صراعات داخلية: كيف يمكن لنا أن نُكوّن صداقة مع البكتيريا الضارة
بقلم: درو سميث
ترجمة: صفاء كنج
عندما نُبيد البكتيريا الضارة بالمضادات الحيوية، تموت البكتيريا النافعة خلال هذه العملية بنيران صديقة، وهو ما يمهد للإصابة بالسمنة وداء السكري. ولكن هناك طريقة بديلة يمكن اتباعها.
أنت الآن موطن لـ10000 نوع من البكتيريا. والغالبية العظمى منها -نحو %99 – لا تتسبب لك بأي أذى. بل إن العديد منها يساعدك على الحصول على المُغذيات، وضبط جهازك المناعي، وموازنة الاستقلاب عندك، ومنع الاضطرابات المزاجية. وبكلمات أخرى، أنت تعتمد على هذه الجراثيم.
لكن كما سيشهد أي شخص أصيب بتوعك في بطنه بعد تناول المضادات الحيوية، فإننا حينما نستهدف الأقلية الضارة من البكتيريا المسببة للمرض، فإننا في العادة ننتهي بقتل الأنواع الحميدة أيضا. والآن، وبعد مرور أجيال على وصف الأطباء المضادات الحيوية للأمراض وصفا زائدا على حده، نعلم أن الأضرار الجانبية أكبر بكثير من مسألة توعك في البطن.
قد يكون للإبادة الجماعية للبكتيريا من دون تمييز دورٌ في زيادة معدلات الربو والحساسية والسمنة والكثير من الأمراض الأخرى. فقد كانت هذه الآثار، هي وتزايد التهديد الناجم عن مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، ما دفع بعض الباحثين إلى تأييد فكرة إحداث كمّ هائل من التغييرات فيما يتعلق بالحرب على الجراثيم. وبعد 70 سنة من الصراع لإبادة البكتيريا الضارة بالكامل، قد يكون الوقت قد حان لإعلان هدنة؛ فإذا كان باستطاعتنا نزع سلاح البكتيريا الضارة دون قتلها، قد يكون بإمكاننا أن نقلل من مقاومتها للمضادات الحيوية، وأن نزيح العبء عن كاهل هذه الأدوية التي استخدمت بشكل مفرط، وأن نترك البكتيريا الحميدة بحالها. ولا يقتصر الأمر على هذه الفوائد، بل إن القيام بذلك قد يعني إحياء بعض الاستراتيجيات القديمة. وإذا كان ما يميز القرن العشرين هو قدرتنا على قتل الجراثيم الضارة، فإن القرن الحادي والعشرين سيصير معروفا بأنه العصر الذي تعلمنا فيه أن نتعايش معا. في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، كانت الأدلة العلمية التي تشير إلى أن البكتيريا تسبب الأمراض هي ما بدأ حربا مئوية الأعوام ضد البكتيريا؛ فقد منعناها عن مائنا وطعامنا ومنازلنا باستخدامنا للمطهرات، وحفزنا أجهزتنا المناعية ضدها باستخدامنا اللقاحات، وأبَدْناها بالكامل باستخدام البنسلين والأسلحة الكيماوية الأخرى. انخفضت معدلات وفيات البشر بسبب الأمراض المعدية بما يزيد على %90، وهو ما أسهم في تحول واسع النطاق في المجتمع. فإننا نأخذ طول أعمارنا وتخلصنا من الطاعون والعدوى كأمر مسّلم به، ولكن لم تكن هذه هي الحال عبر التاريخ البشري.
وهذه الحرية تأتي مقابل ثمن؛ إذ إن تخليصنا أنفسنا من هذه الجراثيم قد ساعد على زيادة اضطرابات الجهاز المناعي والاستقلاب وحتى الاضطرابات الذهنية. ويمكن تشبيه تناول جرعة واحدة من المضادات الحيوية بقذف قنبلة الرائحة الكريهة في نفق مشاة؛ صحيح أن المجرمين سيهربون، ولكن المواطنين الآخرين سيهربون أيضا. وتبقى الجرذان والصراصير، غير متأثرة بالرائحة الكريهة.
