مقال حصري: شكوك خطيرة حول اكتشاف “لايغو” لموجات الجاذبية
بقلم: مايكل بروكس Michael Brooks
ترجمة: همام بيطار
لم يكن هناك أي شك حول حتمية رصدنا لموجات الجاذبية (الثقالية) Gravitational waves عاجلاً أم آجلاً، فهذه الانضغاطات والتمددات المتكررة دورياً في المكان والزمن هي نتيجة حتمية لواحدةٍ من أكثر النظريات العلمية رسوخاً، وهي نظرية آينشتاين في النسبية العامة. ولذلك عندما انتهينا من بناء آلة قادرة على رصدها، بدا أن الأمر صار مسألة وقت قبل اكتشافها.
في الحقيقة تطلّب إتمام الأمر يومين فقط بعد تشغيل مرصد قياس موجات الجاذبية بالتداخل الليزري Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory، أو المعروف اختصاراً بـ “لايغو” LIGO، كواشفَه الجديدة في الثاني عشر من سبتمبر عام 2015. وخلال 48 ساعة، أنجز المرصد أولى عمليات الكشف، وقد احتاج الباحثون إلى بضعة أشهر ليصلوا إلى درجة كافية من الثقة أعلنوا معها اكتشافهم. وقد بشّرت عناوين الصحف حينها بواحدة من أعظم الإنجازات العلمية المُتحقِّقة خلال القرن الماضي، وتبع ذلك الحصول على جائزة نوبل للفيزياء عام 2017، ومنذ ذلك الحين رُصدت خمس موجات جاذبية أخرى.
فهل حقّقوا ذلك حقا؟ هذا هو السؤال الذي طرحته مجموعة من علماء الفيزياء الذين عكفوا على استكمال تحليلهم الخاص للبيانات. ويقول اندرو جاكسون Andrew Jackson، المتحدث باسم المجموعة: “نعتقد أن لايغو فشل في تقديم نتائج مقنعة بالنسبة إلى اكتشاف أي من أحداث الموجات الجاذبية،” ووفقا للفريق، فإنّ ذلك الإنجاز لم يكن كشفا عن موجات الجاذبية، وإنما مجرد وهم كبير.
ففي 11 فبراير عام 2016ظهرت أولى الأخبار الكبيرة ، في مؤتمر صحفي أعلنت مجموعة من أبرز أعضاء مجموعة البحث في لايغو أن كواشفهم التقطت إشارة لموجات جاذبية ناتجة من تصادم زوج من الثقوب السوداء.
ومنذ هذا المؤتمر بدأت شكوك مجموعة جاكسون، مقرها معهد نيلز بور Niels Bohr Institute في كوبنهاغن بالدنمارك، إذ تفاجؤوا من اللغة الواثقة التى جرى من خلالها الإعلان عن الاكتشاف، ولذلك قرروا إلقاء نظرة عن كثب.
وادعاءات هذه المجموعة ليست مزعجة، كما أنها لا تصدر مجموعة مثيرين للشغب من غير المدركين بكل جوانب الموضوع. وعلى الرغم من أنهم لم يعملوا مع موجات الجاذبية، إلا أن لديهم خبرات واسعة جداً في مجال تحليل ومعالجة مجموعات ضخمة من البيانات، مثل تلك المرافقة لأشعة الخلفية الكونية الميكروية Cosmic microwave background radiation، أو التوهج اللاحق للانفجار الكبير Big bang والتي تنتشر على شكل نمطٍ رقيق في أرجاء السماء. ويقول دونسان براون Duncan Brown من جامعة سيراكوس Syracuse University في نيويورك، وهو خبير في مجال موجات الجاذبية غادر تجربة لايغو مؤخراً: “هؤلاء الأشخاص علماء ثقات.”
تنتج موجات الجاذبية من تصادم أجسام فائقة الكتلة مثل الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية، ومن ثمّ ترحل هذه الموجات على مدار بلايين السنين متسببة في ضغط وتمدد الزمكان Space-time على طول مسارها. وتضعُف هذه الموجات جرّاء انتشارها في كل الاتجاهات بالفضاء، ولكنه يظل من الممكن اكتشافها على الأرض باستخدام أجهزة حساسة إلى درجة كافية.
