الضرب على غير هدى: لماذا لا يمكن إنتاج لقاح عام للإنفلونزا
يبدو أن لقاح الإنفلونزا يعمل هذه السنة، لكنه لا يعمل كما يجب، الأمر الذي يسلط الضوء على العوامل التجارية وغير التجارية التي تحول دون تطوير ما هو أفضل
لماذا لا يتحسن اللقاح المضاد للإنفلونزا؟
Why isn’t the flu vaccine better?
تُصنع لقاحات الإنفلونزا كلها تقريباً من فيروسات تستزرع في بيض الدجاج، وهي عملية تعود إلى أربعينات القرن الماضي وتستغرق ما بين ستة وثمانية أشهر. فخلال العملية، تُحقن بيضة بفيروس إنفلونزا ينمو جيداً في البيض ومُزوَّد ببروتيني هيماغلوتينين Haemagglutinin والمعروف اختصاراً بحرف “H” ونيورامينيداز neuraminidase المعروف اختصاراً بحرف “N” من سلالة فيروسية يُرجَّح أنها ستنتشر خلال موسم الشتاء المقبل. وتستطيع مختبرات العالم إنتاج 1,5 بليون جرعة من اللقاح، توفر كل جرعة منها حماية من الإصابة بثلاث أو أربع سلالات فيروسية، ومن ثم يحتاج كل منها إلى ثلاث أو أربع بيضات.
تحتوي لقاحات هذه السنة على فيروسات الإنفلونزا A وأحد فيروسات B أو كليهما. ويختلف الإنتاج باختلاف الطلب المتوقع.
ويعني هذا أن على اختصاصي الفيروسات أن يتوقعوا قبل أشهر ما هي الفيروسات التي سنتتشر لكي تتمكن المختبرات من إنتاج اللقاحات المناسبة. وهم يخطئون أحياناً على الرغم من أن لقاح هذه السنة كان مطابقاً تماماً وفق إيان بار Ian Barr من جامعة ملبورن الأسترالية.
ولكن الأمر لا يخلو من عيوب، إذ توصلت مراجعة أُجريت في السنة الماضية أن اللقاح الرئيسي الذي أخذه الناس والمصنوع من فيروسات ميتة، وفر الحمايةَ فقط لدى 33% من مُتلقيه ضد الفيروس H3N2 – وهو السلالة المهيمنة هذه السنة. وانخفضت هذه النسبة إلى 24% لدى من هم فوق سن 65 عاما. وفي الشتاء الأسترالي الذي انتهى للتو، وفر اللقاح الحمايةَ لدى 10% فقط من متلقيه من كل الأعمار ضد الفيروس H3N2، ولم يُلحظ أي فرق لدى كبار السن على الرغم من أنه كان فعالاً مثلما هي العادة ضد السلالات الأخرى. وهذا اللقاح هو نفسه المستخدم للحماية في موسم الإنفلونزا في النصف الشمالي.
ويبدو أن الأمر عائد إلى حدوث طفرة في الفيروس خلال فترة إنتاج اللقاح. ففي أكتوبر 2018، وجد باحثون من جامعة ملبورن أن الأجسام المضادة للسلالة H3N2 المستخدمة في صنع اللقاح كانت فعالة ضد الفيروسات H3N2 المنتشرة بالفعل، ولكن عندما وُضعت لتنمو في البيض، أثارت الفيروسات المُنتَجة أجساما مضادة عجزت عن التصدي للسلالات المنتشرة في ثُلث الحالات.
في الوقت نفسه بيَّن فريق من كاليفورنيا أن طفرة رائجة في السلالة H3N2 المُنتجة في البيض، تُدخل تغييرات كبيرة غير متوقعة على البروتين المحقون في سطح الفيروس، ومن ثم فإن الأجسام المضادة التي ينتجها الجهاز المناعي بتحفيز من هذا الفيروس لا تتعرف على الفيروس غير المُدجن.
مع هذا، لا يزال يوصى بأخذ اللقاح، إذ أن عدد الذين أصيبوا بالمرض في أستراليا خلال الموسم الفائت بين من أخذوا اللقاح كان أقل منه بين أولئك الذين لم يأخذوه.
هل يمكننا إنتاج لقاح أفضل؟
Can we make a better vaccine?
إن إنتاج لقاح الإنفلونزا السنوي باستزراعه في بيض الدجاج ليس مكلفاً. ويقوم عدد من المختبرات باستزراع الفيروس في خلايا حيوانات ثديية مزروعة، لكن هذا أكثر تكلفة بعشرين مرة ويحتاج بالمثل إلى ما بين ستة وثمانية أشهر وقد لا يكون فعالاً.
وتقوم إحدى الوسائل المبتكرة على عدم صنع اللقاح على أساس فيروس كامل، وإنما بمجرد استخدام البروتينات الموجودة على سطحه. ويقوم مختبر بروتين ساينسز Protein Sciences من ميريدن في ولاية كنتيكت الأمريكية بوضع جينات البروتين الكبير الموجود على سطح الفيروس في خلايا حشرة، ومن ثم حصاد البروتين. وقد وافقت الولايات المتحدة الأمريكية على اللقاح واشترت سانوفي Sanofi كبرى شركات إنتاج لقاحات الإنفلونزا في العالم الشركة الصغيرة.
وذكرت شركة ميديكاغو Medicago في مدينة كيبيك الكندية المراحل الأخيرة في اختبار عملية مماثلة باستخدام خلايا نباتية. ويمكن إنتاج هذه اللقاحات بكميات وفيرة خلال أسابيع وليس أشهراً، وبفترة قصيرة قبيل موسم الإنفلونزا وهو ما يرجِّح قدرتها على مطابقة الفيروسات المنتشرة مع تجنب الطفرة التي تحصل في البيض.
لكن ما سيشكل تغييرا حقيقياً بالفعل هو إنتاج لقاح “عام” يوفر المناعة ضد أجزاء فيروس الإنفلونزا التي تبقى على ما هي عليه بمرور الوقت أو مع تغير سلالات الفيروس. وبهذه الطريقة لن نحتاج إلى أن نغير اللقاح كل سنة، وسنتمكن من تخزينه تحسبا من حدوث وباء. ومنذ سنوات يعمل الخبراء على تطوير مثل هذا الفيروس وهناك بعض اللقاحات المُرشحة الواعدة. لكن العالم لا ينفق سوى 35 مليون دولار أمريكي على مثل هذه الأبحاث كل سنة، وفق مايك أوسترهولم Mike Osterholm من جامعة مينيسوتا الأمريكية، وهو مبلغ بالكاد يكفي لطرح اللقاح في السوق. ومع صرف الملايين من أجل صنع اللقاحات المتوفرة، لا تجد الشركات الحافز الكافي لصرف المزيد على لقاحات أخرى.
وتقوم بعض الحكومات بتمويل العمل على تصحيح الفشل في الوصول إلى السوق في حالات آفات أخرى يخشى حدوثها مثل حُمى إيبولا النزفية. ولكن لا أحد يفعل الأمر نفسه من أجل الإنفلونزا، على الرغم من أن الإنفلونزا الشتوية المعتادة يمكن أن تصبح مع الوقت قاتِلاً مَهولاً مع زيادة شيخوخة السكان – حتى وإن لم نأخذ احتمال انتشار الوباء بالحسبان.