وقد يصير هؤلاء الذي بقوا على قيد الحياة مقاومين لأسلحتنا. ولذلك، يموت في الولايات المتحدة وحدها كل عام 23 ألف شخص من عدوى ببكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية، كما تتزايد يوما بعد يوم التصريحات التي نرى فيها إنذارات بقرب حدوث كارثة تتعلق بالبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية -وهي بكتيريا تهاجم كبار السن والمرضى بشكل أساس- ولكن من الواضح أن الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية يزيد من المقاومة، ونحن الآن في مرحلة نفتقد فيها إلى البدائل فقدانا مقلقا.
إذا كان لنا أن نعالج الأمراض المعدية دون قتل البكتيريا، فلا حاجة إلى البكتيريا حتى تطور مقاومة لمضاداتنا الحيوية. وهذه الاستراتيجية -المعروفة بالعلاج المقاوم للفتك Anti-virulence therapy- تزودنا بأدوية بديلة. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن هذه الاستراتيجية يمكنها أن تساعدنا على استعادة فعالية المضادات الحيوية عندما نحتاج إليها. يقول براد سبيلبيرغ Brad Spellberg، اختصاصي الأمراض المعدية من جامعة سوثورن كاليفورنيا University of Southern California: “إذا لم نلجأ إلى المضادات الحيوية عند كل عدوى تصيبنا، يمكننا أن نستمر باستخدامها فترة أطول.”
إذن كيف يمكن لنا القيام بذلك؟ تكمن الفكرة في إيقاف البكتيريا التي تسيء التصرف. وقبل أن يصير بإمكان الجراثيم السيئة التسبب بالعدوى، فإنها تحتاج إلى أن تمكث في أماكن هي غير مرغوبة بها فيها، فإذا لم تستطع تثبيت أقدامها هناك، فلن يكون بإمكانها غزو الجسم.
يبدو أن هذه الاستراتيجية واعدة في علاج عداوى المسالك البولية، والتي تعتبر شائعة في النساء. وأغلب هذه العدوى تسببها بكتيريا الإيشيريشيا كولاي (الإشريكية القولونية) Escherichia coli التي تستخدم زوائدها الشعيرية للارتباط بالكربوهيدرات على أسطح الخلايا. ولكن الباحثين الآن وجدوا أنهم إن أعطوا الناس كربوهيدرات مشابهة لتلك الموجودة على الخلايا طبيعيا، فإنه يمكنها أن تعمل كطُعْم للبكتيريا. وترتبط بكتيريا أي. كولاي بهذه الطُّعْم ولا ترتبط بأسطح الخلايا. ومن ثم، تخرج عندما يتبول المرء. وفي تجربة صغيرة أجريت على النساء اللاتي يعانين التهابات المسالك البولية بشكل متكرر، أعطيت النساء كربوهيدرات بسيطة من نوع دي-مانّوز D-Mannose، وكانت النتيجة أن %15 منهن فقط ظهرت لديهن عدوى في المسالك البولية خلال فترة 6 أشهر، مقارنة بنسبة %20 من اللاتي عولجن بالمضادات الحيوية، و%61 من النساء اللاتي أخذن علاجا غُفلا Placebo. وفي تجربة أخرى، شربت النساء محلولا يحتوي على الدي-مانّوز، وكانت النتيجة أنهن لم يصبن بأي عدوى في المسالك البولية لأكثر من ستة أشهر في المعدل، مقارنة بـ 52 يوما لأولئك اللاتي أعطين المضادات الحيوية.
كما وجد القائمون على التجربة، دانييل بورو Daniele Porru وزملاؤه في مؤسسة سان ماتيو San Matteo Foundation in في بافيا بإيطاليا، أن المضادات الحيوية صارت أكثر فعالية في النساء اللاتي عولجن في البداية بالدي-مانوز. ولمّا كانت البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية في العادة أقل قدرة على التلاؤم من البكتيريا الحساسة للمضادات الحيوية، فإن الجراثيم العادية، في غياب المضادات الحيوية، تتغلب على تلك المقاوِمة في الحصول على الموارد، وتتفوق عليها عدديا. وهذا يعني أنك عندما تحتاج إلى المضادات الحيوية، فإنها غالبا ما تعمل بسبب أن معظم البكتيريا هي من الصنف الحساس للمضادات الحيوية. وعندما فحص الباحثون عينات من البكتيريا، كان ذلك بالتحديد ما وجدوه. وهنا يقول بورو: “لاحظنا زيادة في الحساسية للمضادات الحيوية، والقليلَ جدا من الآثار الجانبية.”
