شركاتُ اختبارِ الحمضِ النوويّ تنتفع ماديا من جيناتنا، فهل علينا المطالبة بجزء من الكعكة؟
يُحدّدُ حمضُكَ النوويّ العديد من الجوانب المتعلقة بماهيّتك، ويدّعي عدد متزايد من الشركات أن بإمكانهم فك شيفرته لأجلك. ولكن استفادتهم من هذا الأمر ربما تكون أكثر بكثير مما تستفيده أنت. ويبلغ ثمن مثل هذه الاختبارات الجينية التي تقدّم معلومات جينية تافهة ثمنا زهيدا وقدره نحو 29 دولارا، وفي حال رغبتك بالحصول على مزيد من التفاصيل، فإن الأسعار المعتادة تتراوح ما بين 100 إلى 200 دولار، مع تكاليف مماثلة للاختبارات خارج الولايات المتحدة.
لكن الشركات تسعى إلى الحصول على صفقة أفضل غير بيعهم لهذه المجموعات، فقواعدُ بيانات المعلومات الوراثية الواسعة والمتنامية تمثّلُ قيمة كبيرة للباحثين ولشركات الأدوية. والربط بين هذه البيانات أو التنقيب فيها من أجل الاكتشافات الدوائية يمكن أن يدرّ عليهم أرباحا طائلة. ومن ثم، هل ينبغي أن تدفع لك هذه الشركات مالا بدلا من فرضها رسوما على ما قد يكون في نهاية المطاف مجرّد شيء بسيط وقصير وأشبه ما يكون بمحادثة عابرة؟
وتندرج الاختبارات التي يقدمونها عموما ضمن ثلاث فئات، فبعض الشركات تعطيك نظرة فاحصة على أسلافك من خلال عيّنة لعاب، فيفحصون حمضك النووي بحثا عن المتغيّرات الجينية المعروف عنها أنها كانت – ولا تزال – شائعة في أماكن معينة من العالم.
ومن الأمثلة على ذلك هو استخدام شركة Living DNA في المملكة المتحدة لهذه المعلومات لاقتراح الأماكن التي ربما يكون أسلافك قد عاشوا فيها، سواء في الآونة الأخيرة أم منذ آلاف السنين.
وتوفّر شركات أخرى مثل 23andMe المعلومات الصحية، وتبحث عن المتغيّرات الجينية التي قد تُعرّض شخصا ما أو أطفاله لخطر الأمراض، إضافة إلى توفيرها لبعض المعلومات غيرِ المهمّة مثل طريقة تعامل جسمك مع الكحول. وفي عام 2013 حظرت إدارة الغذاء والدواء على الشركة بيع اختبار لـ245 اضطرابا وحالة صحية لقلقها من أن يُساء تفسيرها، وتقدم الشركة الآن اختبارا قد تقلّص لعرض 10 اضطرابات فقط، بما في ذلك آلزايمر المتأخر.
وهناك الاختبارات التي تقدم معلومات عن اللياقة البدنية والتغذية والمزاج والشخصية.. إلخ. فتقول شركة سوكر جينوميكس (وراثة كرة القدم) إن باستطاعتها تقييم جيناتك الخاصة بالسرعة والقوة والتغذية، وذلك من أجل تحسين أدائك في هذه الرياضة.
حتى شركة الأغذية ميرميت Marmite قد دخلت هذه الحلبة، وذلك بشراكتها مع شركة تدعى DNAFit لبيع اختبار يدّعي أن باستطاعته معرفة ما إذا كُنت من المفترض أن تُحب أو تكره منتج الخميرة الذي ينتجونه. ويقول ريك وايت Rick White، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة شور جينوميكس Sure Genomics في الولايات المتحدة، والتي تعتزم تقديم اختبارات جينية تتعلق بمخاطر الأمراض وردود الفعل الدوائية: “أدعو هذا الأمر بالجينوم الترفيهي genomertainment”.
يمكن أن يدرّ بيع بيانات الحمض النووي أو التنقيب فيها من أجل الاكتشافات الدوائية أرباحا طائلة على شركات الجينوم.
وتبدو هذه الاختبارات مجرد نوع من اللهو المرح، لكنّ لها جانبا جادا. فقد وقعت شركة أوريجين 3 Orig3n – التي تبيع اختبار لعاب “خارق” يُفترض به إخبارك بكيفية تأثير جيناتك في القوة والذكاء والقدرة على تعلّم اللغات – في ورطة الشهر الماضي، وذلك لتقديمها اختبارات مجانية لمحبي فريق القدم الأمريكي بالتيمور رافينز Baltimore Ravens. وقد منعت إدارة الصحة في ولاية ماريلاند دعاية “يوم الحمض النووي” بعد أن أُثيرت مخاوف تتعلق بالخصوصيّة.
