لا اجتماعي
في كتابه «زوكد» Zucked ، يكشف رجل الأعمال الشهير روجر ماك نامي Roger McNamee -وهو مرشد سابق لمارك زوكربيرغ Mark Zuckerberg- عن الآليات الداخلية وراء صعود المنصة المُقلق إلى مرتبة وحش عالميّ.
ترجمة: آية علي
«زوكد: الاستيقاظ على الكارثة الفيسبوكيّة».
«Zucked: Waking Up to the Facebook Catastrophe»
تأليف: روجر ماك نامي Roger McNamee.
الناشر: Penguin Press
عدد الصفحات: 336
السعر: 28 دولاراً أمريكيًّا
لم تكن الديستوبيا Dystobia التي استحضرها جورج أورويل George Orwell في روايته “1984” تنبؤا، بل كانت انعكاسا: اللغة الجديدة Newspeak، ووزارة الحقيقة Ministry of Truth، والحزب الداخلي Inner Party، والحزب الخارجي Outer Party؛ جمعت الرواية وأعادت خلط واقعٍ صارت فيه الشمولية النازية والسوفييتية واضحة بالفعل. هذه أشياء مرعبة بالتأكيد، لكن ربما تكون الديستوبيا الأكثر رعباً هي تلك التي لم يحذّرك منها أحد، تلك التي تستيقظ ذات صباح لتدرك فجأة أنّك تعيشها.
ويبدو أن روجر ماك نامي، وهو أحد رجل الأعمال المعروفين والمحترمين، يوافقنا الرأي، إذ يقول في كتابه «زوكد» [مصطلح ساخر في الأوساط الحاسوبية يشير إلى خسارة مشتري الأسهم عند أول طرح لأسهم فيس بووك]: «لقد اجتاح مستقبل تقني ديستوبي حياتنا قبل أن نكون مستعدّين له.» أتظنّون أن في هذا القليل من المبالغة؟ دعونا نفحص الأدلّة. شركة في ذروتها هي رابع أكبر الشركات قيمة على وجه الأرض، بل وأكثرها نفوذاً، ويتحكم فيها بالكامل تقريبا شاب يمكننا وصف جاذبيته بجاذبية معيد مادة الهندسة. تمثّلت مُعظم حياة هذا الرجل المهنية بإدارة هذه الشركة، التي تسمّي نفسها بـ “المنصّة” Platform. وتقدّم هذه الشركة أو المنصة، أو أيا يكن اسمها، خدمة غريبة، إذ يملأها بلايين الأشخاص بالمحتوى: صور أطفال، وتهاني أعياد الميلاد، وعروض ترويجية للحفلات، وهواجس ذهانية لرجال سحالي يهود [إشارة إلى كاريكاتير نشره يائير نتينياهو]. لا تدفع الشركة لأي أحد مقابل هذا العمل، بل بالعكس، فهي تكافئهم على ذلك بتعقّبهم عبر الإنترنت، حتى بعد تسجيل خروجهم من الموقع، وبالتنقيب في معلوماتهم باستخدام ذكاء اصطناعي معقّد ومدرّب على تصنيف المعلومات المرصودة إلى نحو 29 ألف نقطة بيانات تنبؤية، تصبح متاحة بعد ذلك للمعلنين وغيرهم من الأطراف الثالثة، الذين يعرفون الآن كل ما يمكن معرفته عن شخص دون أن يثقبوا جمجمته. والمثير للدهشة ألاّ شيء من هذا يعتبر سرًّا، على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها الشركة لإبقائه كذلك. ومع ذلك، لا يزال الناس يستخدمون المنصّة ويحبّونها.
تحب أجهزة الاستخبارات الأجنبيّة المعادية هذه المنصّة كذلك، لا لشيء إلا لأن مستخدميها أثبتوا -على نحو صادم- أنّهم عرضة للتلاعب الاجتماعي، وهو سحرٌ أسود اعترفت الشركة نفسها بممارسته. ففي عام 2014 خططت الشركة لمعرفة ما إذا كان باستطاعتها جعل مستخدميها يشعرون بالحزن أو الغضب عن عمد، وقد علمت أن باستطاعتها ذلك. وعندما تسرّب هذا الخرق الهائل لثقة المستخدم إلى الجمهور، ادّعت الشركة أن هذا ليس بالخطب الجلل، وأن هناك شركات عديدة فعلت أمورا مشابهة. لكنّه كان خطبًا جللا، ولم تفعله شركاتٌ أخرى.