كما أن هناك موانع أخرى للبكتيريا أكثر تقدما من هذه الأخيرة؛ فقد طور كل من سكوت هولتغرين Scott Hultgren وجيم جانتكا Jim Janetka من جامعة واشنطن Washington University في سانت لويس مشتقات للمانوز يمكنها أن تكون أكثر فعالية وأن تدوم فترة أطول في الجسم، ما يعني أنك تحتاج إلى كميات أقل منها لتحدث الفرق المطلوب. كما تبين الدراسات المجراة على الفئران أن جرعة واحدة منها يمكنها أن تمنع العدوى التي تتسبب بها البكتيريا إي. كولاي لثلاثة أيام على الأقل، وتبدأ بإزالة العدوى خلال 6 ساعات. وبحصر البكتيريا إي. كولاي بدلا من إبادتها بالمضادات الحيوية، لم تحتج البكتيريا إلى أن تطوِّر مقاومة للأدوية، إضافة إلى أن البكتيريا المفيدة التي تعيش في المسالك البولية قد تُركت في سلام. ولهذا أثر كبير ومهم؛ ففي الولايات المتحدة وحدها، تُكتبُ أكثر من 25 مليون وصفة مضادات حيوية لعدوى المسالك البولية، وأكثر من نصف الذين يتناولونها يعانون إصابة لاحقة بالمرض. ويظن هولتغرين أن موانع البكتيريا هذه هي السبيل التي “ستبدأ ثورة علاجية مستغنية عن المضادات الحيوية.”
إذا لم تستطع منع البكتيريا من الالتصاق، سيكون الخط التالي في الدفاع هو علاج قد نسيه الزمن. وتقوم الفكرة هنا على أن نُبطل مفعول السموم التي تنتجها البكتيريا لفتح الخلايا والتهام المغذيات. وهي استراتيجية استخدمها أول ما استخدمها في ثمانينات القرن التاسع عشر اختصاصي البكتيريا الألماني إميل فون بيرنغ Emil von Behring وتلميذه الياباني كيتاساتو شيباسابورو Kitasato Shibasaburo. فقد حقن هذان الباحثان سموم الدفتريا والكزاز بجرعات قريبة من مستويات الجرعات المميتة في حيوانات، واستخلصا من الحيوانات الأجسام المضادة المبطلة للسموم، ومن ثم استخدماها في علاج المرضى.
وهذه الاستراتيجية في النهاية قللت نسبة الموت من هذين المرضين إلى النصف، وضمنت لفون بيرنغ أول جائزة نوبل في الطب. ولكن، عندما تقدمت صناعة المضادات الحيوية، هُجِرت العلاجات بمضادات السموم إلى حد كبير.
تقول لاورا بيدوك Laura Piddoc، اختصاصية الأحياء الدقيقة من جامعة برمنغهام University of Birmingham بالمملكة المتحدة: “نُسِيت الكثيرُ من العلاجات بسبب أن المضادات الحيوية كانت ناجحة جدا، ونسيانها هذا يظهر الآن على شكل نقص في خيارات العلاجات المتاحة.” أما الآن، وفي ظل مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، بدأت العلاجات بمضادات السموم تأخذ شكلا جديدا مرة أخرى.