بنى تعاون لايغو جهازين من هذا النوع، وهما كاشف هانفورد Hanford detector في ولاية واشنطن، وكاشف ليفينغستون Livingston detector في لويزيانا، كما انضمت إلى هذا التعاون عام 2017 أداة مستقلة ثالثة تُعرف بـ فيرجو VIRGO موجودة بالقرب من بيزا في إيطاليا. وأطلقت مقاييس التداخل Interferometers هذه أشعة ليزر داخل مجموعة من القنوات، ومن ثمّ جرى عكس هذه الأشعة بطريقة تُوجب وصول النبضات الليزرية في الوقت نفسه. ومرور موجات الجاذبية بجوار الأرض سيشوه الزمكان حولها؛ مما يجعل من إحدى القنوات أطول من الأخرى ليؤدي ذلك إلى تدمير تزامن وصول النبضات في الوقت نفسه.
وفي الوقت الذي تغمر فيه موجات الجاذبية الأرض، فإنها تكون ضعيفة جداً إلى درجة يبلغ معها التغير الذي يصيب طول النفق نحو جزء من الألف من قطر البروتون، وهذا أقل بكثير من الاضطرابات الموجودة في خلفية الاهتزازات الزلزالية، وحتى من تلك الاهتزازات الحرارية الطبيعية لمعدات الكاشف.
يُمثل الضجيج مشكلة كبيرة بالنسبة إلى عمليات تقصي وكشف موجات الجاذبية. ونتيجة لذلك توجد أجهزة مختلفة في أماكن مختلفة من العالم للكشف عنها، فنحن على علمٍ بأن تلك الموجات تتحرك بسرعة الضوء، ولذلك فإن أي رصد لها يكون مقبولاً فقط إذا ظهرت الإشارة في كل تلك الأجهزة بالوقت الصحيح. وبعد إجراء القياس باستخدام تلك الأجهزة، قم باستخلاص الإشارة الشائعة بينها، ومن ثمّ كل ما يتبقى هو الضجيج الفريد والخاص بكل واحدٍ من تلك الكواشف لأن الاهتزازات الزلزالية لكل من تلك الأجهزة مختلفة عن بعضها الآخر.
هذه هي الحيلة الرئيسية التي تستخدمها تجربة لايغو في فصل موجات الجاذبية عن خلفية الضجيج المرافقة لها. ولكن عندما نظر جاكسون وفريقه إلى بيانات الاكتشاف الأول، تنامت شكوكهم. ففي البداية طبع جاكسون صوراً لمجموعتين من البيانات الخام وعلَّقها فوق النافذة، واحدةً فوق الأخرى. واعتقد جاكسون بوجود نوع من الترابط بين هاتين المجموعتين من البيانات، وبعد ذلك بفترة تمكن هو وفريقه من الحصول على البيانات المستخدمة من قبل باحثي لايغو، وفحصوها مرةً تلو الأخرى. ولكنهم على الرغم من كل ذلك، اكتشفوا أن هناك شيئا مشتركا بين الضجيج الخاص بكاشف هانفورد وذلك الخاص بكاشف ليفينغستون. ويقول جاكسون: “توصلنا إلى استنتاج مزعج للغاية؛ لم يتمكنوا من فصل الإشارة عن الضجيج!”
وقد كتب الفريق الدنماركي بحثه ونشوه على شبكة الانترنت. وبعد عدم تلقيه لأي رد من قبل تعاون لايغو، قدم الفريقُ البحثَ للنشر في مجلة علم الكون وفيزياء الجسيمات الفلكية Cosmology and Astroparticle Physics. ومحرر هذه المجلة هو فيتيشيسلاف موخانوف Viatcheslav Mukhanov من جامعة لودفيغ ماكسيميليان Ludwig Maximilian University في ميونخ بألمانيا وهو عالم كون مرموق عالمياً، كما أن إدارة التحرير والاستشاريين تضم كباراً من علماء الفيزياء مثل مارتين ريز Martin Rees من جامعة كيمبريدج، وجوانا دونكلي Joanna Dunkley من جامعة أكسفورد، وأندري ليند Andrei Linde من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا.
شرح الصورة: الرؤية عبر الضجيج Cutting through the noise
أرسل موخانوف الورقةَ العلمية للمراجعة إلى خبراء مختصين. فعادة ما تكون هويات المراجعين سرية، وبذلك يُمكنهم التعليق بحرية على المسودات، وهؤلاء المراجعون المختارون كانوا ذوي سمعة عالية وفقاً لموخانوف الذي يتابع قائلاً: “لم يتمكن أي منهم الإشارة إلى خطأ ملموس في تحليل الفريق الدنماركي. فليست هناك أخطاء.”
