ترجمة: آية علي
أقرأُ كلّ ليلة لابني المراهق «جي» الذي يعاني التوحّد الشديد. ولم يصبح هادئاً بما فيه الكفاية لتحمّل قراءتي إلا في الآونة الأخيرة، لكنّها غدت طقساً مُمتعاً. لستُ متأكّدة ممّا يفهمه، لكن عند قراءتي لمذكرات هيلين ماكدونالد Helen Macdonald ” إتش فور هوك (ص لـ صقر) H Is for Hawk الذي يتناول عاماً قضته امرأةٌ في الحداد والصيد بالصقور، تعلو على وجه جي نظرةٌ حالمة. وفي الليالي التي يشعر فيها بالقلق من أن أنسى، يأتي إليّ ويطالبني قائلاً: «اقرئي طير صقر!»
وبصفتي مُدرّسة وكاتبة عمود ومؤلفة روايات، فأنا أُعتَبر نوعاً ما قارئة مُحترفة. وأثناء بحثي عمّا سأقرأه لابني جي بعد ذلك، لاحظت زيادة مفاجئة في الكتب التي تتضمن التوحّد. لا أقصد الكتب التي تتحدّث عن التوحّد، بل الروايات التي تتضمن شخصيات تعاني التوحد، أو تستخدم أعراض الاضطراب كمجاز أو أداة حبكة، أو للكتابة بأسلوب معيّن.
دفعتني هذه الصور إلى إعادة قراءة كتاب «المرض كمجاز» الذي كتبته سوزان سونتاغ Susan Sontag عام 1978، والذي تُلقي فيه نظرة نقدية على «التجلّي الأدبي» للمرض. فقد صار مرض السل، وهو عدوى جرثومية تتسم بكثرة البلغم والسعال المدمر، «المرض الرومانسي» للقرن الـ19، حيث كانت الحمى والشحوب المصاحبان له يرمزان إلى الإبداع والجمال والتفوّق الأخلاقي. وامتلأت روايات ذلك العصر بوفيّات سلّ جميلة كلّما استحقّ أحد الأبرياء نهاية مسالمة وغير مؤلمة، وربّما يكون أبرزهم شخصية الطفلة الصغيرة إيفا في رواية «كوخ العم توم» Uncle Tom’s Cabin.
وأدّى القضاء الفعلي على السُّل في القرن الـ20 إلى تراجعه عن كونه المرض المهيمن؛ في الفن كما في الحياة. وملأ السرطانُ هذا الفراغ، لكن مع استعارات أكثر قتامة مستمدّة من الخزي والعار، والتشوّه الخارجي، والحرب. ومثل السرطان، وسلفه السّل قبل اكتشاف البكتيريا مايكوباكتيريوم تيوبركلوسيس (المُتَفَطِّرَةُ السُّلِّيَّة) Mycobacterium tuberculosis، فإن التوحد حالة لا تزال مسبباتها المرضية غامضة إلى حدّ كبير.
وفي كتابه المؤثّر الحصن الخاوي: التوحّد الطفولي وولادة الذات The Empty Fortress: Infantile Autism and the Birth of the Self عام 1967، يلوم برونو بيتلهايم Bruno Bettelheim الأمّهاتِ الفاتراتِ عاطفيًّا لوماً واضحاً على إصابة أطفالهم بالتوحد، وينعتهم بـ«أمّ ثلاجة» refrigerator mother، ويوصي الأطبّاء بفصل الأطفال الذين يعانون التوحّد عن أمّهاتهم، وإيوائهم في مؤسسات رعاية.
وخلُصت سونتاغ إلى أنّ أفضل طريقة لتصوير المرض تكون دون استخدام الاستعارات، وربّما يبدو أن بتيلهايم كان يكتب في فضاء علوم الرصد الخالي من المجاز، لكن على الرغم من وصف ناشريه له بالمتخصص بعلم نفس الطفل، فإنه لم تكن لديه أي دراسة سوى حضوره لثلاثة فصول تمهيديّة في هذا المجال.
