إيقاظ الجهاز المناعي لمكافحة السرطان
السرطان مرض العصر…… خطورته في تعدد أوجهه وبالتالي صعوبة مواجهة عدو متعدد الأوجه. إلا أنه في السنوات العشرون الأخيرة نجح الأطباء من جميع التخصصات بميل كفة الصراع مع هذا المرض لصالح الانسان بسبب الأبحاث المكثفة والمتقدمة في هذا المجال وأصبح بالإمكان علاج هذا المرض الخبيث لو تم التشخيص مبكراً.
ولكن ما أود أن أتناوله في هذه الحلقة هو عرض أحدث الاختراقات التي توصل لها العلماء في مكافحة هذا المرض الخبيث والتي ترتكز على تنبيه وتحفيز الجهاز المناعي للجسم باستخدام جسيمات نانوية صغيرة جداً لا يتجاوز قطرها سُمك شعرة الإنسان. ففي دراسة حديثة أجريت على الفئران، أظهرت التجارب نجاحاً كبيراً في حث وتحفيز النظام المناعي الطبيعي للجسم على مكافحة الأورام السرطانية، حيث قضى هذا العلاج النانوي ليس فقط على سرطان الثدي المستهدف بالدراسة وإنما أوقف تقدم المرض في أجزاء وأنسجة أخرى من الجسم. ومن المحتمل أن يتم البدء بالتجارب السريرية على الأنسان خلال أسابيع وذلك لأن المجتمع الطبي أصبح أكثر تفضيلاُ لهذا النوع من العلاج التحفيزي لجهاز طبيعي موجود في الجسم مقارنةً مع الوسائل الأخرى الأكثر إجهاداً على جسم المريض مثل العلاجات الكيماوية واستخدام مختلف أنواع العلاجات الإشعاعية. ولهذا السبب أصبح البحث عن أدوية تحفز نظام المناعة الطبيعي في الجسم لمكافحة الأورام، هو أحد أكثر الحقول سخونةً في أبحاث السرطان الطبية. ولكن ما هي تفاصيل هذه الطريقة العلاجية.
إن ترسانة الخلايا المناعية المعروفة بخلايا T دائماً في وضعية استنفار بحثاً عن الجراثيم التي تغزو الجسم، أو خلايا في طريقها إلى التحول السرطاني. وبمجرد أن تكتشف خلايا T وجود مثل هؤلاء الغزاة فإنها تطلق ناقوس الخطر منذرةً جحافل الخلايا المناعية لشن هجوم واسع النطاق على هؤلاء الدخلاء. ولكن لتفادي تدمير الخلايا الصديقة، وبالتالي تفادي أن يقوم الجسم بتدمير نفسه ذاتياً من الداخل بهذا التفاعل المناعي، فإن الخلايا الصديقة تضع على غشائها الخلوي نوع من البروتين هو بمثابة علامة تنبيه للجهاز المناعي بأن هذه الخلية إنما هي صديقة ويجب عدم تدميرها. ولكن للأسف فإن الخلايا السرطانية تستطيع أن تقوم بنفس العملية مما يجعل من الصعب على خلايا T اكتشاف وجود هذه الخلايا السرطانية، فتتمدد الأورام وتنتشر إلى أن يتم اكتشاف وجودها عندما تبدأ أعراض المرض على المريض فيصبح التدخل العلاجي المتأخر هو عبارة عن العلاجات الكيماوية والإشعاعية.
وللتغلب على مشكلة التمويه الخلوي هذا الذي تجيده الخلايا السرطانية أيضاً، فقد قامت بعض شركات الدواء بتطوير عدد من البروتينات المسماة بالأجسام المضادة والتي تقوم بالاتحاد مع بروتينات التمويه التي تفرزها الخلايا السرطانية ومن ثم تبطل عملها وتجعلها مكشوفة أمام خلايا T المكونة للجهاز المناعي لمهاجمتها. إلا أن التأثير الإيجابي لهذه الأجسام المضادة لم يظهر إلا على 20 إلى 30% فقط من المرضى مما قلل من كفاءة هذا النوع من العلاج. ويعتقد أن السبب هو عدم توافر كميات كافية من بروتينات التمويه على غشاء الخلية السرطانية بحيث لا تستطيع الأجسام المضادة الإستدلال عليها، ومن ثم لا تنتبه اليها خلايا T وتمر عليها مرور الكرام بدون الاستدلال عليها ومهاجمتها.
ولكن شاءت الأقدار أن يتم التوصل بشكل غريب إلى طريقة لتعزيز فعالية العلاج المناعي. فأطباء الأورام قد انتبهوا إلى أنه في حالات نادرة من تلقي مرضى السرطان علاجاً إشعاعياً للقضاء على ورم ما، فإن الجهاز المناعي الطبيعي للمريض يشن هجوماً شرساً ليس موجهاً فقط للقضاء على الأورام في الأعضاء التي تم تعريضها للإشعاع، وانما فعاليته تطال أماكن وأنسجة وأعضاء متسرطنه لم يتم تعريضها للعلاج وبعيدة عن متناول العلاج الإشعاعي. ويعتقد علماء وأطباء الأورام أن الإشعاع العلاجي وبطريقة غير مفهومة حالياً يقوم بإظهار وكشف بروتينات التمويه المنغرسة بالغشاء الخلوي للخلايا السرطانية بشكل أكثر وضوحاً مما يتيح للأجسام المضادة أن تتحد مع تلك البروتينات ومن ثم تظهرها لخلايا T القتالية.