هل ما زال الأمر مجرد عاصفة في فنجان؟ إن نظرية النسبية العامة هي واحدة من أكثر نظرياتنا تعرضا للمراجعة والفحص، ومن ثمّ فإنه لا يوجد أي سبب يدعونا إلى عدم تصديق تنبؤها الخاص بوجود موجات الجاذبية. كما أننا نعرف أيضاً أن حساسية تجربة لايغو كافية لاكتشاف تلك الموجات، وقد جاءت اكتشافات الأجهزة متوافقةً تماما مع المعدلات التي تنبأت بها النظرية. إذن، لماذا يقلقنا هذا الضجيج؟
اسعَ، وستجد!
هناك إجابة بسيطة عن هذا السؤال: ارتكب علماءُ الفيزياء الكثيرَ من الأخطاء سابقاً، وهي أخطاء يُمكن اكتشافها فقط عند النظر بعناية إلى الضجيج التجريبي المرافق للعمل (انظر: الضجيج المحرج. (
والخطوة الأولى لحل النزاع الدائر حول موجات الجاذبية هي الإجابة عن السؤال: كيف عرف باحثو لايغو ما الذي يجب البحث عنه؟ ويتضمن ذلك الطريقة التي تمكنوا من خلالها تمييز الإشارة عن الضجيج ومن ثمّ طرحها من البيانات المُكتشفة. وإذا كانت نتيجة هذا العمل عبارة عن ضجيج نقي، فإنهم أشاروا إلى ذلك على أنه الاكتشاف.
ومعرفة شكل الإشارة يتطلب حل معادلات آينشتاين في النسبية العامة، والتي تُخبرنا كيف تشوِّه قوى الجاذبية الزمكانَ. أو على الأقل سيكون ذلك ممكناً بالاستعانة بالرياضيات. ويقول نيل كورنيش Neil Cornish من جامعة ولاية مونتانا Montana State University، وقد كان كبير محللي البيانات في لايغو: “لسنا قادرين على حل معادلات آينشتاين بدقة بالنسبة إلى حالة اندماج ثقبين أسودين،” وعوضاً عن القيام بذلك، يستخدم محللو البيانات عدة طرق لتقريب تلك الإشارات التي يتوقعون رؤيتها.
تتضمن الطريقة الأولى، المعروفة بالطرق العددية Numerical method، تَجْزِيء الزمكان إلى مجموعة من القطع الصغيرة. وعوضاً عن حل المعادلات داخل وسط مستمر للمكان، فإننا نحلها بالنسبة إلى عدد محدود من الأجزاء، وهذا أسهل لكنه يحتاج إلى قدرة حساب فائقة؛ مما يعني بدوره أنه لا يُمكننا إنجاز الأمر بهذه الطريقة وتطبيقها على جميع مصادر موجات الجاذبية.
أما الطريقة الثانية الأكثر عمومية والمعروفة بالطريقة التحليلية Analytic method فهي تعتمد على إجراء مجموعة من عمليات التقريب لمعادلات آينشتاين بهدف إنتاج قوالب جاهزة لإشارات موجات الجاذبية الناجمة عن مصادر مختلفة، مثل الثقوب السوداء ذات الكتل المختلفة. وإجراء هذه العمليات الحسابية يتطلب جزءاً من الثانية، لكنها ليست دقيقة كفاية لنمذجة عملية الاندماج الأخيرة لثقبين أسودين. وقد جرت نمذجة هذه المسألة باستخدام حسابات تُمكِّن الباحثين من تعديل المقاييس Parameters لتتناسب مع النتائج المستخلصة من الحل التحليلي الابتدائي
يُمثل هذا الاستخدام للقوالب المحسوبة مسبقاً مشكلةً وفقاً لكورنيش الذي يتابع قائلاً: “باستخدام عملية البحث عن قالب معين، يُمكنك فقط اكتشاف ما تبحث عنه،” وأكثر من ذلك هنالك بعض القوالب، مثل تلك التي تمثل الموجات الناجمة عن أنواع محددة من انفجارات المستعرات الفائقة، لا يُمكن لباحثي لايغو إنشاؤها أبداً. ولذلك يُفضل كورنيش طريقة ثالثة ساعد على تطويرها. تتضمن هذه الطريقة بناء نموذج يعتمد على ما يُعرف بالمُويجات (wavelets)، وتمثل هذه المويجات أجزاء صغيرة جداً من الإشارة الأساسية يُمكن جمعها معاً بطرق مختلفة.