أحد المجالات التي تأخذ فيها مضادات السموم فاعلية ضخمة هو في علاج الإسهال؛ ففي كل عام، يموت 30 ألف شخص في الولايات المتحدة من الإسهال الذي تتسبب به بكتيريا كلوستريديوم ديفيسيل (المطثية العسيرة) Clostridium difficile، وهي عدوى تصيب الناس عادة بعد العلاج بالمضادات الحيوية خلال فترة علاجهم في المستشفى، والحل يكون غالبا باستخدام المزيد من المضادات الحيوية، ولكنَّ المشكلة أن المرض يعود ثانية عند ربع المرضى. وفي تجربة حديثة، عندما أُعطي الناس دواء يبطل سموم البكتيريا بكتيريا كلوستريديوم ديفيسيل، فإن نسبة رجوع المرض قلت إلى النصف.
تكمن المشكلة في أن هذا النوع من العلاجات لا يقلل بالضرورة من احتمال الموت من هذه العدوى مع مرور الزمن. ومع ذلك، فإن ريتشارد بروكتور Richard Proctor، وهو بروفيسور فخري في الأحياء الدقيقة من جامعة ويسكونسن University of Wisconsin بماديسون، متفائل بأن الجيل الجديد من الأدوية المضادة للسموم سيعالج مزيدا من السلالات البكتيرية، وسيكون أكثر فعالية. ويعلق بروكتور على ذلك بقوله: “المبدأ بحد ذاته صحيح.” هناك سبب لانتعاش هذه الآمال؛ فهناك أجسام مضادة طُوِّرت في المختبرات بحيث تكون مضادة للسموم التي تنتجها البكتيريا الشائعة ستافيليكوكوس أويروس (العنقودية الذهبية) Staphylococcus aureus -أصنافها المقاومة للمضادة الحيوية تعرف اختصارا بالبكتيريا MRSA، وقد نجحت هذه الأجسام المضادة في منع الموت والمرض في الفئران المصابة بهذه البكتيريا.
ويجري الآن اختبار هذه الأجسام المضادة لمنع الالتهاب الرئوي الذي تتسبب به البكتيريا ستافيليكوكوس أويروس في الأشخاص الذين يستخدمون أجهزة التنفس.
وتقوم مقاربة أخرى على التلاعب في العلاقة ما بين الجراثيم الخطيرة وأنظمتنا المناعية. ولكن هذا أمر يحتاج إلى الدقة؛ فنحن قد تطورنا جنبا إلى جنب مع البكتيريا فيما يشبه لعبة القط والفأر لملايين السنين؛ فالبكتيريا تختبئ، ويتطور جهازنا المناعي على البحث عنها وتدميرها، فتطور البكتيريا طرقا جديدة للاختباء؛ فيمكن مثلا للبكتيريا إس.
أويروس أن تخفي نفسها بوشاح من البروتينات البشرية، ما يجعلها غير مرئية للجهاز المناعي الذي تطور على تجاهل الخلايا البشرية في الجسم.
وهناك أبحاث تعمل على تجريد مثل هذه التخفي، ولكن الاستراتيجية التي تعد أكثر من غيرها بالنجاح لربما تكون مفاجئة، وهي إخفاء البكتيريا عن عمد. ويجدر بالذكر هنا أن أكثر النتائج المدمرة التي تنتج عن العدوى -بالتحديد العدوى التي ينتج منها “صدمة إنتانية” Septic shock التي تقتل من الناس في مستشفيات الولايات المتحدة أكثر مما يقتله السرطان- لا يكون سببها العدوى نفسها، ولكنَّ السبب يكون التهيج الزائد لجهاز المناعة.
تحرير الحمض النووي DNA في الجراثيم السيئة؟
إحدى الاستراتيجيات المستخدمة لنزع سلاح الجراثيم الضارة دون إبادتها ستكون بتعطيل الجينات التي تجعلها تهاجم. وبسبب التقدمات الكبيرة في مجال التحرير الجيني Gene editing مؤخرا، لم لا يقبل المزيدُ من الناس على تجربة هذا؟
تتركز المشكلة في أن البكتيريا غالبا ما تحمل العديد من الجينات الضارة هذه، وبتشكيلات مختلفة. يقول براد سبيلبيرغ Brad Spellberg، اختصاصي في الأمراض المعدية من جامعة سوثورن كاليفورنيا University of Southern California: “يمكن لاستهدافنا جينا واحدا أو عاملا واحدا أن يكون فخا؛” فإذا لم يكن هذا الجين محوريا لكل العوامل الأخرى التي تستخدمها البكتيريا لإحداث العدوى، “يكون تعطيلها غير فاعل، بل وربما يكون ضارا.”
