لماذا لن نتمكّن أبدا من معرفة كلّ شيء؟
بقلم: ريتشارد ويب
إنّ أدمغتنا عبارة عن فوضى مجيدة وصاخبة؛ وهذا سبب واحد فقط لكوننا لن نصل أبدا إلى التنوير النهائي حول ماهية الواقع.
في النهاية، يخبرنا الروبيان الكبير عن السبب وراء كوننا محكومين بألّا نفهم الواقع تماما. لكن دعونا أولا نعود إلى الوراء قليلا. نحن نعلم بأننا نعيش في عالم توجد فيه حدود مادّية صلبة لما يمكن لنا معرفته. فسرعة الضوء المحدودة تقيّد قدرتنا على الرؤية في الزمن والمكان، الارتياب الكمّي لفهمنا للجسيمات تحت الذرّية. وماذا في ذلك؟ تستطيع أكبر التلسكوبات لدينا النظر إلى الوراء، إلى بضع مئات من ملايين السنين بعد الانفجار الكبير، كما تستطيع أكثر مجاهِرنا حدّة التلصّص على الفوتونات الفرديّة وهي تهرب من الذرّات. فالكون موجود كما هو، ونحن نعمل بشكل جيّد داخل حدوده. صحيح أننا لا نستطيع شرح ما يحدث في لحظة الانفجار الكبير أو داخل ثقب أسود، إلا أن هذا مجرد أمر متعلّق بوضع نظريات أفضل للطبيعة، وبطرق اختبارها. لذا لكي نعرف المزيد، فإننا بحاجة إلى حوسبةٍ أفضل. وهو أمر أسهل قولا منه فعلا. فإذا تمكّنا من محاكاة التحرّكات بالغة الدقّة لمادة الكون كلّه فإننا قد نتوقّع تطوّره ومصيره. ولكن مع قوّة الحوسبة الحاليّة، فإن هذا سيستغرق وقتا أطول مما يستطيع الكون تقديمه.
إن القدرة الحوسبيّة هي حدٌّ عمليهٌ نستطيع لومه على كلّ شيء؛ من التنبؤات الجوّية التي لا يمكن الاعتماد عليها إلى الإدارة اللوجستية الرديئة: بمجرّد أن تحاول تحسين خطّ سير رحلة يربط أكثر من بضعة آلاف من الوجهات؛ فإن الحوسبة تصبح مستحيلة. يقول نوسون يانوفسكي Noson Yanofsky، عالم المعلومات من جامعة سيتي بنيويورك City University of New York: “ هناك أجزاء كثيرة جدا لدرجة تجعلنا ببساطة غير قادرين على إنجاز الحوسبة. لكنّ هذا مجرد ستار محدود لقيود كبيرة الحجم. ومهما جعلنا الحواسيب قويّة، فإنها تعتمد في نهاية المطاف على المدخلات البشرية لبرمجتها، والفكر البشريّ عبارة عن فوضى مجيدة وصاخبة ومعقّدة. فعبارات مثل “هذه المقولة غير صحيحة، كراهية شخص وحبه في الوقت نفسه، ونعم، الروبيان الجامبو الصغير ولكن كبير، كلّ من الحوسبة وعدم الحوسبة، “ اللغة تعبير عن العقل، وعقلي ولغتي مليئان بالتناقضات، بحسب تعبير يانوفسكي.
عاجز عن الحوسبة
تسمح لنا هذه المرونة بالتّفكير خارج الصندوق، في حين تبقى صارمة في داخله. ولأننا قائمون على التناقض، فإننا نرى التناقض في كل مكان. ومع ذلك، فإن السمة المميزة للواقع هي أنه لا يعترف بأي تناقض. انظر إلى الأجسام الكمّية التي تتصرّف على ما يبدو كموجات أو جسيمات، وقفا لطريقة اختيارنا لقياسها، وهي ثنائيّة مربكة سمّاها الفيزيائي ريتشارد فينمان Richard Feynman “اللغز الوحيد في العالم الكمّيّ. وفي جميع الاحتمالات، فإن اللبنات الأساسية للواقع ليست موجات ولا جسيمات، بل شيء آخر تماما. إنه فقط شيء نفتقر إلى القدرة والخبرة المعرفيّة Cognitive للتعبير عنه.
من المفترض أن يكون المنطق، والرياضيات التي تُبنى عليه، هما سبيلنا للخروج: لغة محايدة وأنظف للدماغ المُدرَّب من أجل وصف ما لا يمكن تصوّره باستخدام مصطلحات مجرّدة. وكل هذا جيد جيّدا، حتى تواجه القيود المنطقيّة للرياضيات نفسها.