كل ما عليك القيام به هو تغيير عدد تلك الأجزاء وشكلها حتى تصل إلى الشكل المناسب الذي يفصل الإشارة عن الضجيج. ولأن التحليل المعتمد على المويجات لا يستخدم أي فرضية حول السبب الكامن وراء موجات الجاذبية، ومن ثم يُمكنه أن ينجز أعمق الاكتشافات. ويقول كورنيش: “تسمح المويجات باكتشاف المجاهيل غير المعروفة.” والجانب السلبي هنا هو أن هذه الطريقة لا تخبرنا شيئاً عن السمات الفيزيائية للمصدر المكتشف، ولذلك علينا مقارنة الإشارة التي جرى إنشاؤها باستخدام القوالب التحليلية أو الطرق العددية.
يكمن التحدي في هذه الطرق الثلاث في إجراء فصل دقيق للإشارة عن البيانات، ويتطلب الأمر من الشخص معرفة أين يتوقف. بكلمات أخرى، عليك فهم كيف سيبدو الضجيج، وهذا دقيقٌ للغاية وخادع جداً، إذ قد تغفل عن الكاشف ويبقي دائرا حتى في غياب موجات الجاذبية؛ ومع ذلك تحصل على قراءات. ويتغير الضجيج بشكل كبير في هذه الحالة إلى درجة لا يُمكن معها الحصول على خلفية ضجيج موثوق به. ولذلك عوضاً عن هذا، تعتمد تجربة لايغو على تمييز الضجيج داخل الكواشف، ومن ثمّ يعرف الباحثون كيف سيبدو الضجيج عند كل لحظة، ويعلق كورنيش على الأمر قائلا: “معظم ما نقوم به هو نمذجة الضجيج ودراسته.”
“استخدمت الورقة العلمية التي وصفت أولى الاكتشافات رسوماً كانت ذات طبيعة توضيحية أكثر منها دقيقة.”
يشتبه جاكسون في تحليل الضجيج الخاص بفريق لايغو، وتتجلى إحدى الإشكاليات في عدم وجود فحص مستقل لنتائج تعاون لايغو. ولم تكن الحال كذلك مع الاكتشافات البارزة الأخرى التي حصلت مؤخراً مثل اكتشاف بوزون هيغز. ففي حالة بوزون هيغز جرى تأكيد وجود الجسيم من قبل كاشفين مختلفين متحكم فيهما جيداً عبر تحليل بياناتهما في سيرن بالقرب من جنيف بسويسرا. كما أن كلا الفريقين اللذين عملا على ذلك الكشف حافظ على نتائجهما سرية حتى اكتمال التحليل.
على النقيض من ذلك، يجب أن تعمل تجربة لايغو مع أحداث وحيدة وغير قابلة للتحكم، ولا للتنبؤ. وعلى الرغم من وجود ثلاثة كواشف، إلا أنها تعمل تقريباً كجهاز واحد. وبصرف النظر عن وجود أربعة فرق لتحليل البيانات، إلا أنه ليس بمقدور أي منهم العمل بشكلٍ منفصل تماماً لأن جزءاً من عملية الكشف يتضمن التأكد من أن جميع الأجهزة شاهدت الإشارة. ويؤدي ذلك إلى خلق حالة تمثل فيها كل عملية رصد إيجابية استنتاجا غير قابل للفحص والتقصي. وعلى المراقبين أن يثقوا بأن لايغو ينجز عمله بشكلٍ مناسب.
توضيحية جوهريا
هنالك أيضاً أسئلة مشروعة تتعلق بتلك الثقة. فعلى سبيل المثال، فقد علمت نيوساينتست أن تعاون لايغو قرر نشر رسومات بيانات لم تكن مستخلصة من البيانات الفعلية. وقد استخدمت الورقة العلمية الأولى التي تصف الاكتشاف، والمنشورة في دورية رسائل المراجعات الفيزيائية Physical Review Letters، رسما كان “توضيحياً” أكثر من كونه دقيقاً وفقاً لكورنيش. وبعضاً من تلك النتائج المذكورة في الورقة الأولى لم تُستخلص باستخدام خوارزميات التحليل، وإنما بـ “النظر بالعين” إلى البيانات.
