الحقيقة قبل الجمال: كوننا أبشع مما تصورنا
يفشل كوننا في تحقيق معايير الجمال الصارمة التي وضعها الفيزيائيون. فهل حان وقت مواجهتنا لحقيقة أننا نحيا في كونٍ بشع Uglyverse
أراد بول ديراك أن يُغوَى، ولم يخشَ الاعتراف بذلك. ففي مقالة نُشرت عام 1963 متذكرا دوره في اكتشاف القوانين الغريبة -لكن الصحيحة- لنظرية الكم Quantum theory، كتب ديراك: “إن توصل المرء إلى معادلات تحتوي على الجمال [في بنيتها] هو أكثر أهمية من توافق هذه المعادلات مع التجربة.” قد يبدو ذلك غريباً. ففي نهاية المطاف تُعد التجربةُ الحَكَمَ النهائي على قدرة معادلة ما على تفسير الظواهر الطبيعية. لكنّ، بالنسبة إلى علماء الفيزياء النظرية مثل ديراك، قد تكون التجارب مُضلَّلة، والجمال وحده هو المنيع على ذلك.
لايزال هذا التكريس العقائدي للجمال شائعاً بين علماء الفيزياء النظريّة الأساسية، على الرغم من أن مقاييس جاذبيتها الجمالية تغيرت مع مرور الزمن. وقد صعدت إحدى الرؤى الأنيقة بشكلٍ خاص إلى صدارة المشهد: مبدأ الطبيعية Principle of naturalness. وعموما هو اعتقاد ينص على أن تلك القوانين يجب أن تكون سامية وحتمية وذاتية، عوضاً عن كونها مؤقتة وعشوائية.
لكن ماذا لو لم تكن كذلك؟ ويظل هذا الاحتمال المثيرة للقلق قائما بين نطاق متزايد من الفيزيائيين بعد الاكتشاف الذي يُعتَبر إنجاز العقد الماضي، وهو اصطياد بوزون هيغز Higgs boson عام 2012. ووفقاً لعالم الفيزياء النظرية من جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز بكاليفورنيا ميشيل دين Michael Dine فإنّ هذا الاكتشاف، الذي حصل في مصادم الهادرونات الكبير LHC في منظمة الأبحاث النووية الأوروبية “سيرن” بالقرب من جينيف بسويسرا، أكد صحة نظرية صمدت لفترة طويلة حول كيفية اكتساب الجسيمات لكتلها، لكن ما توصلنا له -وما لم نتوصل له- حينها يؤدي إلى عواقب عميقة ترتبط بكيفية رؤيتنا للواقع، ويتابع دين قائلاً: “ربما اكتشفنا أن الطبيعة ليست طبيعية بالطريقة التي اعتقدناها.”
وحتى في أوساط صائدي الجسيمات، فإن كلمة “طبيعي” لها عدة معانٍ مختلفة. لكن هذه الكلمة بمعناها العام تُحيط بالفكرة القائلة إن الكون يجب أن يكون معقولاً، لا أن يكون نتاجا غير محتملٍ بشكلٍ كبير لعجلة روليت كوني. ويعلق بِين ألاناش Ben Allanach، عالِم الفيزياء النظرية من جامعة كامبريدج على ذلك قائلا: “الطبيعية هي الاعتقاد بعدم حصول المصادفة على الإطلاق وبوجود سبب يقبع خلف الأشياء. إنها الفكرة القائلة إنّ ذلك ليس مجرد صدفة.”
ربما يبدو ذلك غامضاً قليلاً، لكن لدى علماء الفيزياء النظريين تعريفاً أكثر دقة من الناحية العملية، ويُعرف بـ “الطبيعية التقنية Technical naturalness”، وقد صُمم هذا التعريف، الذي صاغه جيرارد هوفت Gerard ‘t Hooft من جامعة أوتريخت University of Utrecht بهولندا في ثمانينات القرن الماضي، ليلقي الضوء على أي دليل يُشير إلى أن وجود الكون قد يعتمد على مصادفة متوارية وغير جذابة. وبتعابير بسيطة، فإن ذلك يعني القول إن النظريات أو النماذج لا يجب أن تحتوي على ثوابت تختلف قيمها كثيراً عن بعضها البعض. وبعدم وجود نظرية أكبر وأكثر شمولاً بإمكانها تفسير تلك التباينات، فإن تلك القيم لا يجب أن تختلف عن بعضها البعض بمرتبة أكبر من 10 أضعاف.