وتبدأ هذه القيود بأوامر Injunctions معروفة جيّدا، مثل عدم إمكانية قسمة عدد على الصفر. لم لا؟ لأنك إن فعلتَ ذلك فستبدأ بالقيام بأشياء مثل إثبات أن 1=2. إذا كانت الرياضيات هي لغة كون مثالي بلا عيوب، فإنه لا يمكن لنا السماح بذلك. لذا فإننا لا نسمح بذلك. ويقول يانوفسكي: “ إذا أردت استمرار الرياضيّات دون تناقضات، فإن عليك تقييد نفسك بطريقةٍ ما.
ونحن نصل، عاجلا أم آجلا، إلى نهاية الطريق. وكما أظهر عالم الرياضيات النمساوي كيرت غودل Kurt Gödel في ثلاثينات القرن العشرين، فإن أي نظام منطقي يحتوي على قواعد حسابيّة لا بدّ وأن يحتوي على قضايا Statements لا يمكن إثباتها أو دحضها، وستبقى “غير مكتملة Incomplete، محاصرة في التناقض نفسه المحاصرون نحن به الآن. إن “عدم اكتمال غودل هو تعبير رياضيّاتي عن البيان المنطقي وغير المنطقي لـ “هذا القضية غير صحيحة.
الحقيقة الأساسيّة هو أنه لا يمكن أبدا لأي شيء، سواء كان جملة بسيطة أم نظاما منطقيا أم كائنا بشريا، التعبير عن الحقيقة الكاملة حول نفسه (انظر: لماذا تُعدّ معرفة المرء لنفسه أصعب أمرٍ على الإطلاق).
ومشكلة المرجع الذاتي هذه هي مشكلة متوطنة. وقد أظهر آلان تورنغ Alan Turing، عالم الحاسوب الذي عاصر غودل، أنه لا يمكنك سؤال برنامج حاسوبي –سلفا– عمّا إذا كان سيعمل بشكلٍ جيّد. وتنتج المفارقاتُ من ميكانيكا الكم، وذلك لأننا جزء من الكون الذي نحاول قياسه (انظر: هل المعرفة هي الشيء الوحيد الموجود؟). لذا يبدو أن الحقيقة المحضة هي أن باستطاعتنا بناء كل ما نريد من أقوى التلسكوبات والمجاهر وأجهزة الحاسوب، لكنّنا لن نتغلّب أبدا على حدود عقولنا. وسيظل منظورنا للواقع منحرفا دائما، وذلك لأننا، والروبيان الجامبو، عبارة عن جزء منه.
مشكلة لا سبيل إلى معرفتها
ربّما تكون هذه هي أغرب نتيجة في عالم الرياضيات بأكمله: قضية بسيطة يستحيل إثبات حقيقته، عدا أننا لا نستطيع إثباتها ذلك.
وترتبط “فرضيّة المستمر أو المتصل Continuum hypothesis هذه بنوع اللانهائيات الموجود. فاللانهائية Infinity ليست شيئا واحدا، بل إن هناك في الواقع مستويات لا نهاية لها من اللانهائية.
وأدنى مستوى من هذه المستويات هو اللانهائية “المعدودة للأرقام الصحيحة: 1،2،3،4،5، وهلمّ جرا. هناك مستوى آخر أكبر، وهو اللانهائية “المستمرة للأرقام الحقيقيّة –وهي جميع الأرقام المعدودة، إضافة إلى جميع الأرقام الأخرى، وما بينهما من المنازل العشرية.
في عام 1878، وضع المنظّر غيورغ كَنتور Georg Cantor فرضيّة تقول إن اللانهائية المعدودة واللانهائية المستمرّة متجاورتان في سُلّم اللانهائيات، وأنه لا وجود لنهائيّة أخرى بينهما. كان يعتقد حقّا أن الأمر كذلك، لكنّه لم يستطع إثبات شيء، كما لم يتمكّن أحدٌ منذ ذلك الوقت من هذا أيضا.
وبدلا من ذلك، فإن محاولات إثبات أو دحض الفرضيّة قد كشفت عن وجود “نُظُم متعدّدة Multiverse لعوالم رياضيّة مختلفة، تُنتجُ كلّها نوع الهياكل المنطقية التي تتوافق مع الواقع المادّي، لكنّها تختلف حول ما إذا كانت فرضية المستمر صحيحة أم خاطئة. وقد يكون هذا مؤشّرا على أن الرياضيات في حد ذاتها عبارة عن جزء من هيكلٍ منطقي أكبر بكثير لم يُكشَف عنهُ بعد.