قيمة الجينوم
وما يجعل الأمر أكثر جدّية هو أن بيع مثل هذه الاختبارات للمستهلكين يعدّ شيئا هامشيا بالنسبة إلى هذه الشركات، أمّا القيمة الحقيقية فهي في البيانات المُجَمَّعَة. ولدى شركة Orig3n مثلا خطط واسعة لإيجاد أدوية قادرة على تجديد الأنسجة والأعضاء المهترئة أو التالفة. وفي عام 2015، أعلنت شركة 23and Me عن خططها للتنقيب عن معلوماتها بنفسها من أجل البحث عن أدوية جديدة. وقد علّقت الرئيسة التنفيذية للشركة في ذلك الوقت آني جويسكي Anne Wojcicki قائلة: “إنّنا نضع موارد كبيرة في تحويل المعلومات الوراثية إلى اكتشاف علاجات جديدة وتطويرها من أجل عملائنا والعالم.”
وليس هذا بالأمر المفاجئ، فشركة 23and Me تمتلك قاعدة بيانات قيّمة للغاية، وقد أبرمت بالفعل عدة اتفاقات لمشاركة هذه البيانات مع شركات الأدوية وشركات التكنولوجيا الحيوية.
وفي حين تميل هذه الشركات إلى عدم الكشف عن العدد الدقيق لعملائها، فمن المعروف أن لدى شركة 23and Me معلومات وراثية لما لا يقل عن مليوني شخص. ويعلّق جون بيري John Perry من جامعة كامبريدج University of Cambridge على هذا الأمر بقوله: ” لا يمكن لأي دراسة في العالم تجنيد هذا القدر الكبير من الأشخاص كما يفعلون هم.”
وما يجعل هذه البيانات قيّمة للغاية هو كونها مصحوبة برُزَمٍ من التفاصيل الشخصية. وترسل شركة 23and Me مئات الأسئلة لعملائها بشكل منتظم. ويقول بيري: “إنّهم يسألون جميع أنواع الأسئلة: ماهي درجة تجعيد شعرك وما الذي يمكنك تذوّقه إلى أسئلة حول معلومات طبّية حيويّة مهمة عن الأمراض. إنّها قيّمة للغاية، ويمكنها توجيه بحثك إلى طرق غير متوقّعة.”
وتشارك الشركة مجموعة بياناتها مع الباحثين الأكاديميين مثل بيري بالمجّان. ويقول بيري: “إنّ الأمر أشبه ما يكون بالمسابقة، فأنت تعطيهم مشروعك أولا، ثم يشرعون – في حال موافقتهم عليه – بإجراء التحليل، ومن ثم إعطاؤك ملخّص الإحصائيات المجموعة دون الإفصاح عن هويّات المشاركين”. وقد استخدم بيري حتى الآن بيانات 23and Me لاستكشاف متلازمة تكيّس المبايض ودراسة بداية سنّ البلوغ.
وتعدّ صفقاتها مع شركات الأدوية هي بقرتها الحلوب، فقد أبرمت الشركة منذ عام 2014 شراكات مع عدة شركات منها فايزر Pfizer وريست ثيرابيوتيكس Reset Therapeutics و جيننتيك Genentech لدراسة الاضطرابات التي تمتد من مرض كرون Crohn’s disease إلى مرض باركنسون Parkinson’s disease.
أمّا بالنسبة إلى التفاصيل الماليّة فهي سرّية إلى حدٍّ كبير، لكنّ مجلة فوربس ذكرت عام 2015 أن شركة جينيتيك قد دفعت 60 مليون دولار للحصول على بيانات تسلسل الجينوم الكاملة الخاصة بـ 3000 عميل مصاب بداء باركنسون لدى شركة 23and Me. وقد علّقت الشركة على هذا الأمر في مجلة نيوساينتيست New Scientist قائلة: ” نحن لا نكشف عن القيم المالية لصفقاتنا بسبب الالتزامات التعاقدية، كما أنّنا لا نستطيع تأكيد صحة المبلغ المذكور سابقا.”
ويقول تيم فرايلينغ Tim Frayling من جامعة إكستر University of Exeter في المملكة المتحدة: “إنه نموذج عمل ذكي جدا، فالأفراد يدفعون المال لإجراء اختبار الحمض النووي، ويعربون عن سعادتهم بالمشاركة في الأبحاث، ومن ثم تقوم شركة 23and Me ببيع البيانات لشركات الأدوية. إنّها تجني المال من كلا الجانبين.”
وتمتلك الشركة موقفا صريحا ومباشرا إزاء تعاونها هذا، كما يمكن لعملائها التطوع بمشاركة بياناتهم للبحث – وهو ما يفعله 80% من عملائها الحاليّين -. ويقول المتحدث باسم الشركة: “أنت حرٌ في الإجابة عن هذه الاستطلاعات، وسواء شاركت في القليل أو الكثير منها فهذا أمر عائد إليك.”
وإذا شاركتَ في هذه الاستطلاعات، فإنّ معلوماتك الوراثية ستستخدم مرارا وتكرارا في مشاريع بحثيّة متعدّدة، كما يمكن إعادة تحليلها بطرق أكثر تقدما في حال تطوير أدوات جينيّة جديدة. وقد تكون المعلومات التي تحصل عليها أنت من عيّنة اللعاب مجرّد جزء ضئيل من مجموع ما يُجمع من معلومات.