وتستمر آثار المجاز «الأم الثلاجة» في الأدب. ففي رواية كورماك مكارثي Cormac McCarthy التي تصنف من روايات ما بعد الكارثة، والتي تحمل عنوان الطريق The Road عام 2006، تقع الأحداث في «ظلام توحّدي بارد». وفي رواية جوناثان ليثيم Jonathan Lethem’s حصن العزلة The Fortress of Solitude عام 2003، يقارن الراوي نفسه بصديق طفولته آرثر، فيقول: «كان الأمر شكلاً من أشكال التوحد؛ فشلاً في المحاكاة الاجتماعية، وهو ما أبعدني عن أوجه التكيّف التي جعلت آرثر يتطبّع بطباع بروكلين بدرجة أكبر مني…. كان عليّ الاختباء في الكتب، أن أكون أكثر شبهاً بمانهاتن.» ويشير عنوان الكتاب إلى مخبأ سوبر مان في القفار القطبية المتجمدة في القطب الشمالي، ويعكس -بقصد أو بغير قصد- قلعة بيتلهايم الفارغة. فقد استشهد ليثيم بالتوحد كمصدر للإلهام الأدبي، إذ قال: «إنّه مثير للعواطف بالنسبة إلي، ويغريني كثيراً.»
وفي الآونة الأخيرة، في رواية زيرو كيه Zero K التي كتبها دون ديليلّو Don DeLillo عام 2016 والتي تدور أحداثها في المستقبل القريب، حيث يحاول فاحشو الثراء الوصول إلى الخلود، نجد شخصية رجل يدعى جيفري وهو يراقب فئة من الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، ويعلّق قائلاً: «الصبي الموجود عند طرف الطاولة الذي لا يستطيع إنتاج التحركات الحركية الدقيقة التي تسمح له بنطق كلمات قد يفهمها الآخرون» و«الفتاة التي لم تستطع اتخاذ خطوة دون الشعور بخطر مسبق» مضيفاً في إشارة إلى سونتاغ Sontag «لم تكن سونتاغ مجازا». ومع ذلك، تضمّ نهاية الرواية طفلاً يُفترض أن يكون مصابا بالتوحّد، ضُغط في وظيفة مجازية، عندما كانت الشخصية نفسها، شخصية جيفري، تراقب -أثناء ركوبها في حافلة لمدينة نيويورك- طفلاً يقفز على نحو متكرّر مع تفوّهه «بهمهمات وزمجرة ما قبل اللغة». ومع إلقاء أشعة الشمس الأخيرة لضوئها على أعمدة ناطحات السحاب، يتأمّل جيفري قائلاً: «لم أكن بحاجة إلى ضوء السماء، فقد كانت معي صيحات الصبيّ المفعمة بالدهشة.»
وهكذا يصبح التوحّد مجازا لفهمٍ إنسانيّ أعلى، وهو مستوى متسامٍ يتجاوز اللغة. وفي رواية ديليلو فنّانة الجسد The Body Artist عام 2001، تظهر شخصية غريبة داخل المنزل المستأجر لفنانة الجسد المشار إليها في عنوان الكتاب. وتقتصر لغة هذه الشخصية على تجميعات غير منطقية للكلمات، وتكرار ما يقال له؛ أي مُصاداة (ترديد الألفاظ لا إرادياً) Echolalia، والتي تعتبر سمة مميزة للتوحد. مع أنه غير قادرٍ حتى على نطق اسمه؛ تطلق عليه فنانة الجسد اسم سيّد تتل Mr. Tuttle ، تيمُّنًا باسم معلّم لها في طفولتها كان يتلعثم كثيراً. ويستنتج القرّاء غالباً أن السيد تتل عبارة عن شبح؛ كيان من نسج خيال فنانة الجسد. لكن ديليلو قال لأحد النقاد إنه أراد الشخصية حقيقية: «أي طريق مسدود نوعاً ما؛ أو خطوة واحدة تتجاوز كل السعي البشري نحو القدرة على التعبير. فما الذي نعبّر عنه، أخيرا، في نهاية المطاف؟ عن نوعٍ من البَكَم، ربّما.»