شركةٌ تقنيّة أُنشئت بغرض خلقِ صلاتٍ بشريّة، ها هي الآن تُمزّق عُرى المجتمع الأمريكي، وتهدّد أساسنا المدنيّ، لكن ليس بسبب وجود نوايا شرّيرة مُعلنة لها. وكما يوضّح ماك نامي، فإنّ «ديموقراطيتنا أُضعفت نتيجة خيارات التصميم.» خيارات تشمل واجهةَ المنصة السلِسة والباعثة على السرور، التي تشجّع المستخدمين على البقاء والعودة إليها. وليس من المبالغة القول إنّه بسبب استجابة الناقلات العصبية البشرية لاستخدام المنصة استخداماً إبداعيًّا لدرجة معينة من الأزرق، وإطلاقها لدفعة من الدوبامين عند تلقي إشعار “إعجاب” أو “وسم”؛ يعيش الأطفال اليائسون الآن في أقفاص، ويحتل رجل مجنون المكتب البيضاوي. لم يكن حتى لأورويل -وإن تناول وليمة من فطر سيلوسيبين المُهلوس- أن يتنبأ بحدوث هذه الديستوبيا. إنّها ديستوبيا من صنعنا نحن.
بالنسبة إلى أي كائنات فضائيّة أو مسافرين عبر الزمن وصلوا حديثا، ويقرؤون هذا المقال، فالشركة التي أعنيها هي فيسبوك، وزعيمها الشاب مارك زوكربيرغ الذي تربطه بروجر ماك نامي علاقة طويلة ومألوفة لدرجة أنّه يشير إليه في جميع أنحاء الكتاب بصيغة التصغير من اسمه “زوك”. ففي عام 2006 كتب ماك نامي أنّه نصح المدير التنفيذي البالغ من العمر 22 عاما بألاّ يبيع فيسبوك إلى شركة ياهو مقابل بليون دولار. لكن زوكربيرغ أجاب: «لا أرغب بتخييب ظن الجميع،» ولكن ماك تامي حثّه على النظر إلى ما هو أبعد من ذلك و«إبقاء فيسبوك مستقلاً.» استجاب زوك حينها لنصيحة ماك نامي، وها نحنُ ذا.
استفاد ماك نامي كذلك من هذا التوجيه. فإلى جانب شركته الاستثمارية المغامرة «إيليفيشن بارتنرز» Elevation Partners، حقّق المؤلف ثروة من استثماره المبكّر في شركة زوكربيرغ، وهو موضوع يتوخّى الحذر بشأنه الآن على نحو مناسب، نظراً لاعتقاده أن فيسبوك، وكذلك غوغل وغيرها من شركات التقنية العملاقة، تمثّل اليوم على حد تعبيره «أعظم تهديد للنظام العالمي أشهده في حياتي.» حاليا، يؤيّد ماك نامي-الذي يعرّف نفسه على أنّه “رأسمالي”- تفكيك احتكار فيسبوك للبيانات باستخدام القوّة، وضبط ممارساتِها التجارية المروِّعة بقبضةٍ تشريعات حديدية. ومن ثمّ، فإنّ كتاب “زوكد” يعتبر تفسيراً صريحاً وممتعاً جدا للكيفية والسبب اللذين يجعلان رجلا قضى عمره في انتقاء الرابحين في المجال التقني، وتشجيع صناعاته، ينجرف إلى شاطئ الناشطين الاجتماعيين.
ولا يقتصر معظم الغضب الصارخ الذي يكنُّه ماك نامي ضد قيادة فيسبوك غير الأخلاقية على زوكربيرغ فحسب، بل وكذلك الرئيس التنفيذي للعمليات شيريل ساندبرغ Sherly Sandberg التي اقترح ماك نامي على زوكربيرغ توظيفها قبل أن تقبل وظيفة في الواشنطن بوست The Washinton Post. ويصف ماك نامي قبضتهما على الشركة بأنّها «بنية صُنع القرار الأكثر مركزية التي رأيتها في حياتي في شركة كبيرة.» إنّ ثنائي القوة هذا ممكن فقط لأنّ «جوهر منصّة» فيسبوك -على حد تعبير ماك نامي- بسيط نسبيًّا، فهو «يتألّف من مُنتَج ومُخطّط لتحقيق الدخل.» يتعيّن على الشركات غير التقنية التي لديها امتداد عالمي مماثل (كوكاكولا وإكسون) التعامل مع مسائل البنية التحتية المعقّدة في العالم الحقيقي، إضافة إلى احتياجات قوة عمل متنوعة جدا. ومن عادة الشركات الكبرى أيضا إنشاء دوامات متداخلة من النشاط الاقتصادي، في حين يمتص نموذج أعمال Business model فيسبوك النشاط الاقتصادي من العمال الذين لولا ذلك لكانوا منتجين. والأمر الأكثر إثارة للقلق من كلّ ذلك هو أن شركة يستخدمها ثلث الكوكب لا تحتوي إلا على 30 ألف موظّفٍ فقط. فقد صار فيسبوك عبئاً على الاقتصاد العالمي، عبئاً يشبه البورغ Brog [كائنات خيالية في مسلسل ستار ترك Star Trek] بكل ما تحمله الكلمة من معنى. إنّه لا يحسّن من حالك، بل يُحتمل أن يجعله أسوأ. وعلى العكس من شركة إكسون، فإنه لا يستطيع حتى إيصالك إلى مدينة ألباكركي.