المشكلة الأساسية هي في التباين الهائل في عالم الأحياء الدقيقة؛ فسلالتان من الجرثومة التي يعيش في الأمعاء بشكل شائع -إى. كولاي- قد تتشاركان في %40 من جيناتهما فقط. وبكلمات أخرى، قد لا تكون العلاقة بين هاتين السلالتين أكثر من العلاقة بين الكلاب وشجر القرانيا Dogwood tree على سبيل المثال. وعلى سبيل المقارنة، فإن البشر جميعهم يتشاركون أكثر من %99.5 من الجينات. ومن ثم، فإن استهداف جين واحد في البكتيريا لن يقضي على الأرجح إلا على مجموعة جزئية من الجراثيم الضارة، وسرعان ما تستبدلها مجموعات طافرة وأخرى وتنويعات لم تصبها هذه العلاجات نظرا لدقة تقنيات تحرير الجينات.
لا تبصر شرا
أحد مكونات الجدران الخلوية للعديد من البكتيريا الضارة هو جزيء يسمى إندوتوكسين (السم الداخلي) Endotoxin، ووجود هذا السم يشغّل منبها يحفز جهازنا المناعي على الاستجابة. ولكن، على الرغم مما يحمله اسم هذا السم الداخلي من التهديد، إلا أنه في حد ذاته لا يضر بخلايانا. ومن الطبيعي أن تكون الفئران التي تفتقر إلى هذا الجين أقل عرضة لأن تموت بسبب العدوى (مع أنها ستكون أكثر عرضة لأن تصاب بالعدوى في المقام الأول).
وفي بعض الدراسات، تقتل البكتيريا أسينيتوباكتر (الراكدة) Acinetobacter -المقاومة للعديد من العقاقير- جميع الفئران المصابة بها عن طريق إحداث صدمة إنتانية. ولكن، عندما أعطيت الفئران المصابة الدواء التجريبي LpxC-1 الذي يمنع تكوّن الإندوتوكسين، انخفضت معدلات الوفاة بسبب الصدمة الإنتانية. أضف إلى ذلك أن البكتيريا تدل على وجودها بطرق أخرى عديدة تحفز تكوين استجابة أقل شدة للسموم الداخلية، وبسبب ذلك، يصير من الممكن للأجهزة المناعية للفئران أن تقاوم العدوى في النهاية، ولكن دون إطلاق التنبيهات التي تتسبب في حدوث الصدمة. وقد تبدأ التجارب على البشر في السنوات القليلة القادمة.
وهناك استراتيجية أخرى لإحباط البكتيريا الضارة دون إبادتها، ويكون ذلك عن طريق تبديد شبكاتها الاجتماعية؛ ذلك أن تحول البكتيريا من كائنات مسالمة إلى “مفترسات عدوانية” هو قرار تأخذه البكتيريا لأسباب “اجتماعية”. وهذه العملية تبدؤها جينات تعرف بـ “جينات إدراك النِّصاب” Quorum sensing genes، وهي جينات تُفعَّل عندما يكون هناك عدد كاف من البكتيريا نفسها في المكان نفسه. وإذا أمكن تشويش الإشارات الناتجة من هذه الجينات، فلن تقوم البكتيريا بالمهاجمة.
هذه الطريقة مُحبّذة لأنها تعمل على مستوى أكثر عمومية، وذلك بحسب ما تقول فنيسا سبيرانديو Vanessa Sperandio اختصاصية الأحياء الدقيقة من المركز الطبي بجامعة تكساس ساوثويسترن University of Texas Southwestern. وبشكل أساسي، يمكن لمثبط واحد لعملية إدراك النصاب أن يمنع العديد من البكتيريا من تكوين قائمة متكاملة من السموم. كما أن الدراسات التي أجريت على الفئران أظهرت أن هذه الاستراتيجية تعمل بشكل جيد. والمشكلة هنا هو أنه إذا كانت هذه الخدعة فعالة أكثر من اللازم، يمكن لها أن تأتي بنتائج عكسية. فالجراثيم المقاومة لمشوشات إدراك النصاب قد تكون فرصة نجاتها أكبر من غيرها، وقد تسبب الأذى في نهاية المطاف. وبحسب بروكتور، فإن هذه الأدوية يمكنها “أن تنتخب دون قصد سلالات جديدة من الجراثيم المقاومة للأدوية” التي تفرز مستويات عالية من السموم باستمرار.