يشرح براون الذي كان جزءاً من تعاون لايغو في ذلك الوقت، الأمر بأنه كان محاولة لتقديم مساعدة بصرية، ويتابع: “تم ضبطها يدوياً لأغراض تعليمية،” وفي الوقت نفسه يأسف كورنيش على عدم الإشارة إلى تلك الحقيقة في الرسومات.
إن تعبير بيانات “مضبوطة يدوياً” في تقرير علمي جرت مراجعته بعمق هو أمر غير شائع على الإطلاق. وقد وجهت نيوساينتيست سؤالا إلى المحرر الذي راجع الورقة وهو روبرت غاريستو Robert Garisto عما إذا كان على علم بأن رسومات البيانات لم تكن مستخلصة مباشرة من بيانات لايغو وإنما هي “تعليمية” وتوصل الباحثون إليها بـ “النظر بالعين”، وعما إذا كانت المجلة تقبل بشكلٍ عام أشكالاً توضيحية، فرفض التعليق.
وكانت هناك أيضاً اختصارات مشكوكٌ فيها بالبيانات التي نشرتها تجربة لايغو للاستخدام العام، إذ أجرى فريق لايغو عملية تقريب لنتيجة طرح إشارة هانفورد من تلك الخاصة بليفينغستون، مما أدى إلى بقاء ارتباطات Correlations قوية في البيانات، وهو الارتباط الذي لاحظه جاكسون. والآن هنالك ملاحظة على موقع الانترنت الخاص بالبيانات توضح أن الشكل المتاح للموجة “لم يجرِ ضبطه لإزالة الإشارة بدقة.”
وبصرف النظر عن أوجه القصور في إعداد التقارير والبيانات، فإنّ كورنيش يُصر على أن التحليل الفعلي للبيانات جرى باستخدام أدوات معالجة استغرق تطويرها سنوات عديدة، كما أنهم اعتمدوا على قدرات حاسوبية هائلة لإجراء التحليل، وقد عملت بشكلٍ مثالي.
ومع ذلك، يجب على أي شخص خارج ذلك التعاون أن يتخذ موقفاً، كما يقول جاكسون: “إنها مسألة إشكالية: لا توجود بيانات كافية لإجراء تحليل مستقل. يبدو الأمر وكأن البيانات متاحة تماماً، دون أن تكون كذلك على الإطلاق.”
يتفق براون مع جاكسون على هذه المشكلة، ويعلق بالقول: “خطت تجربة لايغو خطوات عملاقة، وهي تتحرك نحو جعل البيانات مفتوحة المصدر، وأن تتيح الفرصة لإعادة تكرار التحليل العلمي،” ويتابع: “لكن لا أعتقد أنها قريبة من تحقيق ذلك بعد.”
وتوصلت عمليات فحص الفريق الدنماركي، المنشورة على شكل سلسلة من ثلاث أوراق علمية، إلى أن احتمال وجود موجات جاذبية في إشارة سبتمبر 2015 هو احتمال ضئيل للغاية. وعلى مقياس يُشير فيه 1 إلى وجود حتمي للموجات و0 إلى غيابها بالمطلق، يقول جاكسون إن عمليات تحليل تتوصل إلى اكتشاف أولى موجات جاذبية قادمة من حدث يتضمن اندماج ثقبين أسودين وفقاً لما ادعته لايغو هو احتمال يساوي 0.000004، وهذا مساوٍ تقريباً لاحتمال وفاتك نتيجة لضربة مذنب أو كويكب، أو كما يعلنها جاكسون إنها “منسجمة مع 0”. كما أن احتمال أن تكون الإشارة ناجمة عن اندماج أي نوع من الثقوب السوداء ليس بالاحتمال الكبير أيضاً، فوفقاً لتقديرات جاكسون وزملاؤه الاحتمال هو نحو 0.008.
إشارات متزامنة
هنالك دليل آخر يقترح أنه على الأقل واحدة من عمليات الاكتشافات التي جرت مؤخراً قادمة من موجة جاذبية. ففي 17 أغسطس عام 2017 رصد تلسكوب فيرمي الفضائي انفجاراً للأشعة الكهرومغناطيسية في الوقت نفسه الذي التقطت فيه كواشف لايغو وفيرجو الإشارة، وقد قادت عمليات تحليل كل البيانات إلى اقتراح مفاده أن تكون كلتا الإشارتين قادمتين من تصادم عنيف لنجمين نيوترونيين.
