعني أن عليهم السفر إلى مسافات أبعد والمخاطرة بشكل أكبر في عبور الحدود الوطنية والتعدي على المحميات. وتقول بون: “إنهم من أكثر الناس فقراً في العالم وعلينا حماية دخلهم إذا أردنا حماية الأوركيد.”
في الصيف الماضي بدأت بون مع فريق من زامبيا وأبسالا وجنوب إفريقيا والمملكة المتحدة مشروعاً استكشافياً لحماية الأوركيد للتشيكاندا. فهم يقومون بتتبع الحركة التجارية للدرنات بمساعدة ترميز الحمض النووي، ويرفعون وعي المستهلكين بمصادر وجبتهم الخفيفة المفضلة بالضرر الذي يسببه الحصاد، ويقومون بتطوير برامج الحماية مع السكان المحليين. ولكن الهدف الأساسي لمشروعهم هو تحويل الجامعين إلى بستانيين.
وتقول بون: “بزراعة محصولهن الخاص من الأوركيد سيتوفر للنساء مصدر دخل يستطعن الاعتماد عليه بشكل أكبر، من غيرالمخاطرة بسلامتهن ومن غير إخراج أبنائهن من المدرسة.”
مع ذلك ليست زراعة الأوركيد ببساطة زراعة البطاطا. وينتج المزارعون التجاريون النباتات بكميات كبيرة من الزراعة النسيجية المعززة بالمواد الغذائية التي يحتاجون إلى زراعتها. تحتاج أولاً إلى معرفة ما تتطلبه أزهار الأوركيد للتشيكاندا قبل زراعتها (انظر: شركاء من الفطريات). وما يجعل المهمة أكثر صعوبة هو أن لكل نوع متطلباته الخاصة.
في كيو، يعمل جوناثان كيندون Jonathan Kendon وزملاؤه في جامعة كوبربلت في كيتوي-زامبيا على معرفة ما يتطلب الأمر لدفع بذور أزهار الأوركيد البرية إلى النمو في مزرعة، وكيفية تحويل نباتات صغيرة استنبتت في مختبر إلى نباتات صحية وقوية. إذا ثبت أن بعض الأصناف أكثر ملاءمة من غيرها لحدائق القرى -بسبب سهولة زرعها أو كونها أسرع إثماراً- فإن مشاتل الجامعة ستزرعها بالجملة للتوزيع. ولكن في النهاية ستحتاج المجتمعات المحلية إلى الاعتماد على ذاتها وتجميع بذورها الخاصة وتكاثرها في مشاتل بسيطة التقنية وتربية درنات في ظروف متفاوتة. يقول كندون: “إنها قفزة كبيرة من مشاتل الجامعة إلى حديقة القرية.” ولكن الفائدة المحتملة هائلة. لن تكون الخبرة المكتسبة حديثاً ذات قيمة عالية في زامبيا فحسب بل حيثما تحصد أزهار الأوركيد من البرية.
إذا قام السكان المحليون بزراعة الأوركيد محليا، فسيربح الجميع: يحصل المستهلكون على المكونات الأصلية وتستطيع الأسر القروية كسب مال إضافي من الأزهار بالإضافة إلى الدرنات. أما الفائز الأكبر، فسيكون الأوركيد.
شركاء من الفطريات
تميل الأوركيد إلى كونها متطلبة فيما يخص الظروف التي تحتاج إليها، لذا يندر العديد منها، ولهذا أيضا يشكّل إكثارها تحدياً كبيراً. لكن ذلك ليس كل ما في الأمر. ففي البرية تحتاج الأوركيد إلى خدمات الفطريات التي تحفز الإنبات وتغذي البذور إلى أن تتمكن من الاعتماد على نفسها بالبناء الضوئي.
اكتشف كاز يوكويا Kaz Yokoya من الحدائق النباتية الملكية في كيو-لندن أثناء مشروع لحفظ أوركيدات نادرة من مدغشقر أن بعض الأوركيد تؤسس شراكات مع مجموعة مختلفة من الفطريات، في حين ترتبط أخرى بنوع واحد. ووجد أيضاُ أن بعض الأوركيدات تحتاج إلى فطريات مختلفة في المراحل المتنوعة من تطورها.
يقوم يوكويا الآن بعزل الفطريات وتحديدها في جذور العديد من أصناف الأوركيد التي تُستخدم في الطبق الزامبي التقليدي المسمى شيكاندا. وعند انتهائه سيقوم بفحص تركيبة الأوركيد والفطريات ليرى أيها يدخل في شراكة متبادلة النفع. فهذه المعرفة أساسية للنجاح المستقبلي لحدائق الأوركيد في القرى (انظر: المقالة الرئيسية) يقول يوكويا: “تستطيع زراعة الأوركيد من غير الفطريات ووضعها في الخارج وستنمو ولكنها لن تكّون مجتمعا إلا بوجود الفطريات.”