ومن هذا المنطلق فقد طرح العلماء فرضية أن يتم حقن المريض بجسيمات نانوية مستخلصة من مواد غير سامة، على أمل أن تقوم هذه الجزيئات بمقام الأشعة العلاجية من حيث تنبيه الجهاز المناعي بطريقة مماثلة. ولكن هذه المهمة ليست سهلة التحقيق، حيث أنه من الصعب إطلاق هذه الجسيمات النانوية في الجسم بدون إثارة الجهاز المناعي ومن ثم اكتشافها وتحييدها. فالمشكلة تكمن في أنه إذا كانت هذه الجسيمات النانوية كبيرةً نوعاً ما، فإن هناك نوع متخصص من كريات الدم يسمى ماكروفاج يلتهم تلك الجسيمات، وخصوصاً وأن هذه الجسيمات بطبيعتها تستقطب بعض بروتينات الدم مما يضاعف من مشكلة اكتشافها مبكراً وتدميرها. وللتغلب على مشكلة الحجم هذه فقد قام مؤخراً عالِم الكيمياء في جامعة شيكاغو، ايلينوي، البروفسور وينبن لن وفريقه من الباحثين بابتكار طريقة لتصنيع جسيمات نانوية متناهية الصغر بحجم 20 إلى 40 نانومتر مما يجعلها أقل قابلية للإكتشاف من قبل خلايا الماكروفاج. وقاموا بعد ذلك بتغطية هذه الجزيئات بمادة البولي إيثيلين جلايكول وهي مادة زلقة لها خواص كيميائية تشبه الصابون. وهذه المادة سوف تتيح للجسيمات النانوية البقاء أطول مدة ممكنة في الدورة الدموية وتتيح لها كذلك دخول الخلايا المستهدفة. أما داخل الجسيمات النانوية فقد تم تعبئتها بمادة لها قابلية عظيمة على امتصاص الضوء.
ولذلك عندما يقوم العلماء بحقن تلك الجسيمات في مجرى الدم، فإنها تجد طريقها إلى الورم السرطاني. ونظراً إلى أن الأورام عادة تكون غير متماسكة الخلايا وتحيطها شبكة أوعية دموية غير سليمة، فإن الجسيمات النانوية تستطيع أن تتسرب خارج الأوعية الدموية بأعداد كبيرة جداً لكي تتواجد ملامسةً بطريقة مباشرة الجدار الخلوي للخلايا السرطانية. ونتيجة لذلك تقوم الخلايا السرطانية بامتصاص الجسيمات الى الداخل. وحالما يتم التأكد من ذلك، يقوم العلماء بإطلاق أشعة تحت الحمراء والتي يتم امتصاصها بواسطة مادة البولي إيثيلين جلايكول المحشوة داخل الجسيمات النانوية فترتفع درجة حرارتها، مما يؤدي إلى إثارة جزيئات الأكسجين المتواجدة في منطقة الورم إثارةً تتحول بعدها إلى جزيئات أكسجين تفاعلية شديدة النشاط ينتج عنها تمزيق وقتل خلايا الورم السرطاني المتاخمة لمنطقة إطلاق الأشعة تحت الحمراء.
وكما يقول البروفسور لن، فإن هذه هي البداية فقط. لأن جزيئات الأكسجين التفاعلية لا تمزق جدار الخلية السرطانية القريبة منها فقط، بل تعري بعض أجزاء الخلايا البعيدة عنها وتزيل عنها التمويه الذي كانت تتستر به، مما يسترعي انتباه خلايا T فتقوم بمهاجمة الخلايا السرطانية على نطاق واسع. فبالتالي هذا النوع من العلاج يعطي دعماً هائلاً للنظام المناعي الطبيعي في الجسم الإنسان حتى يستطيع أن يقوم بأدواره الدفاعية بكفاءة عالية بدون الإضرار بالأعضاء والأنسجة السليمة.
وفعلاً فقد نجح البروفيسور لن وفريقه باستخدام الجسيمات النانوية والأشعة تحت الحمراء في القضاء على سرطان القولون لدى فئران التجارب، وكذلك نجح في القضاء على سرطان الثدي لدى الفئران أيضاً. وبعد هذه النجاحات المشجعة والنتائج الإيجابية فسوف تبدأ قريباً التجارب على الأنسان، حيث يتوقع أن تكون النتائج على نفس النسق من الإيجابية والنجاح. وبذلك فإن الإنسان يكون قد كسب معركة أخرى في الحرب ضد هذا المرض الخبيث عافانا الله وإياكم.