الأمور ليست غريبة The goods aren’t odd
وذلك يجعل الفيزيائيين يَشكُّون بالأرقام حين لا تتناسب مع بعضها. فكر في الأمر بالطريقة التالية: إذا قادت الدورة المئة لعجلة الروليت إلى الرقم نفسه، فسيكون حينها من الصعب جداً، حتى بالنسبة إلى أكثر الافتراضات الذهنية تساهلا، أن تقبل بإنصاف اللعبة. فذلك مستبعد بشكلٍ كبير ولدرجة لا يمكن تفسيرها. ربما هنالك مغناطيس داخل الكرة، أو وتر غير مرئي؟ ينطبق المنطق ذاته على القوى القوية جداً، وتلك الضعيفة، أو حتى على الجسيمات التي قد تكون كتلتها كبيرة أو صغيرة. وكل ذلك يعني وباختصار أنه لا بدّ وأن شيئاً ما آخر يحصل في الوقت نفسه.
إلى حد ما، هذه هي الطريقة التي تسير عليها الفيزياء الحديثة، فهي تسعى دوماً إلى تفسيرات مبسطة لكونٍ أكثر تعقيداً بكثير. وفي الوقت الحالي بالكاد تقدمت فيزياء الجسيمات قليلاً. صحيحٌ أن النموذج القياسي Standard model في فيزياء الجسيمات ناجح، وقادر على وصف كل الجسيمات المعروفة، وثلاث من القوى الأربع التي نعرفها بالاعتماد على مجموعة وحيدة من المعادلات. لكن هذا النموذج لا يخبرنا شيئاً عن الجاذبية، أو المادة المُعتمة Dark matter، وهذا يُشير إلى وجود شيء ما أكبر ينتظر الحلول مكان النموذج القياسي.
“الطبيعية تحيزٌ معرفي، وهو تحيز سيكون من الجيد أن تعمل الفيزياء على تحييده”
ماذا بعد؟ ربما نشعر بالذنب إذا ما نظرنا إلى النموذج القياسي بشكلٍ متفائل دوماً. فعلى الرغم من كون معادلاته بمعظمها طبيعية، إلا أنه يوجد استثناءان واضحان: كثافة طاقة الفضاء الفارغ المعروفة بالثابت الكوني Cosmological constant وهي أقل بـ 120 مرتبة من المتوقع، وأيضاً هنالك بوزون هيغز الذي يبدو أن كتلته صغيرة جداً. يعلق هوفت قائلاً: “يبدو أن الطبيعة لا تأخذ باقتراحاتي، أو على الأقل لا تتبعها بشكلٍ لصيق.”
لكي يؤدي وظيفته كواهبٍ للكتلة في الكون، يُفترض أن يتفاعل بوزون هيغز مع كل الجسيمات الأخرى في الوجود عبر حقل هيغز المرافق له. وتلك العملية معقدة، وتتطلب أن تكون كتلة بوزون هيغز أكبر بنحو 108 كيلوغرام، أو نحو 1019 غيغا-إلكترون-فولت بلغة فيزيائيي الجسيمات. فهذا الرقم عملاق بالنسبة إلى الجسيمات، إذاً لماذا يظهر بوزون هيغز بوزن الريشة 125 غيغا-إلكترون فولت عند قياس كتلته؟
تنص إحدى الإجابات عن أن كتلته الأصلية ضخمة جداً ولكنها سالبة، كما أن قيمتها متناسبة تماما مع الكتلة الموجبة الإضافية الناتجة من التفاعلات، مما يؤدي إلى إلغاء هذين الكتلتين لبعضهما ليبقى 125 غيغا-إلكترون فولت فقط. لكن هذه المسألة غير طبيعية في جوهرها، إذ لما يتعين على رقمين ضخمين جداً، وغير مترابطين ظاهرياً، أن يلغيا بعضهما البعض بهذا الشكل الأنيق؟
وتكمن الإجابة في جعل تلك الأرقام مرتبطة ببعضها، والمرشح الرئيسي في هذا المجال لإعادة بوزون هيغز إلى حالته الطبيعية هو التناظر الفائق SuperSymmetry، أو ما يُعرف اختصاراً بـ “سوزي” SUSY. إذ تُقدم هذه النظرية الشاملة توأماً ثقيلاً لكل جسيم من الجسيمات التي نعرفها حالياً. إنّ إضافة هذه الجسيمات الفائقة Sparticles ستقدم لبوزون هيغز الكتلة السالبةَ المناسبة تماماً لتلك التي تُضيفها تفاعلاته مع الجسيمات، لتملأ بذلك المعادلات وتُعطي بوزون هيغز الكتلةَ التي تجعله طبيعياً من الناحية التقنية. “سوزي” أنيقة من الناحية الرياضياتية أيضاً، فبإمكانها توحيد ثلاث من القوى الرئيسية، وفي الوقت نفسه تقديم تفسير للمادة المُعتمة التي يُعتقد أنها المسؤول عن بقاء المجرات مرتبطة ببعضها.
