الأطباء النفسيون بدؤوا برسم الهندسة الوراثية للاضطرابات النفسية
نتائج التعبير الجيني من دراسة مئات الأدمغة البشرية يمكن أن تؤدي إلى الاختبارات التشخيصية والعلاجات
يؤثر المرض العقلي في واحد من كل ستة أشخاص بالغين في الولايات المتحدة، إلا أن فهم العلماء بالبيولوجيا الكامنة وراء معظم الاضطرابات النفسية Psychiatric Disorders يظل غامضا. وهذا أمر محبط بالنسبة إلى الأطباء الذين يعالجون الأمراض، والذين يجب عليهم أيضا إجراء التشخيص بناء على الأعراض التي قد تظهر بشكل متقطع فقط. ولا يمكن لفحص الدم في المختبر أو مسح الدماغ لغاية الآن أن يُميّز ما إذا كان شخص ما يُعاني الاكتئاب Depression أو اضطراب ثنائي القطب Bipolar Disorder، على سبيل المثال.
والآن، مع ذلك، فإنّ تحليلا واسع النطاق للأدمغة بعد الوفاة يكشف عن آثار جزيئية مميزة في الأشخاص الذين يعانون مرضا عقليا. وفي هذا الأسبوع، قدّم فريق دولي من الباحثين تقارير منشورة في مجلة ساينس عن خمسة اضطرابات نفسية رئيسية لديها أنماط من النشاط الجيني الذي غالبا ما يتداخل ولكن أيضا يختلف في أمراض محددة – وأحيانا بطُرق معاكسة للحدس. ويقولون إنّ النتائج قد تؤدي في يوم من الأيام إلى اختبارات تشخيصية وعلاجات جديدة، وقد ألهمت إحداها بالفعل تجربة سريرية لطريقة جديدة لعلاج خلايا الدماغ المفرط النشاط في التوحد Autism.
وتقول أطراف خارجية إنّ البيانات تُمثل علامة فارقة في الطب النفسي Psychiatry. ويقول كينيث كيندلر Kenneth Kendler، عالم الوراثة النفسية Psychiatric Geneticist من جامعة فرجينيا كومنولث Virginia Commonwealth University في ريتشموند Richmond: “إنّ هذا [العمل] يُغيّر وجهات النظر الأساسية حول طبيعة الأمراض النفسية.”
ومنذ زمن طويل عرف الباحثون أنّ الجينات تؤثر في المرض العقلي. وقبل خمس سنوات، على سبيل المثال، وجد الاتحاد العالمي للجينوميات النفسية Psychiatric Genomics Consortium Global أنّ المصابين بالتوحد، والفصام Schizophrenia، واضطراب ثنائي القطب، والاكتئاب، واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط Attention Deficit Hyperactivity Disorder يشتركون في كثير من الأحيان في اختلافات معينة في الحمض النووي DNA. ولكن لم توضح دراسة عام 2013 كيف يمكن أن تؤدي هذه التغيرات الجينية إلى الأعراض.
أراد دان غيشويند Dan Geschwind، طبيب الأعصاب Neurologist وعالم الأعصاب Neuroscientist من جامعة كاليفورنيا University of California في لوس أنجلوس Los Angeles (اختصارا: الجامعة UCLA)، الذي قاد العمل الجديد، أن يعرف ما يحدث على المستوى الجزيئي في أدمغة الأشخاص الذين يعانون هذه الاضطرابات. وقد حلّل هو وزميله في جامعة كاليفورنيا مايكل غاندال Mike Gandal وفريقهما أنماطَ التعبير الجيني من القشرة الدماغية Cerebral Cortex، الطبقة الخارجية للدماغ، من 700 مريض بعد الوفاة الذين كانوا مصابين بالتوحد أو الفصام أو الاضطراب الثنائي القطب أو الاكتئاب أو إدمان الكحول ومقارنتها بالأنماط من أدمغة 293 صحية مطابقة تحت المراقبة. ولتحكم إضافي، نظروا أيضا في التعبير الجيني القشري في 197 مريضا يعانون مرض التهاب الأمعاء Inflammatory bowel disease، مما سيساعد على تمييز الأمراض العامة المشتركة عن أمراض الجهاز العصبي غير المركزي.