إذن، أين هو نصيبك من الأرباح؟ يعتقد وايت أن علينا التحكم أكثر في معلوماتنا الجينيّة القيّمة للغاية، ويقول: “آمل بأن تكون هناك سوق رصينة تمنحكم الفرصة لبيع بياناتكم الخاصة. فإذا بيعَ دواءٌ – طوِّر باستخدام معلوماتك الوراثية- فليس هناك سبب يمنعك من الحصول على بعض المال.” ويقول وايت إنّ شركته شور جينوميكس Sure Genomics لن تشارك بيانات عملائها مع شركات أخرى.
ويتّفق فرايلينغ مع وايت إذ يقول: ” يبدو هذا أكثر إنصافا. ربّما علينا أن نتحد معا ونقول: يمكنكم أخذ بياناتنا فقط في حال حصولنا على جزء من الأرباح.”
ولكن يصعب تحديد القيمة التي قد يساويها جينوم الفرد الواحد وبياناته الصحية الشخصية. ويقول المتحدث باسم شركة 23andMe: “إن دراسة المعلومات الوراثية لشخص واحد ليست مفيدة، فما يجعلها قيّمة هو وضعها ضمن معلومات المسح، فتُجرَّد جميع المعلومات من هويّات أصحابها وتُدرَس بعد تجميعها معًا. لذا، فتحديدُ قيمةِ شخصٍ واحد هو أمرٌ صعب.”
” قد تكون المعلومات التي تحصل عليها من عيّنة اللعاب خاصتك مجرّد جزء ضئيل من مجموع ما تمّ جمعه من معلومات”
ولكن قيمة البيانات واضحة. يقول فرايلينغ: “يتضاعف احتمال نجاح دواءٍ ما في السوق في حالة كان مبنيا على علم الوراثة البشري. وبالنظر إلى أنّ تطوير دواء واحد قد يكلّف بليون دولار، فإنّ هذه المعلومات قد توفّر عليهم نصف المبلغ.”
ويرى البعض أننا جميعا مستفيدون من هذه الأبحاث على المدى الطويل، لذا يجب علينا التبرع بمعلوماتنا في سبيل هذا الهدف. وقد ساهمت قاعدة البيانات الموجود لدى 23and Me بالفعل في التوصّل إلى نتائج جديدة تساعد الباحثين على فهم فعاليّة مضادات الاكتئاب وأسباب العقم والصلع النمطي لدى الذكور، وغير ذلك من أمور.
وليس من المستغرب أن يكون هذا هو رأيُ العديدِ من الشركات، إذ يقول مارسي غليكسمان Marcie Glicksman، الرئيس التنفيذي لشركة Orig3n، إضافة إلى كونه أحد عملاء شركة “23andMe “: إنني متحيّز، ولكنّي أشعر بأنّه كلّما كان هناك المزيد من المعلومات كلّما صبّ ذلك في مصلحة الجميع. إنّ البحث والتطوير أمرانِ مُكلِفان، وعلى النّاس التحلّي بالإيثار.”
وفي هذه الأثناء، إن كنت تفكّر في شراء مجموعة من هذه الاختبارات، فمن الأفضل لك التفكير فيما سوف تسفيده منها. قد تكون معرفة أصولك أمرا مثيرا للاهتمام، ولكن سيكون عليك العودة بالوراء لفترة قصيرة جدا في التاريخ البشريّ من أجل العثور على الأسلاف المشتركين لكلّ شخص يعيش في القارّة التي تعيش فيها.
ومن جانب أكثر جدّية، فإن معرفة أنّ لديك احتمالا أكبر للإصابة بمرضٍ معيّن قد تكون معلومةً خطيرة، غير إنّ معظم الشركات لا توفّر استشارة جينيّة، ومن غير المرجّح أن يكون لدى طبيبك التدريب اللازم لفهم نتائجك. ولا يغير كثيرون من نمط حياتهم، حتى بعد معرفتهم بأنّهم عرضة لخطر بعض الأمراض كالسّكري، في حين يبالغُ آخرون في ردودِ أفعالهم، فالجراحة الوقائية لتجنب سرطان الثدي مثلا قد تكون غير ضروريّة.
ويقول فراينلغ أن عليك ألّا تتوقّع بأن يخبرك اختبار الحمض النووي عن الكيفيّة التي تجعلك تتمرّن بطريقةٍ أفضل، فكثير من الاختبارات التي تقوم عليها هذه الاختبارات مبنيّة على رياضيّين نخبة، والذين قد يكون لديهم متغيّر جينيّ يعطيهم دفعة صغيرة. فهناك الكثير من هذه الجينات، ولكنّ تأثير كلّ واحد منها صغير جدا. ويضيف فراينلغ قائلا: ” ما من دليل على أنّ امتلاكك لأليل (متغيّر جيني) معيّن يعني أنّ عليك التمرّن بطريقة محدّدة، وقد يكون السبب الوحيد الذي يجعلني أجرّب مثل هذه الاختبارات هو الحصول على بعض المرح.”