البحث عن الجسيمات الفائقة Looking for sparticles
عند النظر إلى هذه النظرية التي تؤدي العديد من المهام، اعتقد معظم الفيزيائيين أن سوزي ستقوم بالعمل، وتوقعوا أن اكتشاف الجسيمات الفائقة سيحصل عند طاقات أكبر من تلك التي استُعملت عند اكتشاف بوزون هيغز، لتنتصر بذلك الفيزياء مجدداً. جميل. إلا أنّ أياً من ذلك لم يحصل. وفي الحقيقة، فإن عمليات البحث المستمر عن تلك الجسيمات الفائقة باستخدام ثلاثة أجيال من المصادمات، بما في ذلك مصادم الهادرونات الكبير LHC والجبار، عادت بيدين خاليتي الوفاض.
بالطبع ربما تكون تلك الجسيمات موجودة في مكانٍ ما، لكن أماكن البحث المتوقعة تستمر بالنفاذ مع قيام مصادم الهادرونات الكبير LHC عبر بحثه الأخير، الذي من المقرر أن ينتهي في نهاية عام 2018، بتسليط الضوء على أكثر الزوايا عتمة في الأماكن التي من المتوقع أن نجد تلك الجسيمات فيها. وذلك يعني أننا عالقون مالم نقم بمراجعة المنطق الذي قادنا إلى التفكير في تلك الجسيمات الفائقة. يقول ألاناش: “تتنبأ نظرية التناظر الفائق بالجسيمات التي سيكون مصادم الهادرونات LHC قادرا على كشفها، وهذا ما يجعلني أشك في أننا أمسكنا بالطرف الخاطئ من العصا بالنسبة إلى مبدأ الطبيعية. لست مقتنعاً بذلك الآن، لكنني أشك فيه.”
بالطبع، يتزايد عدد الفيزيائيين المتخوفين، بمن في ذلك أولئك الذين أمضوا كامل فترة مهنتهم متوافقين مع هذا المبدأ، فها هو جيان جيوديس Gian Giudice، كبير العلماء النظريين في سيرن، يعترف مؤخراً أن مبدأ الطبيعية “قد لا يكون الأداة الصحيحة لإحراز المزيد من التقدم.” وفي مقالة له نُشرت على الإنترنت العام الماضي ذهب بعيداً جداً إلى حد وصف الوضع الحالي بـ “نقطة تحول” في الفيزياء النظرية.
بالنسبة إلى زابينه هوسينفيلدر Sabine Hossenfelder، عالمة الفيزياء النظرية من معهد فرانكفورت للدراسات المتقدمة Frankfurt Institute for Advanced Study في ألمانيا، هناك طريقة واحدة للالتفاف بعيداً عن الطبيعية. ففي كتابها، الذي سيُنشر في وقتٍ لاحق ضائع في الرياضيات: كيف يقود الجمال إلى تضليل الفيزياء Lost in Math: How beauty leads physics astray، لا تتساءل هوسينفيلدر عن فائدة المبدأ فقط، وإنما عن اتساقه المنطقي. وينص مبدأ الطبيعية على أن كتلة بوزون هيغز غير محتملة كما هي الحال مع عجلة الروليت المزورة. لكن، بالنسبة إلى عجلة الروليت، فلدينا متسعٌ من الوقت لإجراء تجربة تخبرنا مدى استثنائية الحصول على نتيجة ما بشكلٍ متكرر، وهو ما يدعوه الفيزيائيون بالتوزع الاحتمالي Probability distribution، أما في الحالة الثانية ووفقاً لهوسينفيلدر فليس لدينا إلا كون واحد، ولا يوجد شيء آخر للمقارنة به.
إذن، لماذا يتمتع مبدأ الطبيعية بكل هذا التبجيل؟ تُجيب هوسينفلدر: “شخصياً، أعتقد أنه تحيزٌ معرفي،” وهو تحيز سيكون من الجيد على الفيزياء استبعاده.