لا تزال سنوات عدة تفصلنا عن الوصول إلى مرحلة التجارب على البشر، ولكن ربما تكون هناك طريقة أقل خطرا للحصول على نتائج مشابهة لنتائج الاختبارات على البشر. ويبدو أن بعض البكتيريا غير المؤذية التي تعيش علينا لها دور في تحديد ما إذا كانت الجراثيم الضارة ستسبب الأذية أم لا. وإحدى النظريات تقول إن وجود هذه البكتيريا يمنع البكتيريا الضارة من غزو الجسم، وذلك لأنها لا تشارك مواردها مع الغرباء؛ فالبكتيريا كورينباكتيريوم (الوتدية) Corynebacterium، وهي من البكتيريا الموجودة طبيعيا على الجلد، تفرز مركبات تثبط السموم التي تنتجها البكتيريا إس. أويروس في الفئران، ولا يقتصر الأمر على حدها من إفراز سمومها، بل إنها أيضا تزيد من تعبير الجينات ذات الصلة بالوضع “غير المُعدي” في البكتيريا إس. أويروس، فهي بذلك لا تكتفي بنزع سلاح البكتيريا إس. أويروس، بل وتحولها إلى بكتيريا مسالمة أيضا.
لقد انتهى العصر الذهبي للمضادات الحيوية. ولن يكون أبدا بإمكاننا تطوير مضادات حيوية جديدة آمنة ورخيصة وفعالة، بالسرعة التي تطوِّر بها الجراثيم مقاومة لها. ولكن العادات القديمة يصعب التخلص منها، وقد أنقذت المضاداتُ الحيوية ملايين الأرواح. وحتى في عصرنا الحالي من مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، فأغلب أدوية الخط الأول لا تزال فاعلة أغلب الوقت. وهذا يعني أن هذه الاستراتيجيات الجديدة عليها أن تتجاوز رقما قياسيا عاليا لأن يأخذها الأطباء على محمل الجد. ويقول بروكتور بهذا الصدد: “سيكون علينا تقريبا أن نصل إلى عصر ما بعد المضادات الحيوية قبل أن يحصل ذلك.”
ليس أيا من هذه الاستراتيجيات طلقة فضية (الحل الأمثل). ولكنها قد تزودنا ببدائل، وقد تساعد على جعل المضادات الحيوية الموجودة أكثر فعالية، والأهم من ذلك، أن تجعلنا أقل عرضة للمرض. وهنا تكمن قيمتها الحقيقية. تقول بيدوك: “علينا أن نعيد النظر في استخدام المضادات الحيوية على نطاق واسع؛ فنحن لا نريد أن نضر بالكائنات المجهرية في الأمعاء ولا أن نحدث أضرارا جانبية.” إذا ما لم نعد تقييم استخدامنا للمضادات الحيوية، نكون وكأننا اخترنا خلوّنا من الأمراض البكتيرية على حساب أن نكون مرتعا للأمراض والعلل الأخرى؛ فالسمنة وداء الكبد الدهنية والسكري والتهاب المفاصل وداء الأمعاء الالتهابي والتصلب المتعدد والربو والقلق والاكتئاب، جميعها رُبطت باستخدام المضادات الحيوية، سواء أكان استخداما عاديا أم مفرطا. ودون القدرة على ردع العدوى، ستكون الحياة العصرية مستحيلة، ولكننا أيضا نحتاج إلى أن نحافظ على المجتمعات الميكروبية الضرورية لصحتنا. وهذا هو الوقت الذي يجب أن نكون قد تعلمنا فيه التعايش معها.