وكشف التحليل أنّ بعض الأمراض النفسية أكثر تشابها بيولوجيا مما تُظهره أعراضها المميزة. وعادة ما يُعتبر الاضطراب ثنائي القطب اضطرابا مزاجيا، مثل الاكتئاب، لذلك فمن المنطقي أن تكون البيولوجيا الكامنة لكلا المرضين قابلة للمقارنة. ولكن البيانات الجينومية سردت قصة مختلفة: يشترك الاضطراب ثنائي القطب أكثر مع نشاط الجينات القشرية في الفصام. ويقول كيندلر: “هذا ليس ما يتوقعه الأطباء،” وأضاف: “إنّ ذلك يُشير بالتأكيد إلى أنّ الفكرة التي تقول إن هذه أنواع من الاضطرابات مختلفة عن بعضها ليست بالصحيحة.”
في مفاجأة أخرى، لم يجد غيشويند وغاندال وزملاؤهم أساسا أي علاقة في أنماط النشاط الجيني بين إدمان الكحول والاضطرابات الأربعة الأخرى. وقد أشارت العديد من الدراسات في التوائم المتطابقة، لما كان الحمض النووي فيها متطابق إلى حد كبير، إلى تشابه عوامل الخطر الوراثية للاكتئاب الرئيسي واضطراب استخدام الكحول، كما يقول كيندلر. إلاّ أنّ العمل الجديد لا يدعم ذلك.
وهناك سلسلة أخرى من النتائج المحيِّرة التي تُشير إلى جذور التوحد الجزيئية. وقد أظهرت الدراسة، على سبيل المثال، أنّ العديد من الجينات في القشرة الدماغية تنشط في كل من الفصام والتوحد، ولكنها أكثر نشاطا في التوحد. وتشير النتائج إلى أنّ فرط التعبير الجيني Gene Overexpression قد يؤدي دورا في أعراض التوحد. وفي الوقت نفسه، اتضح وجود علاقة بين الجينات المرتبطة بإطلاق الخلايا العصبية بالتوحد، وكذلك بالفصام والاضطراب الثنائي القطب، مما يشير إلى أنّ التغيرات في اتصالات الخلايا الدماغية تؤدي دورا في جميع الحالات الثلاثة.
وتُشير مجموعة أخرى من نشاط الجينات التي برزت في التوحد إلى الخلايا الدبقية Microglia الصغيرة مفرطة النشاط، ومجموعة فرعية من الخلايا المناعية في الدماغ التي تحمي من الالتهاب. وبناء على ذلك، يقود غاندال تجربة سريرية صغيرة من شأنها اختبار ما إذا كان يمكن للمضاد الحيوي Antibiotic أن يبقي هذه الخلايا في حالة السكون في البالغين الذين يعانون التوحد.
ويقول جوردن سمولر Jordan Smoller، عالم الوراثة النفسية من كلية الطب بجامعة هارفارد Harvard Medical School في بوسطن ، والذي قاد دراسة عام 2013 عن المتغيرات الجينية في الاضطرابات العقلية، إنّ الحقل يحتاج إلى الغوص أكثر عمقا بإطلاق أبحاث جديدة تركز على التعبير الجيني في الخلايا المفردة، بدلا من المنطقة الكبيرة للدماغ التي تُفحص في التحليل الحالي. ويمكن أن يساعد ذلك الباحثين على تحديد أنواع محددة من الخلايا التي تقود الاضطرابات، كما يقترح.
ومع ذلك، يُشيد سمولر بتوجه علم الجينوميات النفسية نحو الاتحادات الكبيرة التي يمكن أن تعالج مشكلات كبيرة مع جموع البيانات. ويُضيف كيندلر: “الرسالة [من الدراسة الجديدة] هي مُبشّرة على نطاق واسع،” ويُضيف أيضا: “بدأنا نرى أجزاء اللغز تتضح رويدا رويدا.”
الصورة في الاعلى : لدى القشرة الدماغية على حد سواء أنماط نشاط جيني مشترك ومميز في المرضى الذين يعانون اضطرابات نفسية كبيرة.