لا يتحمس الجميع لاحتضان الصورة البديلة “البشعة” لمبدأ الطبيعية، فنبذ الجمال من كونه المبدأ المرشد قد يقود إلى الاقتراب بشكلٍ خطر من المنطق الدائري للمبدأ الإنساني Anthropic principle الذي ينص على أن الكون يتمتع بخواصه الحالية، وهو على ما هو عليه لأننا موجودون فيه ونفكر فيه. بالنسبة إلى كثيرين، يعتبر ذلك المَخرَجَ الأخير وهو يتضمن تجنب المسؤولية والالتزام. ويقول ألاناش: “تكمن مشكلة المبدأ الإنساني في كونه يُجسد تراجع البحث العلمي، فهو يقبل فكرة أننا لن نتمكن من المعرفة”.
تُجادل هوسينفيلدر في أن استبعاد المبدأ التقني للطبيعية لا يودي بنا بالضرورة إلى طريق المبدأ الإنساني الذي يقودنا بدوره إلى شلل علمي، وتضيف قائلةً: “لا يوجد شيء خاطىء عند القول إن ثابتك له هذه القيمة أو تلك.” مع ذلك، لم يستسلم معظم الفيزيائيين بشأن الطبيعية. فعلى سبيل المثال، يقول ألاناش إنه وفي الوقت الذي يرى فيه الإحباط الذي يرتسم على وجوه زملائه بخصوص افتقاد أي دليل على وجود التناظر الفائق، غير أنه لم يشعر قطُّ بأن المجال على وشك الانقلاب ضد الطبيعية بوصفها المبدأ المرشد. وفي الحقيقة، فإن بعض العلماء، كدين مثلاً، مازالوا يأملون بأن جسيمات “سوزي” ربما تكون موجودة عند طاقات أعلى -طاقات قد تكون مرتفعة إلى درجة لا يُمكن معها لأي مصادم اكتشافها.
“إنها تبدو كشروحٍ عقائدية تستدعي وجود كائنات لا يُمكن رصدها”
لكن بالنسبة إلى أولئك المنزعجين من الفراق بين مبدأ الطبيعية و”سوزي”، ظهرت نظرية بديلة تُعزيهم. فبدلاً من السعي وراء التفسير الطبيعي لكتلة بوزون هيغز عبر إقحام عدد كبير من الجسيمات الجديدة، جاءت فكرة أفضل: إقحام بلايين من الأكوان البديلة. إن فكرة وجود مثل هذه الأكوان المتعددة Multiverse ليست بالشيء الجديد، إذ لطالما اقترح علماء الكون أنه خلال اللحظات الأولى من الانفجار الكبير قاد التوسع الأسّيّ الكبير جداً للكون إلى إنتاج مجموعة من المناطق التي ابتعدت كثيراً عن بعضها البعض إلى درجة يُمكن معها اعتبارها أكواناً مختلفة، أما العدد الصحيح لتلك الأكوان فلايزال غير محدد، لكنه قد يصل إلى 10500 واحدٍ متبوعٍ بـ 500 صفر، ولكلٍ منها خواصه الفيزيائية الفريدة.
بالطبع لا يوجد أي دليل على وجود مثل هذه الفسحة العملاقة، هذا بغض النظر عن عدد تلك الأكوان أو خواصها. مع ذلك، فإن وجود عدد كبير من التشكيلات المحتملة قد يقودنا إلى التوزع الاحتمالي الذي يُمكنه تفحص مبدأ الطبيعية عند الحاجة. وفي الوقت الذي تمتلك فيه معظم تلك الأكوان بوزونات هيغز لها كتل أكثر منطقية، إلا أن كوننا وببساطة وقع في شذوذ إحصائي. ويُضيف دين: “النموذج الوحيد الذي يُمكنه تفسير أرقام ككتلة بوزون هيغز والثابت الكوني هي تلك البدائل الغريبة كهذا النموذج الأكوان المتعددة.”
للوهلة الأولى، يبدو أن ذلك يقودنا إلى الطريق المسدود للمبدأ الإنساني. فمن بين كل تلك الأكوان المختلفة، نُوجد في ذلك الكون الوحيد الذي لديه بوزون هيغز خفيف بشكلٍ كافٍ ليدعم البنى الكونية التي أدت في النهاية إلى ظهور الحياة، والبشر ليفكروا بدورهم في هذه الأمور. لكن معظم العلماء النظريين يسعون خلف شيء أكثر قوة وتماسكاً، فهم يريدون آليةً تكفل أن بوزون هيغز يتصرف بطريقة مختلفة عما هو الحال في جوارنا الكوني. وفي الوقت الذي قد لا تُمثل فيه الأكوان المتعددة الجواب النهائي، إلا أنها قد تكون خطوة في الاتجاه الصحيح. ويقول دين: “إنها تعطيني بعض الأمل بأننا سنجد طريقاً نحو الوصول إلى تفسير منطقي.”