سبق أن رُوِيت قصة فيسبوك مرات عديدة، لكن ماك نامي يبلي بلاءً ممتازاً بوضع صعودها ضمن سياق التاريخ التقني الملائم. فمن دون حلول الآيفون والتخزين السحابي للبيانات Cloud data storage ونموذج الصناعة المُسمَّى بـ “الشركات الناشئة الرشيقة” Lean start ups؛ لربما كان مصير فيسبوك الضياع في الطريق القصير والقاتم الذي تاهت فيه كيانات وسائل التواصل الاجتماعي التي ظهرت في مطلع الألفية ولم تدم طويلاً، مثل “ماي سبيس” Myspace و “فريندستر” Frienster. ويأخذ ماك نامي على عاتقه كذلك تذكير القارئ بالقلب الواشي [إشارة إلي قصيدة إدغار آلن بو Telltale heart] (أو عدم وجوده بالأحرى) الذي ينبض تحت ألواح أرضية المقر الرئيسي لفيسبوك: وهو أنّ الصياغة الأولى له، التي كانت باسم فيسماش Facemash، دعت طلبة جامعة هارفارد إلى مقارنة صور زميلاتهن -التي سرقها زوكربيرغ من دليل المساكن الطلابية- للهدف الأسمى المتمثّل في تحديد الأكثر جاذبيّة بينهن. نعم هذا صحيح، يمكن تتبع جذور رابع أكبر شركة قيمة في العالم إلى الذكورية المُحبَطة لأعزب بغيض. كان يجب أن يخبرنا الخواء الأخلاقي الذي أظهره زوكربيرغ في شبابه شيئا عن الطريقة التي ينوي أن يعمل بها هو وغيره العديد من الشباب «المسببين للاضطرابات». وكما يكتب ماك نامي: «يمكنك أن تتخيّل مدى جاذبيّة الفلسفة التي تُعفي الممارسين من مسؤولية تأثير أفعالهم في الآخرين بالنسبة إلى رجال الأعمال والمستثمرين في السيليكون فالي.»
ولعل الأجزاء الأكثر إثارة في الكتاب هي تلك التي يقدم فيها ماك نامي حجة غاضبة، لكنها مدروسة، مفادها بأنّ «وسائل التواصل الاجتماعي سمحت بعرض الآراء الشخصية التي ظلت حبيسة في السابق نتيجة الضغط الاجتماعي.» ولأن المخابيل معنا في كل حين، وذلك في إعادة صياغة لكلام المسيح[1]، ولكن مخابيل الأيام الخوالي اضطروا إلى العمل بجدية من أجل الحفاظ على خبلهم وتحديد أماكن زملائهم من المخابيل. وكان عليهم رفع سماعة هاتفهم المخبول والاشتراك في صحيفتهم الإخبارية المخبولة، والقيادة لحضور الاجتماع المخبول. أمّا اليوم؛ فليس عليهم سوى تسجيل الدخول إلى فيسبوك، حيث سيجد صفحته الرئيسية ملأى بثرثرة زملائه المخبولين -والأكثر تطرفاً منه على الأرجح- الذين توجّهه خوارزميات فيسبوك نحوهم بلباقة. ومن المحتمل أن زوكربيرغ وآخرين لم يخطّطوا لتحويل النازيّة الأمريكيّة الجديدة إلى نوعٍ من البانك روك Punk rock، لكن المنصات التي أنشؤوها «خلقت حلقة من التغذية الراجعة التي تعزز الأفكار وتضخّمها بسرعة ونطاق لم يسبق لهما مثيل.»
إنّ كتاب ماك نامي ليس مجرد صرخة عميقة لمتفائل تقني منسلخ منها اشتعل بداخله الضمير الأخلاقي، بل هو تفصيل متين ومفيد للطرق التي يمكن من خلالها إخضاع شركة فيسبوك وإجبارها على الانصياع. ويتضح لنا اعتقاد ماك نامي الراسخ بإمكانية تحول فيسبوك إلى شيء حميد، بل ومفيد اجتماعيا. ربما يكون هذا صحيحا، وربما لا، لكن الضرر الذي أوقعته أكبر من قدرتنا على احتوائه تماما. ومع الأخذ بالاعتبار الاحتمال الكبير لاستخدام المخابرات الروسية فيسبوك لترجيح كفة ترامب في انتخابات 2016، فإن نطاق الضرر الذي وقع يمتد ليشمل عدة أجيال.
لكن، إليكم السمة الغريبة التي تتصف بها ديستوبيا الفيسبوك، والتي يحتمل أن انحرافها المُطلق كان سيعجب أورويل: كلّه كبير، وما مِن أخ [إشارة إلى برنامج الأخ الكبير Big brother]. فوقتنا وحياتنا هما العملة الوحيدة للشركة، ومن دون اهتمامنا المستمر، فإن فيسبوك لا تمتلك أي شيء، ويمكن إسقاط إمبراطوريتها برفة ريشة. والآن، انفُخ.
[1] لأن الفقراء معكم في كل حين، وأمّا أنا فلست معكم في كل حين. (يوحنا 12:8)
New York Times©