ثورةٌ أم ناقوس موت؟
ترجمة: آية علي
يصف كتاب آلان روسبريدجر «الأخبار العاجلة» Breaking News سنوات عمله كمحرر في الصحيفة البريطانية ذَ غارديان، عندما قلبت التقنية صناعته رأساً على عقب.
الأخبار العاجلة: إعادة تشكيل الصحافة وسبب أهمّية ذلك الآن
Breaking News: The Remaking of Journalism and Why It Matters Now
تأليف: آلان روسبريدجر Alan Rusbridger
عدد الصفحات: 404
منشورات: Farrar, Straus & Giroux
السعر: 30 دولاراً أمريكيًّا.
خنفساء سوس الخشب (خنفساء الموت) Deathwatch beetle، وهي تنخر الأثاث أو المنازل، قادرة على تدميرها إذا لم تُكتَشف. ويكتب آلان روسبريدجر: «تبدو البنى سليمة، لكنّها جُوِّفَت من الداخل، وإذا كنت سيِّئ الحظ حقاً؛ فستتحوّل إلى غبار.»
كانت الخنفساء المُدمِّرة هي الاستعارة القاتمة التي استحضرها روسبريدجر، المحرر السابق لـصحيفة ذَ غارديان The Guardian البريطانية، لوصف تأثير موقع كريغزليست Craigslist في صناعة الصّحف. إنّه يتذكّر ذلك اليوم الذي عاد فيه زميل له إلى “فليت ستريت” Fleet Street من رحلة إلى الولايات المتحدة، وهو يحمل أخباراً عن النجاح المزدهر لموقع الإعلانات المجاني، وما نتج منه من انخفاض في الإعلانات المُبوّبة المدفوعة في الصحف، والتي لطالما شكّلت مصدر دخل كبيراً. «لم يبد أن لموقع كريغزليست أهمية»، ولم يكن يحتوي على «أي محتوى تحريري على الإطلاق»، ولكن هنا كانت تكمن ثورة نشر لا تلعب لعبة الصحفيّ. وتأكيداً على هذه النقطة، كانت هناك شريحة مُصوَّرة Slide مصاحبة لتقرير زميله: وهي صورة مبنى جريدة ذَ نيويورك تايمز The New York Times الجديد الذي هو عبارة عن ناطحة سحاب مكونة من 52 طابقاً في منهاتن، بجانب صورة لمقر كريغزليست في سان فرانسيسكو، وهو منزل ريفي بمساحةٍ تكفي لضم مكاتب موظفيه الـ18.
تعكس سنوات روسبريدجر الـ20 كمحرر للغارديان، من 1995 حتى 2015، فترة تحول دراماتيكي في صناعة الصّحف، ويمكن القول إنّها أكثر الفترات دراماتيكية منذ اختراع المطبعة. وتتضح التغييرات المذهلة من خلال محاولته شرح دورة النشر ما قبل الرقمي لفصلٍ دراسي في جامعة أكسفورد يضم طلبة تبلغ أعمارهم 18 عاماً، وهم معتمدون تماماً على هواتفهم. ويعتمد روسبريدجر في شرحه على مجموعة من الشخصيات المرسومة رسماً تجريديًّا بسيطاً، بدءًا بمراسلٍ يعمل على آلة كتابة يدوية، وانتهاءً -بعد رسم 18 شخصية- بموزعين يوصلون الصحيفة حتى أبواب المشتركين. «بدت المجموعة كما لو أنّني كنت أتحدث عن الكيفية التي أشعل بها ساكنو الكهفِ النارَ بفرك الأغصان الجافّة معا،» على حدّ تعبيره.
وبالنسبة إلى محرّر صحيفة مقبل على القرن الجديد للأخبار، كانت خنافس سوس الخشب في كل مكان، ولكن كذلك كانت الإمكانات. يريدنا روسبريدجر أن نشعر بشعور العمل داخل مؤسسة إخبارية أثناء هذه الحقبة، ويحمل سرده لذلك من الجدّية والدقّة والمثابرة ما يُعد مذهلا حتى بالنسبة إلى من عاصر منّا كلّا من المخاطر والبشائر. ويغطّي الكتاب التغييرات التقنية السريعة، ونموذج الأعمال المتداعي، وحروب المحتوى المدفوع، وأحداث الـ11 من سبتمبر، وتقارب وسائل الإعلام، وبزوغ فجر وسائل التواصل الاجتماعي، وظهور «المواطن الصحفي» Citizen journalist، والمزيد من الأمور التي يُسهب في تفصيلها مراسل موهوب يركّز على قصّة مهنته الشخصية. فقد كان محاطاً من جميع الاتجاهات باختراعٍ لامع، لكنّه كان بمثابة سلاح ذي حدّين. وعند اكتشافه لخدمة أخبار غوغل، ردّ أحد زملائه «ردًّا يحمل في طيّاته سخرية من الذات، إذ ألقى برأسه على مكتبه وفرش ذراعيه عبره، في وضعية تشير إلى أنّه لا جدوى من المواصلة» على حد تعبير روسبريدجر الذي يتابع قائلاً: «كيف يمكن للمرء أن يتنافس مع هذه العين التي تطل على العالم، وترى كل شيء، فتبتلع أي شيء يحدث، في أي مكان على الكوكب، وتُخطر به المستخدمين في غضون دقائق في حركة مستمرة ووحشيّة من المعلومات العاجلة؟»
وكما تبيّن، فقد دخل روسبريدجر المنافسة، واعتنق الإنترنت على نحو أسرع وأوثق ممّا فعل العديد من أبناء جيله الذين قال واحد منهم لمجموعة من الأكاديميين الذين يعملون على دراسة حالة في صحيفة الغارديان: “«ستتبختر الإنترنت ساعةً على المسرح، ثمّ ستأخذ مكانها بين صفوف وسائل الإعلام الأدنى.»