إنّ تفجّر هذا التوحد في السرد التقليدي للأسرة النواة الأمريكية يجعل من استخدامه ككناية عن ضغوط الحياة في ظل الرأسمالية المتقدمة أمراً لا يقاوم. وفي رواية يوم على الشاطئ A Day at the Beach عام 2007 لهيلين شولمان Helen Schulman مرّ زوجان غنيّان من منهاتن بأسوأ أيام حياتهما: يوم كارثة الـ11 من سبتمبر، التي تسببت في هروبهما من منزلهما بوسط المدينة (إلى هامبتونز Hamptons) ووضع ضغوط على زواجهما، وصلت بالفعل إلى نقطة انهيار بسبب وجود ابن لهما تظهر عليه علامات واضحة لمرض التوحد. وفي رواية غاري شتيينغارت Gary Shteyngart بحيرة النجاح Lake Success (2018) يتسبّب تشخيص ابن بمرض التوحد -على نحو مماثل- بتدمير أحلام عائلة من نخبة مانهاتن. يغادر البطل الذي يعيش حياة مترفة مشهد مشاجرة بينه وبين زوجته والمربّية بسبب ابنه، ويتّجه مباشرة إلى محطة باصات (غراي هاوند) لبدء رحلة متصعلكة نحو الجهة الأخرى من البلاد؛ رحلة للبحث عن صديقة قديمة، وربّما يخمّن المرء أنّها رحلة للبحث عن الحلم الأمريكي الخالي من التوحّد.
ومثله مثل سلفيه السل والسرطان يمكن للتوحّد أن يختزن وزناً أخلاقيًّا. من ذلك رواية أربع أرواح Four Souls (2004) للويز إيردريتش Louise Erdrich التي تتناول قصة مستوطن أبيض كان قد نهب غابات الصنوبر في مينيسوتا وخدع سكانها من قبيلة أجيبوي Ojibwe، فيتجرّع عواقب ذلك بانهيار إمبراطوريته التجارية، إضافة إلى ولادة ابن له بعينين «خاويتين» و«مثال للحماقة في أدق صورها»، والذي يصدر أصواتاً «بشعة» ولا يمكن تهدئته وإخراجه من تكراره الفظيع.» ويتجلّى هنا اضطراب عصبي بيولوجي في صورة مرض يدمر العقل ويذهبه سدى، آخذا معه كل الصفات التي تجعلنا بشراً. وفي رواية بحيرة النجاح يعود البطل في النهاية إلى منزله وابنه، -وتماما كما تسبّب التلاشي الجميل لداء السل الذي أصيبت به إيفا الصغيرة في رواية كوخ العم سام في دفع والدها إلى الوعد بتحرير عبيده- يصبح التوحّد في رواية شتيينغارت وسيلة للنضج الروحي للأب.
أتساءل لماذا يبدو استخدام التوحد بالطريقة التي تستخدمه بها هذه الكتب خاطئا. وكطفلةٍ شعرت بخيبة أمل عندما وجدتْ أن التصوير الوحيد للشخصيات الآسيوية في المكتبة بأسرها كان العائلة اليابانية الأمريكية في وداعا مانزانار Farewell to Manzanar، فأنا أدرك تماماً أهميّة شعور المرء بتمثيله في الأدب. ومع ذلك، فعندما يتعلّق الأمر بظهور التوحّد في الخيال الأدبي، أشعر بحاجة غريزية إلى حماية ابني من هذه الصّور. إنّه ليس لعنة أوبيجية أو علّامة أو كائناً فضائيًّا، ولا هو شيفرة خالية من المشاعر ولا تحتوي على حياة داخلية.
وبوصفي كاتبة، فأنا أفهم سخافة محاولة وضع قيود على الكتابة من حيث ما يمكن وما لا يمكن كتابته. فقد عرّف كيتس Keats القدرة السلبية على أنّها قدرة الفنان على تحويل تجربة أو فكرة إلى فن حتى وإن يختبرها بنفسه. ومن دون هذه القدرة لن تكون لدينا أيّ رواية تاريخية، لا مدام بوفاري Madame Bovary ولا سجلات المرّيخيّ Martian Chronicles.