تُظهر هذه الضربة المزدوجة أن اكتشاف لايغو لا لبس فيه. وعلى الرغم من ذلك، يعارض الفريق الدنماركي هذا الأمر، فقد أشار إلى أن تعاون لايغو سجل الحدث بدايةً على أنه تحذير خاطئ لأنه ينسجم مع ما يُعرف بـ “الخلل المفاجئ”. وتعاني الكواشف مشكلاتِ الاهتزازات الصغيرة هذه غير القابلة للشرح وهي تأتي على شكل انفجارات من الضجيج، وفي بعض الأحيان تكون عبارة عن مجموعة من الانفجارات كل بضع ساعات. ويبدو أن هذه الإشكاليات مرتبطة بالمعدات المستخدمة في بناء مقاييس التداخل، وأسلاك التثبيت وأجهزة العزل الزلزالي.
ويقول كورنيش إن مُحللي البيانات في لايغو تمكنوا في نهاية المطاف من إزالة هذه الاختلالات واكتشاف الإشارة، لكن جاكسون وفريقه غير مقتنعين مجدداً بالطرق المستخدمة في ذلك، ومنزعجين من حقيقة أنه لا توجد أي طريقة لفحص تلك البيانات.
ماذا نفهم من كل ذلك؟ لا شيء ظاهرياً. يُصر كورنيش على أن “التحليل الدنماركي خاطئ. فهو يشتمل على أخطاء جوهرية جداً،” ومن ثمّ يستمر العمل بهذه “الأخطاء” حتى الوصول إلى قرارات بخصوص كيفية اختيار أفضل الطرق لتحليل البيانات الخام (انظر: كيف ترصد موجة.(
لا يوافق الجميع على أن خيارات الفريق الدنماركي كانت خاطئة. ويقول بيتر كوليز Peter Coles، وهو عالم كونيات Cosmologist من جامعة مينوث Maynooth University في أيرلندا: “أعتقد أن ورقتهم العلمية جيدة، ومن المخجل حقاً أن أحد أعضاء تجربة لايغو كانا فظّا في رده على المسألة،” ويتابع القول: “الآن، هذه ليست مسؤولية الفريق الدنماركي، فالكرة في ملعب فريق لايغو. هنالك أسئلة لا بد من الإجابة عنها.”
يعتقد براون أن تحليل الفريق الدنماركي خاطئ، لكنه يستحق النظر. كما أن كورنيش يعترف بأن التدقيق ربما لا يكون بالأمر السيئ أبداً، وفي الوقت نفسه يخطط هو وزملاؤه لكتابة ورقة علمية تصف الخواص التفصيلية لضجيج لايغو، ويضيف: “إنها نوعٌ من الأوراق العلمية التي لا نرغب حقاً في كتابتها لأنها مملة ولدينا المزيد من الأشياء المثيرة لإنجازها،” لكنها ضرورية وفي نهاية المطاف ربما لا تكون عمليات التدقيق والتشكيك المتزايدة أمراً سيئاً على الإطلاق، ويتابع: “عليك أن تفهم ذلك الضجيج.”
لا شكل لدى كوليز أبداً في اكتشافنا لموجات الجاذبية، لكنه يتفق مع جاكسون في أنه لا يُمكن تأكيد ذلك إلا بعد أن يتمكن مجموعة من العلماء المستقلين من فحص البيانات الخام وأدوات التحليل، ويُضيف: “عند الأخذ بروح العلم المتاح للجميع، يجب على فريق لايغو التفكير بنشر كل شيء يلزم لإعادة التوصل إلى نتائج تشبه نتائجهم من قبل مجموعات أخرى.”
إلا أن جاكسون غير واثق من كتابة أوراق توضيحية، فقد وعدهم فريق لايغو بذلك في السابق، ويُضيف: “يستمر مسلسل لايغو هذا بوصفه أكثر التجارب المهنية صدمة بالنسبة إلي على مدار مهنتي كفيزيائي منذ 55 عام.” ولا يوافق الجميع على هذا الوصف، إلا أنه بالنسبة إلى اكتشافات بهذه القيمة، الثقة هي كل شيء.