ودفع روسبريدجر بقوة لجعل الغارديان صحيفة رقميّة عالمية، تتودّد إلى القرّاء الناطقين بالإنجليزية خارج بريطانيا، لا سيّما بطبعات في الولايات المتحدة وأستراليا، كما ساهم في زيادة جمهورها على شبكة الإنترنت زيادة مهولة. وقد فعل ذلك بينما كان يقود الصحيفة لإجراء عدة تحقيقات تاريخية، من ذلك الفضائح المشينة المتعلقة بقرصنة الهواتف، التي قادها صحفيون بريطانيون، وكذلك كشف إدوارد سنودن Edward Snowden عن ملفات وكالة الأمن القومي. والثقة والمهارة اللتين تحلّت بهما قيادة روسبريدجر، في بعض الأحيان تحت ضغط الحكومة والضغوط القانونية، تكادان تبدوان كتَوقٍ إلى حقبة كانت الوظيفة الوحيدة فيها لمحرر موهوب هي أن يكون محرراً. ولكن الطلبات المتزايدة على مستوى القطاع، والتي تطلب إلى المحررين أن يكونوا رجال أعمال تنفيذيين كذلك، توافقت مع فترة قيادة روسبريدجر للغارديان. وأثناء أدائه هذا الدور اتّخذ قراراً مكلفاً ومثيراً للشك، إذ طلب إلى المطابع الجديدة الباهظة الثمن أن تعيد إطلاق الغارديان المطبوعة، حتى مع تحول مستقبل الصحيفة إلى العالم الرقمي.
كانت الحقبة التي يحكي عنها روسبريدجر مهمة جدا بالنسبة إلى الصحفيين والرهانات الكبيرة، وكان من الصعب رؤية التحدّيات الوجودية الجديدة التي تلوح في الأفق. بعد ذلك وفي عام 2016 عقب عام من تنحّيه عن منصبه التحريري، ظهرت هذه التحدّيات. وستكون الكتابة عن كيفية التقاء الصحافة بهذه اللحظة من نصيب من جاؤوا بعده، لكن تقييمات روسبريدجر الأوليّة تُعد من بين أكثر تقييماته رصانةً.
في البداية، أتى بريكسيت [خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي]، الاستفتاءُ الذي سأل الناخبين عمّا إذا كان ينبغي لبريطانيا أن تبقى في الاتحاد الأوروبي. وبدلاً من الكتابة الصحفية الصارمة حول العواقب «المعقّدة تعقيداً مهولاً» للتصويت بنعم، شاهد روسبريدجر الصحافةَ البريطانية وهي تدفع بأجندة أكبر، ألا وهي «صحافة الآراء» Viewspaper في كامل ازدهارها. وأدان وصفه الكيفية التي كُتبت بها القصة إدانة كبيرة، إذ قال: «هذه مسألة بسيطة نحن كجريدة- لدينا رأي قوي معارض جدا. فسيكون رأينا واضحًا جدًا في معظم ما نفعله، ولن نزعجك بآراءٍ بديلة. وسنكتب بعض التقارير عن الحملة، ولكن معظمها سيدور حول الشخصيات لا القضايا.» وإلى جانب التقارير المُشوِّهة للمهاجرين، فبالنسبة إلى بعض المحررين فإنّ ما كان يجري في الصحافة كان «بمثابة الزينة على كعكة التغطية الصحفية المعادية لأوروبا، التي كانوا يخبزونها لعقد من الزمن أو أكثر.»
وعبر المحيط كانت هنالك عاصفة أخرى تستجمع قوتها، وصارت ممكنة نتيجة استضافة فيسبوك لمروجي الأخبار الكاذبة وغير المعتمدة على الحقائق. وما بدأه وكلاء التضليل في وسائل التواصل الاجتماعي، واصله الرئيس الجديد دونالد ترامب. ويُعلّق روسبريدجر على هذا قائلاً: «لقد انتخب الأمريكيّون كاذبا، وها قد صوّب هذا الكاذب سلاحه إلى صدر الحقيقة.»
أما أسى روسبريدجر العميق من هذا الاعتداء على الحقيقة؛ فقد تضاءل قليلاً مع الاعتراف المؤسف أن انتهاكات ترامب، المُعزَّزة من قبل ميل وسائل الإعلام إلى تضخيمها، ربما تحمل جانباً إيجابيًّا. ويكتب قائلاً: «لقد أسدى دونالد ترامب إلى الصحافة معروفا على نحو ما، إذ ساهم تجاهله المتعجرف للحقيقة في تذكير الناس بالسبب الذي يجعل المجتمعات في حاجة إلى أن تكون قادرة على تمييز الحقيقة من الخيال. وفي أحسن الحالات يؤدي الصحفيون هذه المهمة على أكمل وجه، ويمكنهم الآن استخدام موارد لا حصر لها تقريباً لمساعدتهم على ذلك. لكنّنا، في الوقت ذاته، طورنا قدرة مذهلة لنشر الأكاذيب تفوق أي قدرة عرفناها فيما سبق. والنظام الاقتصادي لدعم الصحافة يبدو غير مستقرٍ على نحو مُقلق وخطير، والمخاطر المُحيقة بالحقيقة أكبر من أي وقتٍ مضى.»
إن سوس الخشب موجود في كل مكان، والقضاء عليه ربما لا يكون المهمة التي تُعنى بها الصحافة، ولكنّها المهمّة الملقاة على عاتقنا.
New York Times©