وفي الحقيقة، يعتقد البعض أننا وجدنا الحل. فعوضاً عن استحضار بلايين الجسيمات من مليارات الأكوان البديلة، ماذا لو كانت كل بوزونات هيغز تلك موجودة في كوننا الحالي، غير أنّ بعضاً من العمليات اختارت ذلك الذي نراه اليوم؟ ويُمثل ذلك جوهر عمل فريق يقوده نيما آركاني-حامد Nima Arkani-Hamed من معهد الدراسات المتقدمة بجامعة برينستون في نيوجيرسي، وقد اقترحوا ذلك في نظريتهم “نظرية الطبيعية-N” أو theory of Nnaturalness. وتُقدم هذه النظرية N نسخة من النموذج القياسي، حيث يُمثل N عدداً كبيراً، وكل هذ النسخ تُوجد في الكون الحالي. وهذه النسخ ستكون متطابقة في كل شيء عدا كتلة بوزون هيغز، والذي بدوره يُؤثر في كل كتل الجسيمات الأخرى في كل نسخة.
تبرير وجودنا
لا بدّ أن شيئاً ما اختار النسخة التي تحتوي على بوزون هيغز الخفيف الذي نراه اليوم. ووفقاً لآركاني-حامد وزملاؤه، ربما يعود الفضل في ذلك إلى جسيمات افتراضية تُعرف بالريهيتون Reheaton التي احتوت كامل الطاقة في اللحظات الأولى من عمر الكون.
كانت طاقة تلك الجسيمات مرتفعة جداً لدرجة لا تسمح لها بالاستمرار، وفي نهاية المطاف تفككت إلى جسيمات أخف تضمنت بوزونات هيغز الخفيفة ومن ثم قدمت طاقتها للكون. وبذلك تكون كتلة بوزون هيغز التي نرصدها اليوم هي الكتلة المسموح بوجودها، كما أن الجسيمات المألوفة بالنسبة إلينا كانت مفضلة حينها.
يقول ديفيد بينر David Pinner من جامعة برينستون وهو أحد المتعاونين مع آركاني-حامد في صياغة هذه النظرية: “اختارت عملية إعادة التسخين، والتي حصلت في المراحل المبكرة جداً من عمر الكون، النموذجَ القياسي الحالي من بين كل النسخ المتاحة”، ويُضيف أنه بالإمكان رصد دلائل على عملية الاختيار هذه في التوهج اللاحق للانفجار الكبير باستخدام التلسكوبات المستقبلية. وإذا ما اعتقدتَ أن طريقة التفكير هذه مشابهة جداً لذلك النوع المرتبط بمسائل الضبط الدقيق المستحيلة أو بعمليات الإلغاء التي يسعى مبدأ الطبيعية إلى إبعادنا عنها، فأنت لست وحيداً. تقول هوسينفيلدر: “يُصبح بعض هذه التفسيرات معقداً للغاية، أكثر بكثير من مجرد وضعه في ثابت، ومن ثمّ قبول هذا الثابت. كما أنها تبدو مشابهة تقريباً للتفسيرات العقائدية التي تستدعي وجود كائنات لا يُمكننا رصدها.”
في نهاية المطاف، فإن مبدأ الطبيعية -كفكرة الجمال مثلاً- تقبع في عين الناظر، فأحد الحلول البسيطة بالنسبة لشخص ما قد تبدو وحشاً للآخرين. لكن كما هي الحال مع ديراك، يرغب معظم العلماء النظريون بالتعرض لتضليل هذا الجمال، وإذا عنى ذلك وجوب تحديثهم لأفكارهم المتعلقة بنظرتهم إلى الجمال بشكلٍ يتلاءم مع تغير الزمن، أو حتى استبعاد تلك الأفكار، فليكن ذلك. يقول ناثان سايبرغ Nathan Seiberg، من معهد الدراسات المتقدمة: “تحصل الإنجازات العظيمة في الفيزياء عندما يُجبر تناقضٌ ما الباحثين على إعادة تقييم لافتراضاتهم. ويجب النظر إلى مسألة الطبيعية على أنها فرصة، عوضاً عن كونها سبباً للتوقف.”