وجوهر الأمر هنا هو أنّه في حالة التوحد، غالبا ما يكون هنالك افتقار -حرفي، لا مجازي- للصوت؛ ممّا يضفي على الشخص طبقة بيضاء يستطيع الكاتب أن ينقش ويرسم عليها أيّ شيء، فيكون التوحّد هِبة أو لعنة أو ذكاءً خارقاً أو تخلّفاً عقليًّا أو تصوّفاً أو منفِّرًا أو مهذّباً للأخلاق أو أسوأ كابوس للآباء. وبوصفي كاتبة، أقول تفضّل واكتب ما تشاء. ولكن بوصفي والدة، أجد هذا الأمر مرعباً، نظراً إلى الطريقة التي يُسقط بها الأشخاص غير المصابين بالتوحد دوافع ومشاعر خاطئة على تصرفات الآخرين كل يوم.
ومع هذا الوعي المنقسم أشعر بتقدير بالغ لكتاب ما يجعلني أقفز The Reason I Jump عام 2013، وهو كتاب من ألفه ناوكي هيغاشيدا Naoki Higashida؛ وهو رجل ياباني مصاب بتوحد غير لفظي، ويأتي بالكثير من السلوكيات التي من شأنها -حسب المعايير التقليدية- أن تَسِمه، كما هي الحال مع ابني، بـ «انخفاض الأداء».
كانت والدة هيغاشيدا قد أنشأت شبكة أبجدية خاصة سمحت لابنها في نهاية المطاف بالتواصل عن طريق الإشارة. وعندما كان في مرحلة المراهقة كتب رواية ما يجعلني أقفز، والتي تصف شعور الإصابة بالتوحّد.
انتشر الكتاب في عالم الناطقين بالإنجليزية بعد أن اكتشفه وترجمه عن اليابانية الروائي ديفيد ميتشل وزوجته David Mitchell كا يوشيدا KA Yoshida اللذان لديهما ابن مصاب بالتوحد. وكتب ميتشل عن الكتاب: «لقد عزّز ما يجعلني أقفز شكوكي أنا وزوجتي في أن المصابين بالتوحد يشعرون بالفعل بما يفعله الآخرون، ولكنّهم عاجزون فقط عن التعبير عن شعورهم بذلك.» فهذا الكتاب هو منظور مؤلف واحد، وليس كتاباً نصيًّا، لكنّني ممتن لصوت هيغاشيدا الذي صدح بشقّ الأنفس، قائلاً: «لا يمكنك الحكم على شخص ما من خلال مظهره، لكن بمجرّد تعرّفك على الذات الداخلية للشخص الآخر، يمكنكما أن تصبحا أقرب بكثير من ذي قبل. لا بدّ من أن يكون عالم التوحّد مكانا غامضا جدا من وجهة نظرك. لذا من فضلك، خصّص بعضاً من الوقت للاستماع إلى ما أريد قوله.»
لدى ابني «جي» ابتسامة جميلة ودافئة، كما أنّه يصرخ و«ينبح» دون سببٍ معيّن أستطيع تمييزه. فهو يضحك بصوتٍ عال في أوقات «غير ملائمة»، ويقفز مراراً وتكراراً، ويسمّي ذلك «رقصاً». إنّه يعضّني ويضربني أنا وزوجي، ويعضّ نفسه أيضاً. وللغته المضطربة تأثير عصبي، وليس ميلاً نحو الأقوال المأثورة المقتضبة، ووجود خلل في شبكة العصبونات المرآتية في دماغه لا يجعله فاشلاً في «التقليد الاجتماعي». وقد يؤدي الضجيج والضغط المصاحبان للمحادثات العادية إلى جعله ينغلق على نفسه، لكن لن أقول أبداً إنّه بارد أو يفتقر إلى المشاعر أو يفضّل الانغلاق.
لا أعلم ما يفكّر فيه جي، لكنّني أعلم أنّه يفكّر. كتبت سونتاغ عن الألم الذي يعانيه مرضى السرطان في ثقافة يرتبط فيها المرض المروّع بالعار. والآن، وبما أن ابني بدا مستمتعا بقراءتي له، آمل بأن أعرّفه على مجموعة واسعة من الكتب، آخذة بعين الاعتبار تجنّب تلك التي تقلل من اختزال خبرته، ومن ثم وجوده، إلى بنية أدبيّة.
©2018 The New York Times
Distributed by The New York Times Syndicate