ضجيج محرج
وفي عام 2014 أعلن مشغلوا التلسكوب BICEP2 عن أمرٍ قد يؤدي إلى الحصول على جائزة نوبل. لكن بعد ذلك بعام، وبعيداً جداً عن طريقهم إلى ستوكهولم لحضور حفل الجائزة، أُجبروا على الاعتراف بأنهم خُدعوا من قبل ضجيج مزعج.
وأنجزَ هذا التلسكوب الموجود في القطب الجنوبي مسحاً للخلفية الكونية الميكروية التي تُمثل الإشعاع الذي خلفه الانفجار الكبير وراءه. وقد تمثل الإعلان الكبير حينها باكتشافهم أن موجات الجاذبية أثرت في نمط الخلفية الكونية بطريقة متلائمة جداً مع جوهر النظرية الأساسية في علم الكون. وكانت النظرية موضع التساؤل هي نظرية التضخم Inflation، التي تنص على أن الكون مرّ عبر فترة نمو فائقة السرعة مباشرة بعد الانفجار الكبير. وقد ظلت هذه القضية معلقة على مدار أربعة عقود، والآن وبشكلٍ مفاجئ برّر مؤيدو التضخم هذه النظرية، باستثناء وجود تحذيرات ظهرت خلال الأسابيع الأولى واقترحت أن سحب الغبار الكونية ربما كانت المسؤول عن بعثرة الإشعاع بطريقة خدعت باحثي التلسكوب BICEP2.
وفي نهاية المطاف، فقد كانت تقديرات الفريق لكمية الغبار الموجودة وتحليل الضجيج الذي تنتجه يشوبهما الكثير من العيوب، إذ يُمكن للغبار أن يخدع أكثر الأشخاص ذكاءً. ولذلك، وبصرف النظر عن كون فريق لايغو فريق تعاوني محترم للغاية، إلا أن هنالك سببا جيدا لأخذ الأسئلة المتعلقة بتحليل الضجيج على محمل الجد (انظر: المقالة الرئيسية.)
كيف ترصد موجة
إن المُخرَج الناجم عن كواشف موجات الجاذبية مليء بالضجيج، كما أن تفكيك الإشارة يتطلب صناعة القرارات، والسيئ منها قد يؤدي إلى أخطاء مُضلِّلة.
ولعل أفضل الأسلحة المستخدمة في تلك الترسانة هي تحويلات فورييه Fourier transform، إذ يقوم هذا الإجراء الرياضياتي بشطر الإشارة إلى عناصر بترددات مختلفة، ومن ثمّ يحولها إلى طيف طاقة يُفصل بدوره مقدار الطاقة المحتواة في كل من تلك العناصر. ويُمكن إنجاز ذلك باستخدام ما يُعرف بدالة نافذة Window Function، وهي أداة رياضياتية تعمل على جزء محدد من البيانات. ومسألة اختيار أو عدم اختيار جزء من تلك العناصر هي أكبر المسائل إشكالية في حالة نتائج لايغو (انظر: المقالة الرئيسية. (
اختار فريق أندرو جاكسون المعارِض، من معهد نيلز بور في الدنمارك، عدم استخدام دالة النافذة، وهو قرار يصفه عضو فريق لايغو نيل كورنيش بـ “الخطأ الجوهري”. ويقول جاكسون إنهم لم يستخدموه لأنه يؤثر بشكلٍ كبير في البيانات التي تتعرض لتحويل فورييه بطريقة قد تؤدي إلى انحراف كبير في النتائج التي تخضع للمعالجة لاحقاً.
حتى مع إجراء تحليل فورييه، فإنه لا بدّ من إصدار الأحكام بخصوص الضجيج الموجود في الكواشف. وعلى سبيل المثال، هل هو موزع على شكل نمط يُمكن التنبؤ به كما هي الحال في التوزيع الغاوسي Gaussian distribution الشبيه بالناقوس؟ وهل يتغير بمرور الوقت، أم إنه ثابت؟
إن التقنيات المناسبة لمعالجة البيانات تختلف وفقاً لأجوبة تلك الأسئلة، ولذلك فإنّ الاكتشاف الواقعي لموجات الجاذبية يعتمد على وضع الفرضيات الصحيحة، وتقول مجموعة جاكسون إن القرارات التي أُخذت خلال إجراء تحليل لايغو غير واضحة في أحسن الأحوال، ومن المحتمل أنها خاطئة.
مايكل بروكس Michael Brooks مستشار لدى نيوساينتيست.